المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسلك الأول لعن رسول الله الواشمة والموشومة] - الفتاوى الكبرى لابن تيمية - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ] [

- ‌نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ]

- ‌[الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ بُطْلَانُ الْحِيَلِ وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَخْبَرَ اللَّه عَنْ أَهْل الْجَنَّة الَّذِينَ بَلَاهُمْ فِي سُورَة نُون]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ قَالَ اللَّه وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ]

- ‌[الْوَجْه السَّادِسُ قَوْل النَّبِيّ مَنْ أَدَخَلَ فَرَسًا بَيْن فَرَسَيْنِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّامِنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا]

- ‌[الْوَجْهُ الْعَاشِرُ قَالَ صلى الله عليه وسلم لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا]

- ‌[الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْحِيلَة تَصْدُرُ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً]

- ‌ أَقْسَامِ الْحِيَلِ

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ]

- ‌[الْوَجْه الثَّامِن عَشْر أوجب اللَّه النَّصِيحَة وَالْبَيَان فِي الْمُعَامَلَات خَاصَّة]

- ‌[الْوَجْه التَّاسِع عَشْر اسْتَعْمَلَ الرَّسُول رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَة]

- ‌[الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ إذَا تَأَمَّلْت عَامَّةَ الْحِيَلِ وَجَدْتهَا رَفْعًا لِلتَّحْرِيمِ]

- ‌[الْوَجْه الرَّابِع وَالْعُشْرُونَ أَنْ اللَّه وَرَسُوله سَدّ الذَّرَائِع الْمُفْضِيَة إلَى الْمَحَارِم]

- ‌[الطَّرِيقُ الثَّانِي إبْطَالُ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ] [

- ‌الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ]

- ‌[الْمَسْلَك الثَّالِث التَّحْلِيل لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ النَّبِيّ يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ طلق ثَلَاثًا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[الْمَسْلَك الْخَامِس قَالَ اللَّه بَعْد الطَّلَاق مَرَّتَانِ وَبَعْد الخلع فَإِن طلقها]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ]

- ‌[كِتَابٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الطَّوَائِفِ الْمُلْحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ] [

- ‌خِطْبَة الْكتاب]

- ‌[أَوْجُهٍ الرد عَلَيَّ الْمعَارضين]

- ‌[الْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ]

- ‌[فَصْلٌ قَالُوا وَلَا نَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ]

- ‌[الْأَصْلُ التَّاسِعُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا وَإِثْبَاتِ قِدَمِ كَلَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ إنَّ هَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ الَّذِي هُوَ الْقَلْبُ يُوصَفُ بِالنُّطْقِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي إثْبَاتِ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَلَامِ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَحْكُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ إنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالذَّاتِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إذَا جَاءَ أَنْ تَجْعَلُوا هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ حَقِيقَةً وَاحِدَةً]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ إنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا حُجَّتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَمْت دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ قَدِيمًا وَاحِدًا لَيْسَ بِمُتَغَايِرٍ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ إمَّا قِدَمُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ إنَّ قَوْلَك عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ إنْ عَنَيْت بِهِ أَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَتْ كَحَقِيقَةِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْكَلَامَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَسَائِرَ الصِّفَاتِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْمَخْلُوقَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ إنَّك اعْتَمَدَتْ فِي كَوْنِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا قَدِيمًا]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ قِيَاسُك الْوَحْدَةَ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْكَلَامِ عَلَى الْوَحْدَةِ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْمُتَكَلِّمِ قِيَاسٌ لِلشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ أَنْ يُقَالَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ كَوْنَ الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ إنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ شَيْئًا وَاحِدًا لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ أَنْ يُقَالَ مَا تَعْنِي بِقَوْلِك كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَهُ ذَلِكَ قِدَمُهُ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتِينَ لِلْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ قَالُوا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ اجْتِمَاعَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالرُّؤْيَةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْقَوْل بِالتَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ فِي كَلَام اللَّه]

- ‌[الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ قَوْلُهُمْ كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي الْجَوَابِ عَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَاحِدًا]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ كَانَ الْبَارِي عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ مَا شُكَّ فِيهِ يُقْطَعُ فِيهِ بِالِامْتِنَاعِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ]

- ‌[بَابٌ فِي ذِكْرِ كَلَامِ الْأَشْعَرِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَطَبَقَتِهِ]

الفصل: ‌المسلك الأول لعن رسول الله الواشمة والموشومة]

[الطَّرِيقُ الثَّانِي إبْطَالُ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ] [

‌الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ]

ِ. فَصْلٌ: وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي إبْطَالِ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ، الْوَاجِبُ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلَالَةِ الِابْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِ دَلَالَةِ السُّنَّةِ أَبْيَنَ ابْتَدَأْنَا بِهَا، وَفِي هَذَا الطَّرِيقِ مَسَالِكُ. الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ قَيْسٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ وَالْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَآكِلَ الرِّبَا، وَمُوْكِلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ: «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ

، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ

مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنْ التَّابِعِينَ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْوَاصِلِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ:«لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَعَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «آكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ وَالْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ وَلَاوِي الصَّدَقَةِ وَالْمُتَعَدِّي فِيهَا وَالْمُرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ

ص: 193

وَالْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» .

وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ يَثْعُبُ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْجُوزَجَانِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَخْنَسِ ثِقَةٌ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ وَثَّقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُ ذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْجُوزَجَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ سَمِعْت اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ قَالَ مِشْرَحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» .

وَفِي لَفْظِ الْجُوزَجَانِيِّ: " الْحَالُّ " بَدَلَ " الْمُحَلِّلِ " رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ عَنْ عُثْمَانَ. وَقَالَ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى عُثْمَانَ هَذَا الْحَدِيثَ إنْكَارًا شَدِيدًا. قُلْت: وَإِنْكَارُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى عُثْمَانَ غَيْرُ جَيِّدٍ إنَّمَا هُوَ لِتَوَهُّمِ انْفِرَادِهِ بِهِ عَنْ اللَّيْثِ وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَعَلَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ اللَّيْثِ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ مَنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الرَّجُلِ مَنْ لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانَ ذَلِكَ شُذُوذًا فِيهِ وَعِلَّةً قَادِحَةً - وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ هَاهُنَا لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ عَنْهُ، رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْقَطِيعِيِّ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ فُرَيْقٍ: وَحَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بِهِ فَذَكَرَهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ.

وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ: أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ فَذَكَرَ. الثَّانِي: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ صَالِحٍ هَذَا الْمِصْرِيَّ ثِقَةٌ. رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.

وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ. وَقَالَ الشَّيْخُ صَالِحٌ سَلِيمُ النَّاحِيَةِ

ص: 194

قِيلَ لَهُ: كَانَ يُلَقِّنُ قَالَ: لَا. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حُجَّةً، وَإِنَّمَا الشَّاذُّ مَا خَالَفَ بِهِ الثِّقَاتِ لَا مَا انْفَرَدَ بِهِ عَنْهُمْ، فَكَيْفَ إذَا تَابَعَهُ مِثْلُ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ كَاتِبُ اللَّيْثِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ حَدِيثًا عَنْهُ وَهُوَ ثِقَةٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ غَلَطٌ. وَمُشْرِحُ بْنُ هَاعَانَ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ. ثِقَةٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَعْرُوفٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ جَيِّدٌ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

وَقَالَ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَشِيطٍ الْبَصْرِيُّ: سَأَلْت بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ قَالَ: «لُعِنَ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ» أُولَئِكَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ هُوَ التَّيْسُ الْمُسْتَعَارُ.

وَقِيَاسُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ أَوْ مُحِلٌّ كَمَا يَجِيءُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِهَا مِنْ لَفْظِ الْحَالِّ وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ فَإِنْ كَانَ لُغَةً لَمْ تَبْلُغْنَا، وَإِلَّا فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى حَالًّا لِأَنَّهُ قَصَدَ حَلَّ عُقْدَةِ التَّحْرِيمِ فَيَكُونُ الِاسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ التَّحْلِيلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّحْرِيمِ وَهَذَا الِاسْمُ مِنْ الْحِلِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَقْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُسَمَّى حَالًّا عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ مِنْ الْحِلِّ كَمَا يُقَالُ لَابِنٌ وَتَامِرٌ نِسْبَةً إلَى التَّمْرِ وَاللَّبَنِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْ التَّحْلِيلِ.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ إذَا قِيلَ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ وَلَمْ يَقُلْ الْمَحْلُولُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَحْلِيلَهَا لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَةِ حِلِّهَا لَهُ وَحِلِّهِ لَهَا فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ فَهُوَ حَالٌّ ضِدُّ حَرُمَ يَحْرُمُ. وَلِأَنَّهُ تَوَسَّطَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لَهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ حَلَالًا لِلْغَيْرِ ثُمَّ وَجَدْنَاهُ لُغَةً مَنْقُولَةً ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَطَّاعِ فِي أَفْعَالِهِ وَغَيْرِهِ يُقَالُ حَلَّ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا وَأَحَلَّهَا وَحَلَّهَا لَهُ إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا.

فَهَذِهِ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيِّنَةٌ فِي أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَذَلِكَ مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ حَرَامٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ فَعُلِمَ أَنَّ فِعْلَهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ اللَّعْنَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَعْصِيَةٍ، بَلْ لَا يَكَادُ يَلْعَنُ إلَّا عَلَى فِعْلِ كَبِيرَةٍ إذْ الصَّغِيرَةُ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِالْحَسَنَاتِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ.

- وَاللَّعْنَةُ هِيَ الْإِقْصَاءُ وَالْإِبْعَادُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَنْ يَسْتَوْجِبَ ذَلِكَ إلَّا بِكَبِيرَةٍ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِغَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ

ص: 195

الْمُحَرَّمَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، كَيْفَ وَقَدْ حَمَلُوا نَهْيَهُ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْفَسَادِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ.

ثُمَّ إنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِذَلِكَ التَّحْلِيلِ إذْ لَوْ حَلَّتْ لَهُ لَكَانَ نِكَاحُهُ مُبَاحًا فَلَمْ يَسْتَحِقَّ اللَّعْنَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُحَلِّلُ حَرَامٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّ تَزَوُّجَ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا لِأَجْلِ هَذَا التَّحْلِيلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ. وَمَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ تَحْرِيمِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَافٍ فِي بُطْلَانِهِ فَفِي خُصُوصِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعَقْدَيْنِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَلَّ لِلثَّانِي تَزَوُّجُهَا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حَلَّ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَهُ وَلَوْ كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ لَهُ لَكَانَ تَزَوُّجُهُ بِهَا جَائِزًا وَلَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَلَالًا لِلثَّانِي فَكُلُّ امْرَأَةٍ يَحْرُمُ التَّزَوُّجُ بِهَا فَالْعَقْدُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ. وَهَذَا ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ بَلْ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مِنْ الدِّينِ.

وَذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ كَالْمَبِيعِ وَالْمَنْكُوحَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاحًا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْمُعْتَدَّةِ وَالْمُزَوَّجَةِ كَانَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بَاطِلًا بِالضَّرُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِلثَّانِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَحَصَلَ بِهِ الْحِلُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْكَلَامِ الْمَحْفُوظِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَمَنْ قَالَ إنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَهِيَ لَا تَحِلُّ بِهِ فَقَدْ أَثْبَتَ حُكْمًا بِلَا أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَقَوْلُهُمْ تَعَجَّلَ مَا أَجَّلَ اللَّهُ فَعُوقِبَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، قُلْنَا إنْ كَانَ الْمُتَعَجَّلُ بِهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالْقَتْلِ قَطَعْنَا عَنْهُ حُكْمَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ كَالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّا نَقْطَعُ عَنْهُ حُكْمَهُ، وَالْمَقْصُودُ رَفْعُهُ وَهُوَ الْإِرْثُ وَنَحْوُهُ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنَّهُ عَقْدٌ قَابِلٌ لِلْإِبْطَالِ فَيَبْطُلُ، ثُمَّ إذَا عَاقَبْنَا الْمُحَلَّلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الْمُؤَجَّلَ فَكَيْفَ لَا نُعَاقِبُ الْمُحَلِّلَ الَّذِي هُوَ مُعَجِّلُ الْمُؤَجَّلَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ لِعَدَمِ الْغَرَضِ لَهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ، وَإِذَا انْتَفَى الدَّاعِي إلَى الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ أَقْبَحَ كَزِنَا الشَّيْخِ وَزُهُوِّ الْفَقِيرِ وَكَذِبِ الْمَلِكِ.

فَإِنْ قِيلَ: إلَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ وَإِنْ اقْتَضَى فَسَادَ الْعَقْدِ فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ، فَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يُوجِبْ الْفَسَادَ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَالْمُدَلِّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُنَا التَّحْلِيلُ الْمَكْتُومُ إنَّمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا

ص: 196

فَلَيْسَ حَرَامًا عَلَيْهِمَا إذَا لَمْ يَعْلَمَا بِقَصْدِ الزَّوْجِ فَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّظَائِرِ، إذْ فِي إفْسَادِهِ إضْرَارُ الْمَغْرُورِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْوَلِيِّ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ قَصْدَهُ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يُحْكَمُ بِفَسَادِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ وَنَحْوُهُ، فَالْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ كِتْمَانُ أَحَدِهِمَا لِنَقْصِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ كَذِبِهِ فِي وَصْفِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ غَيْرَ فَاسِدٍ أَثْبَتَ الْحِلَّ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ.

ثُمَّ قَدْ يُقَالُ تَحِلُّ بِهِ لِلْأَوَّلِ عَمَلًا بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ وَطَرْدًا لِلنِّظَامِ الْقِيَاسِيِّ، وَقَدْ يُقَالُ بَلْ لَا تَحِلُّ لَهُ كَمَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مَعْصِيَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحِلُّ وَإِنْ حُكِمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِ السَّبَبِ إذَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْقَتْلِ لِلْمُوَرِّثِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حِلِّهَا لِلزَّوْجِ الْمُحَلِّلِ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الْأَوَّلَ حَصَلَ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ وَمَتَى صَحَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ الصَّدَاقَ وَالنَّفَقَةَ وَاسْتَحَلَّتْ الِاسْتِمْتَاعَ؛ وَلَا يَثْبُتُ هَذَا إلَّا مَعَ اسْتِحْقَاقِ الزَّوْجِ مِلْكَ النِّكَاحِ وَاسْتِحْلَالِهِ الِاسْتِمْتَاعَ بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ فَإِنَّهُ لَا ضَرُورَةَ هُنَاكَ تَدْعُو إلَى تَصْحِيحِ عَقْدِهِ.

وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَطَاءٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ جَوَازُ إمْسَاكِ الثَّانِي لَهَا إذَا حَدَثَتْ لَهُ الرَّغْبَةُ وَمَنَعُوا عَوْدَهَا لِلْأَوَّلِ. قُلْنَا: إذَا انْفَرَدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِعِلْمِهِ بِسَبَبِ التَّحْرِيمِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ اللَّهِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمُدَلِّسِ وَالْمُصَرَّاةِ وَنِكَاحِ الْمَعِيبَةِ الْمُدَلِّسَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْعَقْدُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ هَذَا الْمَغْرُورِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِحَيْثُ يَحِلُّ لَهُ مَا مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ عَلِمَ فِيمَا بَعْدَ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُورًا، وَإِمَّا فِي حَقِّ الْقَارِّ فَهَلْ يَكُونُ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ بِحَيْثُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ أَوْ لَا يَكُونُ بَاطِلًا أَوْ يُقَالُ مَلَكَهُ مِلْكًا حِسِّيًّا؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَمَسْأَلَتُنَا لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِغَيْرِ حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلْ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ لِحَقِّ غَيْرِهِمَا مِثْلَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ، أَوْ يَبِيعَهُ لَحْمًا يَقُولُ هُوَ ذَكِيٌّ وَهُوَ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ، وَمِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ؛ أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْمُبَايِعَيْنِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ

ص: 197

بِالْحَجْرِ وَالْآخَرُ لَا يَعْلَمُ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ لَا يَعْلَم أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يُبْطِلُ التَّصَرُّفَ، أَوْ يَكُونُ الْعَقْدُ مُشْتَمِلًا عَلَى شَرْطٍ أَوْ وَقْتٍ أَوْ وَصْفٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا لَا يَعْلَمُ حُكْمَهُ وَالْآخَرُ يَعْلَمُ. إلَى نَحْوِ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي يَكُونُ الْعَقْدُ لَيْسَ مَحَلًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. أَوْ الْعَاقِدُ لَيْسَ أَهْلًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَهُنَا الْعَقْدُ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ فِي مِثْلِ هَذَا مَهْرًا، وَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: تَسْتَحِقُّهُ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ.

وَالْأُخْرَى: لَا تَسْتَحِقُّهُ وَأَظُنُّهُ قَوْلَ مَالِكٍ فَإِنَّمَا ذَاكَ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْوَطْءُ الْمُلْحِقُ لِلنَّسَبِ عَنْ عِوَضٍ، وَوُجُوبُ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَالنَّسَبِ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ. أَفَلَمْ يَكُنْ فِي إيجَابِ مَنْ أَوْجَبَ الْمَهْرَ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْعَقْدِ بِوَجْهٍ مَا كَمَا أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْعِدَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا وَيُلْحِقُونَ بِهِمْ النَّسَبَ مَعَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ. بَلْ كُلُّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ يَثْبُتُ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ كَالزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي الْمَغْرُورَيْنِ فَالْعَقْدُ فِي حَقِّهِمَا بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا بُطْلَانَهُ، وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَصِفُهُ بِالصِّحَّةِ مِنْ وَجْهٍ مَا، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى أُصُولِ بَعْضِ الْكَلَامِيِّينَ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي إمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا.

لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ عَلَى أَنَّهُ فَاسِدٌ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ مِلْكٌ وَلَا إبَاحَةُ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، لَكِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِالْوَطْءِ وَلَا بَانَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا ابْتَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ التَّحْرِيمَ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا لَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَتَنَاوَلَهُمَا لَا نَقُولُ إنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا أَبَاحَ هَذَا لِأَحَدٍ قَطُّ لَكِنْ نَقُولُ فَعَلَ مَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ.

وَيَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا بِنَظَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: فِي الْفِعْلِ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ مُبَاحٌ؟ وَالثَّانِي: فِي الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ عَفْوٌ؟ النَّظَرُ الْأَوَّلُ: هَلْ يُقَالُ الْفِعْلُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ

ص: 198

عُذِرَ لِعَدَمِ عِلْمِهِ.

وَالْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ يَخُوضُ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ يَتَنَازَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا، فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ: هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي الْأَصْلِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ كَالْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْمَنْعُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِإِعْلَامِ الْمَمْنُوعِ أَوْ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَهَذَا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ وَلَا أَمْكَنَهُ عِلْمُهُ فَلَا تَحْرِيمَ فِي حَقِّهِ، قَالُوا وَالتَّحْرِيمُ الثَّابِتُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ فَإِنَّ حَدَّ الْمُحَرَّمِ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ أَوْ عُوقِبَ أَوْ مَا كَانَ سَبَبًا لِلذَّمِّ أَوْ الْعِقَابِ أَوْ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ ذَمًّا أَوْ عِقَابًا، وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخَصَائِصِ. نَعَمْ وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْوَى عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ يُوجِبُ إلَّا مُجَرَّدَ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ تَثْبُتُ لِلْفِعْلِ لِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

ثُمَّ إنْ كَانَ قَدْ اسْتَحَلَّهُ بِنَاءً عَلَى إمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَالُوا هُوَ حَلَالٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا حِلًّا شَرْعِيًّا، وَإِنْ اسْتَحَلَّهُ لِعَدَمِ الْمُحَرَّمِ قَالُوا لَيْسَ بِحَرَامٍ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا.

وَلَمْ يَقُولُوا هُوَ حَلَالٌ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَيَقُولُونَ إنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ، لَكِنَّ عَدَمَ التَّحْرِيمِ مَنَعَ مِنْ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ، وَتَخَلُّفِ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمُقْتَضَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى حُكْمِ الْعِلَّةِ إذَا تَخَلَّفَ عَنْهَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ هَلْ يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا عِلَّةً وَيُؤْخَذُ مِنْ الشَّرْطِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ قُيُودٌ تُضَمُّ إلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ فَيَجْعَلُ الْجَمِيعَ عِلَّةً وَلَكِنْ يُضَافُ التَّخَلُّفُ إلَى الْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ.

وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَفَسَادِهَا بِالنَّقْضِ مُطْلَقًا خُيِّرَ أَوْ لَمْ يُخَيَّرْ، وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مُخْتَلِفُونَ خِلَافًا مَشْهُورًا. فَمَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِهَا فَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَاءِ الْعِلَّةِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ وَقَالَ قَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ مَعَ بَقَائِهَا إذَا صَادَفَهَا مَانِعٌ أَوْ تَخَلَّى عَنْهَا الشَّرْطُ الْمُعَيَّنُ.

وَمَنْ لَمْ يُخَصِّصْهَا فَعِنْدَهُ الْجَمِيعُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَمَتَى تَخَلَّفَ عَنْهَا الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً بِحَالٍ بَلْ يَكُونُ بَعْضَ عِلَّةٍ. وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ - وَهِيَ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ الَّتِي يَجِبُ وُجُودُ مَعْلُولِهَا

ص: 199

عِنْدَ وُجُودِهَا - فَهَذِهِ لَا تُخَصَّصُ، وَيُقَالُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً - وَهِيَ مَا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقْتَضِيَ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تُصَادِفَ مَحَلًّا لَا يَعُوقُ - فَهَذِهِ تُخَصَّصُ، فَالنِّزَاعُ عَادَ إلَى عِبَارَةٍ كَمَا تَرَاهُ، وَيَعُودُ أَيْضًا إلَى مُلَاحَظَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَهُوَ أَنَّهُ عِنْدَ تَخَلُّفِ الْمَعْلُولِ لِأَجْلِ الْمُعَارِضِ هَلْ يُلَاحَظُ فِي الْعِلَّةِ وَصْفُ الِاقْتِضَاءِ مَمْنُوعًا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ الْهَابِطِ إذَا صَادَفَ سَقْفًا. وَبِمَنْزِلَةِ ذِي الشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ بِحَضْرَةِ مَنْ يَهَابَهُ؟ أَوْ يُلَاحِظُ مَعْدُومًا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنَيْنِ وَبِمَنْزِلَةِ الْعَشَرَةِ إذَا نَقَصَ مِنْهَا وَاحِدٌ فَإِنَّهَا لَمْ تَبْقَ عَشَرَةً، فَإِذَا كَانَ النِّزَاعُ يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ. أَوْ إلَى إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ لَا إلَى حُكْمٍ عَمَلِيٍّ أَوْ اسْتِدْلَالِيٍّ فَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخِلَافُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إصْلَاحٌ جَدَلِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ مِنْ الْمُسْتَدِلِّ خَبَرُ النَّقْضِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ صُورَةِ النِّزَاعِ وَصُورَةِ النَّقْضِ، أَوْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِوَصْفٍ يَطَّرِدُ لَا يُنْتَقَضُ أَلْبَتَّةَ وَمَتَى انْتَقَضَ انْقَطَعَ فِيهِ أَيْضًا اصْطِلَاحَانِ لِلْمُتَجَادِلَيْنِ.

وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ إلْزَامَ الْمُسْتَدِلِّ بِطَرْدِ عِلَّتِهِ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ خُرَاسَانَ فَلَا يُلْزِمُونَهُ بِذَلِكَ بَلْ يُلْزِمُونَهُ تِبْيَانَ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ وَيُجِيزُونَ النَّقْضَ بِالْفَرْقِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْعِرَاقِيِّينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، وَتَجِدُ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي الْخِلَافِ بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ فِي زَمَنِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ مِنْ مِصْرَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَنَحْوِهِمْ يُوجِبُونَ الِاطِّرَادَ غَلَبَ عَلَى أَقْيِسَتِهِمْ تَحْرِيرُ الْعِبَارَاتِ وَضَبْطُ الْقِيَاسَاتِ الْمُطَرَّدَاتِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّاتُ، لَكِنْ تَبَدُّدُ الذِّهْنِ عَنْ نُكْتَةِ الْمَسْأَلَةِ يُحْوِجُ الْمُتَكَلِّمَ أَوْ الْمُسْتَمِعَ إلَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَمَّا يَعْنِيهِ.

وَلِهَذَا كَانُوا يُكَلِّفُونَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِقِيَاسٍ مُطَّرِدٍ وَلَا يَظْهَرُ خُرُوجُ وَصْفِهِ عَنْ جِنْسِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ وَرُبَّمَا غَلَا بَعْضُهُمْ فِي الطَّرْدِيَّاتِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِرَاقِيُّونَ الْمُتَأَخِّرُونَ لَا يُلْزِمُونَ هَذَا فَتَحُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ سُؤَالَ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ وَطَوَائِفُ مِنْ مُتَقَدِّمِي الْخُرَاسَانِيِّينَ فَيُسْتَفَادُ مِنْ طَرِيقِهِمْ الْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ بِحَسَبِ مَا أَحَاطُوا بِهِ مِنْ الْعِلْمِ أَثَرًا وَرَأْيًا، وَهَذَا أَشَدُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ مِنْ حَيْثُ احْتِيَاجُهُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَصْفِ، وَالْأَوَّلُ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ احْتِيَاجُهُ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ النَّقْضِ، وَلِهَذَا سَمَّى بَعْضُهُمْ الْأَوَّلِينَ أَصْحَابَ الطَّرْدِ، وَسَمَّى الْآخَرِينَ أَصْحَابَ

ص: 200

التَّأْثِيرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ أَصْحَابَ الطَّرْدِ أَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ الْمُطَّرِدِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِيهِ اقْتِضَاءٌ لِلْحُكْمِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَلَا إشْعَارَ بِهِ. فَإِنَّ هَذَا يُبْطِلُهُ جَمَاهِيرُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَقُولُ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُهُ إلَّا شِرْذِمَةٌ مِنْ الطَّارِدِينَ. وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ مَا يُقْبَلُ وَيُرَدُّ.

وَلَا يُمْكِنُ هُنَا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ مَنْ يُخَصِّصُ الْعِلَّةَ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ فَإِنَّ مُلَاحَظَتَهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ وَأَشْبَهُ بِالْمَنْقُولِ، وَعَلَى ذَلِكَ تَصَرُّفَاتُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا رَجَعَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي آخِرِ عُمُرِهِ إلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ كَلَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ.

وَغَيْرُهُ يَقُولُ إنَّهُ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ مُنَاظَرَتَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخُصُّونَ التَّعْلِيلَ بِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ النَّقْضَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَبَيْنَ صُورَةِ النَّقْضِ إذَا كَانَ الْفَرْقُ مَغْلُوسًا فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَيْ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِصُورَةِ النَّقْضِ مَانِعًا غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ إذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْفَرْعِ لَمْ يَجُزْ النَّقْضُ وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ. بَلْ هُوَ عَيْنُ كُلِّ عِلْمٍ بَلْ هُوَ عَيْنُ كُلِّ نَظَرٍ صَحِيحٍ وَكَلَامٍ سَدِيدٍ.

نَعَمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُتَطَرِّفَانِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ: قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ وَلَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ دَلِيلٍ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ، وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ إذَا تَخَصَّصَتْ بَطَلَ كَوْنُهَا عِلَّةً وَعُلِمَ أَنَّهَا جُزْءُ الْعِلَّةِ.

فَهَذَانِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُخَصِّصَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَانِعٍ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ لَهُ وَجْهٌ أَنْ لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ عُلِمَتْ بِنَصٍّ وَالْمُخَصِّصُ لَهَا نَصٌّ فَهُنَاكَ لَا يَضُرُّنَا أَنْ لَا نَعْلَمَ الْمَانِعَ الْمَعْنَوِيَّ عَلَى نَظَرٍ فِيهِ، إذْ قَدْ يُقَالُ إنْ كَانَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ كَانَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ فَقَدْ عَلِمْنَا انْتِفَاءَهُ مَعَ مَانِعٍ مَجْهُولٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّ إذَا اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ شَيْءٌ مَجْهُولٌ. فَمَا مِنْ صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.

وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهَا فِي أَحَدِهِمَا بِلَا دَلِيلٍ، كَذَلِكَ كُلُّ صُورَةٍ تَفْرِضُ وُجُودَ الْعِلَّةِ

ص: 201

فِيهَا إذَا كَانَتْ مُخَصَّصَةً بِنَصٍّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَانِعٍ مَعْنَوِيٍّ فَإِنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ جَازَ أَنْ تَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَانِعِ وَجَازَ أَنْ تَكُونَ لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْمُقْتَضِي مَعْلُومٌ وَاشْتِمَالُهَا عَلَى الْمَانِعِ مَشْكُوكٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ هُوَ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ مُصَادَمَةُ الْمَانِعِ لَهُ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ هُنَا، وَهَذَا الْمَقَامَ أَيْضًا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ جَوَازُ التَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُعَارِضُهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا - وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ أَحْمَدَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ - أَنَّهُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ بِمُقْتَضًى يَكُونُ جَوَازُ تَخَلُّفِهِ عَنْ مُقْتَضِيهِ وَعَدَمُ جَوَازِهِ فِي الْقَلْبِ سَوَاءً، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ لِيَظْهَرَ الْمَأْخَذُ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ الشَّيْءُ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ لِلْعُذْرِ فَإِنَّ التَّخَلُّفَ هُنَا لِفَوَاتِ شَرْطٍ وَلَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُقْتَضِيًا لِلْعِقَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ عُقُولِ الْفُقَهَاءِ بَلْ أَكْثَرُ عُقُولِ النَّاسِ بَلْ عَامَّةُ الْعُقُولِ الَّتِي لَمْ يُكَدِّرْ صَفَاهَا رَهَجُ الْجَدَلِ وَيَرَى صِحَّةَ كَوْنِ الشَّيْءِ بِصِفَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَعُوقًا عَنْ عَمَلِهِ صَارُوا فِي عَامَّةِ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَقُولُونَهُ يَنْتَهِجُونَ مَنَاهِجَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ إذْ هَذَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ الْآدَمِيُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَكُونُونَ مِمَّنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ إذَا جَرَّدُوا الْأُصُولَ، فَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقْبَلُ عَقْلُهُ كَوْنَ الشَّيْءِ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ لَكِنَّ انْتِفَاءَ حُكْمِ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ هَذَا الْمُعَيَّنِ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْعِقَابِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ فِيهِ.

وَهَذَا قَوِيٌّ إذَا قِيلَ: إنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ قَدْ تَكُونُ لِمَعَانٍ فِي الْأَفْعَالِ تُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَيَقْتَضِيهِ، وَإِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَلَامَاتٍ وَإِمَارَاتٍ كَمَا قَدْ يُجِيبُ بِهِ فِي الْمَضَايِقِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْصُرُ السُّنَّةَ أَنَّهُ يَرُدُّ الْأَحْكَامَ إلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعَ السَّابِقِينَ عَلَى تَوْجِيهِ الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ وَالنُّعُوتِ الْمُلَائِمَةِ. بَلْ دَخَلَ مَعَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا يَشْهَدُهُ بِنَظَائِرِهَا مِنْ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الْمَنْظُومَةِ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي قَدْ أَرْبَى نُورُهَا عَلَى الشَّمْسِ إضَاءَةً وَإِشْرَاقًا وَعَلَى إحْكَامِهَا عَلَى الْفُلْكِ انْتِظَامًا وَاتِّسَاقًا ثُمَّ نَازَعَ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّ الْأَسْبَابَ وَالْعِلَلَ فِيهَا

ص: 202

اقْتِضَاءٌ وَمُلَاءَمَةٌ وَرَأَى مَا فِي الدَّلِيلِ الصَّرْفِ فَهُوَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا مُعَانِدٌ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ وَمَا أَكْثَرُ السَّفْسَطَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ عُمُومًا وَمِنْ الْمُنَاظِرِينَ فِي الْعِلْمِ خُصُوصًا فِي جُزْئِيَّاتِ الْمُقَدِّمَاتِ وَإِنْ كَانُوا مُجْمِعِينَ أَوْ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى فَسَادِهَا فِي الْأَنْوَاعِ الْكُلِّيَّاتِ.

وَإِمَّا ذَاهِلٌ جَاهِلٌ حَقِيقَةَ مَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّ الْعِلَلَ مُجَرَّدُ أَمَارَاتٍ مُصَرِّفَاتٍ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ دَائِمًا يَرَاهُ وَيَقُولُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَوِيٌّ إذَا رَأَيْنَا مَا فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ ثَابِتَةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَفْعَالِ وَإِنْ لَمْ يُدْرَ الْفَاعِلُ. أَلَا تَرَى مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ التَّحْرِيمَ فَإِنَّ فَسَادَهَا مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ وَتَوَابِعِهِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ، نَعَمْ الْعُقُوبَةُ الْحَدِّيَّةُ وَتَوَابِعُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ مَشْرُوطَةٌ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَصْفُ وَإِنْ كَانَ اقْتِضَاءَ التَّحْرِيمِ مَثَلًا مَشْرُوطٌ بِجَعْلِ الشَّارِعِ أَوْ بِالْحَالِ الَّتِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ فِيهَا مُقْتَضِيًا فَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْجَعْلُ وَالْحَالُ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا هَذَا الْجَعْلُ.

وَهُنَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ. أَحَدُهَا: الْوَصْفُ الثَّابِتُ الْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا. وَالثَّانِي: عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي.

وَالثَّالِثُ: حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ مَثَلًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا عَلِمَ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ حَكَمَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ تَرْتِيبٌ ذَاتِيٌّ عَقْلِيٌّ لَا تَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ زَمَانِيٌّ كَتَرْتِيبِ الصِّفَةِ عَلَى الذَّاتِ وَتَرْتِيبِ الْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ وَالتَّرْتِيبِ الْحَاصِلِ فِي الْكَلَامِ الْمَوْجُودِ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ الْعَقْلُ مُلَازَمَتَهُ تَرْتِيبًا اقْتَضَتْهُ الْحَقِيقَةُ وَكُنْهُ ذَلِكَ مَغِيبٌ عَنْ عِلْمِ الْخَلْقِ.

وَالرَّابِعُ: الْمَحْكُومُ بِهِ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ بِالْفِعْلِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ صِفَةً عَيْنِيَّةً أَوْ جُعِلَتْ إضَافَةً مَحْضَةً أَوْ جُعِلَتْ عَيْنِيَّةً مُضَافَةً، فَالْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ هُوَ التَّحْرِيمُ، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ لَا نَفْسُ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى لَا تُعَلَّلَ صِفَاتُ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ بِالْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ كَمَا اعْتَقَدَهُ بَعْضُ مَنْ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ يُضَافُ حِكْمَةُ التَّحْرِيمِ إلَى عِلَّةِ سَبَبِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَهَذَا الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ ثَابِتٌ بِكُلِّ حَالٍ لَكِنْ بِشَرْطِ حُصُولِ مُوجِبِهِ وَهُوَ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى

ص: 203

الْعِبَادِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عز وجل: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]صلى الله عليه وسلم وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّحْرِيمُ الَّذِي هُوَ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْحُرْمَةُ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْفِعْلِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ إضَافَةً أَوْ عَيْنِيَّةً، وَالْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ.

وَالْمُقْتَضِي لِلْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ اللَّهِ حَتَّى يُضِيفَ الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ وَصْفُ اللَّهِ إلَى عِلْمِهِ وَيُضِيفَ الْمَحْكُومَ بِهِ الَّذِي يُسَمَّى حُكْمًا أَيْضًا وَهُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ إلَى مَعْلُومِهِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ ثَابِتَةٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُكَلَّفُ بِالتَّحْرِيمِ، فَظَهَرَ مَعْنَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا، وَالْمِثْلُ هَذَا الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ إلَى مَسْأَلَةِ اخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَالْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّى، وَكُلُّ مَوْضِعٍ اشْتَبَهَ فِيهِ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ اجْتِنَابُهُمَا جَمِيعًا.

وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ اشْتِبَاهِ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ كَمَنْ نَسِيَ إحْدَى صَلَاتَيْنِ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا. فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُطْلِقُونَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعَيْنَانِ. وَتَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمُحَرَّمُ أَحَدُهُمَا وَإِنْ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمَا وَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِعْلُهُمَا، ثُمَّ مِنْ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ هَذَا الْقَوْلَ وَيَقُولُ انْتِفَاءُ التَّحْرِيمِ مَلْزُومُ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ هُنَا حَاصِلٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ مُنْتَفِيَانِ؟ وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُسْتَقِيمٌ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ كَمَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ النَّافِيَةُ لِلْحُكْمِ الْبَاطِنِ الْجَاعِلَةُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ وَأَنَّهُ يَتْبَعُ الِاعْتِقَادَ وَيَكُونُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَهَذَا أَصْلٌ فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ الْفَاضِلَةُ وَتَابِعُوهُمْ، وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ الْبَاطِنَيْنِ فَمَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ الْحَرَامُ أَحَدُهُمَا وَالْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا يَعْنِي بِهِ الْحَرَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا.

