الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتٌ لِهَذَا اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِدْعَةٌ، وَأَنَا لَا أَقُولُ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأَمَةِ، فَإِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ إلَهٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْرُجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ، وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا. وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا تُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ، وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ:" لَا يَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْته قَطُّ. بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَالصَّوْتَ قَائِمٌ بِهِ، بِدْعَةٌ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ، بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً " فَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِي بَلْ فِي كَلَامِي إنْكَارُ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُبْتَدَعُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ أَيْضًا بِدْعَةٌ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ، فَهَذَا حَقٌّ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ لَا يَرْفَعُ إلَيْهِ يَدَيْهِ، فَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ رَفْعِ الْأَيْدِي إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ إلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَيْهِ صِفْرًا» وَإِذَا سَمَّى الْمُسَمِّي ذَلِكَ إشَارَةً حِسِّيَّةً، وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
[أَوْجُهٍ الرد عَلَيَّ الْمعَارضين]
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: " أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ " فَمَا فَاتَحْتُ عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ: بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْمُسْتَرْشِدَ الْمُسْتَهْدِيَ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] الْآيَةَ، فَلَا يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَا الْجَوَابَ وَذَهَبَا فَأَطَالَا الْغَيْبَةَ، ثُمَّ رَجَعَا وَلَمْ يَأْتِيَا بِكَلَامٍ مُحَصَّلٍ إلَّا طَلَبَ الْحُضُورِ، فَأَغْلَظْتُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ وَقُلْتُ لَهُمْ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ: يَا مُبَدِّلِينَ يَا مُرْتَدِّينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ يَا زَنَادِقَةً، وَكَلَامًا آخَرَ كَثِيرًا، ثُمَّ قُمْتُ وَطَلَبْتُ فَتْحَ الْبَابِ وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِي.
وَقَدْ كَتَبْت هُنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي طَلَبُوهَا مِنِّي فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا فِيهَا مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ، وَإِتْبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نَكْتُبُ مِنْهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ أَمْرٌ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ اللَّهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ هُوَ مِنْ ابْتِدَاعِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِي وَصَفَ رَبَّهُ فِيهِ بِمَا وَصَفَهُ، وَنَهَى فِيهِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، أَنْ يُفْتَى بِهِ أَوْ يُكْتَبَ بِهِ أَوْ يُبَلَّغَ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرِيعَةِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْهُدَى وَالرَّشَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَنْ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ.
وَأَمْرٌ بِالنِّفَاقِ وَالْحَدِيثِ الْمُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْبِدْعَةِ وَالْمُنْكَرِ وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَطَاعَةِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعٍ لِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَبْدِيلِ دِينِ الرَّحْمَنِ بِدِينِ الشَّيْطَانِ وَاِتِّخَاذِ أَنْدَادٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] وَقَالَ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] ، الْآيَةَ.
وَهَذَا الْكَلَامُ نَهْيٌ فِيهِ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْرٌ بِسَبِيلِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 101]، - إلَى قَوْلِهِ - {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] فَذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَقُولُهُ الشَّيَاطِينُ، وَمَنْ أَمَرَ بِهَذَا الْكَلَامِ، فَقَدْ أَمَرَ بِنَبْذِ كِتَابِ اللَّهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ حَيْثُ أَمَرَ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، وَذَلِكَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ، فَأَمَرَ بِأَنْ لَا يُفْتَى بِهَا، وَلَا يُكْتَبَ بِهَا، وَلَا تُبَلَّغَ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالنَّبْذِ لَهَا وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَأَمْرٌ - مَعَ ذَلِكَ - بِاعْتِقَادِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] الْآيَةَ، فَبَيَّنَ سبحانه وتعالى أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ عَدُوًّا مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يَعْلَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْقَوْلِ الْمُزَخْرَفِ غُرُورًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُوحِي إلَى أَوْلِيَائِهَا بِمُجَادَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَالْكَلَامُ الَّذِي يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، هُوَ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ وَتِلَاوَتِهِمْ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِ، فَقَدْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ وَلَا يَكْتُبَ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ وَدَعَائِمِهِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا فَإِنَّ قَوْلَهُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] . كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ
ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَقْرَأُ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا كَانَ صِفَةً لِلَّهِ مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ آيَاتٍ فِي الصِّفَاتِ لِلصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ الَّتِي يَسْمَعُهَا الْعَامِّيُّ وَغَيْرُهُ، بَلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ أَوَّلُ سُورَةِ الْحَدِيدِ إلَى قَوْلِهِ:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] هِيَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ.
وَكَذَلِكَ آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ بَلْ جَمِيعُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ كَقَوْلِهِ: الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ؛ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ، الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ، فَهَلْ يَأْمُر مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُعْرَضَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَأَنْ لَا يُبَلِّغَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَأَنْ لَا يَكْتُبَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي هُوَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا يُفْتِي فِي ذَلِكَ وِلَايَةً.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2] وَأَسْوَأُ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ أَنْ يَكُونُوا أُمِّيِّينَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى أَنْ يُتْلَى عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِ اللَّهِ، أَوْ عَنْ أَنْ يُعَلِّمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرِّسَالَةِ أَجْهَلَ مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَهَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَمْنُوعًا مِنْ تِلَاوَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ إيَّاهُ، أَوَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران: 99] الْآيَةَ، وَقَالَ:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160]
أَوَلَيْسَ هَذَا نَوْعًا مِنْ الْأَمْرِ بِهَجْرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَتَرْكِ اسْتِمَاعِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31] الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فَهَلَّا قَالَ فَاسْتَمِعُوا لَهُ لَا لِأَعْظَمَ مَا فِيهِ وَهُوَ مَا وَصَفْت بِهِ نَفْسِي فَلَا تَسْتَمِعُوهُ أَوْ لَا تُسْمِعُوهُ لِعَامَّتِكُمْ، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، وَقَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 18] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: 57]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106] إلَى قَوْلِهِ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَحْذَرُهُ الْمُنَازِعُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ مَا يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَهَا كُفْرٌ وَتَجْسِيمٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وقَوْله تَعَالَى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] .: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، وقَوْله تَعَالَى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] . {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] الْآيَةَ. فَهَلْ سُمِعَ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ وَتُتْلَى عَلَى الْعَامَّةِ وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَنَعَ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَهَا كُفْرٌ وَتَجْسِيمٌ وَخَبَرٌ يُخَالِفُ رَأْيَهُ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وَقَوْلُهُ:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وَقَوْلُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وَقَوْلُهُ:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقَوْله تَعَالَى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، وَقَوْلُهُ:{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وَقَوْلُهُ:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]
وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وَكَذَلِكَ آيَاتُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَحَادِيثُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هَلْ يَتْرُكُ تَبْلِيغَهَا لِمُخَالَفَتِهَا لَهُ، أَوْ الْوَعِيدِيَّةِ أَوْ الْمُرْجِئَةِ، وَآيَاتُ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ كَقَوْلِهِ:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
وَقَوْلُهُ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وَقَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] إلَى قَوْلِهِ: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98]، وَقَوْلُهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وَقَوْلُهُ:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] . وَنَحْوُ ذَلِكَ هَلْ يَتْرُكُ تِلَاوَتَهَا وَتَبْلِيغَهَا لِمُخَالَفَتِهَا لِرَأْيِ أَهْلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ؟ ،.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ كُتُبَ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ هِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، بَلْ قَدْ بُوِّبَ فِيهَا أَبْوَابٌ مِثْلُ كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ " الَّذِي هُوَ آخِرُ كِتَابِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمِثْلُ كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَكِتَابِ النُّعُوتِ " فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ فَإِنَّ هَذِهِ مُفْرَدَةٌ لِجَمْعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَ " كِتَابُ السُّنَّةِ " مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَا تَضَمَّنَهُ وَكَذَلِكَ تَضَمَّنَ صَحِيحُ مُسْلِمٍ، وَجَامِعُ التِّرْمِذِيِّ، وَمُوَطَّأُ مَالِكٍ. وَمُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُسْنَدُ مُوسَى بْنِ قُرَّةَ الزُّبَيْدِيِّ، وَمُسْنَدُ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، وَمُسْنَدُ ابْنِ وَهْبٍ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ. وَمُسْنَدُ مُسَدَّدٍ، وَمُسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَمُسْنَدُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْنَدُ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَمُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ. وَمُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ، وَمُسْنَدُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَمُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ، وَمُسْنَدُ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ، وَمُعْجَمُ الْبَغَوِيّ، وَالطَّبَرَانِيِّ،
وَصَحِيحُ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ، وَصَحِيحُ الْحَاكِمِ، وَصَحِيحُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْبَرْقَانِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَالْجَوْزَقِيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْأُمَّهَاتِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ: دَعْ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَجَامِعِ الثَّوْرِيِّ، وَجَامِعِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُصَنَّفَاتِ وَكِيعٍ، وَهُشَيْمٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ.
فَهَلْ امْتَنَعَ الْأَئِمَّة مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. أَمْ مَا زَالَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ يَحْضُرُ قِرَاءَتَهَا أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمَّا حَدَّثَ بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ، هَلْ كَانُوا يُخْفُونَهَا عَنْ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَكَاتَمُونَهَا وَيُوصُونَ بِكِتْمَانِهَا، أَمْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا كَمَا كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِسَائِرِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَهَذَا كَمَا قَدْ كَانَ هَذَا يَمْتَنِعُ عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ أَحَادِيثَ فِي الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ وَبَعْضِ أَحَادِيثِ الْقَدْرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْبَابِ، وَهَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَيُخَالِفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنَّ رِوَايَتَهَا تَضُرُّ بَعْضَ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَيَرَى الْآخَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بَلْ يَنْفَعُ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِيهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
فَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَبْلِيغِ عُمُومِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ، فَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَإِنَّمَا هَذَا وَنَحْوُهُ رَأْيُ الْخَارِجِينَ الْمَارِقِينَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، كَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي رِوَايَتِهَا، أَوْ الْعَمَلُ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعِينَ أَنْ يُكْرِهَ الْآخَرَ عَلَى قَوْلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَإِلَى
رَسُولِهِ وَوَصَفَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، فَقَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا - وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] إلَى قَوْله: {بَلِيغًا} [النساء: 63] فَوَصَفَ سُبْحَانَهُ مَنْ دُعِيَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّفَاقِ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْفِيقَ بِذَلِكَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ إحْسَانَ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب: 66] إلَى قَوْلِهِ: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68] .
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [البقرة: 159] الْآيَةَ، وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] الْآيَةَ فَمَنْ أَمَرَ بِكَتْمِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَقَدْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا مِمَّا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الزَّائِغِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140] .
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ مَنْ أَمَرَ بِكِتْمَانِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ اللَّهِ بِصِفَاتٍ أَحْدَثَهَا الْمُبْتَدِعُونَ، تَحْتَمِلُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، أَوْ تَجْمَعُ حَقًّا وَبَاطِلًا، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، فَهَذَا مُضَاهَاةٌ لِمَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]، وَقَالَ:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] إلَى قَوْلِهِ: {مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَتَبُوا هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا، وَقَالُوا لِلْعَامَّةِ هَذَا أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا جَمَعُوا إلَى ذَلِكَ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، فَقَدْ ضَاهُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فِي لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِ الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] إلَى قَوْلِهِ {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى وُجُوبِ إتْبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَمِّ مَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ. مِثْلُ مَا رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكَائِيُّ فِي أُصُولِ السُّنَّةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صِفَةِ الرَّبِّ عز وجل، مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا، وَلَكِنْ أَفْتُوا
بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ سَكَتُوا فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُ بِصِفَةٍ لَا شَيْءٍ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِفْتَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، دُونَ قَوْلِ جَهْمٍ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّفْيِ، فَمَنْ قَالَ لَا يُتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ، وَلَا يُكْتَبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ، وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، بَلْ يَعْتَقِدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ النَّفْيِ، فَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْإِجْمَاعَ، وَمِنْ أَقَلِّ مَا قِيلَ فِيهِمْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وَيُقَالُ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " لَا يَتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ، وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ، وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ". إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تُتْلَى هَذِهِ الْآيَاتُ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عِنْدَ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هَذَا الْقَوْلُ إنْ أُخِذَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَهُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى مَا عَلِمُوهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا، وَاسْتِمَاعِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تِلَاوَتُهَا وَإِقْرَاؤُهَا وَاسْتِمَاعُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ هُوَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَبْلِيغُ الْأَحَادِيثِ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ.
إذْ مَا مِنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ تَرْوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ أَوْ النَّفْيِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُوصَفُ بِالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ إثْبَاتُ مَحَامِدِهِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدِهِ، وَيُوصَفُ بِالنَّفْيِ، وَهُوَ نَفْيُ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ حُكْمُهَا كَذَا وَكَذَا إمَّا إقْرَارٌ وَتَأْوِيلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ هَذَا فَيَنْبَغِي لِقَائِلِ ذَلِكَ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَهُ، فَلَا يَنْطِقُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بِشَيْءٍ، وَلَا يَقُولُ الظَّاهِرُ مُرَادٌ أَوْ غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَا التَّأْوِيلُ سَائِغٌ، وَلَا هَذِهِ النُّصُوصُ لَهَا مَعَانٍ أُخَرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ إذْ هَذَا تَعَرُّضٌ لِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِذَا الْتَزَمَ هُوَ ذَلِكَ وَقَالَ لِغَيْرِهِ: الْتَزِمْ مَا الْتَزَمْتُهُ وَلَا تَزِدْ عَلَيْهَا وَلَا تَنْقُصْ مِنْهَا،
فَإِنَّ هَذَا عَدْلٌ بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَى غَيْرَهُ عَنْ الْكَلَامِ عَلَيْهَا مَعَ تَكَلُّمِهِ هُوَ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا. إنْ أَرَادَ أَنَّهَا أَنْفُسُهَا لَا تُكْتَبُ وَلَا يُفْتَى بِهَا، فَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَرَادَ لَا يَكْتُبُ بِحُكْمِهَا، وَلَا يُفْتِي الْمُسْتَفْتِيَ عَنْ حُكْمِهَا، فَيُقَالُ لَهُ: فَعَلَيْك أَيْضًا أَنْ تَلْتَزِمَ ذَلِكَ وَلَا تُفْتِي أَحَدًا فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ النَّافِيَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَمْرُك لِغَيْرِك بِمِثْلِ مَا فَعَلْته عَدْلًا. أَمَّا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ إلَى هَذِهِ النُّصُوصِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا بِأَنْوَاعِ التَّحْرِيفَاتِ وَالتَّأْوِيلَاتِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا، وَيَقُولُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنْتُمْ لَا تُعَارِضُونَ وَلَا تَتَكَلَّمُوا فِيهَا، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا مَا زَالُوا يَتَكَلَّمُونَ وَيُفْتُونَ وَيُحَدِّثُونَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَهَذَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَنِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهُ إلَّا اللَّهُ، حَتَّى إنَّهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسُ الْعِلْمَ وَبَوَّبُوهُ فِي الْكُتُبِ، فَصَنَّفَ ابْنُ جُرَيْجٍ التَّفْسِيرَ وَالسُّنَنَ، وَصَنَّفَ مَعْمَرٌ أَيْضًا، وَصَنَّفَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَصَنَّفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَقْدَمِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْعِلْمِ صَنَّفُوا هَذَا الْبَابَ، فَصَنَّفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ، كَمَا صَنَّفَ كُتُبَهُ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ الْعِلْمِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَالِكًا إنَّمَا صَنَّفَ الْمُوَطَّأَ تَبَعًا لَهُ، وَقَالَ: جَمَعْت هَذَا خَوْفًا مِنْ الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يُضِلُّوا النَّاسَ، لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ النَّفْيَ وَالتَّعْطِيلَ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا صُنِّفَ الْكُتُبُ الْجَامِعَةُ، صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا كَمَا صَنَّفَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَكِتَابَهُ فِي النَّقْضِ عَلَى الْمَرِيسِيِّ وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِسَالَتَهُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَأَمْلَى فِي أَبْوَابِ ذَلِكَ حَتَّى جَمَعَ كَلَامَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَصَنَّفَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ كِتَابَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ كُتُبَ السُّنَّةِ فِي الصِّفَاتِ طَوَائِفُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَحَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، وَخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ شَيْخِ أَبِي دَاوُد. وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ
وَلِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْعَسَّالِ وَأَبِي بَكْرٍ الْآجُرِّيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، كِتَابُ الصِّفَاتِ وَكِتَابُ الرُّؤْيَةِ؛ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بَطَّةَ، وَأَبِي قَاسِمٍ اللَّالَكَائِيِّ، وَأَبِي عُمَرَ الطَّلْمَنْكِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَأَيْضًا فَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ، وَتَكَلَّمُوا فِي إثْبَاتِ مَعَانِيهَا، وَتَقْرِيرُ صِفَاتِ اللَّهِ دَلَّتْ عَلَيْهَا هَذِهِ النُّصُوصُ، لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ جَحْدَ ذَلِكَ وَالتَّكْذِيبَ لَهُ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَكَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَكَمَا فَعَلَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ.
