الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ] [
نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ]
ِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الْأَوْحَدُ، الْقُدْوَةُ الْعَارِفُ، الزَّاهِدُ الْعَابِدُ الْوَرِعُ، تَقِيُّ الدِّينِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ، صَدْرُ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، مَفْخَرُ أَهْلِ الشَّامِ بَقِيَّةُ السَّلَفِ الْكِرَامِ، نَاشِرُ السُّنَّةِ، قَامِعُ الْبِدْعَةِ، أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ، الْعَالِمُ مَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْمَحَاسِنِ عَبْدُ الْحَلِيمِ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ، الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ تَقِيَّةُ الْأَمْصَارِ مَجْدُ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ تَيْمِيَّةِ الْحَرَّانِيُّ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُحْصِي الْخَلْقُ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَبْلُغُ الْعَارِفُونَ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا يُقَدِّرُ الْوَاصِفُونَ قَدْرَ صِفَتِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُشْكَرُ نِعْمَتُهُ إلَّا بِنِعْمَتِهِ، وَلَا تُنَالُ كَرَامَتُهُ إلَّا بِرَحْمَتِهِ. فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَيُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا دِينَنَا، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَهُ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا آيَاتِهِ وَنَهَانَا أَنْ نَتَّخِذَهَا هُزُوًا، وَأَمَرَنَا أَنْ نَذْكُرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُنَا بِهِ، وَأَنْ نَتَّقِيَهُ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
فَإِنَّهُ مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْأَوَامِرَ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ فِيهَا جِمَاعَ أَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِهِ وَلَا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهَا هُزُوًا،
وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ أَظْهَرَ خِلَافَ مَا فِي بَاطِنِهِ، فَإِنَّ السَّرَائِرَ لَدَيْهِ بَادِيَةٌ، وَالسِّرَّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرِيمِ وَجْهِهِ عَنْ جَلَالِهِ. أَحْمَدُهُ حَمْدًا مُوَافِيًا لِنِعَمِهِ، وَمُكَافِيًا لِمَزِيدِهِ، وَأَسْتَعِينُهُ اسْتِعَانَةَ مُخْلِصٍ فِي تَوَكُّلِهِ صَادِقٍ فِي تَوْحِيدِهِ، وَأَسْتَهْدِيهِ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ صَفْوَةِ عَبِيدِهِ أَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ مَنْ يَعْلَمُ أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ فِي صُدُورِهِ وَوُرُودِهِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْأَنَامِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الصَّفْوَةِ الْكِرَامِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَامًا بَاقِيًا بِبَقَاءِ دَارِ السَّلَامِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَهَدَى بِهِ أُمَّتَهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ فِي كُلِّ حَالٍ مُفْتَقِرًا إلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ مَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مِنْ أُمُورٍ قَدْ أَتَاهَا عَلَى غَيْرِ الْهِدَايَةِ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَأُمُورٍ هُدِيَ إلَى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِهَا، أَوْ هُدِيَ إلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَمَامِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لِيَزْدَادَ هُدًى، وَأُمُورٍ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الْهِدَايَةِ فِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِثْلُ مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَاضِي، وَأُمُورٍ هُوَ خَالٍ عَنْ اعْتِقَادٍ فِيهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهِدَايَةِ فِيهَا، وَأُمُورٍ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْهِدَايَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ، إلَى أَنْوَاعِ الْهِدَايَاتِ، فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ فِي أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ مُغَايِرُونَ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " الْيَهُودِ " وَالضَّالِّينَ " النَّصَارَى ".
وَكَانَ الرَّسُولُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ صلى الله عليه وسلم يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ سُلُوكَ سَبِيلِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، وَيَلْعَنُهُمْ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَالِ. وَيَنْهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي اسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ بِالِاحْتِيَالِ لِعِلْمِهِ بِمَا أَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ.
وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ بِنَا فِي مُدَارَسَةِ الْفِقْهِ إلَى مَسَائِلِ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ، وَبَيَّنَ مَا
كَانَ مُوَثِّرًا فِي الْعَقْدِ مُلْحِقًا لَهُ بِالسِّفَاحِ، وَجَرَى مِنْ الْكَلَامِ فِي مَسْأَلَتَيْ الْمُتْعَةِ وَالتَّحْلِيلِ مَا تَبَيَّنَ بِهِ حُكْمُهَا بِأَرْشَدِ دَلِيلٍ، وَظَهَرَتْ الْخَاصَّةُ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا الْمُحَلِّلُ لَعْنَةَ الرَّسُولِ وَلِمَا سَمَّاهُ مِنْ بَيْنِ الْأَزْوَاجِ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَتَبَيَّنَتْ مَآخِذُ الْأَئِمَّةِ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْصَارِ، وَظَهَرَتْ الْمَدَارِكُ وَالْمَسَالِكُ أَثَرًا وَنَظَرًا حَتَّى أَشْرَقَ الْحَقُّ وَأَنَارَ، فَانْتَبَهَ مَنْ كَانَ غَافِلًا مِنْ رَقْدَتِهِ، وَشَكَا مَا بِالنَّاسِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى ظُهُورِ هَذَا الْحُكْمِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ الشَّنِيعَةِ، وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ بِدَلَائِلِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَكْثَرِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، سَأَلَ أَنْ أُعَلِّقَ فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ تَبْصِرَةً لِلْمُسْتَرْشِدِ، وَحُجَّةً لِلْمُسْتَنْجِدِ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَهَوِّرِ وَالْمُتَلَدِّدِ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ.
فَأَجَبْتُهُ إجَابَةَ الْمُتَحَرِّجِ مِنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ، الْمَسْئُول الْخَائِفِ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَخَلَفُوا الرَّسُولَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّتِي أَنْ أَشْفَعَ الْكَلَامَ فِيهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ بَلْ أَقْتَصِرَ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ حَقُّ السَّائِلِ.
فَالْتَمَسَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ مُكَرِّرًا لِلِالْتِمَاسِ تَقْرِيرَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي هِيَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَسَاسٌ، وَهِيَ:" بَيَانُ حُكْمِ الِاحْتِيَالِ عَلَى سُقُوطِ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ "" وَحِلِّ الْعُقُودِ "" وَحِلِّ الْمُحَرَّمَاتِ " بِإِظْهَارِ صُورَةٍ لَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ عِنْدَ الْمُحْتَالِ لَكِنْ جِنْسُهَا مَشْرُوعٌ لِمَنْ قَصَدَ بِهِ مَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ غَيْرِ اعْتِلَالٍ، فَاعْتَذَرْتُ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُفَصَّلَ فِي هَذَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ طَوِيلٍ.
وَلَكِنْ سَأُدْرِجُ فِي ضِمْنِ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْجُمَلِيِّ مَا يُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ التَّفْصِيلِ، بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ لِلَّبِيبِ مَوْقِعُ الْحِيَلِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَمَتَى حَدَثَتْ، وَكَيْفَ كَانَ حَالُهَا عِنْدَ السَّلَفِ الْكِرَامِ، وَمَا بَلَغَنِي مِنْ الْحُجَّةِ لِمَنْ صَارَ إلَيْهَا مِنْ الْمُفْتِينَ، وَذِكْرُ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَذَلِكَ بِكَلَامٍ فِيهِ اخْتِصَارٌ؛ إذْ الْمَقَامُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِكْثَارَ.
وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْقَوْلِ الْجَمِيلِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، وَيَنْفَعُنَا وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَسْتَعْمِلُنَا بِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَجْعَلُهُ مُوَافِقًا لِشِرْعَتِهِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ مُوصِلًا إلَى أَفْضَلِ حَالٍ، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ
وَصُورَتُهُ: أَنَّ الرَّجُلَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَكَمَا جَاءَتْ بِهِ سُنَّةُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ أُمَّتُهُ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ بِنِيَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِتَحِلَّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ كَانَ هَذَا النِّكَاحُ حَرَامًا بَاطِلًا، سَوَاءٌ عَزَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إمْسَاكِهَا، أَوْ فَارَقَهَا، وَسَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، أَوْ شُرِطَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ لَمْ يُشْرَطْ عَلَيْهِ لَفْظًا بَلْ كَانَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْخِطْبَةِ وَحَالِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَهْرِ نَازِلًا بَيْنَهُمْ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ بِالشُّرُوطِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا لِتَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْلَمَ الْمَرْأَةُ وَلَا وَلِيُّهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ عَلِمَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ الْمُحَلِّلُ أَنَّ هَذَا فِعْلُ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ مَعَ الْمُطَلِّقِ وَامْرَأَتِهِ بِإِعَادَتِهَا إلَيْهِ لِمَا أَنَّ الطَّلَاقَ أَضَرَّ بِهِمَا وَبِأَوْلَادِهِمَا وَعَشِيرَتِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
بَلْ لَا يَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يَنْكِحَهَا رَجُلٌ مُرْتَغِبًا لِنَفْسِهِ نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ، وَيَدْخُلُ بِهَا بِحَيْثُ تَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إذَا حَدَثَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ بِمَوْتٍ، وَطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ، جَازَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَوْ أَرَادَ هَذَا الْمُحَلِّلُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ النِّكَاحَ، فَإِنَّ مَا مَضَى عَقْدٌ فَاسِدٌ لَا يُبَاحُ الْمُقَامُ بِهِ مَعَهَا هَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَامَّةِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَعَامَّةِ فُقَهَاءِ الْإِسْلَامِ، مِثْلُ: سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ أَرْكَانُ التَّابِعِينَ.
وَمِثْلُ: أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ أَرْكَانُ تَابِعِي التَّابِعِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، مِنْهُمْ: إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَقْوَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَدِلَّةِ.
وَأَمَّا أَقْوَالُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ، وَلَا الْمَرْأَةُ قَالَ:" إنْ كَانَ إنَّمَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا فَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ لَهُمَا، وَلَا تَحِلُّ ". وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: " إذَا هَمَّ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ، أَوْ الْمَرْأَةُ، أَوْ الزَّوْجُ الْأَخِيرُ، بِالتَّحْلِيلِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ " رَوَاهُمَا حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ:" أَمَّا النَّاسُ فَيَقُولُونَ حَتَّى يُجَامِعَهَا، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَنَا أَقُولُ: إذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا صَحِيحًا لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إحْلَالًا لَهَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ " رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ قَالَ: " لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ إذَا كَانَ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا ". وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَالَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَنَدِمَ وَنَدِمَتْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْطَلِقَ فَأَتَزَوَّجَهَا وَأُصْدِقَهَا صَدَاقًا، ثُمَّ أَدْخُلَ بِهَا كَمَا يَدْخُلُ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ، ثُمَّ أُطَلِّقَهَا حَتَّى تَحِلَّ لِزَوْجِهَا قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: " اتَّقِ اللَّهَ يَا فَتَى وَلَا تَكُونَنَّ مِسْمَارَ نَارٍ لِحُدُودِ اللَّهِ ". رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ
، يُرِيدُ الْحَسَنُ أَنَّ الْمِسْمَارَ هُوَ الَّذِي يُثَبِّتُ الشَّيْءَ الْمَسْمُورَ، فَكَذَلِكَ أَنْتَ تُثَبِّتُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا وَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ. وَعَنْ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَا:" إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ فَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ ". رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَيَنْطَلِقُ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَحَزَّنُ لَهُ فَيَتَزَوَّجُهَا مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ مِنْهُ فَقَالَ: إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ إمْسَاكَهَا فَقَدْ أُحِلَّتْ لَهُ ".
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَ زَوْجُهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ: أَيُطَلِّقُهَا لِتَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ: " لَا حَتَّى يُحَدِّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَعْمُرُ مَعَهَا وَتَعْمُرُ مَعَهُ ". رَوَاهُمَا الْجُوزَجَانِيُّ هَكَذَا لَفْظُ هَذَا الْأَثَرِ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: " لَا يُحِلُّهَا إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ ".
فَإِنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَا، أَوْ لَمْ يَعْلَمَا لَا تَحِلُّ. وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ مَنْ قَصَدَ إلَى التَّحْلِيلِ. وَلَا يُقَرُّ عَلَى نِكَاحِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ فِي ذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ، نَقَلَهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا، وَكَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ فِي أَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: " إذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا جَدِيدًا " قَالَ: " وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ".
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: قُلْت لِأَحْمَدَ: سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا، قَالَ:" لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَسْتَقْبِلَ نِكَاحًا جَدِيدًا ". قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: كَمَا قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ أَصْحَابِهِ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، وَفِي نَفْسِهِ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَلَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ فَقَالَ:" هُوَ مُحَلِّلٌ، وَإِذَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِحْلَالَ فَهُوَ مَلْعُونٌ ". قَالَ: وَبِهِ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ - وَأَبُو خَيْثَمَةَ يَعْنِي - زُهَيْرَ بْنَ حَرْبٍ -، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ يَعْنِي أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ -: " لَسْتُ أَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِهَذَا النِّكَاحِ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْأَثَرِيِّ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ: " إذَا تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ التَّحْلِيلَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا، فَرَجَعَتْ إلَى الْأَوَّلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ هَذَا نِكَاحًا صَحِيحًا " وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا فِي الَّذِي يُطَلِّقُ ثَلَاثًا: " لَا تَحِلُّ لَهُ
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَيْسَ فِيهِ دُلْسَةٌ " وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ: " لَا تَحِلُّ وَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَكُونَ نِكَاحًا أَثْبَتَ النِّيَّةَ فِيهِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ " وَقَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ:" إذَا نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَالِ لِتَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَالْمَهْرُ لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا " وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
ثُمَّ أَكْثَرُ مُحَقِّقِيهِمْ قَطَعُوا بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَوْلٌ وَاحِدٌ فِي الْمَذْهَبِ.
وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِثْلُ الْجَامِعِ وَالْخِلَافِ، وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ مِثْلُ الْقَاضِي أَبِي الْحُسَيْنِ، وَأَبِي الْمَوَاهِبِ الْعُكْبَرِيِّ، وَابْنِ عَقِيلٍ فِي التَّذْكِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافًا، وَسَنَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - أَصْلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ: " وَلَوْ تَزَوَّجَهَا فَإِنْ أَعْجَبَتْهُ أَمْسَكَهَا، وَإِلَّا كَانَ قَدْ احْتَسَبَ فِي تَحْلِيلِهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ وَلَا يُحِلُّهَا ذَلِكَ لِمَا خَالَطَ نِكَاحَهُ مِنْ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا نِكَاحٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ إنَّمَا نَوَى فِرَاقَهَا إذَا لَمْ تُعْجِبْهُ وَصَارَ التَّحْلِيلُ ضِمْنًا، وَأَمَّا مَنْ سَوَّى مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالْمُحَلِّلِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إنْ جِئْتنِي بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا. فَإِنَّ قَوْلَهُمْ يُوَافِقُ قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُسَوُّونَ بَيْنَ أَنْ يَشْرِطَ الْفُرْقَةَ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمَهْرِ ".
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ الْعِرَاقِيِّ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا تَزْوِيجًا مُطْلَقًا لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَا اُشْتُرِطَ عَلَيْهِ التَّحْلِيلُ إلَّا أَنَّهُ نَوَاهُ وَقَصَدَهُ، قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ الْجَدِيدِ الْمِصْرِيِّ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُمْ، وَفِي الْقَلْبِ مِنْ حِكَايَتِهِ هَذَا عَنْ هَؤُلَاءِ حَزَازَةٌ، فَإِنَّ مَالِكًا أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَذَاهِبِ الْمَدَنِيِّينَ، وَأَتْبَعُهُمْ لَهَا، وَمَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ شِدَّةُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ
هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْيَانِ الْمَدَنِيِّينَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ الْمَدَنِيِّينَ التَّغْلِيظُ فِي التَّحْلِيلِ، قَالُوا: هُوَ عَمَلُهُمْ وَعَلَيْهِ اجْتِمَاعُ مَلَئِهِمْ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَقَدْ خَرَّجَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ: الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَغَيْرُهُمَا، عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَقْدُ صَحِيحٌ، كَقَوْلِ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، قَالُوا: لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: أَكْرَهُهُ، وَالْكَرَاهَةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْهُ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيمِ، أَوْ التَّنْزِيهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ، وَجَعَلَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَبُو الْخَطَّابِيِّ، وَطَائِفَةٌ مَعَهُمَا الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: الْبُطْلَانُ كَمَا نَقَلَهُ حَنْبَلٌ، وَغَيْرُهُ.