كَمَا إذَا اشْتَبَهَ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ فَإِنَّ النَّجِسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَكَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْأُخْتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ إنَّمَا حَرُمَ ظَاهِرًا فَقَطْ، نَعَمْ يُبَالِغُ هَذَا الْقَائِلُ فَيَقُولُ لَا أَصِفُ الْمُشْتَبِهَةَ بِتَحْرِيمٍ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ أَوْجَبْتُ الْإِمْسَاكَ عَنْهَا كَمَا لَا أَصِفُهَا بِنَجَاسَةٍ وَلَا بُنُوَّةٍ وَلَا مَوْتٍ.

ص: 204

فَهُنَا ثَلَاثُ مَنَازِلَ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، إمَّا أَنْ يُقَالَ هُمَا جَمِيعًا حَرَامَانَ مُطْلَقًا وَاجِبَانِ مُطْلَقًا، أَوْ يُقَالَ لَيْسَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ إلَّا أَحَدُهُمَا، أَوْ يُقَالَ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ مُحَرَّمٌ أَوْ وَاجِبٌ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا. عَلَى أَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَنْ وَصَفَ بِالتَّحْرِيمِ إحْدَاهُمَا فَقَطْ مُطْلَقًا مَعَ إيجَابِهِ الْكَفَّ عَنْهُمَا أَقْرَبُ مِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ خَصَّ بِالتَّحْرِيمِ إحْدَاهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَهُمَا مَعًا لَمْ يُعَاقَبْ عُقُوبَةَ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمَيْنِ بَلْ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَاحِدًا. وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ الصَّلَاةَ الْمُشْتَبِهَةَ إنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ.

وَالْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهَا مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ هَلْ يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ فَنَفْيُ الْوُجُوبِ عَنْ إحْدَاهُمَا هُنَا لَيْسَ كَنَفْيِ الْوُجُوبِ عَنْ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُنَا عَدَمُ عِلْمِهِ وَسَبَبَهُ هُنَاكَ عَجْزُهُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَحْكَامِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ. بِخِلَافِ الْعَجْزِ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ اسْتَقْرَأَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ اسْتَبَانَ لَهُ هَذَا، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُتَنَاوِلَ لِأَحَدِهِمَا يُعَاقَبُ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ وَالْعَمَلِ بِالْجَهْلِ بِالْمُقْتَضِي لِلْعُقُوبَةِ بِهِ مَعْنًى فِيهِ لَا مَعْنَى فِي الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ لِمَعْنًى فِي الْمَيْتَةِ وَلَيْسَتْ الْعُقُوبَةُ وَالْأَحْكَامُ عَلَى ذَلِكَ الْجِنْسِ مِثْلُ هَذَا. فَإِنَّهُ لَوْ خَاطَرَ وَوَطِئَ مَنْ لَا يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ وَكَانَتْ إيَّاهَا لَمْ يُحَدَّ وَإِنْ أَثِمَ.

وَكَذَلِكَ مَنْ شَرِبَ مَا يَعْتَقِدُهُ خَمْرًا فَلَمْ يَكُنْهُ لَمْ يُحَدَّ وَإِنْ كَانَ آثِمًا، وَكَذَلِكَ مَنْ حَكَمَ بِجَهْلٍ فَصَادَفَ الْحَقَّ هَلْ يَبْتَدِئُ الْحُكْمُ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَوْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ؟ لِلْأَصْحَابِ فِيهِ وَجْهَانِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَأْثِيمِهِ، وَمَنْ بَاعَ وَاشْتَرَى قَابِضًا مُقْبِضًا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ وَلَا وَكِيلٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَارِثٌ أَوْ وَكِيلٌ هَلْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ آثِمًا وَلَوْ فَعَلَهُ الْوَكِيلُ بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ لَمْ يَأْثَمْ، وَفِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ رِوَايَتَانِ وَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلنَّاسِ، وَكَذَا عَلَى قِيَاسِ هَذَا لَوْ عَقَدَ عَلَى الْمُشْتَبِهَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا الْأَجْنَبِيَّةُ أَوْ الْمُذَكَّى هَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ إذْ الْجَهْلُ بِالْمَحَلِّيَّةِ كَالْجَهْلِ بِالْأَهْلِيَّةِ. فَإِنْ قُلْت: أَنْتُمْ تَخْتَارُونَ فِيمَا كَانَ مُحَرَّمًا وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُكَلَّفُ تَحْرِيمَهُ أَنَّهُ عَفْوٌ فِي حَقِّهِ لَا مُبَاحٌ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا فَكَيْفَ تَقُولُونَ فِيمَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا أَنَّهُ حَرَامٌ ظَاهِرًا أَوْ حَرَامٌ مُطْلَقًا؟ .

ص: 205

قُلْت: لِأَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا لَا يُبَاحُ إلَّا إذَا وُجِدَ سَبَبُ حِلِّهِ، وَجَهْلُ الْمُكَلَّفِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْعُذْرِ، وَأَمَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ حِلًّا مُطْلَقًا فَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ أَسْبَابُ تَحْرِيمِهِ، وَجَهْلُ الْمُكَلَّفِ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِانْتِقَاءِ الضَّرَرِ الَّذِي انْعَقَدَ بِسَبَبِهِ أَوْ خِيفَ وُجُودُهُ مُنَاسِبٌ لِلْمَنْعِ مِنْ الْإِقْدَامِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَعُرْفًا، فَإِنَّ الْمَرِيضَ يُمْنَعُ مَا يُخَافُ ضَرَرُهُ.

وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجَهْلَ وَصْفُ نَقْصٍ فَتَرَتُّبُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ مُلَائِمٌ، أَمَّا تَرَتُّبُ الْحِلِّ عَلَيْهِ فَغَيْرُ مُلَائِمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَكُونُ سَبَبًا لِشَرْعِ التَّحْرِيمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وَيَكُونُ سَبَبًا لِلِابْتِلَاءِ بِوُجُودِ الْمُحَرَّمِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَلَا تَكُونُ الْمَعْصِيَةُ سَبَبًا لِلْحِلِّ مَعَ أَنِّي قَدْ بَيَّنْت أَنِّي إذَا قُلْت حَرَّمْنَا عَلَيْك فَمَعْنَاهُ حَرُمَ عَلَيْك الْمُخَاطَرَةُ وَالْإِقْدَامُ بِلَا عِلْمٍ، لَا أَنَّ نَفْسَ الْعَيْنِ مُحَرَّمَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ.

كَمَا لَوْ اشْتَبَهَ عَلَى الْمَرِيضِ الدَّاءُ بِالدَّوَاءِ فَإِنَّ أَهْلَهُ يَمْنَعُونَهُ مِنْهُمَا لَا لِأَنَّهُمَا دَاءَانِ مُضِرَّانِ بَلْ لِمَا فِي الْمُخَاطَرَةِ مِنْ مَفْسَدَةِ مُوَاقَعَةِ الضَّرَرِ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَشْمَلُ الْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا بِحَيْثُ لَوْ خَاطَرَ وَتَنَاوَلَ إحْدَاهُمَا فَكَانَتْ هِيَ الْحُرْمَةَ لَكَانَ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمُخَاطَرَةِ وَعُقُوبَةُ آكِلِ الْمَيْتَةِ وَلَوْ خَاطَرَ فَصَادَفَتْ مُخَاطَرَتُهُ الْمُبَاحَةَ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ إلَّا عُقُوبَةُ الْمُخَاطَرَةِ فَقَطْ. لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إذَا صَادَفَ الْمَيْتَةَ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمُخَاطَرَةِ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَيْتَةِ فَإِذَا صَادَفَ الْمَيْتَةَ فَهُوَ الْمَحْذُورُ فَلَا يَبْقَى لِلْمُخَاطَرَةِ حُكْمٌ إذْ لَا حُكْمَ لِلْخَوْفِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَخُوفِ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بَلْ هُمَا ذَنْبَانِ لَهُمَا مَفْسَدَتَانِ فَإِنَّ الْمُخَاطَرَةَ تَفْتَحُ جِنْسَيْنِ مِنْ الشَّرِّ لَا تَخْتَصُّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّمَا يَحْسُنُ إطْلَاقُ الْإِنْكَارِ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَقُولُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ نَصِيبٌ بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْته مِنْ الشُّبْهَةِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي تَنْحَلُّ بِفَهْمِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ يَعْتَقِدُ فِي الْبَاطِنِ حُكْمًا غَيْرَ الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ مَنْ وَافَقَهُ فِي هَذَا الْإِنْكَارِ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ لِلصَّوَابِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَهْتَدُوا لِبَاطِنِ مَأْخَذِهِ الَّذِي يُبْطِلُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ.

وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا كَوْنَ الْمُحَرَّمَةِ وَاحِدَةً بَاطِنًا وَظَاهِرًا. فَهَذَا قَرِيبٌ؛ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَتَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ إنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ ثَابِتًا لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا وَبَيْنَ مَنْ يُثْبِتُهُ بَاطِنًا وَأَنَّ أُولَئِكَ الْأَقَلِّينَ يَقُولُونَ: الْبَلَاغُ شَرْطٌ فِي التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأُمُورِ. فَعَدَمُهُ يَنْفِي

ص: 206

نَفْسَ التَّحْرِيمِ وَالْأَكْثَرِينَ يَقُولُونَ الْبَلَاغُ شَرْطٌ فِي مُوجَبِ التَّحْرِيمِ وَمُقْتَضَاهُ لَا فِي نَفْسِهِ فَعَدَمُهُ يَنْفِي أَثَرَهُ لَا عَيْنَهُ، وَيُسَمَّى نَظِيرُ الْأَوَّلِ مَانِعَ السَّبَبِ. وَنَظِيرُ الثَّانِي مَانِعَ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّهْمِ الْمُفَرَّقِ تَارَةً يُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ وَتَارَةً لَا يُصَادِفُ غَرَضًا يَخْرِقُهُ أَوْ يَكُونُ الْغَرَضُ مُصَفَّحًا بِحَدِيدٍ.

وَإِذَا تَبَيَّنَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا أَوْ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. فَخُذْ فِي النَّظَرِ الثَّانِيَ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْكُوحَةَ أَوْ الْمَبِيعَ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ. أَوْ انْعَقَدَ بِسَبَبِ تَحْرِيمِهِ فِي الْبَاطِنِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ لَمْ يَعْلَمَا ذَلِكَ فَإِنْ هَذَا وَطِئَ الْمَرْأَةَ أَوْ أَكَلَ هَذَا الطَّعَامَ لَمْ يُعَاقَبَا عَلَى ذَلِكَ.

وَهَلْ يُقَالُ هُوَ مُبَاحٌ ظَاهِرًا أَوْ يُقَالُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بَلْ هُوَ عَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ هَذَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ مَنْ أَثْبَتَ التَّحْرِيمَ الْبَاطِنَ وَمَنْ نَفَاهُ. وَإِنْ كَانُوا يُطْلِقُونَ تَارَةً عَلَيْهِ أَنَّهُ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ وَمُبَاحٌ، فَإِنَّهُمْ يَتَنَازَعُونَ هَلْ الْحِلُّ هُنَا بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ كَمَا أَذِنَ فِي لُحُومِ الْأَنْعَامِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ كَمَا عَفَا عَمَّا لَمْ يَنْطِقْ بِتَحْرِيمِهِ وَلَا تَحْلِيلِهِ. وَكَمَا عَفَا عَنْ فِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَعَنْ فِعْلِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ.

وَإِنَّمَا يَقَعُ النِّزَاعُ فِي النَّوْعِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَحْرِيمُهُ إنْ تَعَيَّنَ عَمَلُ وَاحِدٍ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ فَأَمَّا مَا قَامَ دَلِيلُ حِلِّهِ وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافَهُ فَلَا نَقُولُ إلَّا أَنَّهُ حَلَالٌ. ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَحُكْمُ قَوْلِنَا حُكْمُ فِعْلِنَا فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ نَصَبَ دَلِيلَ الْحِلِّ وَهُوَ الْعَقْدُ وَكَلَامُ الْبَائِعِ وَالزَّوْجَةِ الَّذِي سَوَّغَ الشَّارِعُ تَصْدِيقَهُمَا. وَخَطَأُ الدَّلِيلِ لَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ إذَا كَانَ الشَّارِعُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي اتِّبَاعِهِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ هَذَا مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُؤَاخِذْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَطَإِ الَّذِي عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَنْ اسْتَحَلَّ شَيْئًا لَمْ يَعْلِمْ اللَّهَ حَرَّمَهُ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّحْرِيمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ خِطَابُ الشَّارِعِ. كِلَاهُمَا عَادِمٌ لِلْعِلْمِ بِمَا يَدُلُّ لَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَمِثْلُ هَذَا قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ إبَاحَةً شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، نَعَمْ، قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا اُسْتُبِيحَ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَاخْتَلَفَتْ، وَبَيْنَ مَا فُعِلَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ الشَّرْعِيِّ. كَمَا فَرَّقَ قَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي قَتْلِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ الْمُتَمَسِّكِينَ بِشَرِيعَةٍ مَنْسُوخَةٍ. فَأَوْجَبُوا دِيَتَهُ وَغَيْرِ الْمُتَمَسِّكِينَ فَلَمْ يُوجِبُوا دِيَتَهُ.

وَكَمَا قَدْ يُفَرِّقُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ

ص: 207

بَيْنَ الْمُسْتَحِلِّ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ. فَيَقُولُونَ: إنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَبْلُغَهُ النَّاسِخُ. وَيُثْبِتُونَ حُكْمَ التَّحْرِيمِ وَالْإِيجَابَ الْمُبْتَدَأَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ.

وَلِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهُمَا: لَا يَثْبُتُ حُكْمُ تَحْرِيمٍ وَلَا إيجَابٍ لَا مُبْتَدَأٍ وَلَا نَاسِخٍ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي: يَثْبُتُ حُكْمُهَا قَبْلَ الْعِلْمِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُ لَا بِمَعْنَى التَّأْثِيمِ لَكِنْ مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ إمَّا بِإِعَادَةٍ أَوْ نَزْعِ مِلْكٍ، وَالثَّالِثُ: يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ وَلَا يَثْبُتُ النَّاسِخُ.

وَلَيْسَ كَلَامُنَا هُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ عَدَمَ الْإِثْمِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ نَوْعًا وَشَخْصًا فِي الْأَحْكَامِ الْمُعَيَّنَةِ شَخْصًا مِثْلُ اسْتِحْلَالِ هَذَا الْفَرْجِ وَهَذَا الْمَالِ بِبَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ مَعَ الِانْتِفَاءِ فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ. هَلْ لِقِيَامِ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ ظَاهِرًا أَوْ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ الشَّرْعِيِّ ظَاهِرًا. فَإِنَّ بَيْنَ ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ وَثُبُوتِ التَّحْلِيلِ الشَّرْعِيِّينَ مَنْزِلَةُ الْعَفْوِ، وَهُوَ فِي كُلِّ فِعْلٍ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ أَصْلًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى النَّاسِ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» وَعَنْهُ صلى الله عليه وسلم «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ» .

وَيُفَرَّقُ بَيْنَ النَّوْعِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ نَاسِخُهُ وَبَيْنَ الشَّخْصِ الَّذِي اُعْتُقِدَ انْدِرَاجُهُ فِي الْقِسْمِ الْجَائِزِ، فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي نَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ حَتَّى يَأْتِيَ النَّاسِخُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ خَطَأٌ أَصْلًا لَا مَعْذُورٌ هُوَ فِيهِ وَلَا غَيْرُ مَعْذُورٍ هُوَ فِيهِ.

وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الْبَائِعَ صَادِقٌ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ خَلِيَّةٌ فَهَذَا اعْتِقَادُهُ فِي أَمْرٍ عَيْنِيٍّ، وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ أَبَاحَ هَذَا الِاعْتِقَادَ الْمُعَيَّنَ وَالْعَمَلَ بِهِ، بَلْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ، وَلِهَذَا فَرَّقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ بَيْنَ مَنْ عَمِلَ بِنَصٍّ قَدْ جَاءَ فِيهِ نَصٌّ آخَرُ فَمُنِعَ أَنْ يُسَمَّى مُخْطِئًا. وَمَنْ عَمِلَ بِاجْتِهَادٍ فَقَالَ فِيهِ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ. إذَا كَانَ مُتَّبِعَ النَّصِّ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ هَذَا النَّصِّ الْمُعَيَّنِ، وَمُتَّبِعُ

ص: 208

الِاجْتِهَادِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ هَذَا الِاجْتِهَادِ الْمُعَيَّنِ وَيَظْهَرُ هَذَا عَلَى دِقَّتِهِ بِمِثَالٍ مَشْهُودٍ وَهُوَ صَلَاةُ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الصَّلَاةُ لَيْسَتْ مَأْمُورًا بِهَا، وَلَكِنْ هُوَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَهَذَا أَصَحُّ.

وَلَوْ أَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أَمَرَهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ إذَا اعْتَقَدْت أَنَّك عَلَى طَهَارَةٍ فَصَلِّ. وَإِنَّمَا قَالَ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» ، وَقَالَ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ» . وَلَكِنْ لَمْ يُكَلِّفْهُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى طَهَارَةٍ. فَإِنَّ هَذَا يَشُقُّ بَلْ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْهَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ. فَإِنْ اسْتَمَرَّ بِهِ هَذَا الْخَطَأُ غَفَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَهَّدْ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ قَصَدَ فِعْلَهُ وَفِعْلَ مَا اعْتَقَدَهُ مُجْزِيًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ وَاسْتَمَرَّ بِهِ النِّسْيَانُ، وَمَنْ اعْتَقَدَ فِيمَا يَفْعَلُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ نَقُلْ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهِ لَكِنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ نَقُولُ لَمْ يُنْهَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِهِ أَيْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ بِمِثْلِ الْأَمْرِ بِفِعْلِ هَذَا الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ التَّعْيِينَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْفِعْلِ الْمُمَثَّلِ بِهِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا. بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهَا.