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ وَتَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَبَيَّنَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَكَانَ أَعْظَمُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ تَعْرِيفَهُمْ رَبَّهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَمَا يَجِبُ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَثْبُتُ لَهُ فَيُحْمَدُ وَيُثْنَى بِهِ عَلَيْهِ وَيُمَجَّدُ بِهِ، وَمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، فَيُنَزَّهُ عَنْهُ وَيُقَدَّسُ. ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَطَّلُوا حَقِيقَةَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَسَلَكُوا مَسْلَكَ إخْوَانِهِمْ الْمُعَطِّلَةِ الْجَاحِدِينَ لِلصَّانِعِ وَصَارَ أَغْلِبُ مَا يَصِفُونَ بِهِ الرَّبَّ هُوَ الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ الْعَدَمِيَّةُ، وَلَا يُقِرُّونَ إلَّا بِوُجُودٍ مُجْمَلٍ، ثُمَّ يَقْرُنُونَهُ بِسَلْبٍ يَنْفِي الْوُجُودَ، وَمِنْ أَبْلَغِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهَا كُتُبَهُ، مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ الْمُفَصَّلِ، وَالنَّفْيِ الْمُجْمَلِ، كَمَا يُقَرِّرُ فِي كِتَابِهِ، وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَقُولُ فِي النَّفْيِ. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ اتِّبَاعُ الْمُرْسَلِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَأَمَّا طَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ، فَهِيَ نَفْيٌ مُفَصَّلٌ، لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا، وَإِثْبَاتٌ مُجْمَلٍ. يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ لَا
يُوصَفُ إلَّا بِسَلْبٍ أَوْ إضَافَةٍ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْهُمَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ، عَلِمَ أَنْ هَؤُلَاءِ فِي غَايَةِ الْمُشَاقَّةِ وَالْمُحَادَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ وَانْتَدَبَ هَؤُلَاءِ فِي تَقْرِيرِ شُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ يَنْفُونَ بِهَا الْحَقَّ، وَتَأَوَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، بِحَيْثُ حَمَلُوهَا عَلَى مَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا فَعَلَ إخْوَانُهُمْ الْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَجَحَدُوا الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ، كَمَا فَعَلَ إخْوَانُهُمْ السُّوفِسْطَائِيَّة فَجَمَعُوا بَيْنَ السَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالْقَرَامِطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ، فَلِهَذَا اُنْتُدِبَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَغَيْرُهُمْ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَتَقْرِيرِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَرَدِّ تَكْذِيبِهِمْ وَتَعْطِيلِهِمْ، وَذَكَرُوا دَلَائِلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ وَرَدِّ بَاطِلِهِمْ، وَلَمَّا احْتَجَّ أُولَئِكَ بِشُبَهٍ عَقْلِيَّةٍ، بَيَّنُوا أَيْضًا لَهُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ وَصِحَّةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَنْ نَهَى عَنْ بَيَانِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَرَ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ النَّفْيِ الَّذِي لَا يُؤْثَرُ عَنْ الرُّسُلِ، كَانَ قَدْ أَخَذَ مِنْ مُشَاقَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُحَادَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِحَسَبِ مَا سَعَى فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ أُمِرَ بِتَرْكِ مَا بَعَثَ بِهِ الرَّسُولُ، وَبِإِظْهَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ النَّاسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُتَّبَعُ، وَالْإِمَامُ الْمُقْتَدَى بِهِ سَوَاءٌ عَلِمُوا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَيُؤْمِنُونَ بِلَفْظِ النُّصُوصِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا، وَأَمَّا مَا سِوَى كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلُ أَصْلًا بِحَالٍ، وَلَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِلَفْظٍ لَهُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ مَقْبُولًا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا كَانَ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ مُجْمَلًا مُشْتَمِلًا عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ جَمِيعِ مَعَانِيهِ. بَلْ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْ إطْلَاقِ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَالتَّفْصِيلِ وَالِاسْتِفْسَارِ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الْمُبْتَدَعَةَ الْمُجْمَلَةَ أَصْلًا أُمِرُوا بِهَا وَجَعَلُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَرْعًا يُعْرَضُ عَنْهَا وَلَا يُتَكَلَّمُ بِهَا وَلَا فِيهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَبْدِيلُ الدِّينِ إلَّا هَكَذَا؟ ،.
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ وَيُوجِبَ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا
أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَحْظُرُ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا حَظَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ وَجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَحَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَدْ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَهُوَ مُضَاهٍ لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينًا لَمْ يَأْمُرْهُمْ اللَّهُ بِهِ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَبَرَاءَةِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ السُّوَرِ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ، إحْدَاثُ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَإِلْزَامُ النَّاسِ بِهِ وَإِكْرَاهُهُمْ عَلَيْهِ، وَالْمُوَالَاةُ عَلَيْهِ وَالْمُعَادَاةُ عَلَى تَرْكِهِ، كَمَا ابْتَدَعَتْ الْخَوَارِجُ رَأْيَهَا، وَأَلْزَمَتْ النَّاسَ بِهِ وَوَالَتْ وَعَادَتْ عَلَيْهِ.
وَابْتَدَعَتْ الرَّافِضَةُ رَأْيَهَا، وَأَلْزَمَتْ النَّاسَ بِهِ، وَوَالَتْ وَعَادَتْ عَلَيْهِ وَابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ رَأْيَهَا وَأَلْزَمَتْ النَّاسَ بِهِ وَوَالَتْ وَعَادَتْ عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ لَهُمْ قُوَّةٌ فِي دَوْلَةِ الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، الَّذِينَ اُمْتُحِنَ فِي زَمَنِهِمْ الْأَئِمَّةُ لِتَوَافُقِهِمْ عَلَى رَأْيِ جَهْمٍ الَّذِي مَبْدَؤُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَعَاقَبُوا مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْعِقَابَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، وَلَا يَجُوزُ إكْرَاهُ أَحَدٍ إلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَالْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
فَمَنْ عَاقَبَ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشَرَعَ ذَلِكَ دِينًا، فَقَدْ جَعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَلِرَسُولِهِ نَظِيرًا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا، أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَهُوَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا يُلْزِمُونَ النَّاسَ بِمَا يَقُولُونَهُ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُكْرِهُونَ أَحَدًا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لِمَا اسْتَشَارَ هَارُونُ الرَّشِيدُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فِي حَمْلِ النَّاسِ عَلَى مُوَطَّئِهِ، قَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ، فَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ عَمَّنْ كَانَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا جَمَعْتُ عِلْمَ أَهْلِ بَلَدِي، أَوْ كَمَا قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا: إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُصِيبُ وَأُخْطِئُ، فَاعْرِضُوا قَوْلِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا رَأْيٌ، فَمَنْ جَاءَنَا بِرَأْيٍ أَحْسَنَ مِنْهُ قَبِلْنَاهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ. وَقَالَ: إذَا رَأَيْت الْحُجَّةَ مَوْضُوعَةً عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنِّي أَقُولُ بِهَا، وَقَالَ الْمُزَنِيّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ، هَذَا كِتَابٌ اخْتَصَرْته مِنْ عِلْمِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ، لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ مَذْهَبِهِ. مَعَ إعْلَامِيَّةِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَلَا يُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ قَالَ: لَا تُقَلِّدْ دِينَك الرِّجَالَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْلَمُوا مِنْ أَنْ يَغْلَطُوا. فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُمْ فِي الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ وَفُرُوعِ الدِّينِ لَا يَسْتَجِيزُونَ إلْزَامَ النَّاسِ بِمَذَاهِبِهِمْ مَعَ اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَيْهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَكَيْفَ بِإِلْزَامِ النَّاسِ وَإِكْرَاهِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ لَا تُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ الْجَهْمِيِّ الَّذِي كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ فِي عَهْدِ الْمُعْتَصِمِ، لَمَّا دَعَا النَّاسَ إلَى التَّجَهُّمِ، وَأَنْ يَقُولُوا الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَأَكْرَهَهُمْ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَمَرَ بِعَزْلِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ وَقَطَعَ رِزْقَهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فَعَلَهُ فِي مِحْنَتِهِ الْمَشْهُورَةِ، فَقَالَ لَهُ فِي مُنَاظَرَتِهِ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ. ائْتُونِي بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ حَتَّى أُجِيبَكُمْ بِهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: وَأَنْتَ لَا تَقُولُ إلَّا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: هَبْ أَنَّكَ تَأَوَّلَتْ تَأْوِيلًا فَأَنْتَ أَعْلَمُ وَمَا تَأَوَّلْت، فَكَيْفَ تَسْتَجِيزُ أَنْ تُكْرِهَ النَّاسَ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا عَلَى تَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، أَوْ فِعْلِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَقُولُوهُ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ إنَّمَا يُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ لِلْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ حَقًّا، أَوْ اعْتَقَدَ قَائِلُهُ أَنَّهُ حَقٌّ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ أَنْ يَقُولُوا مَا لَمْ يُلْزِمْهُمْ الرَّسُولُ أَنْ يَقُولُوهُ لَا نَصًّا وَلَا اسْتِنْبَاطًا، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ الْقَائِلِ: الْمَطْلُوبُ مِنْ فُلَانٍ أَنْ يَعْتَقِدَ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِكَذَا وَكَذَا، إيجَابٌ عَلَيْهِ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، وَتَحْرِيمٌ عَلَيْهِ لِهَذَا الْفِعْلِ.
وَإِذَا كَانُوا لَا يَرَوْنَ
خُرُوجَهُ مِنْ السِّجْنِ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ اسْتَحَلُّوا عُقُوبَتَهُ وَحَبْسَهُ حَتَّى يُطِيعَهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا أَمَرُوا بِهِ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَمَا نَهُوا عَنْهُ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّةِ الْمُشَابِهِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَالٍ، وَهُمْ أَيْضًا يُبَيِّنُوا أَنَّهُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَوْ كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَكَانَ عَلَيْهِمْ بَيَانُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ لَا تَجُوزُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] فَإِذَا لَمْ يُقِيمُوا حُجَّةَ اللَّهِ الَّتِي يُعَاقَبُ مَنْ خَالَفَهَا، بَلْ لَا يُوجَدُ مَا ذَكَرُوهُ فِي حُجَّةِ اللَّهِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَبْلِيغِ حُجَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ مُمَاثَلَةً لِمَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الْمُضَاهِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ لَمْ يَجُزْ الْإِلْزَامُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ دَلَالَتِهِ، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ لَا تَجُوزُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ مِمَّا أَظْهَرَهُ الرَّسُولُ وَبَيَّنَهُ، فَقَدْ قَامَتْ الْحُجَّةُ بِبَيَانِ رَسُولِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حُجَّتِهِ وَإِظْهَارِهَا الَّتِي يَجِبُ مُوَافَقَتُهَا وَيَحْرُمُ مُخَالَفَتُهَا، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي أَهْلِ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ: إنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةٌ أَزَالَهَا الْإِمَامُ، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنُوهَا لَهُ فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنُوا صَوَابَ الْقَوْلِ أَصْلًا بَلْ ادَّعَوْهُ دَعْوًى مُجَرَّدَةً حُورِبُوا. فَكَيْفَ يَجِبُ الْتِزَامُ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ، وَهَلْ يَفْعَلُ هَذَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ دِينٌ؟ ،.
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ لَوْ بَيَّنُوا صَوَابَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقَوْلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِعُقُوبَةِ تَارِكِهِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نِزَاعٌ إذَا أَقَامَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْحُجَّةَ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِ مِمَّا يُسِيغُ لَهُ عُقُوبَةَ مُخَالِفَةِ، بَلْ عَامَّةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ أَنْ يُعَاقِبَ الْآخَرَ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ قَوْلِهِ. فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَذْكُرُوا حُجَّةً أَصْلًا وَلَمْ يُظْهِرُوا صَوَابَ قَوْلِهِمْ.
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أَلْزَمُوا بِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ قَدْ
ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ، وَوَجَبَتْ عُقُوبَةُ تَارِكِ الْتِزَامِهِ، فَهَذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ إلَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ، بَعْدَ هَذَا الطَّلَبِ وَالْحَبْسِ وَالنِّدَاءِ عَلَى الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ بِالْمَنْعِ مِنْ مُوَافَقَتِهِ، وَنِسْبَتِهِ إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَمُخَالَفَةِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ، وَخُرُوجِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِمَّا قَالُوهُ وَفَعَلُوهُ فِي حَقِّهِ، مِنْ الْإِيذَاءِ وَالْعُقُوبَةِ وَالضَّرَرِ زَاعِمِينَ أَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْكُتُبِ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَإِذَا أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ شَيْئًا مِنْ الْخَطَإِ وَالضَّلَالِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ، لَمْ يَكُنْ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالدُّعَاءِ إلَى مَقَالَةٍ إنْشَاؤُهَا مُبِيحًا لِمَا فَعَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّبْدِيلِ لِدِينِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ ظُلْمٍ إلَى ظُلْمٍ؛ لِيُقَرِّرُوا بِالظُّلْمِ الْمُتَأَخِّرِ حُسْنَ الظُّلْمِ الْمُتَقَدِّمِ. كَمَنْ يَسْتَجِيرُ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ، وَهَذَا يَزِيدُهُمْ إثْمًا وَعَذَابًا، فَهَبْ أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ وَافَقَهُمْ الْآنَ عَلَى مَا أَنْشَأَهُ مِنْ الْقَوْلِ، أَيُّ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَطَئِهِ وَضَلَالِهِ فِي أَقْوَالِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ إذَا لَمْ تُنَافِ هَذَا الْقَوْلَ؟ دَعْ اسْتِحْقَاقَ الْعُقُوبَةِ وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، فَمَا لَمْ يُبَيِّنُوا أَنَّ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ قَبْلَ طَلَبِهِ وَحَبْسِهِ وَإِعْلَامِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ هَذَا وَهُمْ قَدْ عَجَزُوا عَنْ إبْدَاءِ خَطَأٍ أَوْ ضَلَالٍ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْمَقَالِ، وَهُمْ دَائِمًا يَسْتَعْفُونَ مِنْ الْمُحَاقَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ بِلَفْظٍ أَوْ خَطٍّ، وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً: مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ مَا يُنْكِرُهُ بِخَطِّهِ، وَيَذْكُرُ حُجَّتَهُ، وَيَكْتُبُ جَوَابَهُ، وَيُعْرَضُ الْأَمْرَانِ عَلَى عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَأُبْلِسُوا وَبُهِتُوا وَطُلِبَ مِنْهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ الْمُخَاطَبَةُ فِي الْمُحَاضَرَةِ، وَالْمُحَاقَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ، فَظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ الْعِيِّ فِي الْخِطَابِ، وَالنُّكُوصِ عَلَى الْأَعْقَابِ، وَالْعَجْزِ عَنْ الْجَوَابِ مَا قَدْ اُشْتُهِرَ وَاسْتَفَاضَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدَائِنِ وَالْأَعْرَابِ.
وَمِنْ قُضَاتِهِمْ الْفُضَلَاءِ مَنْ كَتَبَ اعْتِرَاضًا عَلَى الْفُتْيَا الْحَمَوِيَّةِ، وَضَمَّنَهُ أَنْوَاعًا مِنْ الْكَذِبِ وَأُمُورًا لَا تَتَعَلَّقُ بِكَلَامِ الْمُعْتَرَضِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَتَبْت جَوَابَهُ فِي مُجَلَّدَاتٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا ثُمَّ خَبَّأَهُ وَطَوَاهُ عَنْ الْأَبْصَارِ. وَخَافَ مِنْ نَشْرِهِ ظُهُورَ الْعَارِ، وَخِزْيَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالصَّغَارِ، إذْ مَدَارُ الْقَوْمِ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا الْكَذِبُ الصَّرِيحُ، وَإِمَّا الِاعْتِقَادُ الْقَبِيحُ. فَهُمْ لَنْ يَخْلُوا مِنْ كَذِبٍ كَذَبَهُ بَعْضُهُمْ وَافْتَرَاهُ، وَظَنٍّ بَاطِلٍ خَابَ مَنْ تَقَلَّدَهُ وَتَلَقَّاهُ. وَهَذِهِ حَالُ سَائِرِ الْمُبْطِلِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَمَعْنَاهُ الَّذِي أَرَادُوهُ لَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا هُوَ مَأْثُورًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، لَا خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا هُوَ أَيْضًا مَحْفُوظًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَكْمَلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ دِينَهَا، وَأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ لِهَذِهِ مَا تَتَّقِيهِ، كَمَا قَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الْآيَةَ، وَقَالَ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لِلْأُمَّةِ الْإِيمَانَ الَّذِي أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عُلِمَ بِمَجْمُوعِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ الْإِيمَانِ، وَلَا مِنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ الْتَزَمَ اعْتِقَادَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ، وَذَلِكَ تَبْدِيلٌ لِلدِّينِ، كَمَا بَدَّلَ مَنْ بَدَّلَ مِنْ مُبْتَدِعَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ دِينَ الْمُرْسَلِينَ.
يُوَضِّحُ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ نَزَّهَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ النَّقَائِصِ، تَارَةً بِنَفْيِهَا وَتَارَةً بِإِثْبَاتِ أَضْدَادِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقَوْله تَعَالَى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] ، وقَوْله تَعَالَى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وَقَوْلُهُ:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100]
إلَى قَوْلِهِ {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وَقَوْلُهُ:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] إلَى قَوْلِهِ: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 92] وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20] إلَى قَوْلِهِ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وَقَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] الْآيَةَ، وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ، أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٍ، وَأَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَأَنَّ رَحْمَتَهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْأَعْلَى الْمُتَعَالِي، الْعَظِيمُ، الْكَبِيرُ.
وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُوَافِقَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«إنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ: «شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي أَوَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إعَادَتِهِ» . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ السُّنَنِ لِلْأَعْرَابِيِّ: «وَيْحَك إنَّ اللَّهَ لَا يُسْتَشْفَعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ أَوْ قَالَ بِيَدِهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ، وَإِنَّهُ لِيَئِطَّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ بِرَاكِبِهِ» وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنْتَ الْأَوَّلُ
فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ» إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ اللَّهِ وَلَا وَصْفُهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ لُزُومًا بَيِّنًا نَفْيَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ كَمَالِ الدِّينِ وَتَمَامِهِ، وَمَعَ كَوْنِ الرَّسُولِ قَدْ بَلَّغَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ، أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ ثُمَّ لَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ قَطُّ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى النَّاسُ وَيُؤْمَرُونَ بِاعْتِقَادٍ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ عَمَّنْ جَاءَ بِالدِّينِ، هَلْ هَذَا إلَّا صَرِيحُ تَبْدِيلِ الدِّينِ؟ ،.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَدْ قُلْت لَهُمْ: قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ لَيْسَ فِي السَّمَاوَاتِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ إلَهٌ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَعْرُجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ، وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ. فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ جُمْهُورُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ مَشَايِخِ الْمُمْتَحِنِينَ وَنَحْوِهِمْ، يُصَرِّحُونَ بِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَكِتَابِهِمْ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ، فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي. وَإِثْبَاتُ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْهَا. هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ أَيْضًا الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ أَيْضًا سَوَاءٌ قَالُوا إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان، أَوْ قَالُوا إنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودَاتُ كَمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ دَاخِلُهُ وَخَارِجُهُ مُتَنَاهِيًا أَوْ غَيْرَ مُتَنَاهٍ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ جِسْمٍ، كَمَا بَيَّنَّا مَقَالَاتِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَصَارَتْ الْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ الْجِهَةَ وَالْحَيِّزَ، مَقْصُودُهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ، وَلَا فَوْقَ السَّمَاوَاتِ إلَهٌ. وَالْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ فِي الْمَوْجُودَاتِ، يُثْبِتُونَ لَهُ الْجِهَةَ وَالْحَيِّزَ. فَبَيَّنْت فِي الْجَوَابِ بُطْلَانَ قَوْلِ فَرِيقَيْ الْجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ وَالْمُثْبِتَةِ، فَإِنَّ نُفَاةَ الْجَهْمِيَّةِ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا، وَمُثْبِتَتَهُمْ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وَذَكَرْتُ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ
الْمُتَكَلِّمِينَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ عَنْ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَعْنُونَهَا، فَإِنْ كَانُوا عَنُوا مَعْنًى آخَرَ كَانَ عَلَيْهِمْ بَيَانُهُ إذْ اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ ابْتَدَعَهُ هُوَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِمَعْنَاهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا اعْتِقَادَ نَفْيِ الْجِهَةِ وَالْحَيِّزِ عَنْ اللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاعْتِقَادِ لِقَوْلٍ مِنْ الْأَقْوَالِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْلِيدًا لِلْآمِرِ، أَوْ لِأَجْلِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانُوا أَمَرُوا بِأَنْ يَعْتَقِدَ هَذَا تَقْلِيدًا لَهُمْ وَلِمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِغَيْرِ الرَّسُولِ، لَا سِيَّمَا وَعِنْدَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُعْلَمْ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا عُلِمَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّاتُ لَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا حُجَّةً لَا مُجْمَلَةً وَلَا مُفَصَّلَةً وَلَا أَحَالُوا عَلَيْهَا، بَلْ هُمْ يَفِرُّونَ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ وَالْمُحَاجَّةِ بِخِطَابٍ أَوْ كِتَابٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَمْرَهُمْ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ حَرَامٌ بَاطِلٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ لِلنَّاسِ أَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّاسَ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، لِمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِي الدِّينِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعِينَ فِيمَا يَقُولُونَهُ لِمَا ثَبَتَ عَنْ الْمُرْسَلِينَ، كَمَا يُقَلَّدُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ فِي فُرُوعِ الدِّينِ. فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَقُولُونَ أَنَّهَا عَقْلِيَّاتٌ، وَأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِالْعَقْلِ، يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى تَأْوِيلِ السَّمْعِ وَأَنَّهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، فَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا جَوَّزَ التَّقْلِيدَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بَلْ النَّاسُ فِيهَا قِسْمَانِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا جَهْلِيَّاتٌ لَا عَقْلِيَّاتٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ مَنْ نَظَرَ فِي أَدِلَّتِهَا الْعَقْلِيَّةِ عَلِمَ صِحَّتِهَا. فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ وَادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ إنِّي أُقَلِّدُ مَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ صِحَّةَ مَا يَقُولُهُ بِالْعَقْلِ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يُرَجِّحُ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ وَقَائِلًا عَلَى قَائِلٍ إلَّا بِمُوجِبٍ.
أَمَّا مُجَرَّدُ التَّقْلِيدِ لِأَحَدِ الْقَائِلِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، فَلَا يُسَوَّغُ فِي عَقْلٍ وَلَا دِينٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُسَوِّغُوا لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ حَتَّى يَعْلَمَهُ بِأَدِلَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ
فَكَيْفَ وَقَدْ أَوْجَبُوا اعْتِقَادَهُ إيجَابًا مُجَرَّدًا لَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهِ دَلِيلًا أَصْلًا وَهَلْ هَذَا إلَّا فِي غَايَةِ الْمُنَاقَضَةِ وَالتَّبْدِيلِ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ فَإِنَّ مَنْ أَبَاحَ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَفْعَالِ كَانَ خَارِجًا عَنْ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ بِمَنْ أَوْجَبَهَا وَعَاقَبَ عَلَيْهَا؟ فَكَيْفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ الْأَفْعَالِ؟ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ أَوْ وُجُوبُهُ فِي مِثْلِ هَذَا لَكَانَ لِمَنْ يُسَوَّغُ تَقْلِيدُهُ فِي الدِّينِ، كَالْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُسَوَّغُ لِلْمُسْلِمِينَ تَقْلِيدُهُ فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ، فَكَيْفَ يُقَلِّدُونَهُ أُصُولَ دِينِهِمْ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَإِنْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَيْسَ فِي قَائِلِيهِ مَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ لَهُمْ قَوْلٌ مَتْبُوعٌ بَيْنَ أَئِمَّةِ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْوُجُوهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ بْنِ خَيْرَانَ، وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، بَلْ الْمَحْفُوظُ عَمَّنْ حُفِظَ عَنْهُ كَلَامٌ فِي هَذَا ضِدُّ هَذَا الْقَوْلِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يُحْكَى عَنْ مِثْلِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ يُحْكَى عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَبُو الْمَعَالِي لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ تَقْلِيدُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ هَذَا وَهُوَ الذَّكِيُّ اللَّوْذَعِيُّ، وَكِتَابُهُ فِي الْمَذْهَبِ هُوَ الَّذِي رَفَعَ قَدْرَهُ وَفَخَّمَ أَمْرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ فِيمَا ارْتَفَعَ بِهِ قَدْرُهُ وَعَظُمَ بِهِ أَمْرُهُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ، فَكَيْفَ يُقَلَّدُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الِاضْطِرَابُ وَأَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ وَتَابَ، وَهَجَرَهُ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِهِ مِثْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ يُقَلِّدُ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ الْأُسْتَاذَ الْمُطَاعَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُقَلِّدُ مَنْ هُوَ دُونَهُ بِلَا نِزَاعٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ، إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَدَارِك الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَبُو الْمَعَالِي لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَامَّةِ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِجْمَاعُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْقِيَاسُ أَوْ التَّقْلِيدُ فِي الْمَسَائِلِ الظَّنِّيَّةِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ غَالِبُ أَمْرِهِ الدَّوَرَانُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ السَّمْعِيِّ الْقَطْعِيِّ وَالْقِيَاسِ
الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَعْتَمِدُ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِالْخِلَافِ الْمَنْصُوبِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا بِالْأُصُولِ فَبِالدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، هَذَا وَهُوَ أَجَلُّ مَنْ يُقْرَنُ بِهِ مِنْ الْمُنَاظِرِينَ، وَعُمْدَةُ مَنْ يُسْلَكُ سَبِيلُهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَبْلُغْ شَأْوَهُ فِي الْعِلْمِ وَالذَّكَاءِ، وَمُقَاوَمَةِ الْخُصُومِ الْفُضَلَاءِ.
وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَالْبَاجِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ يُقَلِّدُونَ لِمَنْ أَخَذُوا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمُعْتَرَفُونَ بِأَنَّهُمْ لَهُمْ مِنْ التَّلَامِذَةِ الْمُتَّبِعِينَ، لَيْسَ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ اسْتِيفَاءُ الْحُجَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَلَا النُّهُوضُ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْحَمْلِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى فَصْلِ الْخِطَابِ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ. وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ إلَيْهِمْ الْمَرْجِعُ فِي الدِّينِ كَابْنِ الْقَاسِمِ، وَابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ، وَسَحْنُونٍ وَابْنِهِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، وَابْنِ وَضَّاحٍ وَغَيْرِهِمْ فَهُمْ بُرَآءُ مِنْ هَذَا النَّفْيِ وَالتَّكْذِيبِ، وَلَهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا يَعْرِفُهَا الْعَالِمُ اللَّبِيبُ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ حَقٌّ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، لَمْ يَجِبْ اعْتِقَادُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إذْ وُجُوبُ اعْتِقَادِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ بِلَا نِزَاعٍ. أَمَّا الْمُنَازِعُونَ فَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْوُجُوبَ كُلَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَإِنْ عَرَفَهُ. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يُعْلَمْ بِالْعَقْلِ، فَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ فِيمَا يُعْلَمْ وُجُوبُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ نَظَرِهِ، وَاعْتِقَادُ كَلَامٍ مُعَيَّنٍ مِنْ تَفَاصِيلِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ لَا يُعْلَمُ وُجُوبُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَلَا بِنَظَرِهِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ عَامَّةُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولِ لَمْ يَخْطِرْ بِقَلْبِهِ هَذَا النَّفْيُ الْمُعَيَّنُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ تَرْكُهُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ.
وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ غَالِيَةِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ يَزْعُمُ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا النَّفْيِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ مِنْ أَجَلِّهَا، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ، أَوْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ إنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يَجِبُ عَلَى الْخَاصَّةِ دُونَ الْعَامَّةِ.
فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادَ الْقَوْلِ بِإِيجَابِ هَذَا؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوجِبُوا اعْتِقَادَ هَذَا النَّفْيِ، لَا عَلَى الْخَاصَّةِ وَلَا عَلَى الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ وُجُوبُ هَذَا مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَجَدَّدَتْ، فَإِنَّ وُجُوبَ هَذَا الِاعْتِقَادِ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ سَوَاءٌ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19] {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7] .
وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ عَدَمُ إيجَابِ الشَّارِعِ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ، كَانَ دَعْوَى وُجُوبِهِ بِالْعَقْلِ مَرْدُودًا فَإِنَّ الشَّارِعَ أَقَرَّ الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَوْجَبَهَا كَمَا أَوْجَبَ الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ، وَحَرَّمَ الْكَذِبَ وَالظُّلْمَ.
وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ هَذَا الْقَوْلِ مُنْتَفِيًا، لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى النَّاسِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعَاقِبَ تَارِكَهُ وَيَجْعَلَهُ مِحْنَةً، مَنْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ وَالَاهُ وَمَنْ خَالَفَهُ فِيهِ عَادَاهُ. وَهَذَا الْمَسْلَكُ هُوَ أَحَدُ مَا سَلَكَهُ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الْمُمْتَحِنِينَ لِلنَّاسِ. كَابْنِ أَبِي دَاوُد وَأَمْثَالِهِ لَمَّا نَاظَرَهُمْ مَنْ نَاظَرَهُمْ قُدَّامَ الْخُلَفَاءِ كَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ، فَإِنَّهُمْ بَيَّنُوا لَهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي أَوْجَبُوهُ عَلَى النَّاسِ، وَعَاقَبُوا تَارِكَهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلَا أَصْحَابِهِ، وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَلَا أَمَرُوا بِهِ، وَلَا عَاقَبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يَجِبُ دُعَاءُ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَعُقُوبَةُ تَارِكِيهِ، لَمْ يَجُزْ إهْمَالُهُمْ لِذَلِكَ، وَإِنَّ الْقَائِلَ لِهَذَا الْقَوْلِ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ مُصِيبٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ وَيُعَاقِبَهُمْ عَلَى تَرْكِ كُلِّ قَوْلٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَوَابٌ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
وَذَلِكَ يَتَّضِحُ بِالْوَجْهِ الثَّامِنِ: وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَيُعَاقَبُ تَارِكُوهُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِهِ وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ إذْ أُصُولُ الْإِيمَانِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِقَادُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ وَتَكُونُ فَارِقَةً بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالسُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ وَتَبْلِيغُهُ، لَيْسَ حُكْمُ هَذِهِ كَحُكْمِ آحَادِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ فِي زَمَانِهِ حَتَّى شَاعَ الْكَلَامُ فِيهَا بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ إذْ الِاعْتِقَادُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لِلْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ أَحْكَامُهَا، مِثْلُ أَسْمَاءِ
اللَّهِ وَصِفَاتِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَيْسَتْ مِمَّا يَحْدُثُ سَبَبُ الْعِلْمِ بِهِ أَوْ سَبَبُ وُجُوبِهِ. بَلْ الْعِلْمُ بِهَا وَوُجُوبُ ذَلِكَ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَالْأَوَّلُونَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ الْآخَرِينَ لِقُرْبِهِمْ مِنْ يَنْبُوعِ الْهُدَى، وَمِشْكَاةِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ. فَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْهُدَى، هُمْ الَّذِينَ بَاشَرَهُمْ الرَّسُولُ بِالْخِطَابِ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَعَامَّتِهِمْ، وَهَذِهِ الْعَقَائِدُ الْأُصُولِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْهُدَى، فَهُمْ بِهَا أَحَقُّ. فَإِذَا كَانَ وُجُوبُ ذَلِكَ مُنْتَفِيًا فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، كَانَ عَدَمُ وُجُوبِهِ مَعْلُومٌ عِلْمًا وَيَقِينِيًّا، وَكَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ.
وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَقْلِيَّاتِ، غَايَتُهَا أَنْ يُجْهِدَ فِيهَا أَصْحَابُهَا عُقُولَهُمْ وَآرَاءَهُمْ، وَالْقَوْلُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَإِنْ اعْتَقَدَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَقْلِيٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِنْ اعْتَقَدَ هُوَ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقْوَالٍ يَقُولُ أَصْحَابُهَا إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهَا فِي الْعَقْلِ، وَتَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، حَتَّى إنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِي الْقَوْلِ إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَيَقُولُ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى إنَّهُ بَاطِلٌ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ فَقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا غَيْرَ مَعْلُومِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مَعْلُومَ الْفَسَادِ أَوْ مَظْنُونَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا الَّتِي يَقُولُ قَائِلُهَا إنَّهَا مَقْطُوعٌ بِهَا تَعْتَوِرُهَا هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ، وَعَدَمُ الْقَطْعِ بِهَا بَلْ ظَنُّهَا وَالشَّكُّ فِيهَا وَظَنُّ نَقِيضِهَا وَالْقَطْعُ بِنَقِيضِهَا. ثُمَّ غَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنْ تَكُونَ صَوَابًا مَعْلُومًا أَنَّهَا صَوَابٌ عِنْدَ صَاحِبِهَا، فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِقَادُهُ، إذْ طُرُقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً مُشْتَبِهَةً، فَلَا يَجِبُ التَّكْلِيفُ بِمُوجَبِهَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَتْ عَقْلِيَّةً ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً بِأَدْنَى نَظَرٍ لَمْ يَجِبْ فِي كُلِّ مَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ ثَلَاثُ مُقَدِّمَاتٍ عَظِيمَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مَا اعْتَقَدَ قَائِلُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ مَا عَلِمَ الْوَاحِدُ أَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ عِنْدَهُ، يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ مَا كَانَ مَعْلُومًا مَقْطُوعًا بِهِ بِأَدْنَى نَظَرٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَغَايَةُ مَا يُبَيِّنُ مَنْ يُوجِبُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ أَنَّهَا حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلِيٌّ مَعْلُومٌ بِأَدْنَى نَظَرٍ وَإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا لَا يَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ حَتَّى يَعْلَمَ وُجُوبَ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْوُجُوبُ. لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ هَذَا الِاعْتِقَادَ، وَيُعَاقِبَ تَارِكِيهِ، حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ عِنْدَ مَنْ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا قَالُوهُ خَطَأٌ، مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَلِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ، مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَنَظَرُهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ الشَّارِعَ أَخْبَرَ بِنَقِيضِهِ، وَأَوْجَبَ اعْتِقَادَ ضِدِّهِ.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِالْإِيمَانٍ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُجْمَلًا، مُقِرًّا بِمَا بَلَّغَهُ مِنْ تَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ، غَيْرَ جَاحِدٍ لِشَيْءٍ مِنْ تَفَاصِيلِهَا، أَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ الْإِيمَانُ بِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ تَفْصِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ، إذْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ.
وَلِهَذَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ فِي مَقَالَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُقِرُّ فِيهَا بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ لَا يَنْفِيهَا وَلَا يُثْبِتُهَا، إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّ الرَّسُولَ نَفَاهَا أَوْ أَثْبَتَهَا، وَيَسَعُ الْإِنْسَانَ السُّكُوتُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ بِوُجُوبِ قَوْلِ أَحَدِهِمَا.
أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ هُوَ الَّذِي قَالَهُ الرَّسُولُ دُونَ الْآخَرِ، فَهُنَا يَكُونُ السُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ وَكِتْمَانُهُ مِنْ بَابِ كِتْمَانِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ وَمِنْ بَابِ كِتْمَانِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ، وَفِي كِتْمَانِ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ مِنْ الذَّمِّ وَاللَّعْنَةِ لِكَاتِمِهِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ هَذَا الْمَوْضِعَ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مُتَضَمِّنًا لِنَقِيضِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَالْآخَرُ لَا يَتَضَمَّنُ مُنَاقَضَةَ الرَّسُولِ، لَمْ يَجُزْ السُّكُوتُ عَنْهُمَا جَمِيعًا بَلْ يَجِبُ نَفْيُ الْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِمُنَاقَضَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْوَاقِفَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ حِينَ
تَنَازَعَ النَّاسُ، فَقَالَ قَوْمٌ بِمُوجَبِ السُّنَّةِ وَقَالَ قَوْمٌ بِخِلَافِ السُّنَّةِ، وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فَأَنْكَرُوا عَلَى الْوَاقِفَةِ، كَالْوَاقِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا لَا نَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، هَذَا مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْوَاقِفَةِ يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ مُضْمِرًا لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِلسُّنَّةِ وَلَكِنْ يُظْهِرُ الْوَقْفَ نِفَاقًا وَمُصَانَعَةً فَمِثْلُ هَذَا مَوْجُودٌ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا مَنْصُوصًا وَلَا مُسْتَنْبَطًا، بَلْ يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُنَاقِضُهُ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً اعْتِقَادُهُ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِحْنَةً لَهُمْ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، مَا يَدُلُّ نَصًّا وَلَا اسْتِنْبَاطًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ رَبٌّ يُعْبَدُ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ يُدْعَى وَيُقْصَدُ، وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَسَوَاءٌ سُمِّيَ ثُبُوتُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلًا بِالْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ، أَوْ لَمْ يُسَمَّ، فَتَنَوُّعُ الْعِبَارَاتِ لَا يَضُرُّ إذَا عُرِفَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ حَقًّا جَائِزًا، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ الرَّجُلُ فِيهِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا لَمْ يُؤْمَرْ بِأَحَدِهِمَا. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يُذْكَرُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا الْكَلَامُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ تَأْسِيسَ التَّقْدِيسِ، وَكِتَابِهِ نِهَايَةِ الْعُقُولِ فِي دِرَايَةِ الْأُصُولِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ مَا يَقُولُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ مِنْ حُجَجِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزِ فَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ ". لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ هَذَا نَفْيَ كَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَكَوْنِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ، بِحَيْثُ يُقَالُ إنَّهُ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ رَبٌّ وَلَا إلَهٌ، أَوْ مَا هُنَاكَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الَّذِي لَيْسَ بِشَيْءٍ، أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ هَذَا الْكَلَامُ نَفْيَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ ذَلِكَ، كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَأَنَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِي قَطُّ إثْبَاتُ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ لِلَّهِ مُطْلَقًا، حَتَّى يُقَالَ نَطْلُبُ مِنْهُ نَفْيَ مَا قَالَهُ أَوْ أَطْلَقَهُ مِنْ اللَّفْظِ، بَلْ كَلَامِي أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَأَلْفَاظُ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَمَنْ نَقَلَ مَذَاهِبَهُمْ أَوْ التَّعْبِيرَ عَنْ ذَلِكَ،
تَارَةً بِالْمَعْنَى الْمُطَابِقِ الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُمْ وَمَا يُذْكَرُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ فَإِنِّي أُبَيِّنُهُ وَأُفَصِّلُهُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْ غَيْرَ تَأْوِيلِهِ.
قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مِنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى، يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ، فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ، وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ، وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ، يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتَنِ الْمُضِلِّينَ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ، بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا فَإِنَّ هَذِهِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ، يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِوَجْهِ حَقٍّ وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِوَجْهِ بَاطِلٍ، فَالْمُطْلِقُونَ لَهَا يُوهِمُونَ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيَفْتَرُونَ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، كَقَوْلِ بَعْضِ قُضَاتِهِمْ لِبَعْضِ الْأُمَرَاءِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ، وَقَوْلٌ آخَرُ مِنْ طَوَاغِيتِهِمْ إنَّهُمْ يَقُولُونَ، إنَّ اللَّهَ فِي حَشْوِ السَّمَاوَاتِ، وَلِهَذَا سُمُّوا حَشْوِيَّةً إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي يَفْتَرُونَهَا عَلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، ثُمَّ يَأْتُونَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ مُتَشَابِهٍ يَصْلُحُ لِنَفْيِ هَذَا الْمَعْنَى الْبَاطِلِ وَلِنَفْيِ مَا هُوَ حَقٌّ فَيُطْلِقُونَهُ فَيَخْدَعُونَ بِذَلِكَ جُهَّالَ النَّاسِ، فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْصَالُ وَالِاسْتِفْسَارُ، انْكَشَفَتْ الْأَسْرَارُ. وَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ مِنْ النَّهَارِ، وَتَمَيَّزَ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الْمُدَلِّسِينَ، الَّذِينَ لَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَكَتَمُوا الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ إنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَأَنَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، لَمْ يُنَازَعْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، لَكِنَّ لَفْظَهُ لَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ هُوَ
مُفْهِمٌ أَوْ مُوهِمٌ لِنَفْيِ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: لَسْت أَقْصِدُ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَفَوْقَ خَلْقِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيُوَافِقُهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَعْدَ اسْتِفْصَالِهِ وَتَقْيِيدِ كَلَامِهِ بِمَا يُزِيلُ الِالْتِبَاسَ، وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ، فَلْيُصَرِّحْ بِذَلِكَ تَصْرِيحًا بَيِّنًا حَتَّى يَفْهَمَ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلَهُ وَكَلَامَهُ وَيَعْلَمُوا مَقْصُودَهُ وَمَرَامَهُ، فَإِذَا كَشَفَ لِلْمُسْلِمِينَ حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْرُجُ إلَى اللَّهِ وَلَا تَصْعَدُ إلَيْهِ، وَلَا تَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّ عِيسَى لَمْ يُرْفَعْ إلَيْهِ، وَمُحَمَّدٌ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَيْهِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ إلَى إلَهٍ هُنَاكَ يَدْعُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ، وَلَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي دُعَائِهِمْ إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَنْكَشِفُ لِلنَّاسِ حَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ وَيَظْهَرُ الضَّوْءُ مِنْ الظَّلَامِ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَجْتَرِئُ أَنْ يَقُولَهُ فِي مَلَأٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَقُولُهُ بَيْنَ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ إذَا اجْتَمَعُوا يَتَنَاجَوْنَ، وَإِذَا افْتَرَقُوا يَتَهَاجَوْنَ.
وَهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ الْمُحَقِّقِينَ، فَقَدْ شَابَهُوا مَنْ سَبَقَ إخْوَانَهُمْ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ - وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 13 - 14] إلَى قَوْلِهِ: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]، وَقَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 60] إلَى قَوْلِهِ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، بَلْ يَكُونُ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ، لَكِنْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُمْ مِنْ السَّمَّاعِينَ، قَالَ تَعَالَى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْإِفْكِ فِي عَائِشَةَ كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ وَتَلَطَّخَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْبِدَعِ كَالرَّفْضِ وَالتَّجَهُّمِ مَبْدَؤُهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَتَلَوَّثَ بِبَعْضِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكِنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ نَقْضِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ مَا شَارَكُوا فِيهِ أَهْلَ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ.
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُمْ إذَا بَيَّنُوا مَقْصُودَهُمْ كَمَا يُصَرِّحْ بِهِ أَئِمَّتُهُمْ وَطَوَاغِيتُهُمْ، مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ، وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ مَوْجُودٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَبِالضَّرُورَةِ الْإِيمَانِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِالنُّقُولِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَنْ خَيْرِ الْبَرِّيَّةِ، وَبِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ تَبْلُغُ مِئِينَ، وَبِالْأَحَادِيثِ الْمُتَلَقَّاتِ بِالْقَبُولِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْقُرُونِ، وَبِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَئِمَّتِهَا، وَبِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأُمَمُ بِجِبِلَّتِهَا وَفِطْرَتِهَا، وَمَا يُذْكَرُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ الشُّبْهَةِ الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا بَرَاهِينُ عَقْلِيَّةٌ، أَوْ دَلَائِلُ سَمْعِيَّةٌ، فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ، حَتَّى تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ الْقَوْلِ الْهُرَاءِ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ الضَّلَالِ فِيمَا أَوْجَبُوا اعْتِقَادَهُ، لَبَسَطْنَا الْقَوْلَ هُنَا وَبَيَّنَّا سَدَادَهُ، لَكِنْ قَدْ أَحَلْنَا عَلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ مَكْتُوبٌ أَيْضًا فَاكْتَسَبْنَاهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ.
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ لَفْظَ الْجِهَةِ عِنْدَ مَنْ قَالَهُ، إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وُجُودِيًّا أَوْ عَدَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ وُجُودِيًّا فَنَفْيُ الْجِهَةِ عَنْ اللَّهِ نَفْيٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ سِوَى اللَّهِ إلَّا الْعَالَمَ، فَهَذَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمَا فِي جَوَابِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلًا فِي الْمَصْنُوعَاتِ هَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ، وَنَفْيُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِنَا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَدَمِيًّا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ حَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَوْجُودِ فِي الْعَدَمِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدَمَ يَحْوِيهِ أَوْ يُحِيطُ بِهِ، إذْ الْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا حَتَّى يُوصَفَ بِأَنَّهُ يُحِيطُ أَوْ يُحَاطُ بِهِ، بَلْ الْمَعْنَى بِذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ بِحَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرُهُ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا قَائِمَ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ نَوْعَانِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٌ بِغَيْرِهِ، فَالْقَائِمُ بِغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ يَكُونُ بِحَيْثُ يَكُونُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضَ تَقُومُ بِالْمَحَلِّ الْوَاحِدِ.
وَأَمَّا الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ آخَرُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ، فَيَكُونُ حَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرُهُ، أَوْ حَيْثُ لَا قَائِمَ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى بِكَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَفَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْقُولُ مِنْ الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ فَأَكْثَرُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس وَالصَّابِئِينَ، عَلَى أَنَّ نَفْيَ هَذَا عَنْ الْمَوْجُودِ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ حَيْثُ يَكُونُ مَوْجُودًا آخَرَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ إلَّا حَيْثُ لَا يَكُونُ مَوْجُودٌ آخَرُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحَايِثًا لَهُ دَاخِلًا فِيهِ، فَيَكُونُ فِي الْجِهَةِ الْوُجُودِيَّةِ، وَوُجُودُ مَوْجُودٍ لَا فِي جِهَةٍ وُجُودِيَّةٍ وَلَا جِهَةٍ عَدَمِيَّةٍ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ بَنُو آدَمَ مِنْ الْفِطْرَةِ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ بِالْهَيِّنِ حَتَّى يَدَّعِيَ دَعْوًى مُجَرَّدَةً بِلَا دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وَلَا عَقْلِيٍّ ثُمَّ يُوجِبُ اعْتِقَادَ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُ تَارِكَهُ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَعْنِي بِالْجِهَةِ مَا لَيْسَ مُغَايِرًا لِذِي الْجِهَةِ، فَيَكُونُ كَوْنُهُ فِي جِهَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ، وَلَا يَعْنِي الْجِهَةَ مَوْجُودًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَلَا يَعْنِي عَدَمِيًّا وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ الْجِهَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، فَكَوْنُ الشَّيْءِ فِي الْجِهَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ يَقُولُونَ كَوْنُهُ فِي الْجِهَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِذَاتِهِ مُحَقَّقُ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ مَوْجُودٌ سِوَاهُ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ فِي الْجِهَةِ قَبْلَ وُجُودِ الْعَالَمِ، وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ لَا تُعْقَلُ الْجِهَةُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَالَمِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إنَّ مُسَمَّى الْجِهَةِ نَوْعَانِ إضَافِيٌّ مُنْتَقِلٌ وَثَابِتٌ لَازِمٌ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَهِيَ الْجِهَاتُ السِّتُّ لِلْحَيَوَانِ، أَمَامَهُ وَهُوَ مَا يَؤُمُّهُ، وَخَلْفَهُ وَهُوَ مَا يَخْلُفُهُ وَيَمِينَهُ، وَيَسَارَهُ وَفَوْقَهُ، وَتَحْتَهُ وَهُوَ مَا يُحَاذِي ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْجِهَاتُ لَيْسَتْ جِهَاتٍ لِمَعْنًى يَقُومُ بِهَا، وَلَا ذَلِكَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهَا، بَلْ تَصِيرُ الْيَمِينُ يَسَارًا وَالْيَسَارُ يَمِينًا وَالْعُلُوُّ سُفْلًا وَالسُّفْلُ عُلُوًّا، يَتَحَرَّكُ الْحَيَوَانُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي الْجِهَاتِ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَهُوَ جِهَتَا الْعَالَمِ وَهِيَ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ، فَلَيْسَ لِلْعَالَمِ إلَّا جِهَتَانِ،
إحْدَاهُمَا الْعُلُوُّ وَهُوَ جِهَةُ السَّمَاوَاتِ وَمَا فَوْقَهَا، وَجِهَةُ السُّفْلِ وَهُوَ جِهَةُ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَهَا وَفِي جَوْفِهَا، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَكُلُّ مَا كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ فَهُوَ فَوْقَهُ وَهُوَ فِي الْجِهَةِ الْعُلْيَا، فَالْبَارِي تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، أَوْ لَا يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، كَانَ خَارِجًا عَنْهُ عَالِيًا عَلَيْهِ بِالْجِهَةِ الْعُلْيَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَانَ حَالًّا فِي الْعَالَمِ قَائِمًا بِهِ مَحْمُولًا فِيهِ.
قَالَ هَؤُلَاءِ: وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَالْبَارِي قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي ذَاتِهِ، فَيَكُونُ هُوَ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا جَعَلَ ذَاتَه فِيهِ، فَيَكُونُ مُفْتَقِرًا مَحْمُولًا قَائِمًا بِالْمَصْنُوعَاتِ، بَلْ خَلْقُهُ بَائِنًا عَنْهُ فَيَكُونُ فَوْقَهُ وَهُوَ جِهَةُ الْعُلُوِّ، وَقَدْ بَسَطْنَا كَلَامَ هَؤُلَاءِ وَخُصُومِهِمْ فِي الْحُكُومَةِ الْعَادِلَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فِي تَأْسِيسِهِ مِنْ الْمُجَادَلَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّاعِي لِلنَّاسِ إلَى اعْتِقَادِ نَفْيِ الْجِهَةِ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ وَيَكْشِفَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ، وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضَ عَنْ هَذَا وَيَقِفَ عِنْدَ الْجُمَلِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ. فَإِمَّا أَنْ يَدْعُوَ إلَى قَوْلٍ لَا يُبَيِّنُ حَقِيقَتَهُ وَأَقْسَامَهُ، وَلَا يُبَيِّنُ حُجَّتَهُ الَّتِي تُصَحِّحُ مَرَامَهُ، وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ، وَكَلَامِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا غَايَةٌ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالظُّلْمِ فِي الْكَلَامِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ قَوْلَهُمْ يَنْفِي التَّحَيُّزَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ، فَإِنَّ التَّحَيُّزَ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ، هُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِحَيْثُ يَحُوزُهُ وَيُحِيطُ بِهِ مَوْجُودٌ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] فَإِنَّ التَّحَيُّزَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَازَهُ يَحُوزُهُ، فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا بِقَوْلِنَا: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا تُحِيطُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ، فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَحْدِيدِهِ.
وَأَمَّا التَّحَيُّزُ الَّذِي يَعْنِيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ فَأَعَمُّ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مُتَحَيِّزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٍ، إذْ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْعَالَمِ وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ، فَيَقُولُونَ الْحَيِّزُ: تَقْدِيرُ الْمَكَانِ، وَكُلُّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ بِالْجِهَةِ فَإِنَّهُ مُتَحَيِّزٌ عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٌ.
وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ: التَّحَيُّزُ مِنْ لَوَازِمِ الْجِسْمِ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ كَالتَّمَيُّزِ وَالْمُبَايِنَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْحَيِّزُ إمَّا وُجُودِيٌّ، وَإِمَّا عَدَمِيٌّ، فَإِنْ كَانَ عَدَمِيًّا فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ وُجُودِيًّا فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا لَيْسَ خَارِجًا، أَوْ مَا هُوَ خَارِجًا عَنْهُ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ حُدُودِ الْمُتَحَيِّزِ وَجَوَانِبِهِ فَلَا يَكُونُ الْحَيِّزُ شَيْئًا خَارِجًا عَلَى الْمُتَحَيِّزِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْنَى بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَحَيِّزِ خَارِجٌ عَنْهُ، فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ وَلَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ إلَّا الْعَالَمُ، فَمَنْ قَالَ إنَّهُ فِي حَيِّزٍ مَوْجُودٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، فَقَدْ قَالَ إنَّهُ فِي الْعَالَمِ أَوْ بَعْضِهِ وَهَذَا مِمَّا قَدْ صَرَّحْنَا بِنَفْيِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ الْمَقَالِ لِيَزُولَ هَذَا الْإِبْهَامُ وَالْإِجْمَالُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَلَا يَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ، بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ. فَقَدْ قُلْت فِي الْجَوَابِ الْمُخْتَصَرِ الْبَدِيهِيِّ لَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْتُهُ قَطُّ، بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ، بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَذَلِكَ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، وَمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ وَالِاضْطِرَابِ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا الدِّمَشْقِيَّةِ وَفَصَّلْتُ الْقَوْلَ فِيهَا وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَرْشِ وَبَيَّنْتُهُ.
