الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو ما رأى أفقه من والده الشيخ أبي محمد الجوينيّ، وهو ما رأى أفقه من القفّال، وهو ما رأى أفقه من الإمام أبي زيد المروزيّ، وهو ما رأى أفقه من شيخ الإسلام أبي إسحاق المروزيّ، وهو ما رأى أفقه من الباز الأشهب بن سريج، وهو ما رأى أفقه من الإمام أبي القاسم الأنماطيّ، وهو ما رأى أفقه من الإمام أبي إبراهيم المزنيّ، وهو ما رأى أفقه من إمام الأئمّة أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ، وهو ما رأى أفقه من إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنس، وهو ما رأى أفقه من الإمام نافع، وهو ما رأى أفقه من عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو ما رأى أفقه من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ولا يبعد أن يكون سند العز في تلقّيه "نهاية المطلب" من هذا الطريق.
وأمّا أخبار أهل المذهب من الفقهاء؛ فالذي ظهر لنا من تتبعّ الأخبار الواردة في كتاب تلميذه "فهرست اللبلي" أنّ الإمام العز يرويها عن طريق شيخه المحدِّث الفاضل أبي محمد بهاء الدين القاسم بن حافظ دمشق ومؤرّخها علي بن الحسن ابن عساكر، وكان محدثًا صدوقًا، وصفه الذهبي بأنَّه: متوسط المعرفة، معرفًا للغرباء، له أنسة بالحديث (1).
* * *
*
الفتاوى
*
نماذج من فتاوى العزّ:
قُصِد الإمام العز بالفتوى من الآفاق؛ فكانت ترده الأسئلة ويُجيب
(1)"تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 108)؛ وقد سبقت ترجمته في فقرة (شيوخه).
عليها، بأخصر عبارة دون تكلّف أو إلباس للسائل؛ وللإمام العز كتابان في الفتوى هما "الفتاوى المصرية"، و"الفتاوى الموصليّة"؛ نذكر عنهما من فتاويه ما أجاب رحمه الله تعالى في قسم التوحيد والإيمان والسنّة والعلم عن عدد من الأسئلة، بدأها بفتوى عن بيان معنى الحديث الموقوف عن ابن مسعود "ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن"، وأنّ المراد بالمسلمين أهل الإجماع، ثمّ أفتى أنَّه لا يحرم ردّ السلام على من يقول بخلق القرآن، لأنّهم مسلمون، بل يجب ردّ السلام عليهم، كما يجب على غيرهم، وبيَّن المراد من النهي عن كتم العلم، بأنّه العلم الذي يجب تعلّمه في علوم الشرع، وأنّه لا يجوز دفع المصاحف والتفاسير ولا كتب الحديث إلى كافر لا يُرجى إسلامه، وينكر على فاعله، وأجاب عمّن يحبّ سيدنا عليًّا وينتهك المحارم، بحجَّة أنّ حبَّه يمحي السيئات والمعاصي، فقال:"حبّ عليّ رضي الله عنه من الإيمان، فمن أحبّه وأطاع ربّه، كان له ثواب حبّه، وأجر طاعته، وكان عند الله من السعداء، ومن أحبَّه وعصى ربّه، كان له حبّه، وعليه وبال معصية ربّه، وكان عند الله من الأشقياء".
وفي الجواب عن زيادة الإيمان ونقصه، قال العز رحمه الله بأنّ الإيمان ضربان: حقيقي وهو ما كان يتعلّق بمتحد وحقيقة مفردة كالإيمان بوجود الله، والإيمان بالوحدانية، فهذا لا يتصوّر فيه زيادة ولا نقصان، وإن كان الإيمان يختلف متعلّقه، كالإيمان بكل صفة، وكلّ آية، فهذا يزيد وينقص بزيادة متعلّقه ونقصانه، وأمّا الإيمان المجازي، وهو فعل الطاعات، وترك المعاصي، فهذا يزيد بزيادة الطاعات، وينقص بنقصانها.
وأجاب عن رؤية الله في الآخرة، وأنّه يرى بالنور الذي خلقه في الأعين زائدًا عن نور العلم.