وَالْأَمْرُ إنَّمَا وَقَعَ بِحَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ دَرَاهِمُ فَوَفَّاهُ مَا يَعْتَقِدُ جَيِّدَةً فَظَهَرَتْ رَدِيئَةً. فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ نَقْدٌ مُطْلَقٌ وَكَوْنُهُ هَذَا النَّقْدَ أَوْ هَذَا النَّقْدَ تَعْيِينَاتٌ، يَتَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ لَا أَنَّ نَفْسَ ذَلِكَ التَّعْيِينِ وَاجِبٌ فَالْوَاجِبُ تَأْدِيَةُ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ، وَالتَّعْيِينَاتُ غَيْرُ مُنْهًى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَإِذَا قَضَاهُ دَرَاهِمَ فَعَلَ فِيهَا الْوَاجِبَ الَّذِي هُوَ الْمُطْلَقُ، وَاقْتَرَنَ بِهِ تَعْيِينٌ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَلَا يَضُرُّهُ، كَذَلِكَ الْمُصَلِّي أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِطَهَارَةٍ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ الْمُعَيَّنَةُ لَمْ يُؤْمَرْ بِعَيْنِهَا، بَلْ لَمْ يُنْهَ عَنْ عَيْنِهَا وَفِي عَيْنِهَا الْمُطْلَقُ الْمَأْمُورُ بِهِ. فَاقْتَرَنَ مَا أُمِرَ بِهِ بِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَةٍ فَالشَّارِعُ لَا يَنْهَاهُ عَنْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرْضَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ لَا أَنَّهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا بِطَهَارَةٍ غَيْرِ هَذِهِ جَازَ، فَإِذَا أَدَّاهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنَ لَمْ يَتَضَمَّنْ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَا تَضَمَّنَ أَيْضًا الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْمَقَامَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجُولُ فِي الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْهُ بَلَغَتْ بِهِ الشُّبُهَاتُ الْكَلَامِيَّةُ الَّتِي لَمْ يَصْحَبْهَا نُورُ

ص: 209

الْهِدَايَةِ، إلَّا أَنْ يَلْجَأَ إلَى رُكْنِ الِاتِّبَاعِ الصِّرْفِ، غَيْرَ جَائِلٍ فِي أُخْتَيْهِ وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ الرُّكْنُ الشَّدِيدُ وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، لَكِنْ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وَمَنْ حَقَّقَهُ انْجَلَتْ عَنْهُ الشُّبُهَاتُ الَّتِي عَدَّهَا قَاطِعَةً مَنْ خَالَفَ السَّابِقِينَ فِي تَعْمِيمِ التَّصْوِيبِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ وَرَدَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى إلَى ظُنُونِ الْمُسْتَدِلِّينَ، وَاعْتِقَادَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.

وَأَشْكَلَ مِنْ هَذَا إذَا أَوْجَبَ فِعْلَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ لِانْدِرَاجِهِ فِي قَضِيَّةٍ نَوْعِيَّةٍ، لَا لِنَفْسٍ بِعَيْنِهِ كَالْحَاكِمِ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ، يَعْتَقِدُ عَدْلَهُمَا فَيَقُولُ الْكَلَامِيُّ الظَّاهِرِيُّ الزَّاعِمُ التَّحْقِيقَ، الْحَاكِمُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ هَذَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَادِقَيْنِ أَوْ كَاذِبَيْنِ، وَإِذَا فَعَلَ هَذَا فَهُوَ فَاعِلٌ لِحُكْمِ اللَّهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ الْمَالَ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا غَلَطٌ، فَهَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْخَطَإِ هَذَا لَا يَكُونُ مِنْ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، لَكِنَّهُ لَا يَنْهَى عَنْ الْخَطَإِ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَبْدِ اجْتِنَابَ الْخَطَإِ يَشُقُّ عَلَى الْخَلْقِ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . بَلْ قَدْ يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْ اجْتِنَابِ الْخَطَإِ فَعَفَا عَنْ الْخَطَإِ كَمَا نَطَقَ بِهِ فِي كِتَابِهِ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي دَعَا بِهِ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ ".

وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ قَدْ فَعَلْت وَهُوَ قَوْلُهُ: {لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] .

فَإِنَّهُ إنَّمَا رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْخَطَإِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَمَرَ الْحَاكِمَ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ الْمَرْضِيِّ. كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ عَدْلٌ لَمْ يَنْهَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِعَيْنِهِ، فَيَجْتَمِعُ الْأَمْرُ بِالْحُكْمِ بِكُلِّ عَدْلٍ، وَعَدَمُ النَّهْيِ عَنْ هَذَا الْمُعَيَّنِ فَيَحْكُمُ بِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا عَلَى التَّعْيِينِ الَّذِي لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَكَانَ مَعْذُورًا فِي أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ فَهُوَ لَا يُؤَاخِذُهُ وَيُثِيبُهُ ثَوَابَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا ثَوَابَ مَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلِهَذَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ وَيُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَلَوْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أُمِرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَلَا ضَمَانًا.

يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ اعْتِقَادَهُ أَنَّ هَذَا عَدْلٌ هُوَ طَرِيقٌ يُؤَدِّي بِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا يُمْكِنُهُ غَيْرُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا مَالٌ فِي كِيسٍ. فَأَدَّاهُ وَقَدْ وَجَبَ أَدَاءُ عَيْنِهِ لَا لِوُجُوبِ عَيْنِهِ لَكِنْ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ زَيْفًا، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ

ص: 210

يَكُنْ طَرِيقًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ. كَذَلِكَ اعْتِقَادُ الْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ هُوَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَلَا دَاخِلًا فِي نَوْعِ الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا كَانَ خَطَأً.

فَإِنَّ اللَّهَ مَا أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِعَيْنِ هَذَا الِاعْتِقَادِ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَهَادَةَ الْعَدْلِ، وَلَا طَرِيقَ لَهُ فِي أَدَاءِ هَذَا الْأَمْرِ إلَّا بِاعْتِقَادِهِ، فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ الْعَمَلِ بِالِاعْتِقَادِ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الْمَأْمُورَ بِهِ، كَمَا لَا يُنْهَى الْقَاضِي عَنْ أَدَاءِ مَا فِي الْكِيسِ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مُطْلَقٌ لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ. كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُطْلَقِ. فَإِنَّ دَيْنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الْعَبْدِ، وَالدُّيُونُ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَمِ لَا تَثْبُتُ إلَّا مُطْلَقَةً. لَكِنَّهَا إذَا أُدِّيَتْ فَلَا تُؤَدَّى إلَّا مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً، فَإِنَّ مُعْتِقَ الرَّقَبَةِ لَا يُعْتِقُ إلَّا رَقَبَةً مُعَيَّنَةً، وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي لَا يُؤَدِّي إلَّا صَلَاةً مُعَيَّنَةً، وَهُوَ مُمْتَثِلٌ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْمُعَيَّنِ هَذَا هُوَ الْفَرْضُ، وَيُقَالُ لِلْمَالِ الْمُوَفَّى هَذَا حَقُّك الَّذِي كَانَ عَلَيَّ لِمَا بَيْنَ الصُّوَرِ الْمَعْقُولَةِ وَالْحَقِيقَةِ الْمُوجَدَةِ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالْمُطَابَقَةِ.

وَحَيْثُ كَانَ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ مِلْكِ الْمِثْلِ الْمَعْقُولَةِ الْمُطْلَقَةِ، كَمَا يُقَالُ فَعَلْتَ مَا كَانَ فِي نَفْسِي وَحَصَلَ الْأَمْرُ الَّذِي كَانَ فِي ذِهْنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ الْوَاجِبَ قَدْ يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَدْ لَا يَقْدِرُ فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى عِتْقِ عِدَّةِ رِقَابٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ بَدَلًا عَنْ الْأُخْرَى. وَكَمَا يَقْدِرُ الْمُتَوَضِّئُ عَلَى الصَّلَاةِ بِهَذَا الْوُضُوءِ وَبِوُضُوءٍ آخَرَ. وَيَقْدِرُ الْمَأْمُومُ عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ هَذَا الْإِمَامِ وَخَلْفَ إمَامٍ آخَرَ. فَيَكُونُ انْتِقَالُهُ مِنْ مُعَيَّنٍ إلَى مُعَيَّنٍ مُفَوَّضًا إلَى اخْتِيَارِهِ. لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُنْهَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعَيَّنَيْنِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فِيهِ بَيْنَ أَنْوَاعٍ كَالْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ إذَا تَعَيَّنَ بِالْأَدَاءِ، فَإِنَّ انْتِقَالَهُ فِي وُجُوبِ التَّخْيِيرِ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ هُوَ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْخِطَابَ الشَّرْعِيَّ سَمَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ، وَانْتِقَالَهُ فِي كُلِّ وَاجِبٍ مِنْ عَيْنٍ إلَى عَيْنٍ هُوَ بِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا نَهْيَ فِيهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا أُذِنَ فِيهِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ.

وَالثَّانِي: مِثْلُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ إلَّا هَذِهِ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ، وَبِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَا طَهُورَ إلَّا مَاءٌ فِي مَحَلٍّ، فَهُنَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ. لَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنَ. فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُوجِبْ إلَّا رَقَبَةً مُطْلَقَةً وَمَاءً مُطْلَقًا لَكِنْ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ إلَّا بِهَذَا الْمُعَيَّنِ فَصَارَ يَقِينُهُ لِعَجْزِ الْعَبْدِ عَنْ غَيْرِهِ. لَا لِاقْتِضَاءِ الشَّارِعِ لَهُ. فَلَوْ كَانَتْ

ص: 211

الرَّقَبَةُ كَافِرَةً، أَوْ الْمَاءُ نَجِسًا وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ، لَمْ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ قَطُّ، وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَلَكِنْ مَا أَمَرَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الرِّقَابِ وَالْمِيَاهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِعَجْزِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَأْمُورًا فِي الْبَاطِنِ، بِالِانْتِقَالِ إلَى الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ التُّرَابُ أَوْ الصِّيَامُ، لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ.

فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ: بِأَنَّ هَذَا طَهُورٌ أَتَى مِنْ الشَّارِعِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. قُلْنَا: أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَعَلَيْك أَنْ تَفْعَلَهُ وَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِهِ أَيْضًا. بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَقَدْ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا مُكَلَّفٌ بِالْبَاطِنِ، قُلْنَا: إنْ أَرَدْت بِالتَّكْلِيفِ أَنَّك تُذَمُّ وَتُعَاقَبُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَاطِنِ فَلَسْت بِمُكَلَّفٍ بِهِ.

وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْك وَتَرْكُهُ يَقْتَضِي ذَمَّك وَعِقَابَك، وَلَكِنَّ انْتِفَاءَ مُقْتَضَاهُ لِوُجُودِ عُذْرِك وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ، فَنَعَمْ أَنْتَ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّوْمِ؛ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ لَا لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ وَإِطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ، فَيَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ النَّجِسَ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا هُوَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِنَجَاسَتِهِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فِي الْبَاطِنِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا فِي الْبَاطِنِ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ تَأَدَّى بِهِ فَوُجُوبُ التَّعَيُّنِ مِنْ بَابِ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، وَلَوَازِمُ الْوَاجِبِ وَمُقَدِّمَاتُهُ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ وَاجِبَةً وُجُوبًا شَرْعِيًّا مَقْصُودًا لِلْأَمْرِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَطْلُبُهَا وَلَا يَقْصِدُهَا بِحَالٍ، وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهَا إذَا كَانَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَأْمُورُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا، فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ صَوْمِ النَّهَارِ لَا عَلَى تَرْكِ إمْسَاكِ طَرَفَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ، كَمَا يُعَاقَبُ ذُو الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ أَوْ أَقَلَّ، وَلَا يُعَاقَبُ أَكْثَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَرَكَ قَطْعَ تِلْكَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ. نَعَمْ يُثَابُ أَكْثَرُ وَقَدْ يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، لَكِنْ الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ الضَّرُورِيُّ،

ص: 212

فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ الْأَمْرِيِّ الْقَصْدِيِّ، وَبَيْنَ الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ الْوُجُودِيِّ الْقَدَرِيِّ.

فَإِنَّ الْمُسَبِّبَاتِ يَجِبُ وُجُودُهَا عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُهَا حِينَئِذٍ وَيَشَاءُ وُجُودَهَا لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا شَرْعًا وَدِينًا، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ كَالْقَتْلِ. لَيْسَ أَمْرًا بِمُسَبِّبَاتِهَا الَّذِي هُوَ الْإِزْهَاقُ، وَكَذَلِكَ الْأَسْبَابُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي وُجُودِ الْمُسَبِّبَاتِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحْدِثُ الْمُسَبِّبَاتِ وَيَشَاؤُهَا إلَّا بِوُجُودِ الْأَسْبَابِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَسْبَابِ شَرْعًا وَدِينًا، فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ مِمَّا هُوَ سَابِقٌ لَهُ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِوُجُودِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّارِعِ فِيهِ طَلَبٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّهُ يَجِبُ وُجُودُهُ وُجُوبًا عَقْلِيًّا إذَا امْتَثَلَ الْعَبْدُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ.

وَهُنَا قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ هَذَا السَّبَبَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا وَمِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ هَذَا وَاجِبٌ بِالْقَصْدِ الثَّانِي لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَأَنْتَ إذَا حَقَّقْت عَلِمْت أَنَّ هَذَا مِنْ نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ مِنْ فِعْلِهِ الْوَاجِبِ، كَالدَّاعِي إلَى الْهُدَى فَإِنَّ لَهُ أَجْرَ مَنْ اسْتَجَابَ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَالْوَلَدِ الصَّالِحِ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُضَافٌ إلَى أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ أَبِيهِ إنَّمَا هُوَ الْإِيلَاجُ الَّذِي قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَمَعَ هَذَا فَلَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَى انْتِفَاءِ الْآثَارِ وَاللَّوَازِمِ، كَذَلِكَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى فِعْلِ أَسْبَابِ الْعَمَلِ الْوَاجِبِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، كَالسَّيْرِ إلَى الْمَسْجِدِ وَإِلَى الْبَيْتِ وَالْعَدُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا تَرَكَهَا لَمْ يُعَاقِبْهُ إلَّا عَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، فَافْهَمْ مِثْلَ هَذَا فِي الْوَاجِبِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَائِهِ إلَّا بِهَذَا الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ إذَا فَعَلَهُ أَثَابَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يُعَاقِبْهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُهُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ، بِحَيْثُ تَكُونُ عُقُوبَتُهُ وَعُقُوبَةُ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ عِدَّةَ أَعْيَانٍ مِمَّا سِوَاهُ، أَوْ يَكُونُ هَذَا أَقَلَّ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ، وَإِذَا أَرَدْت عِبَارَةً لَا يُنَازِعُك فِيهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فَقُلْ هَذَا النَّجَسُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا الْمُعَيَّنُ لَيْسَ عَيْنُهُ مَقْصُودَةَ الْأَمْرِ، وَلَا هَذَا النَّجَسُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَقْصُودِ الْأَمْرِ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي لَمْ يَجِدْ إلَّا مَاءً وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ نَجَسًا، إذَا قِيلَ: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْحَقِيقَةِ بِاسْتِعْمَالِهِ كَالْأَمْرِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ.

فَإِذَا قُلْت: إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ، فَلَا نِزَاعَ مَعَك، وَإِذَا قُلْت

ص: 213

لَيْسَ بِمَأْمُورٍ لِانْتِفَاءِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ، فَقَدْ أَصَبْت الْغَرَضَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ اعْتَقَدَ الْحَاكِمُ عَدْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ لِلْمُدَّعِي إذَا جَاءَهُ بِذَوَي عَدْلٍ، ثُمَّ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى تَأْدِيَةِ هَذَا الْوَاجِبِ إلَّا بِاعْتِقَادِهِ فِيهِمَا الْعَدْلَ. فَتَعَيُّنِ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ فِي الْبَاطِنِ، كَتَعَيُّنِ ذَلِكَ الْمَاءِ النَّجَسِ فِي الْبَاطِنِ إذْ الِاعْتِقَادُ هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ مِنْ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، كَمَا أَنَّ الْمُعَيَّنَ هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ مِنْ وُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تَتَعَدَّدُ الِاعْتِقَادَاتُ كَمَا تَتَعَيَّنُ الْأَعْيَانُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا اعْتِقَادُ الْعَدْلِ فِيهِمَا فَالشَّارِعُ مَا أَمَرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ قَطُّ وَلَا أَمَرَ بِاعْتِقَادِ عَدْلِ هَذَا الشَّخْصِ وَلَا عَدْلِ غَيْرِهِ أَمْرًا مَقْصُودًا قَطُّ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ بِذَوَي عَدْلٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِاعْتِقَادٍ، فَصَارَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ الِاعْتِقَادِ كَوُجُوبِ إعْتَاقِ مُعَيَّنٍ مَا.

ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا اعْتِقَادُ عَدْلِ هَذَا الشَّاهِدِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا هَذَا الْمَاءُ وَهَذِهِ الرَّقَبَةُ ثُمَّ خَطَّأَهُ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي بِهِ يُؤَدِّي الْوَاجِبَ عَيْبٌ فِي هَذَا الْمُعَيَّنِ كَالْعَيْبِ فِي الْمَاءِ وَالرَّقَبَةِ. فَالتَّحْقِيقُ هُوَ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ مَأْمُورًا أَنْ يَحْكُمَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ فِي الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ وَلَا هُوَ مَأْمُورٌ بِشَيْءٍ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ أَمْرًا مَقْصُودًا. نَعَمْ هُوَ مَأْمُورٌ أَمْرًا لُزُومِيًّا بِاعْتِقَادِ عَدْلِ مَنْ ظَهَرَ عَدْلُهُ، وَمَأْمُورٌ ظَاهِرًا أَمْرًا مَقْصُودًا بِالْحُكْمِ بِمَنْ اعْتَقَدَ عَدْلَهُ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يُقَالُ فِي الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُخْطِئِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ إلَّا بِمَا قَدْ نَصَبَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ، فَصَارَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُنَزَّلِ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَلِدَلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُنَزَّلِ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُخْبِرُ مُخْطِئًا أَوْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ مُخَلَّفَةً فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِعَيْنِهَا فِي الْبَاطِنِ قَطُّ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِعَيْنِهَا فِي الظَّاهِرِ أَمْرًا لُزُومِيًّا مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ، هَلْ يُقَالُ لِلْمُخْطِئِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ يُقَالُ هُوَ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَّجَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ رِوَايَةً بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَهَذَا ضَعِيفٌ تَخْرِيجًا وَدَلِيلًا.

وَمَنْشَأُ تَرَدُّدِهِمْ أَنَّ وُجُوبَ اعْتِقَادِهِ لِمَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ هُوَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ

ص: 214

الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُ دَلِيلِهِ اعْتِقَادُ مُوجَبِهِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ عَدْلًا فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ظَاهِرًا، وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِمُصِيبٍ فِي الْحُكْمِ قَالَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ اتِّبَاعِ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ هُوَ لِلْوُجُوبِ اللُّزُومِيِّ الْعَقْلِيِّ دُونَ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ الْمَقْصُودِ، وَإِلَّا فَالْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ هُوَ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَتَى مِنْ جِهَةِ عَجْزِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافِ دَلِيلُهُ، فَإِنَّ مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ أَفْتَى بِهِ تَارَةً يَكُونُ الْمُحَدِّثُ لَهُ عَدْلًا حَافِظًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ فَهُنَا لَمْ يُؤْتَ مِنْ جِهَةِ نَظَرِهِ بَلْ دَلِيلُهُ أَخْلَفَ، وَتَارَةً يَعْتَقِدُ هُوَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ ثِقَةٌ، وَلَا يَكُونُ ثِقَةً فَهُنَا اعْتِقَادُهُ خَطَأٌ، لِكَوْنِهِ دَلِيلًا غَيْرَ مُطَابِقٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ لِدَلِيلٍ اقْتَضَى ثِقَتَهُ، فَإِنَّ خَطَأَ هَذَا الدَّلِيلِ كَخَطَإِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ.