وَالثَّانِيَةُ: الصِّحَّةُ، لِأَنَّ حَرْبًا نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ، فَظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْبَنَّاءِ إلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَطَعَ عَنْ أَحْمَدَ بِالْكَرَاهَةِ مَعَ الصِّحَّةِ.
وَهَذَا التَّخْرِيجُ ضَعِيفٌ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَرَاهَةَ الَّتِي نَقَلَهَا حَرْبٌ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، وَفِي نَفْسِهِ طَلَاقُهَا فَكَرِهَهُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي نِيَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ بَيِّنٌ فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ إعَادَتُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ، وَالْمُسْتَمْتِعُ لَهُ رَغْبَةٌ فِي النِّكَاحِ إلَى مُدَّةٍ، وَلِهَذَا أُبِيحَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ حُرِّمَ وَلَمْ يُبَحْ التَّحْلِيلُ قَطُّ.
وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: أَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، كَالرَّجُلِ يَقْدَمُ الْبَلْدَةَ فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ السَّفَرِ، فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَاتَّبَعَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَعَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ نِيَّةَ التَّحْلِيلِ تُبْطِلُ النِّكَاحَ، لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ هَذَا النِّكَاحِ، وَقَالَ: هُوَ مُتْعَةٌ، فَعُلِمَ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ. عَامَّةُ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ.
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّنْزِيهَ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَمِمَّنْ حَرَّمَهُ الْأَوْزَاعِيُّ.
وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ امْرَأَةً لِيَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيُفَارِقَهَا إذَا سَافَرَ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ فَاسِدًا وَهُوَ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، وَاخْتُلِفَ إذَا فَهِمَتْ ذَلِكَ. أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: النِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَهُ، فَقَالَ: إنَّمَا يُكْرَهَ الَّتِي يَنْكِحُهَا عَلَى أَنْ لَا يُقِيمَ وَعَلَى ذَلِكَ يَأْتِي، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَخْبَرَهَا قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَ، ثُمَّ أَرَادَ إمْسَاكَهَا فَلَا يُقِيمُ عَلَيْهَا وَلَا يُمْسِكُهَا وَلْيُفَارِقْهَا، قَالَ مَالِكٌ: إنْ تَزَوَّجَ لِعُزْبَةٍ، أَوْ هَوًى لِقَضَاءِ أَرَبِهِ وَيُفَارِقُ فَلَا بَأْسَ، وَلَا أَحْسِبُ إلَّا أَنَّ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ لَوْ عَلِمَتْ ذَلِكَ لَمَا رَضِيَتْ.
الثَّانِي: أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا تَزَوَّجَهَا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَكْرَهُهُ هَذِهِ مُتْعَةٌ، وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَهَا إلَى خُرَاسَانَ وَمِنْ رَأْيِهِ إذَا حَمَلَهَا أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا، فَقَالَ: لَا، هَذَا يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ مَا حَيِيَتْ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا مُتْعَةً، وَالْمُتْعَةُ حَرَامٌ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي، فِي خِلَافِهِ: ظَاهِرُ هَذَا إبْطَالُ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ اسْتَدْرَكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَبِي الْخَطَّابِ يَقُولُ أَحْمَدُ هَذِهِ مُتْعَةٌ.
قَالَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، لَكِنَّ قَوْلَ أَبِي الْخَطَّابِ يَقْوَى فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فَإِنَّهُ قَالَ: يُشْبِهُ الْمُتْعَةَ، وَالْمُشَبَّهُ بِالشَّيْءِ قَدْ يَنْقُصُ عَنْهُ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ مَا حَيِيَتْ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا، فَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، وَأَمَّا إذَا نَوَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ فَقَدْ نَصَّ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي رِوَايَةٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهَا مِثْلَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ دُونَ التَّحْرِيمِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: لَا بَأْسَ بِهِ.