وأجاب أنّه يجوز تقليد كلّ واحد من الأئمّه الأربعة رضي الله عنهم، ويجوز لكل واحد أن يقلّد أحدهم في مسألة، ويقلّد إمامًا آخر منهم في مسألة أخرى، ولا يتعيّن عليه تقليد واحد بعينه في كلّ المسائل، ولا يجوز تتبع الرخص.
ولا يجوز ترك السنّة لمشاركة المبتدعين فيها، إذ لا يترك الحق لأجل الباطل، وإذا صحّ عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلَّا بدليل أوضح من دليله، ولا يجب على المجتهدين تقليد الصحابة في مسائل الخلاف.
وقال العزّ: لم يصحّ في تلقين الميّت شيء، وهو بدعة، والحديث محمول على مَن دَنَا موته، ويُئس من حياته، فأمّا ثواب القراءة فمقصور على القارئ لا يصل إلى غيره.
وقال: "لا خير في ورع يؤدي إلى إسقاط فرائض الله عز وجل".
وفي العبادات أجاب العزّ رحمه الله تعالى بأنّ أمر الرسول بالمحافظة على الصلوات أوّل الوقت، ولم يأمر بالمحافظة على الأداء، لإجماع المسلمين على أنّ تأخير الأداء بغير عذر شرعي غير جائز.
وسُئل العزّ عن الصلاة على الميّت بعد الغسل، أو بعد الحمل إلى المصلّى، فقال: الأوْلى أن يحمل إلى المصلّى؛ لأنهّ فعل الخلف والسلف، لأنّ الحمّالة يكثرون
…
، وفي سؤال عن المداومة على العبادة قال العزّ رحمه الله تعالى: "لا يمقت الربُّ أحدًا من عباده، إلَّا على ترك الواجب
وإنكار الحرام، وقال عن التلحين في الأذان: نعم يجاب المؤذن إن لحّن الأذان،
…
وإن أمكن الإنكار عليه باللسان أنكر،
…
وتلحين القرآن أعظم إثمًا من تلحين الأذان، وأبْعد من أجاز تلحين القرآن من العلماء".
وسُئل عن صلاة التراويح في جماعة، فقال: صلاة التراويح في الجماعة أفضل منها في الانفراد، وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم تداوله الناس من بعدهم، والخير في اتباع السلف،
…
وقراءة القرآن فيها أفضل من تكرير سورة الإخلاص، لأنّ ذلك مسنون منقول، وليس تكرير سورة الإخلاص مسنونًا في الصلاة، وإن فُعل فلا بأس.
وفي السؤال عن الجهر في النوافل، قال العزّ رحمه الله تعالى: السنة في سنن الفرائض الإسرار في الليل والنهار، وعليه عَمَلُ أهل الأمصار.
وعن ذكر الشعر في الخُطبة قال: لا تذكر الأشعار في الخُطبة؛ لأنهّ من أقبح البدع، وقال عن لباس الخطيب الألبسة السوداء، أحبّ الثياب إلى الله البياض، وقد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء يوم فتح مكّة (أخرجه أحمد والترمذي)، والمواظبة على لبس السواد بدعة إلى غير ذلك، وقال: السُنّة تسطيح القبور، والتختم في الأيمان.
وفي المعاملات والآداب والحدود والقضاء، قال العزّ رحمه الله تعالى:"لا بأس بقيام الإكرام للناس"، وقال:"ومن فعل طاعة لله تعالى، ثمّ أهدى ثوابها إلى حيّ أو ميّت لم ينتقل ثوابها إليه، إذ ليس للإنسان إلَّا ما سعى، فإنْ شرع في الطاعة ناويًا أن يقع على الميّت (فلا تصحّ) عنه، إلّا فيما استثناه الشرع، كالصدقة، والحج، والصوم".