فَالْأَوَّلُ: حَكَمَ بِدَلِيلٍ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِ، لَكِنَّ اللَّهَ سَلَبَ دَلَالَتَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ هَذَا عَلَى الْعِلْمِ السَّالِبِ، وَهَذَا كَالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَةٍ قَدْ نُسِخَتْ لَمْ يَعْلَمْ بِنَسْخِهَا، وَالثَّانِي حَكَمَ بِمَا اعْتَقَدَ دَلِيلًا وَلَمْ يَكُنْ دَلِيلًا، بَلْ قَامَ عِنْدَهُ مَا ظَنَّ كَوْنَهُ دَلِيلًا، كَمَا لَوْ كَانَ اللَّفْظُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَاعْتَقَدَهَا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَجَعَلَهُ عَامًّا، وَكَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ، أَوْ كَانَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي لُغَتِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَعْنًى إلَّا مَا فِي لُغَتِهِ، فَهَذَا حَكَمَ بِمَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا أَصْلًا، لَكِنَّهُ اعْتَقَدَ دَلَالَتَهُ فَالْأَوَّلُ حَكَمَ بِمُقْتَضًى عَارَضَهُ مَانِعٌ لَمْ يَعْلَمْهُ.

وَالثَّانِي: بِمَا لَيْسَ بِمُقْتَضًى لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُقْتَضًى، وَالْأَوَّلُ فِي اتِّبَاعِهِ لِلدَّلِيلِ، كَالْمُسْتَفْتِي فِي اتِّبَاعِهِ قَوْلَ مَنْ هُوَ مُفْتٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَفْتِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الثَّانِي أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ وَفِي اعْتِقَادِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ.

وَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ لِلْمُجْتَهِدِ: أُولَاهَا: اقْتِصَارُهُ بِحُكْمِ اللَّهِ. الثَّانِيَةُ: اجْتِهَادُهُ وَهُوَ اسْتِنْطَاقُ الْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِمَاعِ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَتَارَةً

ص: 215

يَعْتَقِدُ الْمَجْرُوحَ عَدْلًا فَيَكُونُ قَدْ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ الْعَدْلُ قَدْ أَخْطَأَ فَيَكُونُ دَلِيلُهُ قَدْ أَخْطَأَ لَا هُوَ. الثَّالِثَةُ: اعْتِقَادُهُ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَدِلَّةُ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ الشُّهُودُ، وَلِهَذَا إذَا تَبَيَّنَ كُفْرَ الشُّهُودِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَاكِمِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ غَلَطُهُمْ بِرُجُوعِهِمْ مَثَلًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ الدَّلِيلُ صَحِيحًا وَالشَّاهِدُ عَدْلًا كَانَ مَأْمُورًا فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَحْكُمَ بِعَيْنِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ فَاسِدًا وَالشَّاهِدُ فَاسِقًا وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا عَدْلًا فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ كَمَنْ رَأَى مَنْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَقَتَلَهُ فَكَانَ مُسْلِمًا.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اخْتَلَفَتْ فَأَخَذَ الرَّجُلُ بِأَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ إذَا أَخَذَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ آخَرُ بِحَدِيثٍ ضِدِّهِ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَأْخُذَ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ، وَلَا يَقُولَ لِمَنْ خَالَفَهُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ إذَا أَخَذَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيمَا أَخَذْت بِهِ أَنَا وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحِيحَةً، فَأَخَذَ بِهَا رَجُلٌ وَأَخَذَ آخَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحْتَجَّ بِالشَّيْءِ الضَّعِيفِ، كَانَ الْحَقُّ فِيمَا أَخَذَ بِهِ الَّذِي احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَخْطَأَ الْآخَرُ فِي التَّأْوِيلِ، مِثْلُ لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ السَّلْمَانِيِّ، قَالَ فَهَذَا عِنْدِي مُخْطِئٌ وَالْحَقُّ مَعَ مَنْ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ رُدَّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّحِيحِ، وَإِذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ، وَاحْتَجَّ بِهِ رَجُلٌ أَوْ حَاكِمٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَدْ أَخْطَأَ التَّأْوِيلَ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ رُدَّ إلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ آخَرُ عَنْ رَجُلٍ آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، وَهَكَذَا قَالَ عُمَرُ وَاَللَّهِ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، وَلَوْ كَانَ حَكَمَ بِحُكْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ مَا يَدْرِي عُمَرُ أَخْطَأَ أَمْ أَصَابَ، وَلَكِنْ إنَّمَا كَانَ رَأْيًا مِنْهُ.

ص: 216

قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ آخَرُ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ كَانَ الْحَقُّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ كَانَ تَأْوِيلُهُ خَطَأً. وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ، وَلَوْ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ فِي الْمُفْلِسِ أَنَّهُ أَسْبَقُ الْغُرَمَاءِ

إذَا وَجَدَ رَجُلٌ عَيْنَ مَالِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ آخَرَ، فَذَهَبَ إلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُدَّ لِحُكْمِ هَذَا الْحَاكِمِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ أَنْ لَا يُرَدَّ إذَا اعْتَدَلَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا لَا يُرَدُّ أَوْ يَخْتَلِفُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ رَجُلٌ بِبَعْضِ قَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَهَذَا لَا يُرَدُّ أَوْ يَخْتَلِفُ عَنْ التَّابِعِينَ، فَأَخَذَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ فَهَذَا لَا يُرَدُّ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ بِقَوْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ، فَهَذَا يُرَدُّ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِجَوْرٍ وَتَأَوُّلٍ وَذَكَرَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَنْ عَمِلَ خِلَافَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ خِلَافَ السُّنَّةِ رُدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فُنُونَ الِاخْتِلَافِ وَقَسَّمَهُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَارَضَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ. الثَّانِي: أَنْ يُعَارِضَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. الثَّالِثُ: أَنْ يُعَارِضَ قَوْلَ صَاحِبٍ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ بَلْ اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ فَأَخَذَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ. الْخَامِسُ: أَنْ يَأْخُذَ بِالْقَوْلِ الثَّالِثِ أَوْ الثَّانِي الَّذِي أُحْدِثَ بَعْدَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ خَالَفَ النَّصَّ الصَّحِيحَ لِقَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَوْ

ص: 217

تَرَكَ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ الَّتِي هِيَ إجْمَاعٌ أَوْ كَالْإِجْمَاعِ إلَى قَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الدَّلِيلَ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إلَى مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَأَمَّا إذَا تَعَارَضَ النَّصَّانِ أَوْ فُقِدَا وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فَهُنَا يَجْتَهِدُ فِي الرَّاجِحِ وَلَا يَرُدُّ حُكْمَ مَنْ حَكَمَ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ تَرَاجِيحَ الْأَدِلَّةِ أَوْ اسْتِنْبَاطَهَا عِنْدَ خَفَاهَا هُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِخَطَإِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَحَدِ النَّصَّيْنِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ.

وَعِنْدَ خَفَاءِ الْأَدِلَّةِ قَالَ لَا أَدْرِي أَصَابَ الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأَ، وَهَذَا تَحْقِيقٌ عَظِيمٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ دَلِيلٌ قَطْعًا لَكِنْ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْآخَرِ لَهُ هَلْ سُلِبَتْ دَلَالَتُهُ أَمْ لَمْ تُسْلَبْ، هَذَا مَحَلُّ تَرَدُّدٍ، فَإِنْ اعْتَقَدَ رُجْحَانَهُ اعْتَقَدَ بَقَاءَ دَلَالَتِهِ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ لَمْ يُثْبِتْ سَلْبَ دَلَالَتِهِ فَصَارَ إنْ كَانَ الْحَقُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ كَالتَّمَسُّكِ بِالنَّصِّ الَّذِي نُسِخَ وَلَمْ يَعْلَمْ نَسْخَهُ فَلَا يَحْكُمُ عَلَى مُخَالِفِهِ بِالْخَطَإِ.

كَمَا لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَصًّا وَقَدْ اجْتَهَدَ فَقَدْ يَكُونُ مَا اعْتَمَدَهُ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ بِالرَّأْيِ تَأْوِيلًا وَقِيَاسًا لَيْسَ بِدَلِيلٍ. فَلَا نَدْرِي أَنَّهُ أَصَابَ كَالْمُتَمَسِّكِ بِدَلِيلٍ أَمْ لَمْ يُصِبْ فَتَحَرَّرْ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَ الْمُصِيبُ إلَّا وَاحِدًا.

وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَلَا نَحْكُمْ بِالْخَطَإِ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَلَا نَحْكُمْ بِالصَّوَابِ لِمَنْ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ خَيْرٌ مِنْ إطْلَاقِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ الْخَطَأَ فِي الْحُكْمِ مُطْلَقًا، وَإِطْلَاقِ بَعْضِهِمْ الْإِصَابَةَ فِي الْحُكْمِ مُطْلَقًا. وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، بَلْ قَالَ لَا يُقَالُ إنَّهُ مُخْطِئٌ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُخْطِئٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي اسْتِدْلَالِهِ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ هَلْ يُعْطَى أَجْرًا وَاحِدًا عَلَى اجْتِهَادِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ أَوْ عَلَى مُجَرَّدِ قَصْدِهِ الْحُكْمَ. وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال صَحِيحًا وَلَا يُصِيبُ الْحَقَّ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ وَتَارَةً لَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ: بَلْ دَلِيلُهُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا خِلَافَهُ فَيُثَابُ تَارَةً عَلَى الْأَمْرَيْنِ وَتَارَةً عَلَى أَحَدِهِمَا، كَذَلِكَ يَكُونُ الْحَقُّ سَوَاءً فَيَكُونُ تَحْقِيقُهُ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إنْ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَكَانَ مُخَالِفًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَّبِعَهُ؛ وَاتِّبَاعُهُ لَهُ صَوَابٌ؛ وَاعْتِقَادُ مُوجَبِهِ

ص: 218

فِي هَذِهِ الْحَالِ لَازِمٌ مِنْ اتِّبَاعِهِ؛ وَهُوَ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَذَا اللَّازِمِ؛ لَكِنَّهُ لَازِمٌ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ وَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا؛ وَيَعُودُ أَيْضًا إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِن وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي الْوَاجِبِ إذَا تَعَيَّنَ وَأَمَّا مَا وَجَبَ مُطْلَقًا، وَيُنَادِي بِأَعْيَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَوْ أُبِيحَ فَالْقَوْلُ فِي إبَاحَتِهِ كَالْقَوْلِ فِي إيجَابِ هَذَا سَوَاءٌ وَفِي خِلَافِهِمَا يَدْخُلُ الْعَفْوُ، فَيُقَالُ هَذَا الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ أَوْ الْمُبَاحَ كِلَاهُمَا يُعْفَى عَنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَاعِلًا لِوَاجِبٍ وَلَا لِمُبَاحٍ وَإِنَّمَا يَتَلَخَّصُ هَذَا الْأَصْلُ الَّذِي اضْطَرَبَ فِيهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَاضْطِرَابُهُمْ فِيهِ تَارَةً يَعُودُ إلَى إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ وَتَارَةً إلَى مُلَاحَظَةٍ عَقْلِيَّةٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَتَارَةً يَعُودُ إلَى أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ وَإِلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِأَنْ نَتَكَلَّمَ عَلَى مَقَامَاتِهِ مَقَامًا مَقَامًا كَلَامًا مُلَخَّصًا.

وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ: هَلْ لِلَّهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ تَنْزِلُ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لِلَّهِ قِبْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ هِيَ الْكَعْبَةُ، وَهِيَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. فَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: أَنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا إمَّا الْوُجُوبُ أَوْ التَّحْرِيمُ أَوْ الْإِبَاحَةُ مَثَلًا. أَوْ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فِيمَا قَدْ سَمَّيْنَاهُ عَفْوًا؛ لَكِنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ يُسَمُّونَ هَذَا الْأَشْبَهَ وَلَا يُسَمُّونَهُ حُكْمًا، وَهُمْ يَقُولُونَ: مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ، لَكِنْ لَوْ حَكَمَ لَمَا حَكَمَ إلَّا بِهِ. فَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ بِالْقُوَّةِ، وَحَدَثَ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ زَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ حَقٌّ مُعَيَّنٌ هُوَ مَطْلُوبُ الْمُسْتَدِلِّينَ إلَّا فِيمَا فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ يَتَمَكَّنُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَأَمَّا مَا فِيهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَدِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَحُكْمُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا ظَنَّهُ وَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الظَّنِّ كَتَرَتُّبِ اللَّذَّةِ عَلَى الشَّهْوَةِ، فَكَمَا أَنَّ كُلَّ عَبْدٍ يَلْتَذُّ بِدَرْكِ مَا نَشْتَهِيهِ، وَتَخْتَلِفُ اللَّذَّاتُ بِاخْتِلَافِ الشَّهَوَاتِ، كَذَلِكَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ حُكْمُهُ مَا ظَنَّهُ وَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِاخْتِلَافِ الظُّنُونِ، وَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عَلَى الظُّنُونِ أَدِلَّةٌ كَأَدِلَّةِ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ النَّاسِ وَعَادَاتُهُمْ وَطِبَاعُهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ يَكَادُ فَسَادُهُ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فَلَا تُنْزِلُهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ» ، وَقَوْلُهُ لِسَعْدٍ «لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ

ص: 219

أَرْقِعَةٍ» ، وَقَوْلُ سُلَيْمَانَ اللَّهُمَّ أَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك كُلَّهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى فَسَادِهِ.

الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ دَلِيلًا. فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَيْهِ دَلِيلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ.

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ فِي كِتَابِهِ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوبَةِ لِبَيَانِ حُكْمِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَلَزِمَ أَنَّ الْأُمَّةَ تُجْمِعُ عَلَى الْخَطَإِ إنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ، أَوْ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ تَخْمِينًا وَالْقَائِلُونَ بِالْأَشْبَهِ أَوْ بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ يَحْكُمُ بِالْفِعْلِ حَتَّى يَجِبَ نَصْبُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مُبْهَمًا وَيَتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ تَخْمِينًا وَاتِّفَاقًا.

الْمَقَامُ الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ هَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ أَوْ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ الظَّنَّ وَيُسَمَّى الِاعْتِقَادُ. فَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مَنْ يَقُولُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُفِيدُ الْيَقِينَ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤَثِّمُ مُخَالِفَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَرُبَّمَا فَسَّقَهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤَثِّمُهُ وَلَا يُفَسِّقُهُ وَقَدْ يُؤَثَّمُ وَلَا يُفَسَّقُ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دَلِيلٌ يُفِيدُ الِاعْتِقَادَ الرَّاجِحَ الَّذِي يُسَمَّى الظَّنَّ الْغَالِبَ، وَقَدْ يُسَمَّى الْعِلْمَ الظَّاهِرَ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَقِينِيٌّ وَتَارَةً لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ يَقِينًا وَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفًا فِيهَا لَا يَمْنَعُ أَنَّ دَلِيلَهَا يَكُونُ يَقِينًا، وَيَكُونُ مَنْ خَالَفَهُ لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْهُ أَوْ ذُهِلَ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ يُفِيدُ اعْتِقَادًا قَوِيًّا غَالِبًا يُسَمَّى أَيْضًا يَقِينًا، وَإِنْ كَانَ تَجْوِيزُ نَقِيضِهِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ نَقْضُ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَوَازُ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِالْقَوْلِ الْمُعَيَّنِ، وَالِائْتِمَامِ بِمَنْ أَخَلَّ بِفَرْضٍ فِي مَذْهَبِ الْمَأْمُورِ وَتَعْيِينِ الْمُخْطِئِ وَالتَّغْلِيظِ عَلَى الْمُخَالِفِ.

الْمَقَامُ الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ الْيَقِينِيَّةَ أَوْ الِاعْتِقَادِيَّةَ. لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا بَعْضُ الْأُمَّةِ لِئَلَّا تَكُونَ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى الْخَطَإِ، وَلَا يَحْصُلُ مُقْتَضَاهُ إلَّا لِمَنْ بَلَغَتْهُ وَنَظَرَ فِيهَا، فَمَنْ يَبْلُغُهُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا قُصُورٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِمَا هُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَوْلَا مُعَارَضَةُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ كَالْمُتَمَسِّكِ بِالْعَامِّ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَخْصِيصُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِحَقٍّ فِي

ص: 220

الْبَاطِنِ، لَكِنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ نَسَخَتْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ، فَهَلْ يُقَالُ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مُصِيبٌ أَوْ مُخْطِئٌ. أَوْ مُصِيبٌ مِنْ وَجْهٍ مُخْطِئٌ مِنْ وَجْهٍ، أَوْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صَوَابٌ وَلَا خَطَأٌ، وَهَلْ يُقَالُ فَعَلَ مَا وَجَبَ أَوْ مَا لَمْ يَجِبْ. أَوْ مَا أُبِيحَ أَوْ مَا لَمْ يُبَحْ هَذَا الْمَقَامُ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ أَكْثَرُ شُعَبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَيْهِ الْخَطَأَ فِي الْبَاطِنِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مَعْذُورٌ بَلْ مَأْجُورٌ.

وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّسْخَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ إذَا بَلَغَهُ الرَّسُولُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمُكَلَّفِ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَالضَّمَانِ إذَا بَلَغَهُ لَا بِمَعْنَى التَّأْثِيمِ، وَيَقُولُ إنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ الْمَنْسُوخَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ لَا تَجِبُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَهَا فِي زَمَانِنَا إذَا كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ وَإِنْ سَمَّيْتَهُ مُخْطِئًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ الْخَطَأَ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِدَلِيلٍ لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ دَلِيلًا وَعَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالنَّفْيِ دُونَ الْمُسْتَصْحِبِ لِلْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَا حَكَمَ بِمُوجَبِ دَلِيلٍ قَطُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ الْخَطَأَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ.

وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ عُمُومًا أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ وَفِي الْحُكْمِ، هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي لَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْبَلَاغِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ بِمُخْطِئٍ فِي الْحُكْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، حَكَى هَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي الْخَطَإِ فِي الْحُكْمِ رِوَايَتَيْنِ، وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالصَّحِيحُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْبَاطِنِ حَكَمَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ مُصِيبٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، أَوْ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ دُونَ اعْتِقَادِهِ، أَوْ مُصِيبٌ إصَابَةً مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً بِمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ الْإِيجَابِ وَالتَّحَرِّي لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ اعْتَقَدَهُ عَامًّا هَذَا فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ «أَنَّ الْحَاكِمَ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ لَهُ أَجْرٌ وَالْمُصِيبَ أَجْرَانِ» ، وَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَصَابَ حُكْمَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكَانَا سَوَاءً، وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْمُفْتِي إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ النَّصَّ بِخِلَافِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ» . وَلَمَّا قَالَ «لِسَعْدٍ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ» ، إنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ يَحْكُمُ بِحُكْمِ اللَّهِ

ص: 221

وَارْتِفَاعِ اللَّوْمِ بِحَدِيثِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَحَدِيثِ الْحَاكِمِ.

الْمَقَامُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ هَلْ يُفِيدُ مَدْلُولُهَا لِكُلِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا نَظَرًا صَحِيحًا، مِنْ النَّاسِ مَنْ يُطْلِقُ ذَلِكَ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، وَهَذَا يُوَافِقُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الظَّنِّيَّةَ لَيْسَتْ أَدِلَّةً حَقِيقَةً، وَالصَّوَابُ أَنَّ حُصُولَ الِاعْتِقَادِ بِالنَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأَدِلَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ مِنْ ذَكَاءٍ وَصَفَاءٍ وَزَكَاةٍ وَعَدَمِ مَوَانِعَ.

وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَقِبَيْهَا مُرَتَّبٌ عَلَى شَيْئَيْنِ. عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَدِلَّةٍ، وَعَلَى مَا فِي النَّظَرِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الْمُسْتَدِلَّةُ تَخْتَلِفُ كَمَا تَخْتَلِفُ قُوَى الْأَبْدَانِ، فَرُبَّ دَلِيلٍ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْعَقْلِ الثَّاقِبِ أَفَادَهُ الْيَقِينَ.

وَذُو الْعَقْلِ الَّذِي دُونَهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْهَمَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُفِيدَهُ يَقِينًا، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ فَإِنَّ قَضَايَاهَا يَقِينِيَّةٌ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ فَهْمَ ذَلِكَ. فَعَدَمُ مَعْرِفَةِ مَدْلُولِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِأَنْ يَكُونَ لِعَجْزِ الْعَقْلِ وَقُصُورِهِ فِي نَفْسِ الْخِلْقَةِ وَتَارَةً لِعَدَمِ تَمَرُّنِهِ وَاعْتِيَادِهِ لِلنَّظَرِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ عَجْزَ الْبَدَنِ عَنْ الْحَمْلِ قَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ الْخِلْقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الْإِدْمَانِ وَالصَّنْعَةِ، وَتَارَةً قَدْ يُمْكِنُهُ الْإِدْرَاكُ بَعْدَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ يَسْقُطُ مَعَهَا التَّكْلِيفُ، كَمَا يَسْقُطُ الْقِيَامُ فِي الصَّلَاةِ عَنْ الْمَرِيضِ، وَتَارَةً يُمْكِنُهُ بَعْدَ مَشَقَّةٍ لَا يَسْقُطُ مَعَهَا التَّكْلِيفُ، كَمَا لَا يَسْقُطُ الْجِهَادُ بِالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَتَارَةً يُمْكِنُ ذَلِكَ بِلَا مَشَقَّةٍ لَكِنْ تَزَاحَمَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَاجِبَاتٌ فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِهَذَا أَوْ قَصُرَ زَمَانُهُ عَنْ النَّظَرِ فِي هَذَا، وَتَارَةً يَكُونُ حُصُولُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ فِي الْقَلْبِ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ نَظِيرًا لَكِنَّهُ غَامِضٌ، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا لَكِنْ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يَقَعُ التَّفَاوُتُ بِالْفَهْمِ، فَقَدْ يَتَفَطَّنُ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ لِدَلَالَةٍ لَوْ لَحَظَهَا الْآخَرُ لَأَفَادَتْهُ الْيَقِينَ، لَكِنَّهَا لَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ، فَإِذًا عَدَمُ وُصُولِ الْعِلْمِ بِالْحَقِيقَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْبَلَاغِ، وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْفَهْمِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ قَدْ يَكُونُ لِعَجْزٍ وَقَدْ يَكُونُ لِمَشَقَّةٍ.

فَيَفُوتُ شَرْطُ الْإِدْرَاكِ، وَقَدْ يَكُونُ لِشَاغِلٍ أَوْ مَانِعٍ فَيُنَافِي الْإِدْرَاكَ، وَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبَيْنِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ وَهُوَ الدَّلِيلُ وَسَبَبٍ مُتَّصِلٍ وَهُوَ الْعِلْمُ بِالدَّلِيلِ، وَالْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا يَفْهَمُ الدَّلِيلَ، وَالنَّظَرُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْفَهْمِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ قَدْ تَحْصُلُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي أَقَلَّ مِنْ لَحْظِ الطَّرْفِ

ص: 222

وَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الشَّيْءُ ثُمَّ يَطْلُبُ دَلِيلًا يُوَافِقُ مَا فِي قَلْبِهِ لِيَتَّبِعَهُ، وَمَبَادِئُ هَذِهِ الْعُلُومِ أُمُورٌ إلَهِيَّةٌ خَارِجَةٌ عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105] ، فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الدَّلِيلُ مَنْصُوبًا لَكِنْ لَمْ يَسْتَدْرِكْ بِهِ الْمُكَلَّفُ لِقُصُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ يُعْذَرُ فِيهِ لِعَجْزٍ أَوْ مَشَقَّةٍ أَوْ شُغْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتَّفَقَ مَنْ قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّ الْبَاقِينَ لَمْ يُصِيبُوا الْحَقَّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ أَخْطَأَ هُنَا أَظْهَرُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الِاجْتِهَادِ هُنَا أَكْثَرُ. بَلْ غَالِبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِقِلَّةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْتِشَارِ النُّصُوصِ.

الْمَقَامُ السَّادِسُ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَاذَا؟ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَإِصَابَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُهُ لَا إصَابَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ سَوَاءٌ كَانَ مُطَابِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَحَظَ جَانِبًا، وَجَمْعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إصَابَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الظَّاهِرِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَعْجِزُ مَعَهُ النَّاظِرُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الطَّلَبِ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فَادِحَةً وَمِقْدَارًا غَيْرَ مَضْبُوطٍ، وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ فِي الْفَتْوَى بِالِاجْتِهَادِ كَثِيرًا وَيَخْشَوْنَ اللَّهَ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُعْذَرُونَ مَعَهَا وَمِقْدَارَ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُمْ الْقَوْلَ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ فَلَوْ أَصَابَ الْحُكْمَ بِلَا دَلِيلٍ رَاجِحٍ فَقَدْ أَصَابَ الْحُكْمَ وَأَخْطَأَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ.

وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْحَقِّ هُوَ الرَّاجِحُ، لَكِنْ يَعْجِزُ عَنْ دَرْكِهِ وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ دَلِيلًا، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالدَّلِيلُ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ حَقِيقَةً عَلَى الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ كَمَا يَجُوزُ خَطَأُ الشَّاهِدِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَيَظْهَرَ لَهُ غَيْرُهُ.

الْمَقَامُ السَّابِعُ: إذَا كَانَتْ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا مُعَارِضَ لَهَا أَصْلًا لَكِنَّهَا مُخَلَّفَةٌ فَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا خَطَأً فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ لَا فِي أَنْوَاعِهَا، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ كَانَا مُخْطِئَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ كَالشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ قَطَعَ عَلِيٌّ رضي الله عنه السَّارِقَ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَا أَخْطَأْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُنَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، لَا يَكُونُ هَذَا خَطَأً بِحَالٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَ

ص: 223

الْمَالَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فِي الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ وَإِنَّمَا أُدْخِلَ فِيهِ مَنْ أَخْطَأَ الْحُكْمَ النَّوْعِيَّ.

وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: بَلْ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَإِ الْمَغْفُورِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِالتَّمَسُّكِ بِالْمَنْسُوخِ قَبْلَ الْبَلَاغِ أَوْ بِالدَّلَالَةِ الْمُعَارَضَةِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمُعَارِضِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْحَاكِمَ بِقَبُولِ هَذَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ كُلِّ عَدْلٍ فَدَخَلَا فِي الْعُمُومِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَرُدَّ شَهَادَةً بِاللَّفْظِ الْعَامِّ هَذَا الْمُعَيَّنِ، لَكِنَّهُ يَعْذِرُ الْحَاكِمَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ يَعْلَمُ بِهِ عَدَمَ إرَادَةِ هَذَا الْمُعَيَّنِ، فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَا مِنْ صُورَةٍ تُفْرَضُ إلَّا وَتَخْرُجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ، فَإِنَّ مِنْ الْأُصُولِ الْمُكَرَّرَةِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ حَكَمَ بِنَصٍّ عَامٍّ. كَانَ عَاجِزًا عَنْ دَرْكِ مُخَصِّصِهِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُخَصِّصُ بَعْدَ ذَلِكَ نُقِضَ حُكْمُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضَ الْإِدْرَاكَ مُبْعَدًا، وَهَذَا «أَبُو السَّنَابِلِ أَفْتَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ بِأَنْ تَعْتَدَّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا اسْتِعْمَالًا لِآسَى الْمَوْتِ وَالْحَمْلِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ» ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ كَانَ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِظُهُورِهِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَهُمَا مِمَّنْ لَا يُشَكُّ فِي وُفُورِ فَهْمِهِمَا وَدِينِهِمَا قَدْ أَفْتَيَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَبَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَخْطَأَ. فَعُلِمَ إطْلَاقُ الْخَطَإِ عَلَى مَنْ اجْتَهَدَ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ خِطَابٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ أَبُو السَّنَابِلِ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ إمَّا لِقُصُورِهِ أَوْ لِتَقْصِيرِهِ. حَيْثُ اجْتَهَدَ مَعَ قُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَهَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ بِجُمْلَةِ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِ مَعْذُورًا إمَّا لِعَجْزِهِ عَنْ سَمَاعِ الْخِطَابِ، أَوْ عَنْ فَهْمِهِ، أَوْ مَشَقَّةِ أَحَدِ هَذَيْنِ أَوْ لِعَدَمِ تَيْسِيرِ اللَّهِ أَسْبَابَ ذَلِكَ. أَوْ لِعَارِضٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَقِّ الْبَاطِنِ، وَلَا يُوجِبُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي فَعَلَهُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ بِعَيْنِهِ أَوْ أَبَاحَهُ بِعَيْنِهِ، بَلْ أَوْجَبَ أَمْرًا مُطْلَقًا أَوْ أَبَاحَ أَمْرًا مُطْلَقًا، وَالْمُجْتَهِدُ مَعْذُورٌ بِاعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ.

فَإِذًا مَنْشَأُ الْخَطَإِ إدْخَالُ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ عَلَى وَجْهٍ قَدْ لَا يَكُونُ

ص: 224

لِلْمُجْتَهِدِ مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ. وَغَايَةُ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الْإِلْزَامُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَأْمُورٌ فِي الْبَاطِنِ بِمَا لَا يُطِيقُهُ، وَهَذَا سَهْلٌ هُنَا. فَإِنَّ الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ لَا يَأْمُرُ اللَّهُ الْعَبْدَ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ إذَا شَاءَهُ وَأَمَّا أَمْرُهُ بِمَا لَا يَشَاءَهُ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا حَقٌّ، وَإِذَا كَانَ أَمَرَهُ بِمَا مَشِيئَتُهُ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَةِ غَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ يَأْمُرُهُ بِمَا مَعْرِفَتُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِهِ، إذْ الْعِلْمُ وَاقِعٌ فِي الْقَلْبِ قَبْلَ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ مَا يُعْذَرُ فِيهَا الْمُخْطِئُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُعْذَرُ، وَهَذَا فَصْلٌ مُعْتَرِضٌ اقْتَضَاهُ الْكَلَامُ لِتَعَلُّقِ أَبْوَابِ الْخَطَإِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ فَهَذَا الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ مَفْعُولُهُ عَمَّا فَعَلَهُ مِنْ وَطْءٍ وَانْتِفَاعٍ، وَهَذَا الْوَطْءُ وَالِانْتِفَاعُ عَفْوٌ فِي حَقِّهِ، لَا حَلَالٌ حِلًّا شَرْعِيًّا وَلَا حَرَامٌ تَحْرِيمًا شَرْعِيًّا، وَهَكَذَا كُلُّ مُخْطِئٍ، وَلَكِنْ هُوَ فِي عَدَمِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ يَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاحِ الشَّرْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي أَنَّ رَفْعَ أَحَدِهِمَا نَسْخٌ لَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسْخُ وَرَفْعُ الْآخَرِ ابْتِدَاءً تَحْرِيمٌ أَوْ إيجَابٌ ثَبَتَ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمُبْتَدَأَةُ، وَأَنْ يَضْمَنَ رَفْعَ الِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ، وَهَذَا حَرَّمْنَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْيَاءَ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ. كَمَا عَهِدَهُ إلَيْنَا صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا لِقَوْلِهِ:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ إذْ هَذِهِ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى وَلَمْ تُثْبِتْ حِلَّ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى، وَبَيْنَ نَفْيِ التَّحْرِيمِ وَإِثْبَاتِ الْحِلِّ مَرْتَبَةُ الْعَفْوِ وَرَفْعُ الْعَفْوِ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] وَالْمَائِدَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَنْعَامِ بِسِنِينَ، فَلَوْ كَانَتْ آيَةُ الْأَنْعَامِ تَضَمَّنَتْ مَا سِوَى الْمُسْتَثْنَى مَا قَيَّدَ الْحِلَّ بِقَوْلِهِ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] .

وَمَنْ فَهِمَ هَذَا اسْتَرَاحَ مِنْ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مِثْلُ كَوْنِ آيَةِ الْأَنْعَامِ وَارِدَةً عَلَى سَبَبٍ فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِ أَوْ مُعَرَّضَةً لِلتَّخْصِيصِ، وَمِثْلُ كَوْنِهَا مَنْسُوخَةً نَسْخًا شَرْعِيًّا بِالْأَحَادِيثِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ أَوْ الصَّحِيحِ مُطْلَقًا، وَلَقَدْ نَزَلَ هُنَا مُسْتَدِلًّا وَمُسْتَشْكِلًا، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْعَامِ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا. وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى غَيْرِ مَحَلٍّ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَنْكِحُ بَاطِلًا بَاطِنًا

ص: 225

غَيْرَ مُقَيِّدٍ لِلْحِلِّ بَاطِلًا، وَأَنَّ الِانْتِفَاعَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِهِ لَيْسَ هُوَ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَفَا اللَّهِ عَنْهُ، فَمَا دَامَ مُسْتَصْحِبًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْت، فَإِنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَحُكْمُهُ مَعْرُوفٌ إنْ كَانَ نِكَاحًا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَالْوَطْءُ فِيهِ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ وَالنَّسَبِ وَإِدْرَاءِ الْحَدِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ إرْثٌ وَلَا جَوَازُ اسْتِدَامَةٍ وَهَلْ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَيَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ أَوْ تَجِبُ فِيهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَيُوجِبُ الْإِحْدَادَ - فِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ. عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.

إذَا عُرِفَ هَذَا فَمَسْأَلَةُ التَّحْلِيلِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ إنَّمَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ وَلِيُّهَا بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَةٌ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْمَعِيبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ لَجَازَ الْعَقْدُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْخَلَلَ هُنَا لَمْ يَقَعْ فِي أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ، وَلَا فِي مَحَلِّيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الَّذِي يَعْلَمُ أَحَدُهُمَا بِإِفْسَادِهِ لِلْعَقْدِ دُونَ الْآخَرِ، نَعَمْ الْجَهْلُ هُنَاكَ هُوَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ النَّوْعِيِّ، وَالْجَهْلُ هُنَا هُوَ بِوَصْفِ الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ عِلْمِهِ بِصِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ هُنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، كَرِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ لَا تَعْلَمَ الْمُعْتَقَةُ قَدْ أُعْتِقَتْ وَبَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ أُعْتِقَتْ، وَلَا تَعْلَمَ أَنَّ لِلْمُعْتَقَةِ الْخِيَارَ وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ كَمَا وَصَفْته لَك، وَالْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجِ فِي مِثْلِ هَذَا وِفَاقًا وَهَلْ هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ لَا يَعُودُ إلَى أَمْرٍ عَمَلِيٍّ، وَفَعَلَهَا فِي الظَّاهِرِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَوْ عَفْوٌ عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا. أَرْجَحُهُمَا الثَّانِي، فَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُؤَاخَذُ وَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِهَذَا الْخَلَلِ الْحَاصِلِ فِي الْعَقْدِ، مَا لَوْ كَانَ الْخَلَلُ حَاصِلًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ أَحْرَمَ الرَّجُلُ وَتَزَوَّجَتْ بِهِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ إحْرَامَهُ، بِأَنْ يَعْقِدَ الْعَقْدَ وَكِيلُهُ فِي غَيْبَتِهِ، أَوْ تَتَزَوَّجَهُ وَيَكُونُ تَحْتَهُ أَرْبَعٌ أَوْ تَحْتَهُ أُخْتُهَا أَوْ خَالَتُهَا أَوْ عَمَّتُهَا وَهِيَ لَا تَعْلَمُ؛ أَوْ تَتَزَوَّجُهُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ أَوْ مُنَافِقٌ، لَا تَعْلَمُ دِينَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ، الَّتِي يَكُونُ مُحَرَّمًا عَلَيْهَا بِصِفَةٍ عَارِضَةٍ فِيهِ، لَا تَعْلَمُ بِهَا.