وَكَذَلِكَ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا الْمِصْرِيَّةِ، قَدْ بَيَّنْتُهُ وَفَصَّلْتُهُ فِي هَذَا وَفِي هَذَا، وَأَزَلْتُ مَا وَقَعَ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ الَّذِي خَرَجُوا بِهِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، إلَى الْبِدْعَةِ وَالِافْتِرَاقِ، وَبَسَطْتُ ذَلِكَ بَسْطًا مُتَوَسِّطًا فِي جَوَابِ الِاسْتِفْتَاءِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ قَاضِي جَيْلَانَ لِمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَظْهَرُوا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ، وَنَفْيِ الْخَلْقِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ. وَقَدْ كَتَبْتُ جُمَلًا مِنْ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ فِي جَوَابِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْفُتْيَا الْحَمَوِيَّةِ، وَفِي فَتَاوَى أُخَرَ وَمَوَاضِعَ أُخَرَ.
قَالَ مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ وَقَعَ فِيهَا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَالنِّزَاعِ مَا لَمْ يَقَعْ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ، إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ مَنْ يَبُوحُ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِمْ مِمَّنْ أَبَاحَ بِإِظْهَارِ
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَلَا اجْتَرَأَتْ الْجَهْمِيَّةُ إذْ ذَاكَ عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إلَى نَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَلْ وَلَا أَظْهَرَتْ ذَلِكَ كَمَا اجْتَرَءُوا عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَامْتِحَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ بِالْحَبْسِ، وَالضَّرْبِ، وَالْقَتْلِ وَقَطْعِ الرِّزْقِ، وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ، وَمَنْعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَتَرْكِ افْتِدَائِهِمْ مِنْ أَسْرِ الْعَدُوِّ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي إنَّمَا تَصْلُحُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَبَدَّلُوا بِذَلِكَ الدِّينَ نَحْوَ تَبْدِيلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ، فَأَتَى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَجَاهَدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، مُتَّبِعِينَ سَبِيلَ الصِّدِّيقِ وَإِخْوَانِهِ الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى وَسَمَ الْمُسْلِمُونَ بِالْإِمَامَةِ وَبِأَنَّهُ الصِّدِّيقَ الثَّانِيَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهَذَا التَّحْقِيقِ عِنْدَ فُتُورِ الْوَانِي فَإِنَّ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّةُ جَعَلُوا الْمُؤْمِنِينَ كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ، وَجَعَلُوا مَا هُوَ مِنْ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ لِلرَّسُولِ إيمَانًا وَعِلْمًا، وَلَبَّسُوا عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الدِّينِ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ فِتْنَةِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ.
فَإِنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ كَفَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ الْجُحُودَ لِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، بَلْ كَانَتْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ قَدْ نَقَلُوا أَنَّ قَوْلَ الْخَوَارِجِ فِي التَّوْحِيدِ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ.
فَهَذَا سِرٌّ لِلْجَهْمِيَّةِ لَكِنْ يُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ قَالَهُ مِنْ بَقَايَا الْخَوَارِجِ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ حُدُوثِ مَقَالَةِ جَهْمٍ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلُ جَهْمٍ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ، وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَلَا يَصِحُّ إضَافَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، لَا مِنْ الْخَوَارِجِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ إذْ ذَاكَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ السُّلُوبِ الْجَهْمِيَّةِ، وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ عَنْ الْخَوَارِجِ الْمَعْرُوفِينَ إذْ ذَاكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ بِدَعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، قُصُورُهُمْ فِي مُنَاظَرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ يُنَاظِرُونَهُمْ وَيُحَاجُّونَهُمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِيَنْصُرُوا الْإِسْلَامَ زَعَمُوا بِذَلِكَ، فَيَسْقُطُ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَيُحَاجُّونَهُمْ بِمُمَانَعَاتٍ وَمُعَارَضَاتٍ؛
فَيَحْتَاجُونَ حِينَئِذٍ إلَى جَحْدِ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ لِإِخْوَانِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ فَصَارَ قَوْلُهُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَهُدًى وَضَلَالٍ، وَرُشْدٍ وَغَيٍّ، وَجَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَصَارُوا مُخَالِفِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ كَاَلَّذِي يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ فَرَّطَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مِنْ مُلُوكِ النَّوَاحِي وَالْأَطْرَافِ، حَتَّى يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوَّ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] .
يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ قِتَالًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ الْغَدْرِ وَالْمُثْلَةِ وَالْغُلُولِ وَالْعُدْوَانِ، حَتَّى احْتَاجُوا فِي مُقَاتَلَةِ ذَلِكَ الْعَدُوِّ إلَى الْعُدْوَانِ عَلَى إخْوَانِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ، وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وَصَارُوا يُقَاتِلُونَ إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ بِنَوْعٍ مِمَّا كَانُوا يُقَاتِلُونَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَرُبَّمَا رَأَوْا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ آكَدُ وَبِهَذَا وَصَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخَوَارِجَ حَيْثُ قَالَ:«يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ» وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سِيرَةِ كَثِيرِ مِنْ مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الْفُجُورِ فَحَالُ أَهْلِ الْأَيْدِي وَالْقِتَالِ، يُشْبِهُ حَالَ أَهْلِ الْأَلْسِنَةِ وَالْجِدَالِ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مَبْدَأَ حَالِ جَهْمٍ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ: وَكَذَلِكَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا بِكَلَامِهِمْ بَشَرًا كَثِيرًا فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللَّهِ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ التِّرْمِذِ، وَكَانَ صَاحِبَ خُصُومَاتٍ وَكَلَامٍ وَكَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللَّهِ تبارك وتعالى فَلَقِيَ نَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ السُّمَنِيَّةُ، فَعَرَفُوا الْجَهْمَ فَقَالُوا لَهُ: نُكَلِّمُكَ فَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُنَا عَلَيْكَ دَخَلْتَ فِي دِينِنَا، وَإِنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُك عَلَيْنَا دَخَلْنَا فِي دِينِكَ، فَكَانَ مِمَّا كَلَّمُوا بِهِ الْجَهْمَ أَنْ قَالُوا لَهُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ إلَهًا؟ قَالَ الْجَهْمُ: نَعَمْ فَقَالُوا لَهُ: فَهَلْ رَأَيْتَ إِلَهَكَ؟ قَالَ لَا فَقَالُوا لَهُ هَلْ سَمِعْتَ كَلَامَهُ قَالَ لَا قَالُوا فَشَمَمْتَ لَهُ رَائِحَةً؟ قَالَ: لَا قَالُوا: فَوَجَدْتَ لَهُ حِسًّا؟ قَالَ: لَا قَالُوا: فَوَجَدْتَ لَهُ
مَجَسًّا؟ قَالَ: لَا قَالُوا فَمَا يَدْرِيكَ أَنَّهُ إلَهٌ؟ قَالَ فَتَحَيَّرَ الْجَهْمُ فَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
ثُمَّ إنَّهُ اسْتَدْرَكَ حُجَّةً مِنْ جِنْسِ حُجَّةِ الزَّنَادِقَةِ مِنْ النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّ زَنَادِقَةَ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي فِي عِيسَى هِيَ مِنْ رُوحِ اللَّهِ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا دَخَلَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ فَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ بَعْضِ خَلْقِهِ فَيَأْمُرُ بِمَا شَاءَ وَيَنْهَى عَنْ مَا شَاءَ وَهُوَ رُوحٌ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ. فَاسْتَدْرَكَ الْجَهْمُ حُجَّةً مِثْل هَذِهِ الْحُجَّةِ فَقَالَ لِلسُّمَنِيِّ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ فِيكَ رُوحًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ فَهَلْ رَأَيْت رُوحَكَ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَسَمِعْتَ كَلَامَهُ قَالَ لَا: قَالَ فَوَجَدْتَ لَهُ حِسًّا؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَكَذَلِكَ اللَّهُ لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ، وَلَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ، وَلَا يُشَمُّ لَهُ رَائِحَةٌ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الْأَبْصَارِ، وَلَا يَكُونُ فِي مَكَان دُونَ مَكَان قَالَ وَوَجَدَ ثَلَاثَ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ قَوْلُهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] . {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] . فَبَنَى أَصْلَ كَلَامِهِ كُلِّهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، وَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَكَذَّبَ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَزَمَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ حَدَّثَ عَنْهُ رَسُولُهُ كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ مِنْ الْمُشَبِّهَةِ، وَأَضَلَّ بَشَرًا كَثِيرًا، وَتَبِعَهُ عَلَى قَوْلِهِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ بِالْبَصْرَةِ، وَوَضَعَ دِينَ الْجَهْمِيَّةِ.
وَهَكَذَا وَصَفَ الْعُلَمَاءُ حَالَ جَهْمٍ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبَيْكَنْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ تَأْلِيفِهِ، مَا جَاءَ فِي بُدُوِّ الْجَهْمِيَّةِ وَالسُّمَنِيَّةِ وَكَيْفَ كَانَ شَأْنُهُمْ وَكُفْرُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ أَكْذَبَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ مِنْ السُّمَنِيَّةِ. قَالَ: وَهُوَ عِنْدَنَا كَمَا قَالَ لَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَجْهَلَ وَلَا أَحَقَّ قَوْلًا مِنْهُمْ، لَا يَتَعَلَّقُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِشَيْءٍ وَلَا يَحْتَجُّونَ إنَّمَا هُوَ حُبٌّ وَبُغْضٌ، وَمَنْ أَحَبَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ أَبْغَضَ دَخَلَ النَّارَ، وَصَارَتْ طَائِفَةً جَهْمِيَّةً لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ مُحْدَثٌ وَيَرَوْنَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، وَكَانَ جَهْمٌ فِيمَا بَلَغَنَا لَا يُعْرَفُ بِفِقْهٍ وَلَا وَرَعٍ وَلَا صَلَاحٍ، أُعْطِيَ لِسَانًا مُنْكِرًا، فَكَانَ يُجَادِلُ وَيَقُولُ
بِرَأْيِهِ، يُجَادِلُ السُّمَنِيَّةَ وَهُمْ شَبَهُ الْمَجُوسِ يَعْتَقِدُونَ الْأَصْنَامَ، فَكَلَّمَهُمْ فَأَخْرَجُوهُ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَعْرِفُ رَبَّهُ وَكَلَامُهُمْ يَدْعُو إلَى الزَّنْدَقَةِ، وَكَلَامُهُمْ وَضَعْنَاهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْبَصَرِ، فَمَالُوا آخَرَ أَمْرِهِمْ إلَى الزَّنْدَقَةِ، وَالرَّجُلُ إذَا رَسَخَ فِي كَلَامِهِمْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ وَكَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ صَاحِبَ جَهْمٍ، وَكَانَ أَقْوَى فِي أَمْرِهِمْ مِنْ جَهْمٍ فِيمَا بَلَغَنَا، وَكَانَ يَسْكُنُ الْغَارِيَاتِ، وَأَخْبَرَنَا أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ صَالِحِيهِمْ أَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ، وَاتَّبَعَ الشَّهَوَاتِ، وَأَفْسَدَ عَالَمًا مِنْ النَّاسِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالَةِ بَعْدَ الْهُدَى، مَا أَعْلَمُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ قَوْمًا أَخْبَثَ مِنْ كَلَامِهِمْ.
الْقُرْآنُ كُلُّهُ نَقْضٌ عَلَى كَلَامِهِمْ، وَبَلَغَنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا يُفْسِدُ عَلَيْنَا كَلَامَنَا الْقُرْآنُ وَيُكَسِّرُهُ، لَا يَرَوْنَ أَنَّ فِي السَّمَاءِ سَاكِنًا، وَذَكَرَ طَوْفًا مِنْ كَلَامِهِمْ ثُمَّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ وَقَالَ فِي شَعْرٍ لَهُ:
وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْجَهْمِ إنَّ لَهُ
…
قَوْلًا يُضَارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانَا
ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ وَاصِلٍ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ - حَدَّثَنَا ابْنُ صَالِحٍ قَالَ: لَقِيتُ جَهْمًا فَقُلْتُ: نَطَقَ اللَّهُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَهُوَ يَنْطِقُ؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَمَنْ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] وَمِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] . قَالَ: إنَّهُمْ زَادُوا فِي الْقُرْآنِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْخَلَّالُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ شَوْذَبٍ: تَرَكَ جَهْمٌ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ وَذَكَرَ جَهْمًا فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ جَهْمًا حَدَّثَنِي ابْنُ عَمٍّ لِي أَنَّهُ شَكَّ فِي اللَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ فَلَمْ يُحَدِّثْهُ بِهِ، قَالَ: إنْ لَمْ تُحَدِّثْنِي بِهِ فَأَنْتَ جَهْمِيٌّ. فَقَالَ مَرْوَانُ: أَتَقَوَّلُ لِي جَهْمِيٌّ وَجَهْمٌ مَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَعْرِفُ رَبَّهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ ضَمْرَةُ بْنُ شَوْذَبٍ: تَرَكَ جَهْمٌ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى وَجْهِ
الشَّكِّ، فَخَاصَمَهُ بَعْضُ السُّمَنِيَّةِ فَشَكَّ، فَأَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يُصَلِّي. قَالَ ضَمْرَةُ: وَقَدْ رَآهُ ابْنُ شَوْذَبٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: كَلَامُ جَهْمٍ صِفَةٌ بِلَا مَعْنًى، وَبِنَاءٌ بِلَا أَسَاسٍ، وَلَمْ يُعَدَّ قَطُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد الْخَلَّالُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ قَالَ: مَا ذَكَرْتُهُ وَلَا ذُكِرَ عِنْدِي إلَّا دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ؛ مَا أَعْظَمَ مَا أَوْرَثَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ مَنْطِقِهِ هَذَا الْعَظِيمَ يَعْنِي جَهْمًا، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ شِبْلٍ قَالَ: كُنْت جَالِسًا مَعَ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، إذْ جَاءَ شَابٌّ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، فَقَالَ مُقَاتِلٌ هَذَا جَهْمِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ إنَّ جَهْمًا وَاَللَّهِ مَا حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ قَطُّ وَلَا جَالَسَ الْعُلَمَاءَ. إنَّمَا كَانَ رَجُلًا أُعْطِيَ لِسَانًا. هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: مَنْ قَالَ إنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَالَ: وَقَالَ أَيْضًا:
وَلَا أَقُولُ بِقَوْلِ الْجَهْمِ إنَّ لَهُ
…
قَوْلًا يُضَارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانَا
وَلَا أَقُولُ تَخَلَّى مِنْ بَرِيَّتِهِ
…
رَبُّ الْعِبَادِ وَوَلَّى الْأَمْرَ شَيْطَانَا
مَا قَالَ فِرْعَوْنُ هَذَا فِي تَجَبُّرِهِ
…
فِرْعَوْنَ مُوسَى وَلَا فِرْعَوْنَ هَامَانَا
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ، إنَّهُ فِي الْأَرْضِ هَهُنَا بَلْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا، قَالَ: فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ.
وَقَالَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَبَطْنُكَ خَالٍ مِنْهُ؟ فَبُهِتَ الْآخَرُ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ: الْجَهْمِيَّةُ شَرٌّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ اجْتَمَعَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقَالُوا هُمْ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْتَخِفُّوا بِقَوْلِهِمْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَإِنَّهُ مِنْ شَرِّ قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَذْهَبُونَ إلَى التَّعْطِيلِ. فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ مَبْدَإِ حَالِ جَهْمٍ إمَامِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ النُّفَاةِ
يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْتُهُ فَإِنَّهُ لَمَّا نَاظَرَ مَنْ نَاظَرَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ السُّمَنِيَّةِ مِنْ الْهِنْدِ، وَجَحَدُوا الْإِلَهَ لِكَوْنِ الْجَهْمِ لَمْ يُدْرِكْهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ، لَا بِبَصَرِهِ، وَلَا بِسَمْعِهِ، وَلَا بِشَمِّهِ وَلَا بِذَوْقِهِ وَلَا بِحِسِّهِ، كَانَ مَضْمُونُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِحَوَاسِّهِ الْخَمْسِ فَإِنَّهُ يُنْكِرُهُ وَلَا يَقْرَبُهُ، فَأَجَابَهُمْ الْجَهْمُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَوْجُودِ مَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحَوَاسِّ، وَهِيَ الرُّوحُ الَّتِي فِي الْعَبْدِ، وَزَعَمَ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ، وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ قُتَيْبَةُ يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ جَهْمًا كَانَ يَأْخُذُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: شَهِدْتَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيَّ بِوَاسِطَ يَوْمَ أَضْحَى، قَالَ: ارْجِعُوا فَضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، وَهَذَا الْجَعْدُ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ وَهُوَ مُعَلِّمُ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ الْجَعْدِيُّ، وَكَانَ حَرَّانُ إذْ ذَاكَ دَارُ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ الْبَاقِينَ عَلَى مِلَّةِ سَلَفِهِمْ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ كَانَ مِنْهُمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْحَنَفِيَّةِ وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحُجَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُشْرِكُو الْهِنْدِ بَاطِلَةٌ وَالْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَ بِهِ مُبْتَدِعَةُ الصَّابِئِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَاطِلٌ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِل مَا لَا يُحِسُّ بِهِ الْعَبْدُ لَا يَقِرُّ بِهِ أَوْ يُنْكِرُهُ أَوْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ لَا يُقِرُّ إلَّا بِمَا أَحَسَّهُ هُوَ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ أَوْ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُقِرُّ الْعَبْدُ إلَّا بِمَا أَحَسَّ بِهِ الْعِبَادُ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ بِمَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنْ كَانَ أَرَادُوا الْأَوَّلَ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ.