وسُئل عن الإنشاد، والتواجد، والرقص، والسماع، فقال رحمه الله تعالى: "الرقص بدعة، لا يتعاطاه إلّا ناقص العقل، ولا يصلح إلّا للنساء، وأمّا سماع الإنشاد المحرّك للأحوال السيئة بما يتعلق بالآخرة فلا بأس به، بل يندب إليه عند الفتور، وسآمة القلوب، لأنّ الوسائل إلى المندوب مندوبة، والعادة كلّها في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أصحابه، الذين شَهد لهم بأنّهم خير القرون
…
، والسماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم
…
".
وقال العزّ رحمه الله تعالى: "من تحتم قتله بذنب من الذنوب، لم يجز له أن يقتل نفسه، وستره على نفسه مع التوبة أولى"، وسُئل عن حكم القضاة غير الملتزمين بشرائع الإسلام، فقال: "من لا أهلية له من القضاة والولاة، إذا حكموا بحق، وأمروا به، أو دفعوا منكرًا، ونهَوا عنه، أو تصرفو المجانين، أو للغيّب والأيتام، وأقاموا في جميع ولايتهم بما يوافق الحقّ والصواب، فإننا ننفذه تحصيلًا لمصالح أهل الإسلام
…
، وكذلك تصرفات الملوك والولاة الجائرين، ننفّذ منها ما وافق الحقّ والصواب، ونردّ منها ما ليس بحقّ".
وسُئل عن القيام للآخرين عند قدومهم، فقال رحمه الله تعالى: "لا بأس بالقيام لمن رُجي خيرُه، أو يخاف شرّه من أهل الإسلام، وأمّا الكفار فلا يقام لأحد منهم
…
، وأمّا إكرامهم بالألقاب الحسان فلا يجوز إلَّا لضرورة، أو حاجة ماسّة".
وسُئل: هل لقضاة عصرنا أن يحكموا بما يُؤثرون (يفضلون) من
المذاهب، أم يتوقف ذلك على بلوغهم درجة الاجتهاد ومرتبته، ولعلّ أحدهم يقول: أختار هذا الوجه، وألغي هذا الوجه؟ فأجاب العزّ رحمه الله:"ليس ذلك لقضاة هذا الزمان؛ لأنَّهم يفعلون ذلك بناء على أغراض فاسدة، ولا سيما من ليس له أهلية الاجتهاد".
وسُئل عن شروط المفتي، فقال:"يُشترط في المفتي والحاكم أن يكون مجتهدًا في أصول الشريعة، عارفًا بمآخذ الأحكام، فإنْ عجز عن ذلك، فليكن مجتهدًا في مذهب من المذاهب، فإن عَجزَ عن ذلك فله أنْ يفتي بما يتحققه، ولا يشك فيه، وما يبرح عن ذلك، فإن كان خطؤه فيه بعيدًا نادرًا جاز له الفتوى والحكم، وإلّا فلا".
وسُئل عن القرض الذي يجرّ منفعة؟ فقال رحمه الله: "القرض الذي يجرّ منفعة هو القرض الذي يَشترط فيه المقترض منفعة لنفسه، فإنْ لم يشترط ذلك، وردّ أفضل ممّا أخذ، فهذا من باب مكافأة الإحسان بالإحسان"، وقد قال عليه السلام:"خيركم أحسنكم قضاء".
وفي الطعام والشراب واللباس والزينة، سُئل عن اللحم يُشترى من السوق، ثمّ يطبخ من غير غسل
…
؟ فقال رحمه الله تعالى: "لا يحكم بنجاسته، والورع أنْ لا يؤكل حتّى يُغسل".
وسُئل عن تعليق الحرز في رقاب الخيل؟ فقال: "هذه بدعة، وتعريض لكتاب الله للإهانة، بما يتعلّق به من النجاسة، ولم يكن الصحابة يصنعون شيئًا من ذلك".
وفي الزواج والطلاق: سُئل عن ولاية الفاسق لعقد النكاح؟ فقال
رحمه الله: "الأصحّ أنّ الفسق لا يمنع من ولاية النكاح، لأنّ العدالة شُرطت من الولاية، حثًّا للولاة على القيام بمصالح الولايات، ودفع مفاسدها، وطبع الولي يحثّه على تحصيل مصالح النكاح، ويزعه عن إدخال العار على نفسه وعلى وليه، والوازع الطبعي أقوى من الوازع الشرعي".