ثُمَّ قَدْ تَزُولُ تِلْكَ الصِّفَةُ؛ وَقَدْ لَا تَزُولُ، وَأَنْ

ص: 226

يُشَارِطُوا لَهَا فِي الْعَقْدِ شَرْطًا مُبْطِلًا لَهُ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ كَتَوْقِيتِ النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مُجْبَرَةً إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغُرُورُ مِنْ الزَّوْجِ فَقَطْ أَوْ مِنْهُ وَمِنْ الْوَلِيِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ لَهَا وَحْدَهَا أَوْ لَهَا وَلِلْوَلِيِّ، إذْ الضَّرَرُ الْحَاصِلُ عَلَيْهَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ أَكْثَرُ مِنْ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ عَلَى الْوَلِيِّ. وَإِذَا تَأَمَّلْت حَقِيقَةَ التَّأَمُّلِ وَجَدْت الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِأَنْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَغْرُورِ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّهَا لَا تَأْثَمُ بِمَا فَعَلَتْهُ وَيَحِلُّ لَهَا مَا انْتَفَعَتْ بِهِ مِنْ نَفَقَةٍ، وَتَسْتَحِقُّ الْمَهْرَ لَا سِيَّمَا إذَا أَوْجَبَا الْمُسَمَّى، كَظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الْمُوَافِقِ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَمَا وَرَدَ بِهِ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا:«فَلَهَا مَا أَعْطَاهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا»

فِي قِصَّةِ الْمُزَوَّجَةِ بِلَا وَلِيٍّ، وَكَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِقَصْدِهِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِ الْمَغْرُورَةِ مَا دَامَتْ غَيْرَ عَالِمَةٍ، وَأَيُّ وَقْتٍ عَلِمَتْ كَانَ عِلْمُهَا بِمَنْزِلَةِ تَطْلِيقٍ مُوجِبٍ لِمُفَارَقَتِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فُرْقَتَهُ قَدْ تَحْصُلُ بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ، نَعَمْ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ الَّتِي مَا تَزَوَّجَتْ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا أَوْ الَّتِي طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ تَخَافَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ. فَمَا مِنْ ضَرَرٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا وَمِثْلُهُ ثَابِتٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ ضَرَرًا، وَإِنْ عُدَّ فَهُوَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُ الْحَاكِمِينَ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَحْذُورٍ يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِذَا اسْتَبَانَ هَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّمَا نَحْكُمُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ، إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَالُ أَتُرِيدُ بِهِ التَّحْرِيمَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ فَقَطْ أَوْ التَّحْرِيمَ الظَّاهِرَ إنْ أَرَدْت بِهِ الْأَوَّلَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا هُوَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، لَكِنْ انْتَفَى حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِفَوَاتِ الْمَشْرُوطِ.

فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ عَلِمَتْ بِهَذَا الْقَصْدِ لَحَرُمَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ التَّحْرِيمُ الْبَاطِنُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْبَاطِنِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَفَسَدَ فِي الظَّاهِرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لِوُجُودِ التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ ظَاهِرًا، فَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ تَحْرِيمٍ مِنْ الْفَسَادِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي مَحَلِّهِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَإِنْ أَرَدْت بِهِ التَّحْرِيمَ الظَّاهِرَ أَوْ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرْطُ فِي

ص: 227

الْفَسَادِ، بَلْ قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُشْتَرَطُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْفَسَادِ فِي صُوَرِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِالْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ سُلِّمَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ صَحِيحٌ؛ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ فَقَطْ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَمْنُوعٌ وَكَذَلِكَ إنْ قَاسَهُ عَلَى صُورَةِ الْمُصَرَّاةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ انْتِفَاعَ الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي صُورَةِ التَّصْرِيَةِ وَالتَّدْلِيسِ حَلَالٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مِلْكُ الْبَائِعِ الْعِوَضَ، إذَا كَانَ ظَالِمًا كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَيْلُولَةِ، إذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ فَإِنَّ الْمَظْلُومَ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْبَدَلِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ حَلَالًا، وَالْغَاصِبُ الظَّالِمُ لَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّة الْعَقْدِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُبِيحَ لِعَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ هُوَ مَا كَانَ صَحِيحًا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونِ الْآخَر، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْمَنْعُ أَنَّهُ لَوْ نَكَحَ مَعِيبَةً مُدَلِّسَةً لِلْعَيْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ حَتَّى طَلَّقَهَا، أَوْ نَكَحَ الْمَعِيبُ صَحِيحَةً مُدَلِّسًا لِعَيْبٍ وَلَمْ تَعْلَمْ بِعَيْبِهِ حَتَّى طَلَّقَهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا بِهَذَا النِّكَاحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ يُقَالُ: هَذَا قَوِيٌّ عَلَى أَصْلِنَا.

فَإِنَّا نَقُولُ لَوْ وَطِئَهَا وَطْئًا مُحَرَّمًا بِحَيْضٍ أَوْ إحْرَامٍ أَوْ صِيَامٍ لَمْ يُبِحْهَا لِلْأَوَّلِ فِي الْمَنْصُوصِ مِنْ الْمَذْهَبِ، فَإِذَا اعْتَبَرْنَا حِلَّ الْوَطْءِ فَهَذِهِ الْعَادَةُ لَا يَحِلُّ لَهَا الِاسْتِمْتَاعُ لَكِنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ تَدْلِيسِ الْعَيْبِ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَهَا فِي حَالَةِ مَرَضٍ شَدِيدٍ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْجَوَابُ فَيَكْفِي الْجَوَابُ الْأَوَّلُ.

وَأَمَّا إذَا بَاعَ سِلْعَةً لِمَنْ نِيَّتُهُ أَنْ يُعْصَى بِهَا، وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ النِّيَّةَ فَمَا دَامَ عَدَمُ هَذَا الْعِلْمِ مُسْتَصْحَبًا فَلَا إشْكَالَ، وَإِذَا عَلِمَ الْبَائِعُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ اسْتِرْجَاعُ الْمَبِيعِ وَرَدُّ الثَّمَنِ، لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلَوْ سَلِمَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ أَوْ سَلِمَ أَنَّ نِيَّةَ الْمُشْتَرِي إذَا تَغَيَّرَتْ لَمْ تَحْتَجْ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ، فَالْفَرْقُ مَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَمْ يُنَافِ نَفْسَ الْعَقْدِ.

فَإِنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ قَصْدٌ لِرَفْعِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ مُنَافٍ لَهُ، وَهُنَا الْقَصْدُ قَصْدُ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ، وَهَذَا الْقَصْدُ مُسْتَلْزِمٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ لَا لِفَسْخِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِنِيَّةِ يَأْتِيهَا فِي الْمَحَلِّ

ص: 228

الْمَكْرُوهِ، لَكِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَفْعَلَ فِي مِلْكِهِ مُحَرَّمًا، فَالْبَائِعُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْبَيْعِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَالْبَائِعُ بَائِعٌ غَيْرَهُ بَيْعًا ثَابِتًا، وَذَلِكَ الْغَيْرُ اشْتَرَى شِرَاءً ثَابِتًا وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعِينَ غَيْرَهُ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ مَعْصِيَةً، وَقَصْدُهُ لَمْ يُنَافِ الْعَقْدَ وَلَا مُوجَبَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ حَرَامًا تَحْرِيمًا لَا يَخْتَصُّ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ بِمَا قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لَوَجَبَ مَنْعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَرُمَتْ إعَانَتُهُ.

فَالْبَائِعُ إذَا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.

وَفِي الْجُمْلَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نَظَرٌ فَيُجَابُ عَنْهَا بِالْجَوَابِ الْمُرَكَّبِ، وَهُوَ إنْ كَانَتْ مِثْلَ مَسْأَلَتِنَا الْتَزَمْنَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَهَا لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَوَّغَ الْإِمْسَاكَ بِمِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ، فَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ حَدِيثَ عُمَرَ وَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عُمَرُ قَالَ هَذَا، فَلَنْ يَقْتَضِيَ كَوْنَ مُعَقَّدٍ يَصِحُّ إذَا زَالَتْ النِّيَّةُ الْفَاسِدَةُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا مَعَ وُجُودِهَا كَمَا قَدْ ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُلْحَقَ بِالْعَقْدِ إذَا حُذِفَ بَعْدَهُ صَحَّ الْعَقْدُ، وَهَذَا مِمَّا يُسَوَّغُ فِيهِ الْخِلَافُ، وَقَدْ ذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ.

وَأَمَّا صِحَّةُ عَقْدِ الْمُحَلِّلِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يُنْقَلْ لَا عَنْ عُمَرَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَالْمُحَلِّلُ هُنَا الَّذِي يَجْعَلُ الشَّيْءَ حَلَالًا كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِثْلُ مُحَسِّنٍ وَمُقَبِّحٍ وَمُعَلِّمٍ وَمُذَكِّرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مُحَلِّلًا مَلْعُونًا وَالْآخَرُ مُحَلَّلًا لَهُ مَلْعُونًا. قُلْنَا: هَذَا سُؤَالٌ لَا يَحِلُّ إيرَادُهُ، أَتَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَلْعَنُ مَنْ جَاءَ إلَى شَيْءٍ مُحَرَّمٍ فَصَارَ بِفِعْلِهِ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ» كَلًّا وَلَمَّا، كَيْفَ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» ، «وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فَإِنْ كَانَ إثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ» ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْ يَحْمَدُهُ وَيَدْعُو لَهُ أَوْلَى مِنْهُ بِمَنْ يَلْعَنُهُ وَيَذُمُّهُ. ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِالْمُحَلِّلِ مَنْ جَعَلَ الشَّيْءَ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ لَكَانَ كُلُّ مَنْ نَكَحَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا مُحَلِّلًا وَلَمَا كَانَ مَلْعُونًا وَهَذَا بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ

ص: 229

الثَّانِي: أَنَّ فِعْلَهُ إذَا كَانَ مُحَرَّمًا لِأَجْلِ اللَّعْنَةِ عَلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَصِيرَ الْفَرْجُ الْمُحَرَّمُ حَلَالًا بِالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تُبَاحُ إلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ تُبَاحُ بِنِكَاحٍ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فِي الشَّرْعِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ النِّكَاحَ فِي الْقُرْآنِ، وَالنِّكَاحُ الْمُطْلَقُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَجْمَعُوا فِيمَا نَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْأَنْكِحَةَ الْمُحَرَّمَةَ فَاسِدَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ عَلِمْنَاهُ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ غَيْرَهُ حَرَامٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، هَلْ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفُرُوجَ مَحْظُورَةٌ قَبْلَ الْعَقْدِ، فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِمَا أَبَاحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْمِلْكِ، كَمَا أَنَّ اللُّحُومَ قَبْلَ التَّذْكِيَةِ حَرَامٌ فَلَا تُبَاحُ إلَّا بِمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ التَّذْكِيَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ الْمُحَلَّلَ لَهُ وَهُوَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِعْلٌ، فَلَوْ كَانَتْ قَدْ حَلَّتْ لَهُ وَقَدْ نَكَحَ امْرَأَةً حَلَالًا لَهُ لَمْ يَجُزْ لَعْنُهُ عَلَى ذَلِكَ. الرَّابِعُ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ حَرَامٌ بَلْ مِنْ الْكَبَائِرِ وَجَعْلُ الْحَرَامِ حَلَالًا إذَا صَارَ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَهُوَ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْحَدِيثَ نَصَّ فِي أَنَّ فِعْلَ الْمُحَلِّلَ حَرَامٌ وَعَوْدُهَا لِلْمُحَلَّلِ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ حَرَامٌ، فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَالْكَفُّ عَنْهُ، وَيَكُونُ مَنْ أَذِنَ فِيهِ أَوْ فَعَلَهُ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي هُنَا، فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهَا بِهَذَا التَّحْلِيلِ لَا يَرَى وَاحِدًا مِنْ الْأَمْرَيْنِ حَرَامًا بَلْ يُبِيحُ نَفْسَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَسْتَحِلُّ ذَلِكَ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ وَجَعْلُهُ مُحَلِّلًا، فَلِأَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَنَوَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ، مَعَ أَنَّ الْحِلَّ لَا يَحْصُلُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَلِأَنَّهُ حَلَّلَ الْحَرَامَ أَيْ جَعَلَهُ يُسْتَحَلُّ كَمَا يُسْتَحَلُّ الْحَلَالُ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ وَحَلَّلَهَا بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ يُقَالُ مُحَلِّلٌ لِلْحَرَامِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ عَلَى وَجْهِ الْحَمْدِ إلَى مَنْ فَعَلَ سَبَبًا يَجْعَلُ الشَّارِعُ الشَّيْءَ بِهِ حَلَالًا أَوْ مُحَرَّمًا.

لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّحْرِيمُ جَعْلَ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا أَيْ مَحْظُورًا، وَالتَّحْلِيلُ جَعْلُهُ مُحَلَّلًا أَيْ مُطْلَقًا، كَانَ كُلُّ مَنْ أَطْلَقَ الشَّيْءَ وَأَبَاحَهُ بِحَيْثُ يُطَاعُ فِي ذَلِكَ يُسَمَّى مُحَلِّلًا وَمِنْهُ

ص: 230

قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] لَمَّا أَطْلَقُوهُ لِمَنْ أَطَاعَهُمْ تَارَةً وَحَظَرُوهُ عَلَيْهِ أُخْرَى كَانُوا مُحِلِّينَ مُجْرِمِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] لَمَّا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الْأَمَةِ أَوْ الْعَسَلِ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَوْ بِالْحَرَامِ صَارَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} [يونس: 59] وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] .

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ: «إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قَالَ: «أَمَا إنَّهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121] يُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَحِلُّونَ حَلَالَهُ} ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَصَدَ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، وَقَدْ يَجْعَلُهَا فِي ظَنِّ مَنْ أَطَاعَهُ حَلَالًا وَهِيَ حَرَامٌ يُسَمَّى مُحَلِّلًا؛ لِذَلِكَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ لَعْنَتَهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمُحَلِّلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ إذَا ثَبَتَ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى صَاحِبِهِ مُحَلِّلٌ، وَإِلَّا فَيَكُونُ كُلُّ نَاكِحٍ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا مُحَلِّلًا، وَإِنْ نِكَاحَ رَغْبَةٍ فَيَدْخُلُ فِي اللَّعْنَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَجَعَلَهَا حَلَالًا وَلَيْسَتْ بِحَلَالٍ؛ لِأَنَّهُ حَلَّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِتَدْلِيسِهِ وَتَلْبِيسِهِ وَقَصَدَ أَنْ يُحِلَّهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَاصِدًا لِلتَّحْلِيلِ، وَأَصْلُ هَذَا

ص: 231

أَنَّ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَرِّمَ هُوَ مَنْ جَعَلَ الشَّيْءَ حَلَالًا وَحَرَامًا، إمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي الِاعْتِقَادِ، ثُمَّ إنَّهُ يُقَالُ لِلرَّجُلِ أَحَلَّ الشَّيْءَ إذَا أَطْلَقَهُ لِمَنْ يُطِيعُهُ.

وَحَرَّمَهُ إذَا مَنَعَ مَنْ يُطِيعُهُ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُزَكِّي فُلَانًا وَيُعَدِّلُهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُكَذِّبُهُ إذَا كَانَ يَجْعَلُهُ كَذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ.

وَيُقَالُ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلٌ فَصَارَ الْمُحَلِّلُ يُقَالُ لِأَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: لِمَنْ أَثْبَتَ الْحِلَّ الشَّرْعِيَّ حَقِيقَةً أَوْ إظْهَارًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وَالثَّانِي: لِمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُحَلِّلُ الْمُتْعَةَ وَيُحَلِّلُ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ.

وَالثَّالِثُ: لِمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَكَمَا يُقَالُ السُّلْطَانُ قَدْ حَرَّمَ الْفُلُوسَ وَأَحَلَّهَا. وَالرَّابِعُ: لِمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَكُلُّ مِنْ أَثْبَتَ الْمَصْدَرَ الثُّلَاثِيَّ فِي الْوُجُودِيِّ الْعَيْنِيِّ أَوْ الْعِلْمِيِّ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْ الْأَوَّلَ وَلَا الثَّانِيَ، فَثَبَتَ أَنَّهُ قَصَدَ الثَّالِثَ وَالرَّابِعَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ نَعَمْ تَسْمِيَةُ الْفَرَسِ مَعَ الْفَرَسَيْنِ مُحَلِّلًا هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْمِلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى شَرْطِ التَّحْلِيلِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَخْصِيصٌ، فَالْمُوجِبُ لَهُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْعَقْدِ مَا قَارَنَتْهُ دُونَ مَا تَقَدَّمَتْهُ كَمَا فِي الشُّرُوطِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْبَيْعِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ دُونَ مَنْ نَوَاهُ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا، وَإِلَّا لَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْعَاقِدِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى نِيَّةِ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَفْتَقِرُ إلَى الشَّهَادَةِ فَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ لَمْ تَنْفَعْ الشَّهَادَةُ، إذَا كَانَ قَصْدُ الرَّغْبَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِيَّةِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَهُ صَحَّ ذَلِكَ، وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِيهِ كَانَ فَاسِدًا، فَعُلِمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ كَالشَّرْطِ، هَذَا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ التَّحْلِيلِ يَعُمُّ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ وَغَيْرَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْمُحَلِّلَ إنَّمَا هُوَ مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ، فَأَمَّا مَنْ نَوَاهُ

ص: 232

فَلَيْسَ هُوَ مُحَلِّلًا أَصْلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ هَذَا تَخْصِيصًا وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْعَقْدِ اسْمًا وَحُكْمًا مَا قَارَنَهُ وَهُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ الْإِسْلَامُ بِاخْتِلَافِهِ، فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْبَاطِنِ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ الِاسْمِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَاصِدَ لِلتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ مُحَلِّلٌ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ دُخُولِهِ، قُلْنَا الْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْمَ الْمُحَلِّلِ يَعُمُّ الْقَاصِدَ وَالشَّارِطَ فِي الْعَقْدِ، وَقَبْلَهُ بِمَعْنَى أَنَّ لَفْظَ الْمُحَلِّلِ يَقَعُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ إجْرَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ، وَأَنَّ عُمُومَهُ مُرَادٌ.

أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدِهَا: أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقَاصِدَ لِلتَّحْلِيلِ مُحَلِّلًا، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُحَلِّلُ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلًا وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُحَلِّلُ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ، وَإِلَّا كَانَ إطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ الشَّارِطِ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ الْمَجَازِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا لِمُوجِبٍ وَلَا مُوجِبَ مِثْلَ مَا سَيَأْتِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ قَالَ: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ، وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً، إذَا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنْ يُحَلِّلَاهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ عَمَّنْ يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ، فَإِنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ سُمِّيَ مُحَلِّلًا، وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ: إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمَا مُحَلَّلَانِ لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ، فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَاصِدِ اسْمَ الْمُحَلِّلِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا فَقَالَ:" لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ هُمَا زَانِيَانِ " فَسُئِلَ عَمَّنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ فَأَجَابَ بِلَعْنَةِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ، فَعُلِمَ دُخُولُ الْقَاصِدِ فِي الْمُحَلِّلِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَلْفَاظِ السَّلَفِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ مَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقَاصِدَ لِلتَّحَلُّلِ مُحَلِّلًا، وَيَدْخُلُ عِنْدَهُمْ فِي الِاسْمِ إذْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ مُحَلِّلًا لِعَدَمِ الشَّارِطِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ أَوْ لِقِلَّتِهِ.

الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْهُمْ الْجَوْهَرِيُّ الْمُحَلِّلُ فِي النِّكَاحِ الَّذِي يَتَزَوَّجُ

ص: 233

الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، فَجَعَلُوا كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَهَا لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ مُحَلِّلًا فِي اللُّغَةِ. الثَّالِثِ: اسْتِعْمَالُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إلَى الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِيُحِلَّهَا مُحَلِّلًا وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ.

وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ اسْمَ الْمُحَلِّلِ كَانَ مَقْصُورًا فِي لُغَةِ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. عَلَى الشَّارِطِ فِي الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ أَوْ الْمُغَيَّرَةِ، فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلًا، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلٌ إذَا شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ صَحِيحٌ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحَلِّلَ يَنْقَسِمُ إلَى قَاصِدٍ وَإِلَى شَارِطٍ، وَلَيْسَ تَصْحِيحُ بَعْضِهِمْ لِنِكَاحِ الْقَاصِدِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَلِّلًا كَمَا أَنَّ مَنْ صَحَّحَ نِكَاحَ الشَّارِطِ فَإِنَّهُ يُسَمِّيهِ أَيْضًا مُحَلِّلًا إذْ الْفُقَهَاءُ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ النِّكَاحِ. لَا فِي اسْمِهِ فَثَبَتَ بِالنَّقْلِ وَاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ هَذَا يُسَمَّى مُحَلِّلًا.

الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ لِمَنْ حَلَّلَ الشَّيْءَ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ لِمَنْ أَحَلَّ الْمَرْأَةَ وَحَلَّلَهَا، إذَا جَعَلَهَا حَلَالًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا فَإِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ مَنْ جَعَلَهَا حَلَالًا فِي حُكْمِ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ.

وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَأَرَادَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى بِالْمُرِيدِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالشَّارِطِ.

وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ جَعَلَهَا حَلَالًا عِنْدَ النَّاسِ وَلَيْسَتْ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ، فَهَذَا أَيْضًا فِي الْقَاصِدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الشَّارِطِ إذْ الشَّارِطُ قَدْ أَظْهَرَ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ فَلَا يَحْصُلُ الْحِلُّ لَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ الْكَاتِمِ لِلْقَصْدِ فَعُلِمَ أَنَّ إظْهَارَ التَّحْلِيلِ أَوْ اشْتِرَاطَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْمُحَلِّلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذَا كَانَ قَدْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَأَرَادَهُ.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ يُسَمَّى مُحَلِّلًا، إذَا بَاشَرَ سَبَبَهُ، كَمَا يُسَمَّى مَنْ حَرَّمَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مُحَرِّمًا لِقَصْدِ التَّحْرِيمِ وَمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ يُسَمَّى مُحَلِّلًا لِاشْتِرَاطِهِ إيَّاهُ وَإِذَا كَانَ قِيَاسُ التَّصْرِيفِ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، تُوجِبُ تَسْمِيَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُحَلِّلًا، لَمْ يَجُزْ سَلْبُ أَحَدِهِمَا اسْمَ التَّحْلِيلِ، بَلْ يَكُونُ اللَّفْظُ شَامِلًا لَهُمَا، وَاعْلَمْ أَنَّا سَنُبَيِّنُ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّ الْحَدِيثَ قُصِدَ بِهِ وَعَنَى بِهِ مَنْ

ص: 234

قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ أَيْضًا يَشْمَلُهُ، فَإِنَّا كَمَا نَسْتَدِلُّ بِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهُ عَلَى إرَادَتِهِ نَسْتَدِلُّ أَيْضًا بِإِرَادَتِهِ عَلَى شُمُولِ اللَّفْظِ لَهُ.

وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّانِي فَنَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ عَنَى بِهِ كُلَّ مُحَلِّلٍ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ أَوْ أَضْمَرَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ وَحْدَهُ وُجُوهٌ عَشَرَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَدِيثَ أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَشْمَلَ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ وَالْمَقْصُودَ فَإِنَّ لَفْظَ التَّحْلِيلِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَعْلُ الْمَرْأَةِ حَلَالًا، أَيْ قَصْدُ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا، وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَصَدَ وَلَمْ يَشْرِطْ وَلَا مُوجِبَ لِتَخْصِيصِهِ، وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مُخَصِّصًا، بَلْ الْأَدِلَّةُ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ تُعَضِّدُ هَذَا الْعُمُومَ.

يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا تَنَاوَلَ صُوَرًا كَثِيرَةً مَوْجُودَةً وَأَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصِبَ دَلِيلًا يُبَيِّنُ خُرُوجَ مَا لَمْ يُرِدْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ الَّذِي يُظْهِرُ التَّحْلِيلَ، أَوْ الَّذِي يَشْتَرِطُ التَّحْلِيلَ أَوْ الَّذِي يَكْتُمُ التَّحْلِيلَ، وَلَمْ يَجِئْ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ مَا يُخَالِفُ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ مُتَعَيِّنًا، وَعُلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ مَفْهُومَهُ وَمَعْنَاهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَوْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ خَاصَّةً أَوْ التَّحْلِيلَ الَّذِي تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ دُونَ الْمَقْصُودِ. لَلَعَنَ الزَّوْجَةَ وَالْوَلِيَّ كَمَا لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ، وَلَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، بَلْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِاللَّعْنِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّهَا شَارَكَتْ كُلًّا مِنْهُمَا فِيمَا يَفْعَلُهُ، فَصَارَ إثْمُهَا بِمَنْزِلَةِ إثْمِهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ يَلْعَنُ الشَّاهِدَ وَالْكَاتِبَ فَالْوَلِيُّ وَالْعَاقِدُ أَوْلَى، فَلَمَّا خَصَّ بِاللَّعْنَةِ الزَّوْجَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ عَنَى التَّحْلِيلَ الْمَقْصُودَ الْمَكْتُومَ عَنْ الْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا، وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الصَّدِيقُ مَعَ صَدِيقِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ مِنْ تَزَوُّجِهِ بِالْمُطَلَّقَةِ لِيُحِلَّهَا لَهُ وَهُمَا قَدْ عَلِمَا ذَلِكَ، وَالْمَرْأَةُ وَأَهْلُهَا لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَعَنَ شَاهِدَيْ الرِّبَا وَكَاتِبَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَعَنَ شَاهِدَيْ الرِّبَا وَكَاتِبَهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ، فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ ظَاهِرًا لَلَعَنَ الشَّاهِدَيْنِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ تَحْلِيلٌ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ، وَأَنَّ الْمُحَلِّلَ لَمْ يَكُنْ يُظْهِرُ تَحْلِيلَهُ لِأَحَدٍ.

ص: 235

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَحُولُونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ هَذَا النِّكَاحِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ يَقُولُ هِيَ أُخْتُهُ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ رَبِيبَتُهُ فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَأَظْهَرَ فَسَادَهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَعَنَ الْمُحَلِّلَ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.

يُبَيِّنُ ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ نَكَحَ نِكَاحًا مُحَرَّمًا إلَّا الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِثْلَ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوَهُنَّ مِثْلُ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَأَغْلَظُ، وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِإِظْهَارِ اللَّعْنِ بَيَانُ الْعُقُوبَةِ لِتَنْزَجِرَ النُّفُوسُ بِذَلِكَ، وَسَائِرُ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مُرِيدُهَا مِنْ فِعْلِهَا؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الْعَقْدِ وَالْوَلِيَّ وَغَيْرَهُمْ يَطَّلِعُونَ عَلَى السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا يُمَكِّنُونَهُ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرَّمَ فِي حَقِّهِ بَاطِنٌ، ثُمَّ تِلْكَ الْمَنَاكِحُ قَدْ ظَهَرَ تَحْرِيمُهَا فَلَا يُشْتَبَهُ حَالُهَا، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ حَالُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِاللَّعْنَةِ مَنْ أَسَرَّ التَّحْلِيلَ، ثُمَّ يَكُونُ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ أَظْهَرَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَلَعَنَ بَائِعَ الْخَمْرِ وَمُبْتَاعَهَا. قِيلَ: الْبَيْعُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إشْهَادٍ وَإِعْلَانٍ فَتَقَعُ هَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَعُ الْفَاحِشَةُ وَالسَّرِقَةُ. وَلِهَذَا لَعَنَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا عَلِمَا أَنَّهُ رِبًا، فَإِنَّهُمَا قَدْ يُسْتَشْهَدَانِ عَلَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَلَا يَشْعُرَانِ أَنَّهُ رِبًا، وَلَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الْمُرْبِي غَالِبًا إلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهَا لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَى أَجَلٍ.

يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَلْعَنْ مَنْ عَقَدَ بَيْعًا مُحَرَّمًا إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالرِّبَا؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ النَّوْعَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يَقَعُ فِيهِمَا الِاحْتِيَالُ وَالتَّأْوِيلُ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَصِيرَهُ لِمَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا، مُتَأَوِّلًا أَنَّى لَمْ أَبِعْ الْخَمْرَ، وَبِأَنْ يُرْبِيَ بِصُورَةِ الْبَيْعِ مُتَأَوِّلًا أَنَّى بَائِعٌ لَا مُرْبٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ يَقَعُ الشَّرُّ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمَا، فَظَهَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا لَعَنَ الْعُقُودَ ثَلَاثَةَ

ص: 236

أَصْنَافٍ، صِنْفَ التَّحْلِيلِ وَصِنْفَ الرِّبَا وَصِنْفَ الْخَمْرِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ الْبَيَانُ بِأَنْ سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْتَحِلُّهَا، بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ، وَتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا فَخَصَّهَا بِاللَّعْنَةِ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا غَيْرُ عَارِفِينَ بِأَنَّهَا مَعَاصٍ؛ وَلِأَنَّ مَعْصِيَتَهُمْ تَبْطُلُ غَالِبًا، فَلَا تَتَمَكَّنُ الْأُمَّةُ مِنْ تَغْيِيرِهَا؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ يَجْتَمِعُ فِيهَا الدَّاعِي الطَّبِيعِيُّ إلَى الْمَالِ وَالْوَطْءِ وَالشُّرْبِ، مَعَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَتِهَا، وَلِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيَكُونُ مَنْ يَفْعَلُهَا فَتَقَدَّمَ بِلَعْنَتِهِ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَنِكَاحِ الْأُمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ عَلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ لَعْنَةَ مَنْ أَبْطَنَ التَّحْلِيلَ، وَإِنْ كَانَ مَنْ أَظْهَرَهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَبِطَرِيقِ الْعُمُومِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ التَّحْلِيلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِرَغْبَةٍ مِنْ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يُسِرَّ ذَلِكَ إلَى الْمُحَلِّلِ أَوْ يَشْرِطَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَعْقِدَ النِّكَاحَ مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمَرْأَةِ، فَالِاشْتِرَاطُ فِي الْعَقْدِ نَادِرٌ جِدًّا، لَا سِيَّمَا اللَّفْظُ الَّذِي يَعْتَبِرُهُ هَذَا السَّائِلُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ زَوَّجْتُك إلَى أَنْ تُحِلَّهَا أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا، أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا طَلَّقْتهَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا نَادِرٌ أَوْ مَعْدُومٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَاللَّفْظُ الْعَامُّ الشَّامِلُ لِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى الصُّوَرِ الْقَلِيلَةِ دُونَ الْكَثِيرَةِ، فَإِنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْعَيِّ وَاللَّبْسِ وَكَلَامُ الشَّارِعِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَكَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» فَإِنَّ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ مُمْتَنِعٌ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ كُلِّ ذِي لُبٍّ، وَمَنْ عَرَفَ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ، كَيْفَ كَانَتْ إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ الْمَذْكُورَةَ لِلتَّحْلِيلِ مِثْلُ قَوْلِهِ زَوَّجْتُك عَلَى أَنَّك تُطَلِّقُهَا إذَا أَحْلَلْتهَا، أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا، لَمْ تَكُنْ تُعْقَدُ بِهَا الْعُقُودُ، عُلِمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَلْعُونَ فَاعِلَهُ هُوَ مَا كَانَ وَاقِعًا مِنْ قَصْدِ التَّحْلِيلِ وَإِرَادَتِهِ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّحْلِيلِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَ الْحِلَّ حَقِيقَةً، فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْلَنُ بِالِاتِّفَاقِ.

وَإِلَّا لَلَعَنَ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا فَعَلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ أَنَّهُ أَرَادَ التَّحْلِيلَ وَسَعَى فِيهِ، وَالْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنَى كَانَ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ عِلَّةً فَيَكُونُ الْمُوجِبُ لِلَّعْنَةِ أَنَّهُ قَصَدَ الْحِلَّ لِلْأَوَّلِ، وَسَعَى فِيهِ، فَتَكُونُ اللَّعْنَةُ عَامَّةً لِذَلِكَ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا، وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَجُوزُ

ص: 237

تَخْصِيصُهُ إلَّا لِوُجُودِ مَانِعٍ وَلَا مَانِعَ مِنْ عُمُومِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَالٍ.

يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّا لَوْ قَصَرْنَاهُ عَلَى التَّحْلِيلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ هِيَ التَّحْلِيلَ وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ التَّحْلِيلِ، بَلْ الْعِلَّةُ تَوْقِيتُ النِّكَاحِ أَوْ شَرْطُ الْفُرْقَةِ فِيهِ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ قَصْدِ التَّحْلِيلِ فَكَيْفَ تُعَلِّقُ الْحُكْمَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مُنَاسِبٍ ثُمَّ لَا تَجْعَلُ الْعِلَّةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقَّ مِنْهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِهِ، بَلْ شَيْئًا قَدْ يُوجِبُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ، لَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَعَنَ اللَّهُ مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ هُوَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ فَقَطْ، لَكَانَ إنَّمَا لُعِنَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نِكَاحٌ مُؤَقَّتٌ أَوْ مَشْرُوطٌ فِيهِ زَوَالَهُ، أَوْ الْفُرْقَةَ، وَحِينَئِذٍ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُبَاحَ لَمَّا كَانَتْ الْمُتْعَةُ مُبَاحَةً، وَأَنْ يَكُونَ فِي التَّحْرِيمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتْعَةِ، وَلَمَّا «لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ لَعْنُ الْمُسْتَمْتِعِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أُبِيحَ التَّحْلِيلُ فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ، بَلْ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى إبَاحَةَ الْمُتْعَةِ وَيُفْتِي بِهَا، وَيَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ، وَيَلْعَنُ هُوَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيُفْتِي بِتَحْرِيمِهِ وَيَقُولُ إنَّ التَّحْلِيلَ الْمَكْتُومَ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ، وَأَنَّهُ مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، عُلِمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ حُرِّمَ لِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُتْعَةِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَمْتِعَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْمَرْأَةِ، وَقَصَدَ إنْ كَانَتْ إلَى أَجَلٍ، وَالْمُحَلِّلَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَاشِيَةِ يَسْتَعِيرُ التَّيْسَ لَا لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَالْقِنْيَةِ، وَلَكِنْ لِيُنْزِيَهُ عَلَى غَنَمِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ لَا رَغْبَةَ لِلْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا فِي مُصَاهَرَتِهِ وَمُنَاكَحَتِهِ وَاِتِّخَاذِهِ خَتَنًا، وَإِنَّمَا يَسْتَعِيرُونَهُ لِيُنْزُونَهُ عَلَى فَتَاتِهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ سَوَاءٌ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ وَالْوَاصِلَةِ وَالْمَوْصُولَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ هُوَ التَّدْلِيسُ وَالتَّلْبِيسُ، فَإِنَّ هَذِهِ تُظْهِرُ مِنْ الْخِلْقَةِ مَا لَيْسَ لَهَا، وَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ يُظْهِرُ مِنْ الرَّغْبَةِ مَا لَيْسَ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَرَنَهُ بِآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ كِلَاهُمَا يَسْتَحِلُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْمُخَادَعَةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا اسْتِحْلَالٌ لِلرِّبَا، وَهَذَا لِلزِّنَا وَالزِّنَا وَالرِّبَا فَسَادُ الْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثَ «مَا ظَهَرَ الرِّبَا

ص: 238

وَالزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ الْعِقَابَ» ، وَإِذَا كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا التَّدْلِيسَ وَالْمُخَادَعَةَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي التَّحْلِيلِ الْمَكْتُومِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي التَّحْلِيلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ النَّصِّ فِي التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ بَيَّنُوا أَنَّ مِنْ التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ مَا قُصِدَ بِالْعَقْدِ سَوَاءٌ شُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ وَأَعْرَفُ بِمُرَادِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ اللُّغَوِيِّ، وَبِأَسْبَابِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَبِدَلَالَاتِ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى حَدِيثَ التَّحْلِيلِ، مِثْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا رَوَى الْحَدِيثَ وَفَسَّرَهُ بِمَا يُوَافِقُ الظَّاهِرَ وَلَا يُخَالِفُهُ، كَانَ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ وَاجِبًا مَانِعًا مِنْ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ الْحَدِيثَ مُسْنَدًا فَقَدْ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم، أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنْ إطْلَاقِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مَا قَصَدَ بِهِ التَّحْلِيلَ، وَإِنَّمَا نَهَى هَؤُلَاءِ عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْهُ.

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يَنْقَسِمُ إلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَصَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ نَصٌّ فِي التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ وَمِنْهَا مَا هُوَ كَالنَّصِّ، فَلَوْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ التَّحْلِيلِ بَلْ أَكْثَرُهُ مُبَاحًا كَمَا يَقُولُهُ الْمُنَازِعُ، لَكَانَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ فَضْلًا عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَلَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْصِلُوا وَلَمْ يُبَيِّنُوا كَانَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْقَطْعَ، أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلِيَّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ جِنْسَ التَّحْلِيلِ حَرَامٌ فِيمَا عَنَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِيمَا فَهِمُوهُ، وَهَذَا يُوجِبُ الْيَقِينَ التَّامَّ بَعْدَ اسْتِقْرَاءِ الْآثَارِ وَتَأَمُّلِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: تَسْمِيَتُهُ تَيْسًا مُسْتَعَارًا دَلِيلٌ عَلَى مُشَارَطَتِهِ عَلَى التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ إنَّمَا يَكُونُ اسْتِعَارَةً إذَا اتَّفَقْنَا جَمِيعًا عَلَى التَّحْلِيلِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي النِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ. قُلْنَا: الْمُسْتَعِيرُ لَهُ هُوَ الْمُطَلِّقُ، فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ كَانَ يَجِيءُ إلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُحَلِّلَ لَهُ الْمَرْأَةَ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الَّذِي اُسْتُعِيرَ لِيَنْزُوَ عَلَى الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي لَهُ غَرَضٌ فِي مُرَاجَعَةِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشَّاةِ الَّذِي لَهُ غَرَضٌ فِي إنْزَاءِ التَّيْسِ عَلَى شَاتِهِ، فَيَنْبَغِي مِنْهُ الْوَطْءُ كَمَا يَنْبَغِي مِنْ التَّيْسِ النُّزُوُّ، فَإِذَا

ص: 239