حَيْثُ ذَكَرُوا عَنْ السُّمَنِيَّةِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مِنْ الْعُلُومِ مَا سِوَى الْحِسِّيَّاتِ فَيُنْكِرُونَ الْمُتَوَاتِرَاتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لَا تَصِحُّ عَلَى إطْلَاقِهَا عَنْ جَمْعٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ فِي مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُنَاظَرَةِ الْجَهْمِ لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى إقْرَارِهِمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ حَيَاةَ بَنِي آدَمَ وَعَيْشَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِمُعَاوَنَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْأَقْوَالِ أَخْبَارِهَا وَغَيْرِ أَخْبَارِهَا وَفِي الْأَعْمَالِ أَيْضًا فَالرَّجُلُ
مِنْهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ مَوْلُودٌ، وَأَنَّ لَهُ أَبًا وَطِئَ أُمَّهُ، وَأُمًّا وَلَدَتْهُ وَهُوَ لَمْ يُحِسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ، بَلْ أُخْبِرَ بِذَلِكَ وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ مَيْلًا إلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ بِسَائِرِ أَقَارِبِهِ مِنْ الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَالْأَجْدَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ أُمَّةٌ تُنْكِرُ الْإِقْرَارَ بِهَذَا وَكَذَلِكَ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ وُلِدَ صَغِيرًا وَأَنَّهُ رُبِّيَ بِالتَّغْذِيَةِ وَالْحَضَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى كَبُرَ وَهُوَ إذَا كَبُرَ لَمْ يَذْكُرْ إحْسَاسَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ، بَلْ لَا يُنْكِرُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أُمُورَهُمْ الْبَاطِنَةَ مِثْلَ جُوعِ أَحَدِهِمْ وَشِبَعِهِ وَلَذَّتِهِ وَأَلَمِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَشْعُرْ بِهِ بِحَوَاسِّهِ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ يُصِيبُهُمْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي بَنِي آدَمَ مَنْ لَا يُقِرَّ بِمَا كَانَ فِي غَيْرِ مَدِينَتِهِمْ مِنْ الْمَدَائِنِ وَالسِّيَرِ وَالْمَتَاجِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى ذَلِكَ وَكَذَا لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدُّورَ الَّتِي سَكَنُوهَا قَدْ بَنَاهَا الْبَنَّاءُونَ، وَالطَّبِيخَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ طَبَخَهُ الطَّبَّاخُونَ وَالثِّيَابَ الْمَنْسُوجَةَ الَّتِي يَلْبَسُونَهَا نَسَجَهَا النَّسَّاجُونَ، وَإِنْ كَانَ مَا يُقِرُّونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحِسَّهُ أَحَدُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فَمَنْ قَالَ إنَّ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمُورَ، فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلُ.
وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ السُّوفِسْطَائِيَّة قَوْمٌ يُنْكِرُونَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ، وَأَنَّهُمْ مُنْتَسِبُونَ إلَى رَئِيسٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ سُوفُسْطًا وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلْمَ بِشَيْءٍ مِنْ الْحَقَائِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ أَيْضًا مَعَ الْعُلُومِ، وَمِنْهُمْ اللَّا أدرية الَّذِينَ يَشُكُّونَ فَلَا يَجْزِمُونَ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُقِرُّ إلَّا بِمَا أَحَسَّهُ.
وَقَدْ رَدَّ هَذَا النَّقْلَ وَالْحِكَايَةَ مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَقَالَ إنَّ لَفْظَ السُّوفِسْطَائِيَّة فِي الْأَصْلِ كَلِمَةٌ يُونَانِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ أَصْلُهَا سُوفُسْقَيَا أَيْ الْحِكْمَةُ الْمُمَوَّهَةُ فَإِنَّ لَفْظَ سو مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الْيُونَانِ الْحِكْمَةُ وَلِهَذَا يَقُولُونَ فِيلًا سُوفَا أَيْ مُحِبُّ الْحِكْمَةِ وَلَفْظُ فُسْقَيَا مَعْنَاهُ الْمُمَوَّهَةُ.
وَمُعَلِّمُ الْمُسْتَأْخِرِينَ الْمُبْتَدِعِينَ مِنْهُمْ أَرِسْطُو لَمَّا قَسَّمَ حِكْمَتَهُمْ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى عِلْمِهِمْ إلَى بُرْهَانِيَّةٍ وَخَطَابِيَّةٍ وَجَدَلِيَّةٍ وَشِعْرِيَّةٍ وَمُمَوَّهٍ وَهِيَ الْمَغَالِيطُ سَمَّوْهَا سُوفُسْقِيَا فَعُرِّبَتْ وَقِيلَ سُوفُسْطَا ثُمَّ ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ ذَلِكَ اسْمُ رَجُلٍ وَإِنَّمَا أَصْلُهَا مَا ذُكِرَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ السَّفْسَطَةِ قَدْ صَارَ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ عِبَارَةً عَنْ حَجَرِ الْحَقَائِقِ فَلَا رَيْبَ
أَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ، فَمِنْ الْأُمَمِ مَنْ يُنْكِرُ كَثِيرًا مِنْ الْحَقَائِقِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَقَدْ تَشْتَبِهُ كَثِيرٌ مِنْ الْحَقَائِقِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ لِلْحِسِّ أَوْ الْعَقْلِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ كَوُجُودِ الْكَذِبِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَمَّا اتِّفَاقُ أُمَّةٍ عَلَى إنْكَارِ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْحَقَائِقِ، أَوْ عَلَى إنْكَارِ كُلٍّ مِنْهُمْ لِمَا لَمْ يَحْسَبْهُ، فَهُوَ كَاتِّفَاقِ أُمَّةٍ عَلَى الْكَذِبِ فِي كُلِّ خَبَرٍ أَوْ التَّكْذِيبِ لِكُلِّ خَبَرٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعُلَمَاءِ وَالْعِلْمِ بِعَدَمِ وُجُودِ أُمَّةٍ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِ وُجُودِ أُمَّةٍ بِلَا وِلَادَةٍ وَلَا اغْتِذَاءٍ وَأُمَّةٍ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يَتَحَرَّكُونَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يُوجَدُونَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ.
فَكَيْفَ وَالْإِنْسَانُ هُوَ حَيٌّ نَاطِقٌ وَنُطْقُهُ هُوَ أَظْهَرُ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] وَالنُّطْقُ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَالْإِخْبَارُ أَصْلٌ فَالْقَوْلُ بِوُجُودِ أُمَّةٍ لَا تُقِرُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُخْبَرَاتِ إلَّا أَنْ تُحِسَّ الْمُخْبَرَ بِعَيْنِهِ يُنَافِي ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالسُّمَنِيَّةِ الَّذِينَ نَاظَرُوا الْجَهْمَ، قَدْ غَالَطُوا الْجَهْمَ وَلَبَّسُوا عَلَيْهِ فِي الْجِدَالِ حَيْثُ أَوْهَمُوهُ أَنَّ مَا لَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ وَكَأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ الْإِحْسَاسُ بِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ عَنْ قَوْلِهِمْ مَا لَا يُحِسُّهُ الْإِنْسَانُ لَا يُقِرُّ بِهِ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا فَإِنْ أَرَادَ أُولَئِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، أَمْكَنَ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ بَلْدَتِهِمْ وَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَإِنْ أَرَادُوا الْمَعْنَى الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسَ بِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ فَهَذَا لَا يَضُرُّ تَسْلِيمُهُ لَهُمْ، بَلْ يُسَلَّمُ لَهُمْ.
يُقَالُ لَهُمْ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَسَمْعُ كَلَامِهِ بَلْ قَدْ سَمِعَ بَعْضُ الْبَشَرِ كَلَامَهُ وَهُوَ مُوسَى عليه السلام، وَسَوْفَ يَرَاهُ عِبَادُهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الشَّيْءِ مَوْجُودًا أَنْ يُحِسَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَوْ أَنْ يُمْكِنَ إحْسَاسُ كُلِّ أَحَدٍ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بَلْ مَتَى كَانَ الْإِحْسَاسُ بِهِ مُمْكِنًا وَلَوْ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي ضَلَّ بِهِ جَهْمٌ وَشِيعَتُهُ، حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَى وَلَا يُحِسُّ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَاسِّ، كَمَا أَجَابَ إمَامُهُمْ الْأَوَّلُ لِلسُّمَنِيَّةِ بِإِمْكَانِ وُجُودِ مَوْجُودٍ لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ.
وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ قَاطِبَةً مُتَكَلِّمُوهُمْ وَغَيْرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ، عَلَى نَقْضِ هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي بَنَاهُ الْجَهْمِيَّةُ، وَأَثْبَتُوا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُرَى وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَثْبَتُوا أَيْضًا بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ يَجُوزُ تَعَلُّقُهَا بِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَيَصِحُّ إحْسَاسُ كُلِّ مَوْجُودٍ، فَمَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ يَكُونُ مَعْدُومًا، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ ذَلِكَ فِي اللَّمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَهُ فِي سَائِرِ الْحَوَاسِّ. كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصَّفَائِيَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُنَاظِرِينَ قَالُوا كَلَامًا مُجْمَلًا فَجَعَلُوا الْخَاصَّ عَامًّا، وَالْمَعْنَى مُطْلَقًا، حَيْثُ قَالُوا: أَنْتَ لَمْ تُحِسُّهُ وَمَا لَمْ تُحِسُّهُ أَنْتَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ لَكِنْ مَوَّهُوهَا بِالْمَعْنَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فَنَاظَرَهُمْ الْمُنَاظِرُونَ مِنْ الصَّائِبَةِ وَالْمُقْتَدِي بِهِمْ جَهْمٌ وَأَصْحَابُهُ بِحَالٍ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ حَتَّى نَكَّرُوا الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ مَوَّهُوهُ بِالْبَاطِلِ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَوْجُودَ مَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ بِحَالٍ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لِشَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَزَعَمُوا أَنَّ الرُّوحَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَخَذُوا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي نَازَعُوا فِيهَا أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ فَنَازَعُوا فِيهَا إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَارُوا مُجَادِلِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمِثْلِ مَا جَادَلُوا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَنْ قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُقَاتِلْ ذَلِكَ الْقِتَالَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يُنَاظِرُوا الْمُشْرِكِينَ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ اسْتَعْلَى عَلَيْهِمْ الْمُشْرِكُونَ وَانْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَصَارُوا عَاجِزِينَ فِي النَّظَرِ وَالْمُنَاظَرَةِ إذْ لَمْ يَجِدُوا بِزَعْمِهِمْ طَرِيقًا إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقَ الْمُبْتَدَعَةَ الَّتِي أَحْدَثُوهَا الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ الْمُتَضَمَّنَةَ لِجِدَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ الْمُقَاتِلِينَ لَمْ يَجِدُوا بِزَعْمِهِمْ قِتَالًا إلَّا هَذَا الْقِتَالَ الْمُبْتَدَعَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلَفْظُ الْإِحْسَاسِ عَامٌّ يُسْتَعْمَلُ فِي الرُّؤْيَةِ
وَالْمُشَاهَدَةِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ إحْسَاسُهُ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا لَا وُجُودَ لَهُ، وَالْعَقْلُ هُوَ الَّذِي ضَبَطَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ، الَّذِي بَيْنَ أَفْرَادِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي أَحَسَّهَا، وَالْكُلِّيَّ لَا وُجُودَ لَهُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الْفِطْرِيَّةُ هِيَ الَّتِي عَلَيْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَمَنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى الْفِطْرَةِ فِيهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْفِطَرِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ دُعَائِهِ يَتَوَجَّهُونَ إلَى فَوْقَ بِقُلُوبِهِمْ وَعُيُونِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ قَوْلِ جَهْمٍ هُوَ قَوْلُ الْمُبَدِّلِينَ مِنْ الصَّابِئَةِ وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَانَ الْأَئِمَّةُ يَقُولُونَ إنَّ قَوْلَهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنْ كَانُوا خَيْرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، كَاَلَّذِينَ نَاظَرَهُمْ جَهْمٌ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يُعَطِّلُ وُجُودَ الصَّانِعِ، أَوْ يُوجِبُ عِبَادَةَ إلَهٍ مَعَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الصَّابِئَةَ لَيْسُوا كَذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُوجِبُوا الشِّرْكَ فَقَدْ لَا يُحَرِّمُونَهُ، بَلْ يُسَوِّغُونَ التَّوْحِيدَ وَالْإِشْرَاكَ جَمِيعًا، وَيَسْتَحْسِنُونَ عِبَادَةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةَ أَهْلِ الْإِشْرَاكِ جَمِيعًا وَلَا يُنْكِرُونَ هَذَا وَلَا هَذَا، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ وَمُصَنَّفَاتِهِمْ لَكِنْ لَيْسَ النَّاسُ فِي التَّجَهُّمِ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ انْقِسَامُهُمْ فِي التَّجَهُّمِ يُشْبِهُ انْقِسَامُهُمْ فِي التَّشَيُّعِ.
فَإِنَّ التَّجَهُّمَ وَالرَّفْضَ هُمَا أَعْظَمُ الْبِدَعِ أَوْ مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي الْإِسْلَامِ.
وَلِهَذَا كَانَ الزَّنَادِقَةُ الْمَحْضَةُ مِثْلُ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ إنَّمَا يَتَسَتَّرُونَ بِهَذَيْنِ بِالتَّجَهُّمِ وَالتَّشَيُّعِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: مَا أُبَالِي أَصْلَيْت خَلْفَ الْجَهْمِيِّ أَوْ الرَّافِضِيِّ، أَوْ صَلَّيْت خَلْفَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَلَا
يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُعَادُونَ وَلَا يُنَاكَحُونَ وَلَا يَشْهَدُونَ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: هُمَا مِلَّتَانِ الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ هَذَانِ، وَقَدْ كَانَ أَمْرُهُمْ إذْ ذَاكَ لَمْ يَنْتَشِرْ وَيَتَفَرَّعْ وَيَظْهَرْ فَسَادُهُ كَمَا ظَهَرَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ.
فَإِنَّ الرَّافِضَةَ الْقُدَمَاءَ لَمْ يَكُونُوا جَهْمِيَّةً، بَلْ كَانُوا مُثْبِتَةً لِلصِّفَاتِ وَغَالِبُهُمْ يُصَرِّحُ بِلَفْظِ الْجِسْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مَقَالَاتِهِمْ، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ وَالْجَهْمِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا رَافِضَةً، بَلْ كَانَ الِاعْتِزَالُ فَاشِيًّا فِيهِمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا ضِدَّ الرَّافِضَةِ وَهُمْ إلَى النَّصْبِ أَقْرَبُ، فَإِنَّ الِاعْتِزَالَ حَدَثَ مِنْ الْبَصْرَةِ وَالرَّفْضَ حَدَثَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ، وَالتَّشَيُّعَ كَثُرَ فِي الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ كَانُوا بِالضِّدِّ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ زَمَنِ الْبُخَارِيِّ مِنْ عَهْدِ بَنِي بُوَيْهٍ الدَّيْلَمِ فَشَا فِي الرَّافِضَةِ التَّجَهُّمُ وَأَكْثَرُ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَظَهَرَتْ الْقَرَامِطَةُ ظُهُورًا كَثِيرًا وَجَرَى حَوَادِثُ عَظِيمَةٌ. وَالْقَرَامِطَةُ بَنَوْا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِ الْمَجُوسِ، وَشَيْءٍ مِنْ دِينِ الصَّابِئَةِ، فَأَخَذُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْلَيْنِ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَعَنْ هَؤُلَاءِ الْعَقْلَ وَالنَّفْسَ، وَرَتَّبُوا لَهُمْ دِينًا آخَرَ لَيْسَ هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا، وَجَعَلُوا عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ سِيمَا الرَّافِضَةِ، مَا يَظُنُّ الْجُهَّالُ بِهِ أَنَّهُمْ رَافِضَةٌ. وَإِنَّمَا هُمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ، اخْتَارُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ وَالْهَوَى فِي الرَّافِضَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ.
وَالشِّيعَةُ هُمْ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، شَرُّهَا الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِعَلِيٍّ شَيْئًا مِنْ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ يَصِفُونَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَكُفْرُ هَؤُلَاءِ بَيِّنٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَعْرِفُ الْإِسْلَامَ، وَكُفْرُهُمْ مِنْ جِنْسِ كُفْرِ النَّصَارَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُمْ يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى. وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُمْ الرَّافِضَةُ الْمَعْرُوفُونَ، كَالْإِمَامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الْإِمَامُ الْحَقُّ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَصٍّ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ وَأَنَّهُ ظُلِمَ وَمُنِعَ حَقَّهُ، وَيُبْغِضُونِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَيَشْتُمُونَهُمَا، وَهَذَا هُوَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ سِيمَا الرَّافِضَةَ وَهُوَ بُغْضُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَسَبُّهُمَا.
وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُفَضِّلَةُ مِنْ الزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَكِنْ يَعْتَقِدُونَ إمَامَتَهُمَا وَعَدَالَتَهُمَا وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ ا، فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً، فَقَدْ نُسِبَ إلَيْهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ أَهْلُهَا قَرِيبًا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ،
بَلْ هُمْ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إلَى الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُنَازِعُونَ الرَّافِضَةَ فِي إمَامَةِ الشَّيْخَيْنِ وَعَدْلِهِمَا وَمُوَالَاتِهِمَا، وَيُنَازِعُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي فَضْلِهِمَا عَلَى عَلِيٍّ - وَالنِّزَاعُ الْأَوَّلُ أَعْظَمُ، وَلَكِنْ هُمْ الْمِرْقَاةُ الَّتِي تَصْعَدُ مِنْهُ الرَّافِضَةُ فَهُمْ لَهُمْ بَابٌ.