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْمَذْهَبِ فِيمَا إذَا قَصَدَ التَّحْلِيلَ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا مَعَهُ، فَأَمَّا إذَا تَوَاطَآ عَلَى التَّحْلِيلِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَعَقَدَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِأَصْلِنَا إذَا قُلْنَا: إنَّ النِّيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُؤَثِّرُ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْعَقْدِ إذَا لَمْ تُفْسَخْ إلَى حِينِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارِنَةِ، وَهُوَ مَفْهُومُ مَا خَرَّجَهُ
أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْخِلَافَ إذَا نَوَى التَّحْلِيلَ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ نَقَلَ عَنْهُمْ الرُّخْصَةَ فِي مُجَرَّدِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَاشْتَرَطُوا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَعْلَمَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ، فَرَوَى عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجَانِ وَهُوَ مَأْجُورٌ بِذَلِكَ "، حَكَاهُ عَنْهُمَا الطَّحَاوِيَّ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: " هُوَ مَأْجُورٌ " وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: " وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمَا فَلَا بَأْسَ بِالنِّكَاحِ وَتَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ " حَكَاهُنَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ رُخْصَةٌ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ إذَا عَلِمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ فَضْلًا عَنْ اشْتِرَاطِهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا كَنِيَّةِ التَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَخَرَّجَ فِيهِمَا وَجْهَيْنِ.
وَأَمَّا إذَا شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ، سَوَاءٌ قَالَ: زَوَّجْتُكَ إلَى أَنْ تُحِلَّهَا، أَوْ: إلَى أَنْ تَطَأَهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّأْجِيلِ، أَوْ قَالَ: بِشَرْطِ أَنَّكَ إذَا وَطِئْتَهَا، أَوْ إذَا أَحْلَلْتَهَا بَانَتْ، أَوْ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا، أَوْ عَلَى أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا إذَا حَلَّلْتَهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ إذَا تَحَلَّلَتْ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّكَ تُطَلِّقُهَا إذَا حَلَّلْتَهَا لِلْمُطَلِّقِ أَوْ وَطِئْتَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا فَقَطْ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ الْإِحْلَالَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْوَطْءِ، وَالطَّلَاقِ.
فَإِذَا قِيلَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا فَقَطْ، كَانَ الْمُرَادُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا قِيلَ: عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا، ثُمَّ تُطَلِّقَهَا، كَانَ الْإِحْلَالُ هُوَ الْوَطْءَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا، لِأَنَّ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا الشَّرْطِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحِلَّهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَنْ يُحِلَّهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، فَمَنْ قَالَ الْأَوَّلَ عَنَى بِالْإِحْلَالِ الْوَطْءَ وَالطَّلَاقَ جَمِيعًا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَمَنْ قَالَ الثَّانِيَ كَانَ الْإِحْلَالُ عِنْدَهُ الْوَطْءَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى الزَّوْجِ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِمَوْتٍ، أَوْ طَلَاقٍ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْوَطْءُ صَارَتْ الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الزَّوْجَاتِ، وَارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ بِهِ، فَهَذَا جَعَلَ الْوَطْءَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُحَلِّلُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَيُرْوَى عَنْ
أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا قَطَعُوا بِهَذَا مَعَ ذِكْرِ بَعْضِهِمْ لِلْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ فَاسِدٌ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ قَالَ: عَلَى أَنَّهُ إذَا أَحَلَّهَا فَلَا نِكَاحَ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا أَحَلَّهَا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيِّ، وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ. وَفِيهِ نَظَرٌ عَنْهُ، وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنَّهُ أَبْطَلَ الشَّرْطَ فِي ذَلِكَ، وَأَجَازَ النِّكَاحَ، وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ النِّكَاحِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
