الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع السادس والعشرون
علم ما تأخر حكمه عن نزوله وما تاخر نزوله عن حكمه
النوع السادس والعشرون
علم ما تأخر حكمه عن نزوله وما تاخر نزوله عن حكمه
قال الزركشي في " البرهان ": قد يكون النزول سابقاً على الحكم، كقوله تعالى:(قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى)[الأعلى: 14 - 15]. فقد روى البيهقي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنها نزلت في زكاة الفطر. وأخرج البزار نحوه مرفوعاً.
وقال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل؟ لأن السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة ولا صوم! .
وأجاب البغوي بأنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كما قال تعالى: (لآ أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذ البلد)[البلد: 1 - 2]. فالسورة مكية، وقد ظهر أثر الحل يوم فتح مكة، حتى قال صلى الله عليه وسلم:(أحلت لي ساعة من نهار). انتهى.
لكن في " سيرة الحلبي ": وقيل: فرضت زكاة الفطر قبل الهجرة، وعليه يحمل ما في " سفر السعادة ": كان صلى الله عليه وسلم يرسل منادياً ينادي في الأسواق والمحلات والأزقة من مكة: " ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ومسلمة ". الحديث. انتهى.
ويدل لما في " سفر السعادة "، ما تقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما، فيحتمل أن تكون زكاة الفطر فرضت بمكة، وكان ظهورها والأمر بها في الخطبة والحث عليها، وأنها مزكية للصوم بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة، وهذا هو
المشهور المعروف.
ومما تأخر حكمه عن نزوله: قوله سبحانه وتعالى: (سيهزم الجمع ويولون الدبر)[القمر: 45]. قال عمر بن الخطاب: فقلت: أي جمع؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش، نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتاً بالسيف يقول:" سيهزم الجمع ويولون الدبر ". فكانت يوم بدر. أخرجه الطبراني في الأوسط.
وكذا قوله تعالى: (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب)[ص: 11]. قال قتادة - رحمه الله تعالى -: وعده الله عز وجل وهو يومئذ بمكة - أنه سيهزم جند من المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر. أخرجه ابن أبي حاتم.
وكذا قوله تعالى: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)[سبأ: 49] أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله تعالى: (قل جاء الحق)، قال: السيف. والآية مكية متقدمة على فرض القتال. وكذا ذكره السيوطي - رحمه الله تعالى -، أن هذه الآيات الثلاثة من هذا الباب. والظاهر أنها ليست منه، بل هي وعد يأتي، فحكمها ثابت من حال نزولها وهو الإيمان بمضمونها، وظهورها يأتي في وقت مستقل كما أخبر الله سبحانه وتعالى.
والذي من هذا الباب هو ما نقل عن ابن الحصار مثل قوله سبحانه وتعالى: (وءاتوا حقه يوم حصاده)[الأنعام: 141]، وقوله تعالى في سورة (المزمل):(وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة)[المزمل: 20]، وقوله تعالى:(وءاخرون يقاتلون في سبيل الله)[البقرة: 154]؛ فهذه الآيات مكية، ولم يفرض بمكة بعد الإيمان غير الصلوات الخمس. فهذه الآيات ما تأخرت حكمه عن نزوله.
وأما قول عائشة رضي الله عنهما وابن عمر وعكرمة في قوله تعالى: " ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً) [فصلت: 33]: أنها نزلت في المؤذنين، والآية مكية ولم يشرع اللآذان إلا بالمدينة! فليس من هذا الباب، بل من
باب ما تقدم في أسباب النزول: أن الصحابي قد يقول إن الآية نزلت في كذا، ويعني بذلك تفسيرها لا سبب نزولها.
فظهر أن قولهم من هذا الباب، وكذا ما تقدم في قول ابن عمر رضي الله عنهما في قوله تعالى:(قد أفلح من تزكى) أنها نزلت في زكاة الفطر. يحمل على أنه أراد بذلك تفسير الآية، لا بيان سبب نزولها، وحينئذ يرتفع الإشكال.
وأما ما تأخر نزوله عن حكمه:
فآية الوضوء في (المائدة) وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة) إلى قوله: (لعلكم تشكرون)[المائدة: 6]، فالآية مدنية إجماعاً، وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلوات الخمس. بل ذكر بعضهم أن الوضوء فرض مع الصلاة ركعتين في أول يوم من مبعثه عليه السلام، وقيل: في اليوم الثاني، والله أعلم.
ومن أمثلته أيضاً: آية الجمعة، فإنها مدنية، والجمعة فرضت بمكة.
قال الحافظ السيوطي في " الإتقان ": وقول ابن الفرس: إن إقامة الجمعة لم تكن بمكة قط: يرده ما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت إلى الجمعة فسمع الأذان يستغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه أرأيتك صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة، لم هذا؟ قال: يابني كان أول من صلى بنا الجمعة، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة.
أقول: ما ذكره ابن الفرس هو الصحيح؛ لما روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: اجتمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة فقالت الأنصار: إن اليهود يوماً يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يوماً
نجتمع فيه، فنذكر الله ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة - والعروبة يوم الجمعة - واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك:(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة)[الجمعة: 9].
وهذا وإن كان كرسلاً فله شاهد بإسناد حسن، وأخرجه الإمام أحمد، وأبو داوود، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، من حديث كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة.
فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد فهداهم الله عز وجل إليه.
وما ذكره الحافظ السيوطي من حديث كعب بن مالك لا يدل على أنها فرضت بمكة، بل يدل على أن أسعد بن زرارة أول من صلاها بهم بالمدينة، وقد بينت رواية عبد الرزاق أن ذلك كان اجتهاداً منهم ووافقهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل لذلك أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بمكة، بل أول جمعة جمع في بني سالم بالمدينة بمن معه من المؤمنين، وكانت خامس يوم من وصوله المدينة.
ومن أمثلة ما تأخر نزوله عن حكمه قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء)[التوبة: 60]، فإنها نزلت سنة تسع، وقد فرضت الزكاة في أوائل الهجرة.
قال ابن الحصار: وقد يكون مصرفها قبل ذلك معلوماً، ولم يكن فيه قرآن متلو، كما كان الوضوء معلوماً قبل نزول الآية، كذا ذكره السيوطي - رحمه الله تعالى -، انتهى.