المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الثالث في بيان أن كلام الله واحد] - الفتاوى الكبرى لابن تيمية - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ] [

- ‌نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ]

- ‌[الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ بُطْلَانُ الْحِيَلِ وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَخْبَرَ اللَّه عَنْ أَهْل الْجَنَّة الَّذِينَ بَلَاهُمْ فِي سُورَة نُون]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ قَالَ اللَّه وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ]

- ‌[الْوَجْه السَّادِسُ قَوْل النَّبِيّ مَنْ أَدَخَلَ فَرَسًا بَيْن فَرَسَيْنِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّامِنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا]

- ‌[الْوَجْهُ الْعَاشِرُ قَالَ صلى الله عليه وسلم لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا]

- ‌[الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْحِيلَة تَصْدُرُ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً]

- ‌ أَقْسَامِ الْحِيَلِ

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ]

- ‌[الْوَجْه الثَّامِن عَشْر أوجب اللَّه النَّصِيحَة وَالْبَيَان فِي الْمُعَامَلَات خَاصَّة]

- ‌[الْوَجْه التَّاسِع عَشْر اسْتَعْمَلَ الرَّسُول رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَة]

- ‌[الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ إذَا تَأَمَّلْت عَامَّةَ الْحِيَلِ وَجَدْتهَا رَفْعًا لِلتَّحْرِيمِ]

- ‌[الْوَجْه الرَّابِع وَالْعُشْرُونَ أَنْ اللَّه وَرَسُوله سَدّ الذَّرَائِع الْمُفْضِيَة إلَى الْمَحَارِم]

- ‌[الطَّرِيقُ الثَّانِي إبْطَالُ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ] [

- ‌الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ]

- ‌[الْمَسْلَك الثَّالِث التَّحْلِيل لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ النَّبِيّ يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ طلق ثَلَاثًا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[الْمَسْلَك الْخَامِس قَالَ اللَّه بَعْد الطَّلَاق مَرَّتَانِ وَبَعْد الخلع فَإِن طلقها]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ]

- ‌[كِتَابٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الطَّوَائِفِ الْمُلْحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ] [

- ‌خِطْبَة الْكتاب]

- ‌[أَوْجُهٍ الرد عَلَيَّ الْمعَارضين]

- ‌[الْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ]

- ‌[فَصْلٌ قَالُوا وَلَا نَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ]

- ‌[الْأَصْلُ التَّاسِعُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا وَإِثْبَاتِ قِدَمِ كَلَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ إنَّ هَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ الَّذِي هُوَ الْقَلْبُ يُوصَفُ بِالنُّطْقِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي إثْبَاتِ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَلَامِ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَحْكُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ إنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالذَّاتِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إذَا جَاءَ أَنْ تَجْعَلُوا هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ حَقِيقَةً وَاحِدَةً]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ إنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا حُجَّتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَمْت دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ قَدِيمًا وَاحِدًا لَيْسَ بِمُتَغَايِرٍ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ إمَّا قِدَمُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ إنَّ قَوْلَك عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ إنْ عَنَيْت بِهِ أَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَتْ كَحَقِيقَةِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْكَلَامَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَسَائِرَ الصِّفَاتِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْمَخْلُوقَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ إنَّك اعْتَمَدَتْ فِي كَوْنِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا قَدِيمًا]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ قِيَاسُك الْوَحْدَةَ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْكَلَامِ عَلَى الْوَحْدَةِ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْمُتَكَلِّمِ قِيَاسٌ لِلشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ أَنْ يُقَالَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ كَوْنَ الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ إنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ شَيْئًا وَاحِدًا لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ أَنْ يُقَالَ مَا تَعْنِي بِقَوْلِك كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَهُ ذَلِكَ قِدَمُهُ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتِينَ لِلْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ قَالُوا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ اجْتِمَاعَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالرُّؤْيَةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْقَوْل بِالتَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ فِي كَلَام اللَّه]

- ‌[الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ قَوْلُهُمْ كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي الْجَوَابِ عَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَاحِدًا]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ كَانَ الْبَارِي عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ مَا شُكَّ فِيهِ يُقْطَعُ فِيهِ بِالِامْتِنَاعِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ]

- ‌[بَابٌ فِي ذِكْرِ كَلَامِ الْأَشْعَرِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَطَبَقَتِهِ]

الفصل: ‌[الفصل الثالث في بيان أن كلام الله واحد]

الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ، وَقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ، وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَامِسَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْوُجُوهِ السَّمْعِيَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُنَازِعُ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ حُدُوثَ الْقُرْآنِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ بَعْدَ ذَلِكَ نَدَّعِي صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَدَّعِي قِدَمَهَا.

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ يَسْتَحِيلُ وَصْفُهَا بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّةً وَعَجَمِيَّةً وَمُحْكَمَةً وَمُتَشَابِهَةً، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ الَّذِي حَاوَلُوا إثْبَاتَ حُدُوثِهِ فَنَحْنُ لَا نُنَازِعُهُمْ فِي حُدُوثِهِ، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ لَا يَجْرِي فِيهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ

[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ]

ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ الْعَاشِرِ الَّذِي هُوَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْهُ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ الْمَشْهُورُ اتِّفَاقُ الْأَصْحَابِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ نَقَلَ أَبُو الْقَاسِمِ الْإسْفَرايِينِيّ مِنَّا عَنْ بَعْضِ قُدَمَاءِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ خَمْسَ كَلِمَاتٍ، الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَالنِّدَاءُ. قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهَا مَعَ الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْحَالِ أَوْ مَعَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ضُعِّفَتْ الْمَسْأَلَةُ جِدًّا، لِأَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيَّنَ حَقِيقَتَهُ فَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الطَّلَبِ مُخَالِفَةً لِحَقِيقَةِ الْخَبَرِ كَانَ وُجُودُ الطَّلَبِ مُخَالِفًا لِوُجُودِ الْخَبَرِ أَيْضًا إذْ لَوْ اتَّحَدَا فِي الْوُجُودِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ كَانَ الْوُجُودُ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْأَحْوَالِ لَا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ خَبَرًا وَطَلَبًا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، بَلْ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ هُوَ الْخَبَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا فَقَدْ أَخْبَرَ ذَلِكَ الْغَيْرَ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَعَاقَبَهُ أَوْ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْإِحْلَالُ وَمَنْ اسْتَفْهَمَ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْإِفْهَامَ وَإِذَا صَارَ الْكَلَامُ كُلُّهُ خَبَرًا زَالَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ هَذَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الطَّلَبِ مُغَايِرَةٌ لِحَقِيقَةِ حُكْمِ الذِّهْنِ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ وَتِلْكَ الْمُغَايَرَةُ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَلِهَذَا يَتَطَرَّقُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قَالَ وَإِنْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَالِ فَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَنَّ الْحَقَائِقَ الْكَثِيرَةَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَتَّصِفَ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً وَإِلَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ.

وَأَنَا إلَى الْآنِ لَمْ يَتَّضِحْ لِي فِيهِ دَلِيلٌ لَا نَفْيًا وَلَا

ص: 491

إثْبَاتًا وَاَلَّذِي يُقَالُ فِي امْتِنَاعِهِ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا شَيْئًا وَاحِدًا لَهُ يَكُونُ لَهُ حَقِيقَتَانِ فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِمَا مَا يُضَادُّ إحْدَى الْحَقِيقَتَيْنِ لَزِمَ أَنْ نُقَدِّمَ تِلْكَ الصِّفَةَ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَلَا نُقَدِّمَ مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ، قَالَ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّا حَكَيْنَا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ اسْتِدْلَالَهُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْأَجْنَاسِ لَا تَقَعُ بِالْفَاعِلِ، ثُمَّ زَيَّفْنَا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ وَتِلْكَ الْوُجُوهُ بِأَسْرِهَا عَائِدَةٌ هَاهُنَا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا مَعًا، وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنْ أَنْ نُعَوِّلَ فِيهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ مِنْ الْحِكَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ فَبَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ بِلَا دَلِيلٍ وَإِنَّمَا قَالَ لَا يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ فِيهَا عَلَى الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ عَوَّلَ فِيهَا عَلَى الْإِجْمَاعِ، فَقَالَ الْقَائِلُ قَائِلَانِ، قَائِلٌ يَقُولُ: اللَّهُ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ قَادِرٌ بِالْقُدْرَةِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: اللَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِالْعِلْمِ وَلَا قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ إنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ أَنَّهُ قَالَ إنَّهُ عَالِمٌ بِعُلُومٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ لَكِنْ قَالَ هُوَ مَسْبُوقٌ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ.

قُلْت وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ أُمُورٌ يَتَبَيَّنُ بِهَا مِنْ الْهُدَى لِمَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ.

أَحَدُهَا: إنَّهُ لَمْ يَعْتَمِدْ فِي كَوْنِ كَلَامِ اللَّهِ قَدِيمًا عَلَى حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَلَا عَلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة، بَلْ ادَّعَى فِيهَا الْإِجْمَاعَ قَالَ لِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى كَوْنَ اللَّهِ مَوْصُوفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَهُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ثُمَّ حَكَمْنَا بِحُدُوثِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ يُقَالُ لَهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ اتِّصَافَهُ وَأَنَّهُ يَقُومُ بِهِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ يَقُولُ بِقَدَمِهِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُ بِقِدَمِهِ فَمِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَمَّا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ فَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي الْكُتُبِ الْحَدِيثِيَّةِ وَالْكَلَامِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ يَقُومُ بِهِ حُرُوفٌ لَيْسَتْ قَدِيمَةً لَكِنْ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ يَقُومُ بِهِ مَعَانٍ لَيْسَتْ قَدِيمَةً لِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ الْمَنْقُولَةَ تَنْطِقُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.

ص: 492

الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة لَمْ يَقُلْ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَةِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَكِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَخْلُوقُ عِنْدَهُمْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا، وَاَلَّذِينَ قَالُوا هُوَ مَخْلُوقٌ قَالُوا إنَّهُ خَلَقَهُ فِي جِسْمٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ السَّلَفُ: إنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْمَخْلُوقِ، فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِخَطَإِ مَنْ يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَلُغَةً أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ، وَرُبَّمَا قَدْ يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا حَتَّى خَلَقَ الْكَلَامَ فَصَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ. فَتَوَهَّمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ السَّلَفَ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ كَتَوَهُّمِ مَنْ تَوَهَّمَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُفْتَرٍ مَكْذُوبٌ كَمَا ذَكَرَهُ هُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ لَهُمْ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ مَا رَوَى أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْغُرَرِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ» .

وَرَوَى عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «يَا رَبَّ طَه وَيس وَيَا رَبَّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ» قَالَ وَلَا يُقَالُ هَذَا مُعَارِضٌ بِمُبَالَغَةِ السَّلَفِ مِنْ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لِأَنَّا نَقُولُ بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الِافْتِرَاءِ ضَرُورَةَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ.

قُلْت: وَجَوَابُ هَذِهِ الْحُجَّةِ سَهْلٌ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مُفْتَرًى عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ، كَمَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ عَلَيْهِ، وَيَكْفِي أَنَّ نَقْلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا بِإِسْنَادٍ مَعْرُوفٍ، بَلْ الَّذِي رَوَوْهُ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَعْرُوفِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ بِشَهْرَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ صَلَّيْت مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى رَجُلٍ فَلَمَّا دُفِنَ قَامَ رَجُلٌ

ص: 493

فَقَالَ يَا رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَهْ إنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ وَفِي رِوَايَةٍ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَرْبُوبٍ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَهَذَا الْأَثَرُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ ضِدُّ مَا رَوَوْهُ.

وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ فَلَا يُؤْثَرُ لَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ أَصْلًا وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ» فَإِنَّ هَذَا لَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ أَصْلًا وَلَكِنْ يُؤْثَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَفْسِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ بِنَقْلِ الْعُدُولِ أَنَّهُ قَالَ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ وَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ

، وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي الْأَجْسَامِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ صِفَةً لِلَّهِ لَا مَخْلُوقًا لَهُ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْأَثَرِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ لِأَنَّهَا هِيَ مَخْلُوقَةٌ كَمَا يُقَالُ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْكَبِيرُ مَخْلُوقًا وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الْأَئِمَّةُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ. ذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي يُرْوَى «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا جَبَلٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ» قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ هُوَ هَكَذَا «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمُ مِمَّا خَلَقَ» .

وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَفَلَيْسَ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إنَّمَا قَالَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْعَظِيمِ الْمَخْلُوقِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْحَدِيثُ «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا كَذَا أَعْظَمَ» فَقُلْت لَهُمْ إنَّ الْخَلْقَ هَاهُنَا وَقَعَ عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ، فَلَمْ يَذْكُرْ خَلْقَ الْقُرْآنَ هَاهُنَا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ تُسْتَرَ بْنِ شَكْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ أَعْظَمَ مِنْ:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] » .

ص: 494

قَالَ سُفْيَانُ تَفْسِيرُهُ إنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَكَلَامُهُ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِمَّا يَكُونُ بِهِ الْخَلْقُ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ.

وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ أَنَّ السَّلَفَ امْتَنَعُوا مِنْ لَفْظِ الْخَلْقِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِافْتِرَاءِ فَأَلْفَاظُ السَّلَفِ مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ نَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ السَّلَفِ كُلُّهَا تُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْخَلْقَ الَّذِي تَعْنِيهِ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ كَوْنِهِ مَصْنُوعًا فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ، كَمَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ خَالِقٌ أَوْ هُوَ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ.

وَمِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه لَمَّا قِيلَ لَهُ حَكَّمْت مَخْلُوقًا فَقَالَ مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهَذَا الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ لَيْسَ مَعْنَاهُ مَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا مَا قَالَتْهُ الْكِلَابِيَّةُ، وَهَذَا الرَّازِيّ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يُنَافِي مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَا هَذَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا، وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ اعْتِصَامُهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ بِدَعْوَى إجْمَاعٍ وَالْإِجْمَاعُ الْمُحَقَّقُ عَلَى خِلَافِهِ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ لَمْ تَصِحَّ الْحُجَّةُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمُحَقَّقُ السَّلَفِيُّ عَلَى خِلَافِهِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّ الرَّجُلَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِي خَلْقِ الْكَلَامِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ حَيْثُ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّتْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ كَلَامَ اللَّهِ وَهُمْ لَمْ يُسَمُّوهُ كَلَامَ اللَّهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ أَوْ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَقَالُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، فَلَوْ كَانَ مَا وَصَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ هُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا وَإِنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي تَسْمِيَةِ كَلَامِ اللَّه أَوْ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ الْعَظِيمَةُ وَالتَّكْفِيرُ الْعَظِيمُ بِمُجَرَّدِ نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ كَمَا قَالَ هُوَ إنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِيمَا أَطْلَقَتْهُ لَمْ تُنَازِعْ إلَّا فِي بَحْثٍ لُغَوِيٍّ، لَمْ يَجِبْ تَكْفِيرُهُمْ وَتَضْلِيلُهُمْ وَهِجْرَانُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُضَلِّلُونَهُمْ فِي تَأْوِيلِ

ص: 495

ذَلِكَ وَإِنْ نَازَعُوهُمْ فِي لَفْظِهِ وَمُجَرَّدُ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ لَا يَكُونُ كُفْرًا وَلَا ضَلَالًا فِي الدِّينِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ اسْتَخَفَّ بِالْبَحْثِ فِي مُسَمَّى الْمُتَكَلِّمِ وَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ بِأَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هِيَ سَمْعِيَّةٌ كَمَا قَدْ ذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ، الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُ الْمُنَازِعُ إثْبَاتَ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَمْرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ لِتَنَازُعِهِمْ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ

(أَجَابَ) بِأَنَّا نُثْبِتُهَا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَأَخْبَرَ بِكَذَا وَقَالَ كَذَا وَتَكَلَّمَ بِكَذَا، وَبِأَنَّا نُثْبِتُهَا أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَرَّرُوهُ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ آمِرٌ نَاهٍ كَانَ الْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمُتَكَلِّمِ الْآمِرِ النَّاهِي هَلْ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْكَلَامُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ أَوْ هُوَ مِنْ فِعْلِهِ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ هُوَ أَحَدُ مُقَدِّمَتَيْ دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ الْآمِرُ النَّاهِي الْمُخْبِرُ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا خَبَرٌ بَطَلَتْ حُجَّةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْإِطْنَابُ فِي هَذَا الْأَصْلِ هُوَ أَهَمُّ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَصْلٌ أَهَمُّ مِنْ هَذَا وَبِهَذَا الْأَصْلِ كَفَّرَ الْأَئِمَّةُ الْجَهْمِيَّةَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ وَأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا بَحْثًا لَفْظِيًّا لُغَوِيًّا كَمَا زَعَمَهُ بَلْ هُوَ بَحْثٌ عَقْلِيٌّ مَعْنَوِيٌّ شَرْعِيٌّ مَعَ كَوْنِهِ أَيْضًا لُغَوِيًّا كَمَا نَذْكُرُهُ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ: وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ أَوْ لَا يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ.

وَكَوْنُ الْحَيِّ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ هُوَ مِثْلُ كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا وَقَادِرًا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا وَمَرِيدًا بِصِفَاتٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ، وَكَوْنِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ لَا تَقُومُ بِهِ حَيَاةٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَهَذِهِ كُلُّهَا بُحُوثٌ مَعْقُولَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لَا تُخَصُّ بِلُغَةٍ بَلْ تَشْتَرِكُ فِيهَا الْأُمَمُ كُلُّهُمْ، وَهِيَ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ، فَإِنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الصِّفَةِ لِلْمَحِلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الصِّفَةُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مُقَامٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ مُقَامٌ لَهُ سَمْعِيٌّ، وَلِهَذَا يُبْحَثُ مَعَهُمْ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِأَنَّ

ص: 496

الْحَيَّ لَا يَكُونُ عَلِيمًا قَدِيرًا إلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: إنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُ هَذَا الْمَقَامِ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُثْبِتَ قِيَامَ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّهُ قَرَّرَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ آمِرٌ وَنَاهٍ وَمُخْبِرٌ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ بَلْ هُوَ مَعْنًى هُوَ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ الْمُخْبِرَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ أَمَّا أَنْ يَقُولُوا يَقُومُ بِغَيْرِ مَحِلٍّ، أَوْ يَقُولُوا كَوْنَهُ آمِرًا وَمُخْبِرًا مِثْلُ كَوْنِهِ عَالِمًا وَذَلِكَ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ. فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ وَالْمُخْبِرُ لَمْ يَقُمْ بِهِ خَبَرٌ وَلَا أَمْرٌ لَمْ يُمْكِنْهُ ثُبُوتُ هَذِهِ الْمَعَانِي قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ، بَلْ يُقَالُ لَهُ هَبْ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ وَرَاءَ الْأَلْفَاظِ وَوَرَاءَ هَذِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ أَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ تِلْكَ الْمَعَانِي دُونَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: إنَّهُ عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ هُوَ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ يَقُولُونَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَادِثًا فِي غَيْرِهِ لَا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَه لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَبِذَلِكَ أَثْبَتُوا قِدَمَ الْكَلَامِ فَقَالُوا لَوْ كَانَ مُحْدَثًا لَكَانَ إمَّا أَنْ يُحْدِثَهُ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ غَيْرَهُ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ أَوْ لَا فِي مَحِلٍّ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الصِّفَةِ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ مُحَالٌ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لِجَمِيعٍ الطَّوَائِفِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا جَوَّزَ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ بَطَلَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ هُوَ قَدِيمٌ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ أَوْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ آمِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ بِمَعْنًى يَقُومُ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَيَكُونَ صِفَةً لِلَّهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ كَمَا يَقُولُهُ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِقِدَمِهِ بِلَا دَلِيلٍ إلَّا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَيُرِيدُونَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ إذَا شَاءَ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي قَرَّرَهُ يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَوْلَ أَصْحَابِهِ، وَلَا يَنْفَعُ حِينَئِذٍ احْتِجَاجُهُ بِاجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.

ص: 497

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: إنَّهُ لَمَّا عَارَضَ، الْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَاهُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يُثْبِتْ قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ أَجَابَ بِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ أَنَّ إحْدَاثَ دَلِيلٍ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا إذَا كَانَ قَدْ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُنْضَمًّا إلَى دَلِيلِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَخْطِئَةَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا إذَا بَطَلَ مُعْتَمَدُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَدَلِيلُهُمْ وَذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ كَانَ هَذَا تَخْطِئَةً مِنْهُ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِهَا إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ عِنْدَهُمْ وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِخَلْقِهَا قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ وَعِنْدَهُ كِلَا الْحُجَّتَيْنِ بَاطِلَةٌ وَهُوَ احْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ حُجَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا بَاطِلَةٌ فَلَزِمَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى بَاطِلٍ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ سِوَى مَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَدْ عَلِمَ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهُ وَذَلِكَ حُكْمٌ عَلَى الْأُمَّةِ قَبْلَهُ بِعَدَمِ عِلْمِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَلَالَةٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَالثَّانِي عَدَمُ صِحَّةِ احْتِجَاجٍ بِإِجْمَاعِهِمْ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا بِلَا عِلْمٍ وَلَا دَلِيلٍ لَزِمَ هَذَانِ الْمَحْذُورَانِ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مُرَكَّبٌ كَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ بِقِدَمِ الْعِلْمِ وَتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ صُورِيٌّ وَقَوْلُهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ نُسَلِّمُ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَالْمُعْتَزِلَةُ تُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ اعْتَقَدَ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَبِقَوْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى الْمَنْعِ فِي الْأَوْلَى عَلَى قَوْلَيْنِ وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ وَهُوَ أَنَّهُ اتَّحَدَ مَأْخَذُهُمَا لَمْ يَجُزْ الْفَرْقُ وَإِلَّا جَازَ وَقِيلَ إنْ صَرَّحَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِالتَّسْوِيَةِ لَمْ يَجُزْ الْفَرْقُ وَإِلَّا جَازَ وَاذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِلْأُخْرَى.

إحْدَاهُنَّ: إنَّ الْكَلَامَ هَلْ هُوَ قَائِمٌ بِهِ أَمْ لَا.

وَالثَّانِيَةُ: الْكَلَامُ هَلْ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ أَوْ الْمَعَانِي أَوْ مَجْمُوعُهُمَا.

ص: 498

وَالثَّالِثَةُ: إنَّ الْقَائِمَ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهُ قَدِيمًا أَوْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ.

وَالرَّابِعَةُ: إنَّ الْمَعَانِي هَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ أَوْ جِنْسٍ آخَرَ.

الْخَامِسَةُ: إنَّ الْمَعَانِيَ هَلْ هِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ أَوْ خَمْسُ مَعَانٍ أَوْ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ نِزَاعٌ فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ أَنَّ هَذَا هُوَ اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ احْتَجَّ بِقَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةٌ لِكَوْنِهِمْ قَالُوا بِهَذَا وَبِهَذَا وَهَذَا بِعَيْنِهِ احْتِجَاجٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ لُزُومُ مُوَافَقَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ قَدْ قَامَ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَأُولَئِكَ قَالُوا هُوَ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَافِقَ هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوفِ وَهَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَعَانِي وَهُوَ فِي بِنَائِهِ خَاصَّةً مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ الرَّافِضَةِ فِي بِنَائِهِمْ لِإِمَامَةِ عَلِيٍّ الَّتِي هِيَ خَاصَّةُ مَذْهَبِهِمْ عَلَى نَظَرِ هَذَا الْأَصْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَاصَّةَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ كِلَابٍ الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا هُوَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ إذْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ فِي الْأُصُولِ هُمَا مَسْبُوقَانِ إلَيْهِ إمَّا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِمَّا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا أَنَّ خَاصَّةَ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ الْإِمَامِيَّةِ مِنْ الِاثْنَا عَشَرِيَّةَ وَنَحْوِهِمْ هُوَ إثْبَاتُ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَادِّعَاءِ ثُبُوتِ إمَامَةِ عَلِيٍّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا بَيْنَهُمْ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَتَقُولُ إنَّهَا تَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ وَبِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ النَّقْلِ وَبُطْلَانَ كَوْنِهِ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ فَضْلًا عَنْ التَّوَاتُرِ.

وَقَدْ عَلِمَ مُتَكَلِّمُو الْإِمَامِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ عَلَى أَحَدٍ حُجَّةٌ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ التَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ اتِّبَاعُهُ وَإِجْمَاعُهُمْ الَّذِي يُسَمُّونَهُ إجْمَاعَ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ لَا يَصِحُّ حَتَّى يُثْبِتُ أَنَّهُمْ الطَّائِفَةَ الْمُحِقَّةَ وَذَلِكَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْمَعْصُومِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ الَّذِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ وَيُضَمُّ إلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ مُتَأَخِّرِيهِمْ الْمُوَافِقِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُصُولٌ مُبْتَدَعَةٌ وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَافَقَهُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ نَظِيرُ حُجَّةِ الرَّافِضَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَنْصِبَ فِي

ص: 499

كُلِّ وَقْتٍ إمَامًا مَعْصُومًا لِأَنَّهُ لُطْفٌ فِي التَّكْلِيفِ وَاللُّطْفُ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَقْيِسَةٍ يَذْكُرُونَهَا.

كَمَا ثَبَتَ هَذَا وَنَحْوُهُ أَنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى مُبَايِنٌ لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ بِأَقْيِسَةٍ يَذْكُرُونَهَا فَإِذَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَيَقُولُونَ إنَّ الْمَعْصُومَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالنَّصِّ إذْ لَا طَرِيقَ إلَى الْعِلْمِ بِالْعِصْمَةِ إلَّا النَّصُّ ثُمَّ يَقُولُونَ وَلَا مَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا عَلِيٌّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ ادَّعَى النَّصَّ لِغَيْرِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَزِمَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْبَاطِلِ إذْ الْقَائِلُ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَقَائِلٌ بِأَنَّهُ لَا نَصَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ فِيمَا زَعَمُوا بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ وُجُوبِ النَّصِّ عَقْلًا فَيَتَعَيَّنُ صِحَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْحَقُّ وَلَمْ يَكُنْ الْحَقُّ فِي ثَالِثٍ فَهَذَا نَظِيرُ حُجَّتِهِ.

وَلِهَذَا لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْحُجَّةِ لَمَّا خَاطَبْتُ الرَّافِضَةَ وَكَتَبْتُ فِي ذَلِكَ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَأَبْطَلْنَا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ مَعْصُومٍ وَبَيَّنْت تَنَاقُضَ هَذَا الْأَصْلِ وَامْتِنَاعَ تَوَقُّفِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَخَاطَبْتُ بِذَلِكَ أَفْضَلَ مَنْ رَأَيْته مِنْهُمْ وَاعْتَرَفَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَبِالْإِنْصَافِ فِي مُخَاطَبَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ وَالِاحْتِجَاجَ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّا قُلْنَا لَهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يَدَّعِ النَّصَّ عَلَى غَيْرِ عَلِيٍّ بَلْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِنَصٍّ جَلِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول بِنَصٍّ خَفِيٍّ، وَأَيْضًا فَالرَّوانْدِيَّةُ تَدَّعِي النَّصَّ عَلَى الْعَبَّاسِ، وَأَيْضًا فَالْمُدَّعُونَ لِلنَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ مُخْتَلِفُونَ فِي أَنْ يُقَالَ النَّصُّ عَنْهُ فِي وَلَدِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ النَّصَّ عَلَى وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ إلَّا مَا ادَّعَوْهُ فِي الْمُنْتَظَرِ بَلْ إخْوَانُهُمْ الشِّيعَةُ يَدَّعُونَ دَعَاوَى مِثْلَ دَعَاوِيهمْ لِغَيْرِ الْمُنْتَظَرِ فَبَطَلَ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ إمَامَةُ الْمَعْصُومِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ طَاعَتُهُ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ هُوَ الْإِمَامَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَةُ مَنْ قَدْ مَاتَ بِعَيْنِهِ إلَّا الرَّسُولَ وَإِنَّمَا الْمُتَعَلِّقُ بِنَا مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِنَا لِهَذَا الْحَيِّ الْمَعْصُومِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ النَّصَّ غَيْرُهُمْ فَهَذِهِ الْحِيلَةُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي تَقْرِيرِ النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَذِبٍ افْتَرَوْهُ وَقِيَاسٍ وَضَعُوهُ لِنِفَاقِ ذَلِكَ الْكَذِبِ فَإِنَّهُمْ

ص: 500

افْتَرَوْا النَّصَّ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ مَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَنْ الْعَبَّاسِ مَعَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ هَذَا الَّذِي افْتَرَوْهُ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ ابْتَدَعُوا مَقَالَةً افْتَرَوْهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّ مَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَنْ الْقِيَاسِ مَعَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ يُحَقِّقُ هَذِهِ الْفِرْيَةَ وَعَامَّةُ أُصُولِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَجِدُهَا مَبْنِيَّةً عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي وَضَعُوهُ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبُوهُ يُعَارِضُونَ بِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَوْعٌ مِنْ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ فَيُرَكِّبُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَمِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ السَّمْعِيِّ أَصْلَ دِينِهِمْ.

وَلِهَذَا تَجِدُ أَبَا الْمَعَالِي وَهُوَ أَحَدُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْقَوَاطِعِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ وَهَكَذَا أَئِمَّةُ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْأَهْوَاءِ كَأَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَشَايِخِهِمْ وَنَحْوِهِمْ لَا يَعْتَمِدُونَ لَا عَلَى كِتَابٍ وَلَا عَلَى سُنَّةٍ وَلَا عَلَى إجْمَاعٍ مَقْبُولٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ بَلْ يُفَارِقُونَ أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ذَاتِ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ بِمَا يَدَّعُونَهُ هُمْ مِنْ الْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ كَمَا يُخَالِفُونَ صَرَائِحَ الْمَعْقُولِ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمَعْقُولِ وَكَمَا يُخَالِفُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ اللَّذَيْنِ هُمَا أَصْلُ الدِّينِ مَا يَضَعُونَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ.

الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: إنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ نَظِيرُ الْحُجَجِ الْإِلْزَامِيَّةِ وَقَدْ قَرَّرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ أَنَّهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لَا لِلنَّظَرِ وَلَا لِلْمُنَاظَرَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَازِعَ لَهُ يَقُولُ لَهُ إنَّمَا قُلْت بِقِدَمِهَا لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ فَأَمَّا أَنْ يَصِحَّ هَذَا الْأَصْلُ أَوْ لَا يَصِحَّ فَإِنْ صَحَّ كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرْت أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ بَطَلَ مُسْتَنَدُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْقِدَمِ وَصَحَّ مَنْعُ الْقِدَمِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ إذَا جَازَ أَنْ تُحِلَّهُ الْحَوَادِثُ وُجُوبُ قِدَمِ مَا يَقُومُ بِهِ وَهَذَا مَنْعٌ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ إقَامَةِ قَوْلِهِ بِحُجَّةٍ إلْزَامِيَّةٍ وَبَيْنَ إبْطَالِ قَوْلِ مُنَازِعِيهِ بِحُجَّةٍ إلْزَامِيَّةٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَيْسَ هُوَ الْإِرَادَةَ وَالْكَرَاهَةَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِرَادَةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ لِكُلِّ مَوْجُودٍ الْمُنْتَفِيَةِ عَنْ كُلِّ مَعْدُومٍ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةَ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي الْأُولَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]

ص: 501

وَقَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] . وَقَالَ: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] .

وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وَقَالَ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] وَقَالَ تَعَالَى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا} [النساء: 27]{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .

الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: إنَّهُ لَمَّا طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَاهِيَّةِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ ذَكَرَ وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّ الْقَائِلَ قَدْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ إنِّي أُرِيدُ مِنْك الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ وَإِنْ كُنْت لَا آمُرُك بِهِ وَالثَّانِي هَبْ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّصْ لَنَا فِي الشَّاهِدِ الْفَرْقُ بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ لَكِنَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ افْعَلْ إذَا وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ تَصَوُّرِ الْحُرُوفِ وَلَا إرَادَةِ الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُغَايِرًا لَهُمَا فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا نَجِدُ لَهُ فِي الشَّاهِدِ نَظِيرًا وَجَبَ نَفْيُهُ غَالِبًا وَلَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْإِلَهِ وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ يُقَالُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ وَقَدْ يُقَالُ هُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ، مِنْ الْإِرَادَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَاءِ فَإِذَا قِيلَ أُرِيدُ مِنْك فِعْلَ هَذَا وَلَا آمُرُك بِهِ أَيْ لَا أَسْتَعْلِي عَلَيْك فَإِنَّ الْمُرِيدَ قَدْ يَكُونُ سَائِلًا خَاضِعًا كَإِرَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَيُقَالُ لَهُ إذَا أَثْبَتَّ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ فِي الشَّاهِدِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ كَانَتْ

ص: 502

هَذِهِ حَقِيقَتَهُ وَالْحَقَائِقُ لَا تَخْتَلِفُ شَاهِدًا وَلَا غَائِبًا وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الصِّفَةِ هِيَ هَذِهِ أَوْ مُسْتَلْزِمَةً لِهَذِهِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا نَعْلَمُهُ بِمَا نَعْلَمُهُ فِي الشَّاهِدِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: إنَّ النَّهْيَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَرَاهِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَحَبَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَكْرُوهُ لَا يَكُون مُرَادًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنْ الْمَكْرُوهِ الْوَاقِعِ غَيْرَ الْإِرَادَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَهَذَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ إرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ إلَّا بِأَنْ قَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ وَيُخَالِفُ مَا قَرَّرَهُ هُوَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] .