وَقَدْ خَرَّجَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْخِلَافِ، وَأَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِ الشَّرْطِ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ - مِنْ رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي النِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ، أَوْ أَنَّهُ إنْ جِئْتَنِي بِالْمَهْرِ إلَى وَقْتِ كَذَا، وَإِلَّا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا - أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ طَرَدَ التَّخْرِيجَ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْمَذْهَبِ. بَلْ لَا يَجُوزُ نِسْبَةُ مِثْلِ هَذَا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتِلْكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُنَا شَرَطَ الْفُرْقَةَ الرَّافِعَةَ لِلْعَقْدِ عَيْنًا وَهُنَاكَ إنَّمَا شَرَطَ الْفُرْقَةَ إذَا لَمْ يَجِئْهُ بِالْمَهْرِ، أَوْ إذَا اخْتَارَهَا صَاحِبُ الْخِيَارِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِاشْتِرَاطِ الْمَجِيءِ بِالْمَهْرِ تَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَهُنَا الشَّرْطُ مُنَافٍ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ، وَهُوَ إمَّا مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ عَيْنًا بِحَيْثُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، أَوْ مُوجِبٌ لِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ عَلَى الزَّوْجِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَنْكِحَةَ مَقْصُودَةٌ يُرِيدُ بِهَا النَّاكِحُ مَا يُرَادُ بِالْمَنَاكِحِ، وَهُنَا إنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْلِيلُ الْمُحَرَّمَةِ لِزَوْجِهَا، فَالْمَقْصُودُ زَوَالُ النِّكَاحِ لَا وُجُودُهُ.
ثُمَّ عَامَّةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُبْطِلُونَ الْعَقْدَ يَكْرَهُونَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَإِنْ لَمْ يُبْطِلُوهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ خِلَافُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا ظَهَرَ مِنْ الزَّوْجِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّحْلِيلَ.
فَأَمَّا إذَا أَضْمَرَ ذَلِكَ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ التَّابِعِينَ إنْ صَحَّتْ الْحِكَايَةُ
أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ، وَصِحَّتُهَا بَعِيدَةٌ فَإِنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مَعْنٍ قَاضِيَ الْكُوفَةِ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ لَقُلْتُ إنَّهُ مَأْجُورٌ، - يَعْنِي الْمُحَلِّلَ -، وَهَذِهِ قَالَهَا الْقَاسِمُ فِي مَعْرِضِ التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ قَالَهَا، فَإِنَّ سِيَاقَ كَلَامِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَحْتَمِلُهُ النَّاسُ بِوَجْهٍ لَقِيلَ، فَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، أَوْ قَرِيبَهُ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْمُنْكَرَاتِ عِنْدَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ مُحْدَثٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ؟ وَزَعَمَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُرِيدُ نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا مَأْجُورًا إذَا لَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِهِ فِي حِينِ الْعَقْدِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ إرْفَاقَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَإِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ صَحِيحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، قَالَ: إنَّهُ يُفِيدُ الْحِلَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إذَا صَحَّحُوا النِّكَاحَ، فَمَرَّةً قَالُوا: لَا تَحِلُّ لَهُ بِهَذَا النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَمَرَّةً قَالُوا: تَحِلُّ بِهِ، هَكَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيَّ وَغَيْرُهُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ قَالَ: لَا تَحِلُّ مَعَ صِحَّةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ، فَجُوزِيَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَمَا فِي مَنْعِ قَاتِلِ الْمُوَرِّثِ.
فَإِذَا ظَهَرَتْ الْمَقَالَاتُ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، وَمَا فِيهَا مِنْ التَّفْصِيلِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَعَامَّةُ السَّلَفِ التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا، وَنَحْنُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - نَذْكُرُ الْأَدِلَّةَ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَبُطْلَانِهِ، سَوَاءٌ قَصَدَهُ فَقَطْ، أَوْ قَصَدَهُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ شَرَطَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، وَنُبَيِّنُ الدَّلَائِلَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - عَلَى الشَّرْطِ الْخَالِي عَنْ نِيَّةٍ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَهُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الْإِشَارَةُ إلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ عُمُومًا.
وَالثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا.