الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً]
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً أَوْ يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ حِيلَةً، أَوْ يُسَمُّونَهُ آلَةً - مِثْلُ الْحِيلَةِ الْمُحَرَّمَةِ - حَرَامًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي تَنْزِيلِهِ:{إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] فَلَوْ احْتَالَ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَضْعَفُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ بَيْنِ الْكُفَّارِ لَكَانَ مَحْمُودًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ احْتَالَ مُسْلِمٌ عَلَى هَزِيمَةِ الْكَافِرِ، كَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، أَوْ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ مِنْهُمْ، كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ علاطة وَعَلَى قَتْلِ عَدُوٍّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا فَعَلَ النَّفَرُ الَّذِينَ احْتَالُوا عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ الْيَهُودِيِّ وَعَلَى قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَحْمُودًا أَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» . وَكَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا وَلِلنَّاسِ فِي التَّلَطُّفِ وَحُسْنِ التَّحَيُّلِ عَلَى حُصُولِ مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ دَفْعِ مَا يَكِيدُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ سَعْيٌ مَشْكُورٌ.
وَالْحِيلَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحَوُّلِ وَهُوَ النَّوْعُ مِنْ الْحَوْلِ كَالْجِلْسَةِ وَالْقِعْدَةِ مِنْ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ وَالْأَكْلَةِ وَالشِّرْبَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمَعْنَاهَا نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ هَذَا مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ، ثُمَّ غُلِّبَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ إلَى حُصُولِ الْغَرَضِ وَبِحَيْثُ لَا يُتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا بِنَوْعٍ مِنْ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا حَسَنًا كَانَتْ حِيلَةً حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا كَانَتْ قَبِيحَةً، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» . صَارَتْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إذَا أُطْلِقَتْ قُصِدَ بِهَا الْحِيَلُ الَّتِي يُسْتَحَلُّ بِهَا الْمَحَارِمُ كَحِيلِ الْيَهُودِ، وَكُلُّ حِيلَةٍ تَضَمَّنَتْ إسْقَاطَ حَقِّ اللَّهِ، أَوْ الْآدَمِيِّ، فَهِيَ تَنْدَرِجُ فِيمَا يُسْتَحَلُّ بِهَا الْمَحَارِمُ، فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَحَارِمِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّى الْحَرْبَ خَدْعَةً؛، ثُمَّ إنَّ الْخِدَاعَ فِي الدِّينِ مُحَرَّمٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَقَالَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ
يَقُولُ خَيْرًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ يَعْنِي الْحَرْبَ وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ أَنَّهُ كَذِبٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ سَكَنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَتَابَعُوا فِي الْكَذِبِ كَمَا يَتَتَابَعُ الْفَرَاشُ كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ رَجُلٌ كَذَبَ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا وَرَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدْعَةِ حَرْبٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَلَفْظُهُ: «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ» وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَيُرْوَى أَيْضًا، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا:«الْكَذِبُ كُلُّهُ إثْمٌ إلَّا مَا يُنْفَعُ بِهِ الْمُسْلِمُ أَوْ دُفِعَ بِهِ عَنْ دِينٍ» .
فَلَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا تُسَمِّيهِ النَّاسُ كَذِبًا، وَإِنْ كَانَ صِدْقًا فِي الْعِنَايَةِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ قَوْلَهُ لِسَارَةَ أُخْتِي. وَقَوْلَهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَوْلَهُ إنِّي سَقِيمٌ» وَالثَّلَاثُ مَعَارِيضُ وَمَلَاحَةٌ. فَإِنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يُطَابِقُهُ فِي عِنَايَتِهِ لَكِنْ لَمَّا أَفْهَمَ الْمُخَاطَبَ مَا لَا يُطَابِقُهُ سُمِّيَ كَذِبًا، ثُمَّ هَذَا الضَّرْبُ قَدْ ضُيِّقَ فِيهِ كَمَا تَرَى.
يُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَكْذِبُ امْرَأَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا جُنَاحَ عَلَيْك» . وَسَيَجِيءُ كَلَامُ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ قَوْلًا وَفِعْلًا مَقْصُودُهُ بِهِ مَقْصُودٌ صَالِحٌ، وَإِنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غَيْرَ مَا قَصَدَ بِهِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ مِثْلُ دَفْعِ ظُلْمٍ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ عَنْ مُسْلِمٍ، أَوْ دَفْعِ الْكُفَّارِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الِاحْتِيَالِ عَلَى إبْطَالِ حِيلَةٍ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ حِيلَةٌ جَائِزَةٌ.
وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ مَا شُرِعَتْ الْعُقُودُ لَهُ،