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: إنَّ طَوَائِفَ يَقُولُونَ لَهُمْ مَعْنَى الْخَبَرِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلْمَ لَا سِيَّمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْخَبَرِ وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْخَبَرِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ يُؤَوَّلُ إلَى الْعِلْمِ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْعِلْمِ لَكِنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ يُؤَوَّلُ كُلُّهُ إلَى الْخَبَرِ الْمَحْضِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ وَطَائِفَةٌ هُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَبُ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَسْتَلْزِمُ عِلْمًا وَخَبَرًا لَكِنْ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ ذَلِكَ بَلْ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْلَمُهَا بِالْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِ وَيَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُخْبِرًا مَحْضًا مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ أَيْضًا قَدْ يَسْتَلْزِمُ طَلَبًا وَإِرَادَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَكِنَّ تَلَازُمَ الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُعْلَمَ أَنْ أَحَدَهُمَا لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ فَالْإِنْسَانُ يُخْبِرُ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ خَبَرًا مَحْضًا وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ غَرَضٌ مِنْ حُبٍّ وَبُغْضٍ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ لَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَالْأَرْضُ تَحْتَنَا خَبَرٌ مَحْضٌ وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَبَرٌ لَكِنْ يَتْبَعُهُ مَحَبَّةٌ وَتَعْظِيمٌ وَطَاعَةٌ وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ اذْهَبْ وَتَعَالَ وَأَطْعِمْنِي وَاسْقِنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ طَلَبٌ مَحْضٌ وَلَكِنَّهُ مَسْبُوقٌ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ وَالشُّعُورِ بِذَلِكَ كَالْأَفْعَالِ الْإِرَادِيَّةِ كُلِّهَا فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَالْأَفْعَالِ الْإِرَادِيَّةِ كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ حُبٍّ وَطَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ بُغْضٍ وَكَرَاهَةٍ وَالْخَبَرُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ وَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْعَمَلَ أَيْضًا فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ وَلِهَذَا يَخْتَلِطُ بَابُ الْإِنْشَاءِ بِبَابِ

ص: 503

الْإِخْبَارِ لِتَلَازُمِ النَّوْعَيْنِ حَيْثُ تَلَازَمَا وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ الْخَبَرِ فِي الطَّلَبِ كَثِيرًا كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ فِي بَابِ غَفَرَ اللَّهُ لِفُلَانٍ وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَفِي الْأَمْرِ وَمِثْلِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ كَمَا قَدْ قِيلَ إنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]«وَإِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ صِيغَةَ الْخَبَرِ فِي الطَّلَبِ فَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِي لَازِمِهِ وَجَعَلَ اللَّازِمَ لِقُوَّةِ الطَّلَبِ لَهُ وَالْإِرَادَةَ كَأَنَّهُ مَوْجُودٌ مُحَقَّقٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ فَكَانَ هَذَا طَلَبًا مُؤَكَّدًا.

وَلِهَذَا يَكْثُرُ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ الدَّاعِي وَهَذَا حَسَنٌ فِي الْكَلَامِ أَمَّا إذَا اسْتَعْمَلَ صِيغَةَ الْخَبَرِ فِي الْأَمْرِ الْمَحْضِ فَالْأَمْرُ فِيهِ الطَّلَبُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعِلْمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ فَإِذَا لَمْ يُفِدْ إلَّا مَعْنَى الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَبَ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ وَنَقَصَ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الطَّلَبَ وَالْإِرَادَةَ هُوَ تَصَوُّرُ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ الْمَطْلُوبِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ كَانَ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي الْخَبَرِ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدٌ وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ وَلَا مِنْ مَلْزُومَاتِهِ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْخَبَرَ بَلْ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَمَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَاَللَّهُ مَسْئُولٌ مَدْعُوٌّ بِأَنْ يَمُدَّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِطَلَبِ نَفْسِهِ وَدُعَاءِ نَفْسِهِ كَمَا فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ وَهُوَ صَلَاتُهُ وَلَعْنَتُهُ كَمَا قَالَ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] وَقَوْلُهُ {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَتَضَمَّنُ ثَنَاءَهُ وَدُعَاءَهُ سبحانه وتعالى فَإِنَّ طَلَبَ الطَّالِبِ مِنْ نَفْسِهِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي حَقِّ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ كَأَمْرِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] وَقَدْ يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ أَوْرَدَهُ الرَّازِيّ سُؤَالًا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ لَفْظُهُ فِي ذَلِكَ

وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ كَحَقِيقَةِ حُكْمِ

ص: 504

الذِّهْنِ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ وَتِلْكَ الْمُغَايِرَةُ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَلِهَذَا يَتَطَرَّقُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْقِ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَنَحْنُ إنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِتَوْكِيدِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْعِلْمُ وَبِأَنَّهُ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا قَالَهُ طَوَائِفُ بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ بَلْ عَامَّةُ النَّاسِ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَلَا نَجِدُ النَّاسَ فِي نُفُوسِهِمْ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى الْخَبَرِ.

وَكَوْنُ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْعِلْمُ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ أَظْهَرُ مِنْ كَوْنِ الطَّلَبِ هُوَ الْإِرَادَةُ أَوْ نَوْعُهَا مِنْهَا لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَمْكَنَهُمْ دَعْوَى الْفَرْقِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِمَأْمُورَاتٍ وَهُوَ لَمْ يُرِدْ وُجُودهَا كَمَا أَمَرَ بِهِ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ. ثُمَّ كَوْنُ الْأَمْرِ مُسْتَلْزِمًا لِإِرَادَةٍ لَيْسَتْ هِيَ إرَادَةَ الْوُقُوعِ كَلَامٌ آخَرُ وَأَمَّا هُنَا فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا إنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ أَوْ بِمَا يَعْلَمُ ضِدَّهُ بَلْ عِلْمُهُ مِنْ لَوَازِمِ خَبَرِهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ أَوْ لَازِمًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا جَاءَهُ جَاءَهُ الْعِلْمُ فَقَالَ {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] وَقَالَ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَقَالُوا قَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ مَخْلُوقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَلَمْ يَعْنِ عِلْمَ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنَى أَنَّهُ مِنْ عِلْمِهِ.

وَمَنْ جَعَلَ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَخَبَرِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ أَمْرَهُ فِيهِ الطَّلَبُ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ غَيْرُ الْإِرَادَةِ أَوْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِنَوْعٍ مِنْ الْإِرَادَةِ أَوْ هُوَ نَوْعٌ مِنْهَا أَوْ هُوَ الْإِرَادَةُ وَهَذَا لَيْسَ الْعِلْمَ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَازَعَ فِي كَوْنِ مَعْنَى خَبَرِ اللَّهِ يُوجَدُ بِدُونِ عِلْمِهِ فَظَهَرَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَا ادَّعَاهُ مِنْ إمْكَانِ وُجُودِ مَعْنَى خَبَرٍ بِدُونِ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالظَّنِّ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ فَقَدَّرُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ هُوَ فِيهِ كَاذِبٌ وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ عِلْمِهِ بِخِلَافِ الْمُخْبَرِ كَمَا قَدَّرُوا أَنْ يَأْمُرَ آمِرٌ امْتِحَانًا بِمَا لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُ حُكْمٌ ذِهْنِيٌّ فِي النَّفْسِ غَيْرُ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَهُ طَلَبٌ نَفْسَانِيٌّ فِي النَّفْسِ غَيْرُ الْإِرَادَةِ.