وَكَذَلِكَ الْجَهْمِيَّةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ فَشَرُّهَا الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنْ سَمُّوهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى قَالُوا: هُوَ مَجَازٌ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا عَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ وَلَا يَتَكَلَّمُ. وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا وَلَكِنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الشَّنِعَةَ بِمَا يُقِرُّونَ فِي الْعَلَانِيَةِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: فَمَنْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ.
فَقُلْنَا: فَهَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ قُلْنَا: قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تُثْبِتُونَ شَيْئًا إنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشَّنِعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ. فَقُلْنَا لَهُمْ: هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِجَارِحَةٍ وَالْجَوَارِحُ عَنْ اللَّهِ مُنْتَفِيَةٌ وَإِذَا سَمِعَ الْجَاهِلُ قَوْلَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَقُودُونَ قَوْلَهُمْ إلَى ضَلَالٍ وَكُفْرٍ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ، بَابُ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي نَفْيِهِمْ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ.
قَالَ اللَّهُ عز وجل: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] .
وَذَكَرَ الْعِلْمَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ:{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .
وَذَكَرَ تَعَالَى الْقُوَّةَ فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] وَقَالَ: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] .
وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ: أَنَّ اللَّهَ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ، وَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ خَوْفُ السَّيْفِ مِنْ إظْهَارِ نَفْيِ ذَلِكَ، فَأَتَوْا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا لَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ لِلَّهِ فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَوَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَهَذَا إنَّمَا أَخَذُوهُ عَنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالتَّعْطِيلِ؛ لِأَنَّ الزَّنَادِقَةَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا حَيٍّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ، فَلَمْ تَقْدِرْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنْ تُفْصِحَ بِذَلِكَ فَأَتَتْ بِمَعْنَاهُ وَقَالَتْ إنَّ اللَّهَ عز وجل عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مِنْ طَرِيقِ التَّسْمِيَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تُثْبِتَ لَهُ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا.
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَصَّرَنَا خَطَأَ الْمُخْطِئِينَ، وَعَمَى الْعَمِينَ، وَحَيْرَةَ الْمُتَحَيِّرِينَ، الَّذِينَ نَفَوْا صِفَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، لَا صِفَاتٍ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ، وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ لَهُ.
وَلَا عِزَّةَ لَهُ وَلَا جَلَالَ لَهُ وَلَا عَظَمَةَ لَهُ وَلَا كِبْرِيَاءَ لَهُ. وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي سَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ أَخَذُوهُ عَنْ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا لَمْ يَزَلْ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا حَيٍّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا قَدِيرٍ، وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا نَقُولُ: غَيْرَ لَمْ يَزَلْ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الصِّفَاتِ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُظْهِرُوا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ تُظْهِرُهُ، فَأَظْهَرُوا مَعْنَاهُ، فَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لِلْبَارِي عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَحَيَاةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَلَوْلَا الْخَوْفُ لَأَظْهَرُوا مَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ تُظْهِرُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَأَفْصَحُوا بِهِ، غَيْرَ أَنَّ خَوْفَ السَّيْفِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ الْأَنْبَارِيِّ، كَانَ يَنْتَحِلُ قَوْلَهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ الْبَارِيَ عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فِي الْمَجَازِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْغَالِيَةِ النُّفَاةِ
لِلْأَسْمَاءِ حَقِيقَةً، هُوَ قَوْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَمَنْ سَبَقَهُمْ مِنْ إخْوَانِهِمْ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ.
وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ التَّجَهُّمِ هُوَ تَجَهُّمُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ يَنْفُونَ صِفَاتِهِ، وَهُمْ أَيْضًا لَا يُقِرُّونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ يَجْعَلُونَ كَثِيرًا مِنْهَا عَلَى الْمَجَازِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْجَهْمِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ.
وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: فَهُمْ الصِّفَاتِيَّةُ الْمُثْبِتُونَ الْمُخَالِفُونَ لِلْجَهْمِيَّةِ، لَكِنْ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ التَّجَهُّمِ، كَاَلَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ يَرُدُّونَ طَائِفَةً مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْخَبَرِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ الْخَبَرِيَّةِ، وَيَتَأَوَّلُونَهَا كَمَا تَأَوَّلَ الْأَوَّلُونَ صِفَاتِهِ كُلَّهَا، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقِرُّ بِصِفَاتِهِ الْخَبَرِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ الْحَدِيثِ، كَمَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَخْبَارِ أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ مَعَ نَفْيٍ وَتَعْطِيلٍ لِبَعْضِ مَا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ وَبِالْمَعْقُولِ، وَذَلِكَ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ كِلَابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ.
وَفِي هَذَا الْقِسْمِ يَدْخُلُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ، وَهَؤُلَاءِ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ، لَكِنْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَائِفَةٌ هُمْ إلَى الْجَهْمِيَّةِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُنَازِعُونَ الْمُعْتَزِلَةَ نِزَاعًا عَظِيمًا فِيمَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الصِّفَاتِ أَعْظَمَ مِنْ مُنَازَعَتِهِمْ لِسَائِرِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِيمَا يَنْفُونَهُ.
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّهُمْ وَالَوْا الْمُعْتَزِلَةَ وَقَارَبُوهُمْ أَكْثَرَ وَقَدَّمُوهُمْ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ، وَخَالَفُوا أَوَّلِيهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَقَارَبُ نَفْيُهُ وَإِثْبَاتُهُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُونَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَتَنَاقَضُونَ فِيمَا يَجْمَعُونَهُ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
وَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ حَصَلَ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ وَالْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا أَحْدَثَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِالْكَلَامِ أَصْلًا بَلْ حَقِيقَةٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمْ، كَمَا أَفْصَحَ بِهِ رَأْسُهُمْ الْأَوَّلُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى
تَكْلِيمًا؛ لِأَنَّ الْخِلَّةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْمَحَبَّةِ، وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُحِبُّهُ شَيْءٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَتَّخِذُ شَيْئًا خَلِيلًا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ نَفَتْ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ، أَوْ إرَادَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، وَادَّعَوْا مَا بَاهَتُوا بِهِ صَرِيحَ الْعَقْلِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: يَكُونُ مُرِيدًا بِإِرَادَةٍ لَيْسَتْ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، أَوْ الْإِرَادَةُ وَصْفٌ عَدَمِيٌّ، أَوْ لَيْسَتْ غَيْرَ الْمُرَادَاتِ الْمَخْلُوقَةِ وَغَيْرَ الْأَمْرِ وَهُوَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ التَّكْذِيبَ بِحَقِيقَةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُقِرُّونَ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي أَطْلَقَتْهَا الرُّسُلُ وَهَذَا حَالُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ، مِنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ: فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، بَلْ وَفِيمَا أَمَرَتْ بِهِ أَيْضًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِكَثِيرٍ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَتَعْظِيمِ أَقْدَارِهِمْ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ مَا يُفِيضُ عَلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّافِيَةِ الْقُدْسِيَّةِ، مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الرُّوحُ الْمُفَارِقُ لِلْأَجْسَامِ، الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ الْعَاشِرُ كَفَلَكِ الْقَمَرِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الَّذِي يُفِيضُ مِنْهُ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَعْرَاضِ.
وَيَزْعُمُ مَنْ يَزْعُمُ مِنْ مُنَافِقِيهِمْ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ جِبْرِيلُ، وَيَقُولُونَ: إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ وَالْحُرُوفُ الَّتِي تَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِهِ، هِيَ كَلَامُ اللَّهِ، كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ، هِيَ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، فَلَا وُجُودَ لِكَلَامِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ خَارِجًا عَنْ نَفْسِ النَّبِيِّ، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ غَيْرُ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ التِّسْعَةِ، أَكْثَرُهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِيهَا، هَلْ هِيَ جَوَاهِرُ أَوْ أَعْرَاضٌ.
إنَّمَا الْمَلَائِكَةُ مَا يُوجَدُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَبْدَانِ مِنْ الْقُوَى الصَّالِحَةِ وَالْمَعَارِفِ وَالْإِرَادَاتِ الصَّالِحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ إنْشَاءُ الرَّسُولِ وَكَلَامُهُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفُ قُرَيْشٍ وَطَاغُوتُهَا الْوَحِيدُ ابْنُ الْمُغِيرَةِ، الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ:
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا - وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا - وَبَنِينَ شُهُودًا - وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا - ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ - كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا - سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا - إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر: 11 - 18]{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 19]{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 20] إلَى قَوْلِهِ: {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] وَهَذَا قَوْلٌ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخِّرِي غَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ، الَّذِينَ ضَلُّوا بِكَلَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَوَقَعُوا فِيمَا يُنَافِي أَصْلَيْ الْإِسْلَامِ، شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، بِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْإِشْرَاكِ وَجُحُودِ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ، فَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ غَالِيَةِ الْجَهْمِيَّةِ.
وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، فَقَالُوا: إنَّهُ يَخْلُقُ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ إمَّا فِي الْهَوَاء وَإِمَّا بَيْنَ وَرَقِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ مِنْهَا مُوسَى، وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ فَذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، فَإِذَا قَالُوا: إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّ لَهُ كَلَامًا حَقِيقَةً، فَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ تَبْدِيلٌ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، وَاللُّغَةُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ، وَالْكُتُبُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ إلَّا مَنْ اجْتَالَتْ الشَّيَاطِينُ فِطْرَتَهُ، أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ وَيَتَّصِفُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ وَالْمُرِيدُ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ، كَمَا أَنَّ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ مَنْ يَقُومُ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، وَقَدْ قَالُوا: لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَا يَكُونُ قَائِمًا بِغَيْرِهِ، كَالشَّجَرَةِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْمُتَكَلِّمَةَ بِالْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: مَنْ قَالَ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا، فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى، وَقَالَ غَيْرُهُ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فَهَذَا أَيْضًا قَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى
فِرْعَوْنَ، فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ مِنْ هَذَا وَكِلَاهُمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاسْتَحْسَنَهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكَفْرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ، وَقَالَ: احْذَرْ ابْنَ الْمَرِيسِيِّ وَأَصْحَابَهُ؛ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ ابْنُ جَدِّ الزَّنْدَقَةِ، وَأَنَا كَلَّمْت أُسْتَاذَهُمْ جَعْدًا فَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّ فِي السَّمَاءِ إلَهًا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَفَّانَ، سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ فِي السَّنَةِ الَّتِي ضُرِبَ فِيهَا الْمَرِيسِيِّ فَقَامَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ مَجْلِسِهِ مُغْضَبًا فَقَالَ: وَيْحَكُمْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ قَدْ صَحِبْت النَّاسَ وَأَدْرَكْتُهُمْ، هَذَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَهَذَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، حَتَّى ذَكَرَ مَنْصُورًا أَوْ الْأَعْمَشَ وَمِسْعَرَ بْنَ كِدَامٍ، فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وَالْقَدَرِ، وَأَمَرُونَا بِاجْتِنَابِ الْقَوْمِ، فَمَا نَعْرِفُ الْقُرْآنَ إلَّا كَلَامَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ مَا أَشْبَهَ هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِ النَّصَارَى، لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تَسْمَعُوا كَلَامَهُمْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَالُوا: اللَّهُ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] .
وَمِنْ ذَلِكَ كَلَامُ الذِّرَاعِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَسْلِيمُ الْحَجَرِ عَلَيْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، لَا سِيَّمَا مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ كَلَامِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ إنْ كَانَ مَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ يَكُونُ كَلَامًا لَهُ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ، وَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرَ وَالْكَذِبَ.
وَقَوْلُ الشَّاةِ: إنِّي مَسْمُومَةٌ فَلَا تَأْكُلْنِي، وَقَوْلُ الْبَقَرَةِ: إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ وَشَهَادَةُ الْجُلُودِ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَلَامُ اللَّه وَإِلَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ نُطْقِهِ وَبَيْنَ إنْطَاقِهِ لِغَيْرِهِ.
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ؛ فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسُهُ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ، وَلَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ بِأَنْ يَخْلُقَ كَلَامًا فِي شَجَرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَا يَقُومَ بِالْمَخْلُوقَاتِ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، كَمَا يَسْمَعُونَ مَا يُحْدِثُهُ فِي الْجَمَادَاتِ مِنْ الْإِنْطَاقِ، وَكَمَا سَمِعُوا مَا يُحْدِثُهُ فِي الْأَحْيَاءِ مِنْ الْإِنْطَاقِ، وَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، فَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ هُوَ مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ، لَمْ يَحْصُلْ الْفَرْقُ وَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ لَمْ يَسْمَعْ إلَّا مَا خُلِقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ لَكَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا يَخْلُقُهُ فَيَسْمَعُهُ الْبَشَرُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ كِلَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ مُكَلِّمًا لِلْمَلَائِكَةِ قَطُّ إلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَقَوْلُهُ: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُكَلِّمُ مِنْ شَاءَ بِلَا حِجَابٍ، كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ، أَنْكَرَ ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَبَقَايَا التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعُهُمْ وَصَارُوا يُظْهِرُونَ أَعْظَمَ الْمَقَالَاتِ شُبْهَةً كَقَوْلِهِمْ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُشَبِّهُونَ بِهَذَا عَلَى الْعَامَّةِ مَا لَا يُشَبِّهُونَهُ بِغَيْرِهِمْ إذْ يَقُولُ الْقَائِلُ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَلِأَنَّ نَقِيضَ هَذَا اللَّفْظِ لَيْسَ مَشْهُورًا كَشُهْرَةِ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَرْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ إنْكَارُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَنْكَارِ دَعْ مَا هُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا.
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا وَأَكْثَرُ مِنْ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ سِوَى الصَّحَابَةِ الْخَبِيرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَدَيَّنُوا بِمَذَاهِبِهِمْ، قَالَ: وَلَوْ اشْتَغَلْتُ بِنَقْلِ قَوْلِ
الْمُحْدِثِينَ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً، لَكِنْ اخْتَصَرْتُ فَنَقَلْتُ عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ وَأَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ، قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سِنِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ، وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمُرَوٍّ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَأَذْكُرُ قِصَّتَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَصْلٌ: وَمَعَ هَذَا فَقَدْ حُفِظَ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْقَوْلُ، وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِدُونِ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. فَرَوَى اللَّالَكَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُصَفَّى، وَمِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ أَبِي الْمُنْذِرِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا حَكَّمَ عَلِيٌّ الْحَكَمَيْنِ، قَالَتْ لَهُ الْخَوَارِجُ: حَكَّمْت رَجُلَيْنِ؟ قَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا إنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَجَّاجٍ الْحَضْرَمِيُّ الْمُضَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ السَّكَنِ الْفَزَارِيّ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ يَزِيدَ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ: قَالُوا لِعَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ حَكَّمْت كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا؟ قَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا، مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ.
وَهَذَا السِّيَاقُ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ مَنْ يُفَسِّرُ كَلَامَ السَّلَفِ، بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْمُفْتَرِي الْمَكْذُوبُ، وَالْقُرْآنَ غَيْرُ مُفْتَرٍ وَلَا مَكْذُوبٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: حَكَّمْت مَخْلُوقًا، إنَّمَا أَرَادُوا مَرْبُوبًا مَصْنُوعًا خَلَقَهُ اللَّهُ، لَمْ يُرِيدُوا مَكْذُوبًا. فَقَوْلُهُ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا، نَفْيٌ لِمَا ادَّعَوْهُ، وَقَوْلُهُ: مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ، نَفْيٌ لِهَذَا الْخَلْقِ عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَمِنْ الْمَحْفُوظِ الثَّابِتِ عَنْهُ، الَّذِي رَوَاهُ النَّاسُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ. مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي كَنَفٍ. قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ
فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، وَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْعَنَزِيِّ، قَالَ: أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بِيَدِي، فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى السَّدِّ إذْ نَظَرَ إلَى السُّوقِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا وَخَيْرَ أَهْلِهَا، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا. قَالَ: فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَحْلِفُ بِسُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَآيَةٍ، قَالَ فَغَمَزَنِي عَبْدُ اللَّهِ بِيَدِي ثُمَّ قَالَ: أَتَرَاهُ مُكَفِّرًا؟ أَمَا إنَّ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا يَمِينٌ.
وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجِبُ فِي الْحَلِفِ بِهَا يَمِينٌ، كَالْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا، إلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ الْحَلِفِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِ الْإِيمَانِ بِهِ أَحَدَ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ.
وَقَوْلُهُ: عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ. قَدْ اتَّبَعَهُ الْأَئِمَّةُ وَعَمِلُوا بِهِ؛ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ هَلْ تَتَدَاخَلُ الْأَيْمَانُ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَا يَفْعَلُ، ثُمَّ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَا يَفْعَلُ، هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ صَالِحِ بْنُ جَابِرٍ الْأَنْمَاطِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ، قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ. فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ. زَادَ الصُّهَيْبِيُّ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبٍ، مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
فَلَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ، أَنْكَرَ ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، ثُمَّ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِسَبَبِ مَنْ أَدْخَلُوهُ فِي شِرْكِهِمْ وَفِرْيَتِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَجَرَتْ الْمِحْنَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَكَانَ أَئِمَّةُ الْهُدَى عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ، مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ مِنْهُ وَقَائِمٌ بِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا، إنَّمَا الْمَخْلُوقُ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُحْدَثَةِ وَصِفَاتِهَا.
