الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]
إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230] .
يَعْنِي فَإِنْ طَلَّقَهَا هَذَا الزَّوْجُ الثَّانِي الَّذِي نَكَحَتْهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ، وَحَرْفُ إنْ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِمَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ وَعَدَمُ وُقُوعِهِ، فَأَمَّا مَا يَقَعُ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا فَيَقُولُونَ فِيهِ إذَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَائْتِنِي وَلَا يَقُولُونَ إنْ احْمَرَّ الْبُسْرُ؛ لِأَنَّ احْمِرَارَهُ وَاقِعٌ فَلَمَّا قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ نِكَاحٌ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ تَارَةً وَلَا يَقَعُ أُخْرَى، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ لَازِمًا أَوْ غَالِبًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي مِثْلِهِ فَإِذَا طَلَّقَهَا وَلَا يُقَالُ فَالْآيَةُ عَمَّتْ كُلَّ نِكَاحٍ، فَلِهَذَا قِيلَ فَإِنْ طَلَّقَهَا إذْ مِنْ النَّاكِحِينَ أَنْ يُطَلِّقَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطَلِّقُ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الْمُحَلِّلِينَ يُطَلِّقُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ لَقَالَ فَإِنْ فَارَقَهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ عَنْهَا، وَقَدْ تُفَارِقُهُ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِحُدُوثِ مَهْرٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ بِفَسْخِهِ لِعُسْرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَتَحِلُّ، لَكِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِيَدِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا بِيَدِهِ الطَّلَاقُ خَاصَّةً، فَهُوَ الَّذِي إذَا قِيلَ فِيهِ إنْ طَلَّقَ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ نِكَاحُ رَغْبَةٍ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَقَدْ لَا يَقَعُ، لَا نِكَاحُ دُلْسَةٍ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا نَادِرًا، وَلَوْ قِيلَ فَإِنْ فَارَقَهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَقَعُ فِيهِ الْفُرْقَةُ تَارَةً وَلَا تَقَعُ أُخْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِكَاحَ الرَّغْبَةِ وَالدُّلْسَةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِ فَارَقَ إلَى لَفْظِ طَلَّقَ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ نِكَاحٌ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الطَّلَاقُ، لَا نِكَاحٌ مَعْقُودٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ.
يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّ لَفْظَةَ الْفِرَاقِ أَعَمُّ فَائِدَةً وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ خَصِيصَةٌ لَكَانَ ذِكْرُهُ أَوْلَى، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فَائِدَةٌ مُنَاسَبَةٌ يَتَبَيَّنُ بِمُلَاحَظَتِهَا كَمَالُ مَوْضِعِ الْخِطَابِ. يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ الْغَايَةَ الْمُؤَقَّتَةَ بِحَرْفِ حَتَّى تَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْمَحْدُودِ الْمُغَيَّا لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ خِلَافًا فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْغَايَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِحَرْفِ إلَى
وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا وَقَدِمَ الْحَاجُّ حَتَّى الشَّاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ الْغَايَاتِ دَاخِلَةٌ فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تُوجَدَ الْغَايَةُ الَّتِي هِيَ نِكَاحُ زَوْجٍ غَيْرِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ إذَا وُجِدَتْ انْتَهَى ذَلِكَ التَّحْرِيمُ الْمَحْدُودُ إلَيْهَا، وَانْقَضَى، وَهَذَا الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي بَيَانِ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي بِمَوْتٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَكَحَهَا زَوْجٌ غَيْرُهُ فَقَدْ زَالَ التَّحْرِيمُ الَّذِي كَانَ وُجِدَ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، وَبَقِيَتْ كَسَائِرِ الْمُحْصَنَاتِ فِيهَا تَحْرِيمٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا زَالَ هَذَا التَّحْرِيمُ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَبْقَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ التَّحْرِيمَيْنِ، فَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ، أَوْ أَنَّهُ أُرِيدَ بِنِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، مَجْمُوعُ مُدَّةِ النِّكَاحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ. كَمَا يُقَالُ لَا أُكَلِّمُك حَتَّى تُصَلِّيَ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ.
وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَلَمَّا قِيلَ بَعْدَ هَذَا فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ غَيْرُ بَيَانِ تَوَقُّفِ الْحِلِّ عَلَى الطَّلَاقِ، وَهُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الزَّوْجَ مَوْصُوفٌ بِجَوَازِ التَّطْلِيقِ، وَعَدَمِ جَوَازِهِ أَعْنِي وُقُوعَهُ تَارَةً وَعَدَمَ وُقُوعِهِ أُخْرَى، وَإِذَا أَرَدْت وُضُوحَ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] لَمَّا كَانَ التَّطْهِيرُ فِعْلًا مَقْصُودًا جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ التَّوْقِيتِ؛ وَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ هُنَا غَيْرَ مَقْصُودٍ جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ التَّعْلِيقِ. فَلَوْ كَانَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ مَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَنْكِحَ لَكَانَ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى نِكَاحِ الْمُطَلَّقَاتِ.
وَكَانَ الطَّلَاقُ فِيهِ مَقْصُودًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تِلْكَ الْآيَةِ. لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ. إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَوَقَّفَ الْحِلُّ عَلَى شَرْطَيْنِ قَالَ: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ الثَّابِتَ بِفِعْلِ اللَّهِ زَالَ بِوُجُودِ الطُّهْرِ. ثُمَّ بَقِيَ نَوْعٌ آخَرُ أَخَفُّ مِنْهُ. يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِفِعْلِ الْآدَمِيِّ بَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] .