ص: 505

وَهَذِهِ الْحُجَّةُ قَدْ نُوزِعُوا فِي صِحَّتِهَا نِزَاعًا عَظِيمًا لَيْسَتْ هِيَ مِثْلَ مَا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ مِنْ وُجُودِ آمِرٍ لَمْ يُرِدْ وُقُوعَ مَأْمُورِهِ.

الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: إنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ قَدْ أَقَرُّوا هُمْ أَيْضًا بِفَسَادِهَا فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ الرَّازِيّ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا شَبِيهُ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، بِالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ بِالْعِلْمِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ فِي حَقِّ اللَّهِ شَيْئًا سِوَى الْإِرَادَةِ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ فِي الشَّاهِدِ قَدْ يَحْكُمُ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ فَإِذَنْ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ فِي الشَّاهِدِ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ.

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ ثَبَتَ فِي الْغَائِبِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي مَحْصُولِهِ أَيْضًا حَيْثُ جَعَلَ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيَّ الَّذِي انْفَرَدُوا بِإِثْبَاتِهِ دُونَ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ وَأَمَّا أَبُو الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ فَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ سِوَى مَا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الطَّلَبِ الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْإِرَادَةِ وَذَاكَ إنْ دَلَّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ غَيْرُ الْإِرَادَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ غَيْرُ الْعِلْمِ لَكِنْ اسْتَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّصْدِيقِ النَّفْسَانِيِّ بِأَنَّهُ مَدْلُولُ الْمُعْجِزَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَنْتُمْ مُصَرِّحُونَ بِنَقِيضِ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ عَلَى خِلَافِ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ إنْ جَازَ وُجُودُهُ فَلَيْسَ هُوَ كَلَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِذَا انْقَسَمَ وُجُودُهُ هَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ الْمُخَالِفُ لِلْعِلْمِ أَوْ كَوْنُهُ كَلَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ امْتَنَعَ مِنْكُمْ حِينَئِذٍ إثْبَاتُ وُجُودِهِ وَدَعْوَى أَنَّهُ هُوَ الْكَلَامُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى وُجُوبِ الصِّدْقِ لِلَّهِ بِأَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ يَمْتَنِعُ فِيهِ الْكَذِبُ لِوُجُوبِ الْعِلْمِ لِلَّهِ وَامْتِنَاعُ الْجَهْلِ وَهَذَا الدَّلِيلُ قَدْ ذَكَرَهُ جَمْعُ أَئِمَّتِهِمْ حَتَّى الرَّازِيّ ذَكَرَهُ لَكِنْ قَالَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ لَا عَلَى صِدْقِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَّصِفَ الْحَيُّ بِحُكْمٍ نَفْسَانِيٍّ لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ بَلْ يُعْلَمُ خِلَافُهُ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ الْحُكْمُ النَّفْسَانِيُّ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ أَوْ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ كَذِبًا.

وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ تَنَاقُضٌ فِي عَيْنِ الشَّيْءِ لَيْسَ تَنَاقُضًا مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا

ص: 506

أَثْبَتُوا أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ أَثْبَتُوا حُكْمًا نَفْسَانِيَّا يُنَافِي الْعِلْمَ فَيَكُونُ كَذِبًا وَيَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَلَمَّا أَثْبَتُوا الصِّدْقَ قَالُوا إنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ النَّفْسَانِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِدُونِ الْعِلْمِ أَوْ خِلَافِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَتِلْمِيذُ أَبِي الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ فَصْلٌ كَلَامُ اللَّهِ صِدْقٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَذِبُ نَقْصٌ قَالَ وَمِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا أَنْ قَالُوا الْكَلَامُ الْقَدِيمُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَوْ كَانَ كَذِبًا لَنَافَى الْعِلْمَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَالِمَ بِالشَّيْءِ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ إخْبَارٌ عَنْ الْمَعْلُومِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْكَلَامِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ شَاهِدٌ أَوْ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى التَّدْبِيرَ أَوْ حَدِيثَ النَّفْسِ وَهُوَ مَا يُلَازِمُ الْعِلْمَ. قَالَ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ يُنَافِي الْكَذِبَ لَمْ يَصِحَّ مِنْ الْوَاحِدِ مِنَّا كَذِبٌ عَلَى طَرِيقِ الْجَحْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ مَوْهُومٌ. قُلْنَا الْجَحْدُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ فِي الْعِبَارَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَصَاحِبُ الْجَحْدِ وَإِنْ جَحَدَهُ بِاللِّسَانِ هُوَ مُعْتَرِفٌ بِالْقَلْبِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْجَحْدُ بِالْقَلْبِ.

فَإِنْ قَالُوا لَا يَمْتَنِعُ تَصَوُّرُ الْجَحْدِ بِالْقَلْبِ وَتَصَوُّرُ الْعِلْمِ فِي النَّفْسِ جَمِيعًا قُلْنَا إنْ قُدِّرَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَتَصَوَّرُونَهُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ كَلَامٍ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِوَحْدَانِيِّتِهِ قَدْ يُقَدَّرُ فِي نَفْسِهِ مَذْهَبُ الثَّنَوِيَّةِ ثُمَّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِعِلْمِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا حَقِيقِيًّا لَنَافَاهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ يَدُلُّ عَلَى الْخَبَرِ الصِّدْقِ فَإِذَا تَعَلَّقَ الْخَبَرُ بِالْمُخْبِرِ عَلَى وَجْهِ الصِّدْقِ فَتَقْدِيرُ خَبَرٍ خَلَفٍ مُسْتَحِيلٍ مَعَ الْخَبَرِ الْقَدِيمِ إذْ لَا يَتَجَدَّدُ الْكَلَامُ قَالَ فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ أَمْرًا مِنْ وَجْهٍ نَهْيًا مِنْ وَجْهٍ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مِنْ وَجْهٍ كَذِبًا مِنْ وَجْهٍ. قُلْنَا الْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ النَّهْيُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَالْآمِرُ بِالشَّيْءِ نَاهٍ عَنْ ضِدِّهِ وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلصِّدْقِ كَذِبًا بِوَجْهٍ وَتَعَلُّقُ الْخَبَرِ بِالْمُخْبِرِ بِمَثَابَةِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ وَإِذَا تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الشَّيْءِ فَلَا يَكُونُ عِلْمًا بِعَدَمِهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ.

وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي إرْشَادِهِ الْمَشْهُورُ الَّذِي هُوَ زَبُورُ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ

ص: 507

كَمَا أَنَّ الْغَرَرَ وَتَصَفُّحَ الْأَدِلَّةِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ زَبُورُ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَمَا أَنَّ الْإِشَارَاتِ لِابْنِ سِينَا زَبُورُ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. وَإِنْ كَانَتْ طَائِفَةُ أَبِي الْمَعَالِي أَمْثَلَ وَأَوْلَى بِالْإِسْلَامِ

قَالَ فَصْلٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ، اعْلَمُوا أَنَّ غَرَضَنَا مِنْ هَذَا الْفَصْلِ يَسْتَدْعِي ذِكْرَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَهَذَا مِمَّا تَبَايَنَتْ فِيهِ مَذَاهِبُ الْإِسْلَامِيِّينَ فَذَهَبَ الْخَوَارِجُ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الطَّاعَةُ وَمَالَ إلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَاخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِي تَسْمِيَةِ النَّوَافِلِ إيمَانًا.

وَصَارَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ مَعْرِفَةٌ بِالْجَنَانِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِهَا وَذَهَبَتْ الْكَرَّامِيَّةُ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ فَحَسْبُ وَمُضْمِرُ الْكُفْرِ إذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مُؤْمِنٌ حَقًّا عِنْدَهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَلَوْ أَضْمَرَ الْإِيمَانَ وَلَمْ يُتَيَقَّنْ مِنْهُ إظْهَارُهُ فَهُوَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَهُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ وَالْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ فَالْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ مَنْ صَدَّقَهُ ثُمَّ التَّصْدِيقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَلَامُ النَّفْسِ وَلَا يَثْبُتُ كَلَامُ النَّفْسِ كَذَلِكَ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ فَإِنَّا أَوْضَحْنَا أَنَّ كَلَامَ النَّفْسِ يَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ الِاعْتِقَادِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ صَرِيحُ اللُّغَةِ وَأَصْلُ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يُنْكَرُ فَيَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ وَمِنْ التَّنْزِيلِ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] مَعْنَاهُ مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا ثُمَّ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ الْحَقِّ لَمْ يَصِفْ الْفَاسِقَ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ كَلَامَ النَّفْسِ لَا يَثْبُتُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ الِاعْتِقَادِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَلَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَقَدِ وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا أَثْبَتُوا بِهِ كَلَامَ النَّفْسِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ، وَقَالَ صَاحِبُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ شَرْحَ قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ، قَالَ وَأَمَّا مَذَاهِبُ أَصْحَابِنَا فَصَارَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالنُّظَّارُ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ وَاخْتَلَفَ جَوَابُهُ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ فَقَالَ مَرَّةً هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّته وَقَالَ مَرَّةً التَّصْدِيقُ

ص: 508

قَوْلٌ فِي النَّفْسِ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا يُوجَدُ دُونَهَا وَهَذَا مِمَّا ارْتَضَاهُ الْقَاضِي فَإِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالتَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ بِالْأَقْوَالِ أَجْدَرُ فَالتَّصْدِيقُ إذًا قَوْلٌ فِي النَّفْسِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ فَتُوصَفُ الْعِبَارَةُ بِأَنَّهَا تَصْدِيقٌ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ هَذَا مَا حَكَاهُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ.

قُلْت: فَقَدْ ذَكَرَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا قَوْلُ جَهْمٍ.

وَالثَّانِي: إنَّ التَّصْدِيقَ قَوْلٌ فِي النَّفْسِ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَابْنِ الْجُوَيْنِيِّ وَهَؤُلَاءِ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْرِفَةَ وَلَا يَنْتَصِرُ أَنْ يَقُومَ فِي النَّفْسِ تَصْدِيقُ مُخَالِفٍ لِمَعْرِفَةٍ كَمَا ذَكَرُوهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُصَدَّقَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ لَانْتُقِضَ أَصْلُهُمْ فِي الْإِيمَانِ إذَا كَانَ التَّصْدِيقُ لَا يُنَافِي اعْتِقَادَ خِلَافِ مَا صَدَّقَ بِهِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ تَصْدِيقِ النَّفْسِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ يَنْقُضُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ غَيْرُ الْعِلْمِ.

قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ وَحَكَى الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْإسْفَرايِينِيّ اخْتِلَافًا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ فِي التَّصْدِيقِ ثُمَّ قَالَ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْأَقَاوِيلِ فِي مَعْنَى التَّصْدِيقِ مَا يُوَافِقُ اللُّغَةَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْإِيمَانِ وَرَدَ بِمَا يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ اللُّغَةِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَادِقَانِ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَا بِهِ وَالْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقًا هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِي خَبَرِهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ هَذَا التَّصْدِيقَ عِلْمًا وَلَا يَكْفِي أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا لِأَنَّ مَنْ صَدَّقَ الْكَاذِبَ وَاعْتَقَدَ صِدْقَهُ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي صِفَةِ الْيَهُودِ: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] يَعْنِي يَعْتَقِدُونَ صِدْقَهُمَا. قُلْت لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرُ تَنَاقُضِهِمْ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَفِي التَّصْدِيقِ هَلْ هُوَ التَّصْدِيقُ بِوُجُودِ اللَّهِ وَقِدَمِهِ وَإِلَهِيَّته كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ أَوْ هُوَ تَصْدِيقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ، أَوْ التَّنَاقُضُ كَمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْإِرْشَادِ حَيْثُ قَالَ: الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ فَالْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ مَنْ صَدَّقَهُ فَجَعَلَ التَّصْدِيقَ بِوُجُودِهِ هُوَ تَصْدِيقُهُ فِي خَبَرِهِ مَعَ تَبَايُنِ الْحَقِيقَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ وَتَصْدِيقِهِ وَلِهَذَا يُفَرِّقُ الْقُرْآنُ بَيْنَ

ص: 509

الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ لِلرَّسُولِ إذْ الْأَوَّلُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِذَلِكَ وَالثَّانِي هُوَ الْإِقْرَارُ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] . وَفِي قَوْلِهِ: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] .

وَفِي قَوْلِهِ: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة: 94] . وَقَدْ قَالَ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] . فَمَيَّزَ الْإِيمَانَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِكَلِمَاتِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فَلَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا لِمِثْلِ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَمْ يَعْرِفُوا فِيهِ لَا الْإِيمَانَ وَلَا الْقُرْآنَ وَهُمَا نُورُ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 53] .

وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ التَّصْدِيقَ قَدْ صَرَّحَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ هُوَ الْعِلْمُ أَوْ هُوَ الِاعْتِقَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ عِلْمًا وَأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ فِي تَمَامِ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْإسْفَرايِينِيّ.

وَقَالَ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ الْإِيمَانُ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ ثُمَّ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا هُوَ عِلْمٌ وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِعِلْمٍ فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ هُوَ اعْتِقَادُ صِدْقِهِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِهِ فِي إخْبَارِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَيٌّ وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ حَيٌّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ فَاعِلٌ وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفِعْلِ وَكَوْنُ الْعَالَمِ فِعْلًا لَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ قَادِرًا وَعَالِمًا وَلَهُ عِلْمٌ وَمُرِيدًا وَلَهُ إرَادَةً وَسَائِرُ مَا لَا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ تَعَالَى إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ شَرَائِطِ الْإِيمَانِ. قَالَ ثُمَّ السَّمْعُ قَدْ وَرَدَ بِضَمِّ شَرَائِطَ أُخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِ مَنْ يَأْتِيهِ فِعْلًا وَتَرْكًا وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ السُّجُودِ وَالْعِبَادَةِ لِلصَّنَمِ فَلَوْ أَتَى بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ تَعْظِيمَ الْمُصْحَفِ وَالْكَعْبَةِ دَلَّ عَلَى كُفْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِي شَيْءٍ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ دَلَّ خِلَافُهُ إيَّاهُمْ عَلَى كُفْرِهِ فَأَيُّ وَاحِدٍ مِمَّا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى كُفْرِهِ مِمَّا مَنَعَ الشَّرْعُ أَنْ يَقْرِنَهُ بِالْإِيمَانِ إذَا وَجَبَ ضَمُّهُ إلَى الْإِيمَانِ لَوْ وُجِدَ، دَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ مَفْقُودٌ مِنْ قَلْبِهِ.

ص: 510

فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَفَّرْنَا بِهِ الْمُخَالِفَ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَإِنَّمَا كَفَّرْنَاهُ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى فَقْدِ مَا هُوَ إيمَانٌ مِنْ قَلْبِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَقْضِيَ السَّمْعُ بِكُفْرِ مَنْ مَعَهُ الْإِيمَانُ، وَالتَّصْدِيقُ بِقَلْبِهِ.

قَالَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يُوَافِيَ رَبَّهُ بِهِ وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ فِي الْحَالِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ تَرْكَ الْعِنَادِ شَرْطٌ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ مَتَى طُولِبَ بِالْإِقْرَارِ فَأَتَى بِهِ أَمَّا قَبْلَ أَنْ يُطَالَبَ بِهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ حَتَّى يَكُونَ مُؤْمِنًا وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ التَّصْدِيقُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ جَمِيعًا وَهَذَا قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَجَلِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا مَا كَانَ يَقُولُهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا وَنَحْنُ نَقُولُ مَنْ أَتَى التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ الْإِقْرَارِ فَهُوَ مُعَانِدٌ كَافِرٌ يَكْفُرُ كُفْرَ عِنَادٍ وَمَنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَجَحَدَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ نَفْسِهِ وَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِيمَانِ لِمَا أَظْهَرَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ.

وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الْمَعَارِفَ مَجْمُوعَةً تَصْدِيقًا وَاحِدًا وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ حَقٌّ: قَالَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَصْدِيقٌ وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْإسْفَرايِينِيّ، قُلْت لَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّنَاقُضِ حَيْثُ جَعَلَهُ التَّصْدِيقَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ثُمَّ سَلَبَهُ عَمَّنْ تَرَكَ النُّطْقَ عِنَادًا وَأَنَّ عِنْدَهُ كُلُّ مَا سُمِّيَ كُفْرًا فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ هَذَا التَّصْدِيقِ لَكِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الْعَدَمِ تُعْلَمُ تَارَةً بِالْعَقْلِ وَتَارَةً بِالشَّرْعِ لِأَنَّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ الِاسْتِكْبَارِ عَلَى اللَّهِ وَالْبُغْضِ لَهُ وَلِرُسُلِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَكُونُ هُوَ فِي نَفْسِهِ كُفْرًا وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّصْدِيقِ الْخَاصِّ الَّذِي وَصَفُوهُ وَهُوَ تَصْدِيقٌ بِأُصُولِ الْكَلَامِ الَّذِي وَضَعُوهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ التَّصْدِيقَ هُوَ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ كَمَا فِي كَلَامِ هَذَا وَغَيْرُهُ وَكَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ وَغَايَتُهُمْ إذَا لَمْ يَجْعَلُوهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَعْرِفَةِ أَنْ يَجْعَلُوهُ مُسْتَلْزَمًا لَهَا. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُخْتَصَرِ. الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ التَّصْدِيقُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَتَقُومُ الْإِشَارَةُ وَالِانْقِيَادُ مُقَامَ الْعِبَارَةِ، قَالَ وَتَحْقِيقُ الْمَعْرِفَةِ تَحْصِيلُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَتَحْقِيقُهُ قَالَ

ص: 511

النَّيْسَابُورِيُّ أَرَادَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْمُخْتَصَرُ وَأَشَارَ بِمَا قَدَّمَهُ فِيهِ إلَى جُمْلَةِ مَا قَدَّمَهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ. قَالَ: وَقَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْإِيمَانُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَاعْتِقَادُ الْإِقْرَارِ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مُقَامَ الْإِقْرَارِ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ اسْمَ الْإِيمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْصَافٌ كَثِيرَةٌ وَعَقَائِدُ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرْنَاهُ وَاخْتَلَفُوا فِي إضَافَةِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التَّصْدِيقِ إلَيْهِ لِصِحَّةِ الِاسْمِ فَمِنْهَا تَرْكُ قَتْلِ الرَّسُولِ وَتَرْكُ تَعْظِيمِهِ وَتَرْكُ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ فَهَذَا مِنْ التُّرُوكِ وَمِنْ الْأَفْعَالِ نُصْرَةُ الرَّسُولِ وَالذَّبُّ عَنْهُ فَقَالُوا إنَّ جَمِيعَهُ مُضَافٌ إلَى التَّصْدِيقِ شَرْعًا، وَقَالَ آخَرُونَ إنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ عَنْ الْإِيمَانِ.

قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ هَذِهِ جُمْلَةُ كَلَامِ مَشَايِخِنَا فِي ذَلِكَ قَالَ وَذَهَبَ أَهْلُ الْأَثَرِ إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إتْيَانُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا وَإِذْنًا وَبِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ، وَمِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَبُو عَبَّاسٍ الْقَلَانِسِيُّ، وَقَدْ مَالَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمُعْظَمُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَكَانُوا يَقُولُونَ الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ: قُلْت وَذَكَرَ الْكَلَامَ إلَى آخِرِهِ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا ذِكْرَ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة وَاعْتِرَافَ هَؤُلَاءِ بِمَا اجْتَرَءُوا عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ لِمَا عَنَّتْ لَهُمْ مِنْ شُبْهَةِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُرْجِئَةِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ مَا ذَكَرَهُ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَعْرِفَةَ كَمَا قَرَّرَهُ هُوَ مِنْ قَوَاعِدِهِ وَلَمْ يُحِلْ ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ فَإِذَا كَانَ التَّصْدِيقُ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَعْرِفَةِ إلَّا بِالْإِقْرَارِ أَيْضًا بِاللِّسَانِ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ دَلِيلًا عَلَى امْتِنَاعِ وُجُودِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَتَحَقُّقِهِ إلَّا مَعَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ مُجَرَّدُ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ فَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ ثَابِتَةٌ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ إنْ تَحَقَّقَ بِدُونِ لَفْظٍ يَظَلُّ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ إلَّا بِلَفْظٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَظَلُّ ذَاكَ.

فَهَذَا كَلَامُهُمْ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِأَنْ جَعَلُوا الْعِلْمَ يُنَافِي الْكَذِبَ النَّفْسَانِيَّ حَتَّى جَعَلُوهُ يُوجِبُ الصِّدْقَ النَّفْسَانِيَّ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْعِلْمِ بِدُونِ الصِّدْقِ فَصَارَ هَذَا مَطْلًا لِمَا أَثْبَتُوا بِهِ الْخَبَرَ النَّفْسَانِيَّ مِنْ أَنَّهُ يُمْكِنُ ثُبُوتُهُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَعَلَى خِلَافِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْكَذِبُ وَهُمْ كَمَا احْتَجُّوا بِالْعِلْمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ وَثُبُوتِ الصِّدْقِ النَّفْسَانِيِّ فَقَدْ احْتَجُّوا بِهِ أَيْضًا عَلَى أَصْلِ ثُبُوتِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ.

ص: 512

قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ يَعْنِي فِي إثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ أَنْ قَالَ: الْأَحْكَامُ لَا تَرْجِعُ إلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَلَا إلَى أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَوُرُودُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْعِبَادِ دَلِيلٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ، وَجَوَازِ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَوُرُودِ التَّكْلِيفِ دَالٌّ عَلَى عِلْمِهِ، وَعِلْمُهُ دَالٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْكَلَامِ الصِّدْقِ أَوْ لَا، إذْ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْ نُطْقِ النَّفْسِ بِمَا يَعْلَمُهُ وَذَلِكَ هُوَ التَّدْبِيرُ وَالْخَبَرُ، وَرُبَّمَا يُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَدِيمُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا لَاسْتَحَالَ مِنْهُ التَّعْرِيفُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى التَّكْلِيفِ لِأَنَّ طُرُقَ التَّعْرِيفِ مَعْلُومَةٌ، وَذَلِكَ كَالْكِتَابَةِ وَالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ التَّعْرِيفُ دُونَ أَنْ يَكُونَ تَرْجَمَةً عَنْ الْكَلَامِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَمَنْ لَا كَلَامَ لَهُ اسْتَحَالَ أَنْ يُنَبِّهَ غَيْرَهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَى الْكَلَامِ.

قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْكَلَامِ لِلَّهِ آيَاتُ الرُّسُلِ عليهم السلام فَإِنَّهَا كَانَتْ أَدِلَّةً وَلَا تَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ لِأَنْفُسِهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ دَالَّةً مِنْ حَيْثُ كَانَتْ لِإِزَالَةِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ لِمُدَّعِي الرِّسَالَةِ صَدَقْت وَالتَّصْدِيقُ مِنْ قِبَلِ الْأَقْوَالِ وَلَا يَكُونُ الْمُصَدِّقُ مُصَدِّقًا لِغَيْرِهِ بِفِعْلِهِ التَّصْدِيقَ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُصَدِّقًا لَهُ لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ بِذَاتِهِ بِأَمْرِ اللَّهِ مَنْهِيًّا بِنَهْيِهِ.

قُلْت: أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى ثُبُوتِ كَلَامِ اللَّهِ بِالتَّكْلِيفِ وَالْأَحْكَامِ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، بَلْ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ التَّكْلِيفُ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالرُّسُلِ، فَالرُّسُلُ كُلُّهُمْ مُطْبِقُونَ عَلَى تَبْلِيغِ كَلَامِ اللَّهِ وَرِسَالَتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَقَالَ وَيَتَكَلَّمُ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ نُطْقَ الرُّسُلِ بِإِثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ وَقَوْلِهِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ نُطْقِهِمْ بِلَفْظِ تَكْلِيفٍ وَأَحْكَامٍ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الدَّلِيلُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَبِمَا أَخْبَرُوا بِهِ، فَإِخْبَارُهُمْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَقَوْلِهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى دَلِيلٍ، وَلِهَذَا عَدَلَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ الْغَثِّ وَاحْتَجُّوا عَلَى ثُبُوتِ كَلَامِ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمُرْسَلِينَ.

وَقَوْلُهُ الْأَحْكَامُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، يُقَالُ لَهُ فَهَلْ الْأَحْكَامُ عِنْدَك شَيْءٌ غَيْرُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، أَمْ اسْمُ الْأَحْكَامِ هَلْ هُوَ أَظْهَرُ فِي كَلَامِ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ مِنْ اسْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَوُرُودُ التَّكْلِيفِ عَلَى الْعِبَادِ دَلِيلٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَجَوَازِ إرْسَالِ الرُّسُلِ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إذَا

ص: 513