وسُئل عن تزويج الولي موليته ممّن لا يواظب على الصلاة؛ فقال رحمه الله تعالى: "لا يجوز ذلك إجبارًا، ويجوز برضاها إنْ كانت ممّن يعتبر رضاها، ويكره كراهة شديدة إلَّا أنْ يخاف من فاحشة، أو ريبة، ولا ينعقد النكاح إلَّا بحضور عدلين مستورين، يغلب على الظنّ عدالتهما".
ولا يضير الإمام العز أن يُخالف شيخه الفخر بن عساكر في مسألة كتابة الصداق في الحرير؛ يقول ابن السُّبكيّ: "كان الشيخ ابن عساكر رحمه الله يُفتي بجواز كتابة الصداق على الحرير وخالفه تلميذه شيخ الإسلام عز الدين ابن عبد السلام فأفتى بالمنع، وبه أفتى النووي، إلا أنه عزا ذلك إلى تصريح أصحابنا، ولم أجد ذلك في كلام واحد منهم"(1).
ويظهر من هذه النماذج من فتاوى العزّ حرصه على الالتزام بالكتاب والسنَّة، وما ثبت عن الصحابة والسلف، وما شاع وانتشر في العالم الإسلامي، وعرف من الدين بالضرورة، وأنّه يجمع في الاستدلال والتعليل بين النقل والعقل، والنصوص والمصالح، بما يتّفق مع مقاصد الشريعة، ويحقق النتائج العملية لأحكام الدين.
كما يظهر أنّ الإمام العزّ بن عبد السلام لم يكن مفتيًا كأكثر المفتين
(1)"طبقات الشافعية الكبرى"(8/ 187).
في عصرنا الحاضر، ولم يقتصر على بيان الحكم الشرعي للأفراد، إنْ وجّه إليه سؤال في العبادات، أو عرضت له قضية في الزواج والطلاق والميراث، وإنّما كان مفتيًا في كلّ أحكام الشرع، وكلّ مشتملات الفقه الإسلامي، وكانت توجّه إليه الأسئلة من الأقاليم والأطراف والبلدان، ويبين حكم الشرع في كلّ ما يستجدّ من أحداث وقضايا ووقائع حتّى في أمور الجهاد والحرب والقتال وجباية الأموال، ومبايعة الخليفة وتعيين الأمراء والسلاطين.
وفوق كلّ ذلك لم يكن العزّ مفتيًا لتسويغ التصرفات المنحرفة أو الجائرة على الشعب، وتأييد الحكام والأمراء بالأحكام الشرعية التي توافق هواهم، أو تتفق مع آرائهم السياسيّة، كما لم يقتصر على السكوت بغية السلامة، كما يفعل مفتو اليوم، بل كان الشيخ عزّ الدين مفتيًا لبيان الحكم الشرعي الإلهي السماوي فيما يخصّ الدولة والأمّة والوطن والشعب والأفراد، ويبيّن حكم الله ودينه في كل ذلك، سواء وافق هوى الحاكم أم خالفه، فالحقّ والشرع والدين فوق الخلفاء والحكّام والسلاطين والأمراء، ومقدمة عليهم، وهي الأصل لتكون متبوعة، لا تابعة، ويكون الشعب والحكّام من ورائها ملتزمين وتابعين ومنفّذين، ويكون العلماء والدعاة والمفتون مراقبين على صحّة التطبيق والتنفيذ.
ومن هنا فحُقَّ للعزّ أن يوصف بجدارة بأنّه "مفتي الشام" وأنْ "يقصده الناس بالفتاوى من الآفاق" وأنْ يكون "سلطان العلماء" وأنْ تكون له "الفتاوى السديدة" وأنْ يُخلد اسمه، وتبقى ذكراه عطرة على مرّ التاريخ، وأن يكون شعارًا لمدرسة إسلامية متميزة في العالم، وفوق كلّ ذلك أنْ ينال الأجر