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرُدُّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّةِ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ، أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَهُ، وَلَا تَكَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْمُسْتَقِرَّ فِي فِطْرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، أَنَّ الْمُتَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ، لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ فَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِشَيْءٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ كَمَا لَا يَكُونُ عَالِمًا بِعِلْمٍ قَائِمًا بِغَيْرِهِ، وَلَا حَيًّا بِحَيَاةٍ
قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَلَا مُرِيدًا بِإِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَلَا مُحِبًّا وَمُبْغِضًا وَلَا رَاضِيًا وَسَاخِطًا بِحُبٍّ وَبُغْضٍ وَرِضًا وَسُخْطٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ، وَلَا مُتَأَلِّمًا وَلَا مُتَنَعِّمًا وَفَرِحًا وَضَاحِكًا بِتَأَلُّمٍ وَتَنَعُّمٍ وَفَرَحٍ وَضَحِكٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ. فَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهَا إلَّا مَنْ أُحِيلَتْ فِطْرَتُهُ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ آمِرًا وَنَاهِيًا بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مُخْبِرًا وَمُحَدِّثًا وَمُنْبِئًا بِخَبَرٍ وَحَدِيثٍ وَنَبَأٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ حَامِدًا أَوْ ذَامًّا وَمَادِحًا وَمُثْنِيًا بِحَمْدٍ وَذَمٍّ وَمَدْحٍ وَثَنَاءٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مُنَاجِيًا وَمُنَادِيًا وَدَاعِيًّا بِنَجَاءٍ وَدُعَاءٍ وَنِدَاءٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ وَاعِدًا وَمُوعِدًا بِوَعْدٍ وَوَعِيدٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ مُصَدِّقًا وَمُكَذِّبًا بِتَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ حَالِفًا وَمُقْسِمًا مُولِيًا بِحَلِفٍ وَقَسَمٍ وَيَمِينٍ لَا يَقُومُ بِهِ وَلَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ بَلْ مِنْ أَظْهَرِ الْعُلُومِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي عَلِمَهَا بَنُو آدَمَ، وُجُوبَ قِيَامِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْمَوْصُوفِ بِهَا، وَامْتِنَاعَ أَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ.
فَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ، وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالنَّبَأَ وَالْخَبَرَ، وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالْحَلِفَ وَالْيَمِينَ، وَالْمُنَادَاةَ وَالْمُنَاجَاةَ، وَسَائِرِ مَا يُسَمَّى وَيُوصَفُ بِهِ أَنْوَاعُ الْكَلَامِ، يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِالْآمِرِ النَّاهِي الْمُنَاجِي الْمُنَادِي الْمُنْبِئِ الْمُخْبِرِ الْوَاعِدِ الْمُتَوَعِّدِ الْحَامِدِ الْمُثْنِي الَّذِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِغَيْرِهِ، فَقَدْ خَالَفَ الْفِطْرَةَ الضَّرُورِيَّةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ، وَبَدَّلَ لُغَاتِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْمَعْقُولَاتِ وَاللُّغَاتِ فَقَدْ كَذَّبَ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، وَنَسَبَهُمْ إلَى غَايَةِ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ أَخْبَرُوا أَنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَقَالَ وَيَقُولُ، وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ نَفْسُهُ الَّذِي أَمَرَ وَنَهَى، وَقَالَ: لَا. إنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَقُمْ بِهِ، بَلْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ.
ثُمَّ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ ذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفَ مِنْ الْخِطَابِ، وَلَا الْمَفْهُومَ مِنْهُ، لَا عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَلَا عِنْدَ الْعَامَّةِ: بَلْ الْمَعْرُوفُ الْمَعْلُومُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَائِمًا بِالْمُتَكَلِّمِ. فَلَوْ أَرَادُوا بِكَلَامِهِ وَقَوْلِهِ أَنَّهُ خَلَقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَلَامًا؛ لَكَانُوا قَدْ أَضَلُّوا الْخَلْقَ عَلَى زَعْمِ الْجَهْمِيَّةِ وَلَبَّسُوا عَلَيْهِمْ غَايَةَ التَّلْبِيسِ، وَأَرَادُوا
بِاللَّفْظِ مَا لَمْ يَدُلُّوا الْخَلْقَ عَلَيْهِ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ. فَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَهَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَصْلُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَصِفُونَ الرُّسُلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ بَلْ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ الْآمِرِ النَّاهِي لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلَّا لِقِيَامِ الْكَلَامِ بِغَيْرِهِ مَعَ امْتِنَاعِ قِيَامِهِ بِهِ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّةُ الْمُلْحِدَةُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمُحَرَّفَةِ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الْمُبَدِّلَةِ لِدِينِ اللَّهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي اللُّغَةِ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ، كَالْجِنِّيِّ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ الْمَصْرُوعِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا يُسْمَعُ مِنْ الْمَصْرُوعِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِالْإِنْسِيِّ دُونَ الْجِنِّيِّ.
وَهَذَا مِنْ التَّمْوِيهِ وَالتَّدْلِيسِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فَقَدْ نَازَعَهُمْ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِيَّةِ وَقَالُوا بَلْ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ كَمَا يَقُولُهُ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ طَوِيلٌ.
وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ فَلَمْ يُنَازِعُوهُمْ هَذَا النِّزَاعَ، بَلْ قَالُوا: الْكَلَامُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ فِعْلٌ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِهِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لِمُتَكَلِّمٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ، وَجَمِيعُ الْمَسْمُوعِ مِنْ اللُّغَاتِ وَالْمَعْلُومِ فِي فِطْرَةِ الْبَرِّيَّاتِ يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَكَلُّمُ الْجِنِّيِّ، عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْجِنِّيِّ كَلَامٌ وَلَكِنْ تَحْرِيكُهُ مَعَ ذَلِكَ لِجَوَارِحِ الْإِنْسِيِّ يُشْبِهُ تَحْرِيكَ رُوحِ الْإِنْسِيِّ لِجَوَارِحِهِ بِكَلَامِهِ وَيُشْبِهُ تَحْرِيكَ الْإِنْسَانِ بِكَلَامِهِ وَحَرَكَتِهِ وَتَصْوِيتِهِ كَمَا يُصَوِّتُ بِقَصَبَةٍ وَنَحْوِهَا مَعَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَدْ قَامَ بِهِ مِنْ الْفِعْلِ مَا يَصِحُّ بِهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُمْ: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ. كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ الْفِعْلَ أَيْضًا لَا يَقُومُ بِغَيْرِ الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَقُومُ بِغَيْرِهِ هُوَ الْمَفْعُولُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْخَلْقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ. فَهُوَ مِنْ بِدَعِ الْجَهْمِيَّةِ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَئِمَّةُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ: فَفِيمَا يَسْأَلُ عَنْهُ بِأَوَّلًا يُقَالُ لَهُ: تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؟ فَلَا يَجِدُ، فَيُقَالُ لَهُ فَبِمَ قُلْتَ؟
فَيَقُولُ. مِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وَزَعَمَ أَنَّ كُلَّ مَجْعُولٍ مَخْلُوقٌ، فَادَّعَى كَلِمَةً مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُلْحِدَ فِي تَنْزِيلِهَا وَيَبْتَغِيَ الْفِتْنَةَ فِي تَأْوِيلِهَا.
وَذَلِكَ أَنَّ جَعَلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ عَلَى مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَعَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. قَوْلُهُ:{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] قَالُوا: هُوَ شِعْرٌ وَأَنْبَاءُ الْأَوَّلِينَ وَأَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، فَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّسْمِيَةِ، وَقَالَ:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] يَعْنِي أَنَّهُمْ سَمُّوهُمْ إنَاثًا ثُمَّ ذَكَرَ جَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى تَسْمِيَةٍ فَقَالَ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] فَهَذَا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَقَالَ: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الكهف: 96] هَذَا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ، هَذَا جَعْلُ الْمَخْلُوقِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ جَعَلَ مِنْ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ، وَجَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ، وَاَلَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ لَا يَكُونُ إلَّا خَلْقًا وَلَا يَقُومُ إلَّا مَقَامَ خَلَقَ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَعْنَى فَمَا قَالَ اللَّهُ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] يَعْنِي خَلْقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] يَقُولُ خَلَقْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ: قَالَ {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] يَقُولُ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا خَلَقَ مِنْ آدَمَ حَوَّاءَ.
وَقَالَ: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل: 61] وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ فَهَذَا وَمَا كَانَ مِثَالُهُ لَا يَكُونُ مِثَالُهُ إلَّا عَلَى مَعْنَى خَلَقَ وَقَوْلُهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] لَا يَعْنِي مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ.
وَقَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] لَا يَعْنِي أَنِّي خَالِقُك لِلنَّاسِ إمَامًا لِأَنَّ خَلْقَ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا قَالَ إبْرَاهِيمُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126]، وَقَالَ:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} [إبراهيم: 40] لَا يَعْنِي، خَلَقَنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ:{يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 176] لَا يَعْنِي يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لَا يَخْلُقَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ لِأُمِّ مُوسَى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] لَا يَعْنِي وَخَالِقُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ أُمَّ مُوسَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهَا ثُمَّ يَجْعَلَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مُرْسَلًا، وَقَالَ:{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37] لَا يَعْنِي فَيَخْلُقَهُ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] وَقَالَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] لَا يَعْنِي خَلَقَهُ دَكًّا وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَمَا كَانَ عَلَى مِثَالِهِ لَا يَكُونُ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ.
فَإِذَا قَالَ تَعَالَى جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ وَقَالَ جَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ فَبِأَيِّ حُجَّةٍ قَالَ الْجَهْمِيُّ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى الْخَلْقِ، فَإِنْ رَدَّ الْجَهْمِيُّ الْجَعْلَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فِيهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ عز وجل:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] يَقُولُ جَعَلَهُ جَعْلًا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ.
وَقَالَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وَقَالَ:
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وَقَالَ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا وَيَسَّرَهُ بِلِسَانِ نَبِيِّهِ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ جَعَلَ بِهِ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا، فَفِي هَذَا بَيَانٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ هُدَاهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ هُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَعَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. قُلْنَا: لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ؟ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَسَمِعَ. فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ.
فَقُلْنَا فَهَلْ يَجُوزُ لِمُكَوِّنٍ أَوْ لِغَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ لِمُوسَى {لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَإِنِّي أَنَا رَبُّك؟ فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ شَيْئًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ يَا مُوسَى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ، وَقَالَ:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وَقَالَ: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ قَالَ: وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ.
فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ» قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ.
أَلَيْسَ اللَّهُ عز وجل قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أَتَرَاهُ أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ؟ وَقَالَ اللَّهُ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] أَتَرَاهَا أَنَّهَا سَبَّحَتْ بِفَمٍ وَجَوْفٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ وَالْجَوَارِحُ إذَا شَهِدَتْ عَلَى الْكَافِرِ فَقَالُوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] أَتَرَاهَا نَطَقَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ فَمٌ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ.
قَالَ: فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ. فَقُلْنَا وَغَيْرُهُ مَخْلُوقٌ؟ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ الشَّنِعَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِمَا تُظْهِرُونَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ «لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ يَا رَبِّ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك قَالَ نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ بَدَنُك وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِتَّ قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ: صِفْ لَنَا كَلَامَ رَبِّك، فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا تُشَبِّهُهُ. قَالَ: أَسْمَعْتُمْ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ» .
قَالَ وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ: مَنْ الْقَائِلُ لِعِيسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ قَالُوا: يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا يُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَكُونُ فَعَبَّرَ لِمُوسَى فَقُلْنَا: فَمَنْ الْقَائِلُ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ؟ قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ قُلْنَا قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حَتَّى زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَتَحَرَّك وَلَا تَزُولُ عَنْ مَكَان إلَى مَكَان، فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ أَقُولُ إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ، فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى
خَلَقَ التَّكَلُّمَ، وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا، فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ كَلَامًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ عِلْمًا فَعَلِمَ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً.
فَقَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ لَنَا لَمَّا وَصَفْنَا مِنْ اللَّهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ: إنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ وَنُورَهُ وَاَللَّهَ وَقُدْرَتَهُ وَاَللَّهَ وَعَظَمَتَهُ. فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ فَقُلْنَا: لَا نَقُول إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَكِنْ نَقُولُ: لَمْ يَزَلْ بِقُدْرَتِهِ وَنُورِهِ لَا مَتَى قَدَرَ وَلَا كَيْفَ قَدَرَ. فَقَالُوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ فَقُلْنَا: نَحْنُ نَقُولُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ.
وَضَرَبْنَا لَهُمْ مَثَلًا فِي ذَلِكَ فَقُلْنَا لَهُمْ: أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جُذُوعٌ وَكُرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ وَسُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَهُ الْمِثْلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ، لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ قُدْرَةً وَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ هُوَ عَاجِزٌ، وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا عِلْمَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ فَهُوَ جَاهِلٌ وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ قَادِرًا عَالِمًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَجُلًا كَافِرًا اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] أَوَقَدْ كَانَ لِهَذَا الَّذِي سَمَّاهُ وَحِيدًا عَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَجَوَارِحُ كَثِيرَةٌ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ وَحِيدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمِثْلُ الْأَعْلَى هُوَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ
اخْتِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْبَارِيَ مُتَكَلِّمٌ فَقَالَ: اخْتَلَفَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْبَارِيَ مُتَكَلِّمًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ امْتَنَعَ أَنْ
يُثْبِتَ الْبَارِي مُتَكَلِّمًا وَلَوْ أَثْبَتَهُ مُتَكَلِّمًا لَأَثْبَتَهُ مُنْفَصِلًا، وَالْقَائِلُ لِهَذَا الْإِسْكَافِيُّ، وَعَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قُلْت: وَأَمَّا نَقْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ اتِّفَاقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْبَارِيَ مُتَكَلِّمٌ، وَنَقَلَ مَنْ أُخِذَ ذَلِكَ عَنْهُ كَالرَّازِيِّ وَغَيْرِهِ. فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَانَ يَأْخُذُ مَا يَذْكُرُهُ مَشَايِخُهُ الْبَصْرِيُّونَ وَمَا نَقَلُوهُ، وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ، فَيُوَافِقُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ فِي اللَّفْظِ وَهُمْ فِي الْمَعْنَى قَائِلُونَ بِقَوْلِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ، فَإِذَا ذُكِرَ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ظَنَّ الْمُسْتَمِعُ لِذَلِكَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي تَغْيِيرِ اللَّفْظِ كَالنِّزَاعِ فِي تَغْيِيرِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ النُّفَاةُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَرِّحُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَافَقُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ نِفَاقًا مِنْ زَنَادِقَتِهِمْ وَجَهْلًا مِنْ سَائِرِهِمْ.
وَهَذَا الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَحْضُ السُّنَّةِ وَصَرِيحُهَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُهَا وَقَدْ خَلَّصَهُ تَخْلِيصًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا خَوَاصُّ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مَزَالَّ أَقْدَامِ الْأَذْكِيَاءِ الْفُضَلَاءِ فِي هَذِهِ الْمُهِمَّةِ الْغَبْرَاءِ، حَتَّى كَثُرَ بَيْنَ الْفَرْقِ مِنْ الْخُصُومَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَسَائِرِ النَّاسِ يَقُولُونَ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: قَرَأْت فِي كِتَابِ شَاكِرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: إنَّ الَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَزَالُوا يَعْبُدُونَ خَالِقًا كَامِلًا لِصِفَاتِهِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ وَلَا عِلْمَ ثُمَّ خَلَقَ عِلْمًا فَعَلِمَ بِخَلْقِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فَخَلَقَ كَلَامًا ثُمَّ تَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ سَمِيعًا بَصِيرًا ثُمَّ خَلَقَ سَمْعًا وَبَصَرًا: فَقَدْ نَسَبَهُ إلَى النَّقْصِ، وَقَائِلُ هَذَا كَافِرٌ. لَمْ يَزَلْ اللَّهُ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ صِفَةٌ، وَلَا تَزُولُ عَنْهُ صِفَةٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَبَعْدَ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ، فَمِنْ وَجْهٍ أَنَّ الرَّبَّ تبارك وتعالى يَتَكَلَّمُ كَيْفَ يَتَكَلَّمُ بِشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَلَهَوَاتٍ، فَهَذِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ لَهُمَا:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أَفَهَاهُنَا شَفَتَانِ وَلِسَانٌ وَلَهَوَاتٌ. قُلْت: أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ كَانَ يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي حِفْظِهِ وَفِقْهِهِ وَدِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَأَحْمَدُ كَانَ عَظِيمَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ، دَاعِيًا لَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ. كَمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ حَنْبَلٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ حَنْبَلٌ فِي كُتُبِهِ مِثْلَ كِتَابِ السُّنَّةِ وَالْمِحْنَةِ لِحَنْبَلٍ.
قَالَ حَنْبَلٌ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُرْوَى أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى وَأَنَّ اللَّهَ يَضَعُ قَدَمَهُ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نُؤْمِنُ بِهَا وَنُصَدِّقُ بِهَا وَلَا كَيْفَ وَلَا مَعْنَى وَلَا نَرُدُّ مِنْهَا شَيْئًا، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ إذَا كَانَتْ بِأَسَانِيدَ صِحَاحٍ، وَلَا نَرُدُّ عَلَى اللَّهِ قَوْلَهُ وَلَا يُوصَفُ اللَّهُ تبارك وتعالى بِأَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، بِلَا حَدٍّ وَلَا غَايَةٍ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
وَقَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَقَدْ أَجْمَلَ تبارك وتعالى بِالصِّفَةِ لِنَفْسِهِ، فَحَدَّ لِنَفْسِهِ صِفَةً لَيْسَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ فَنَعْبُدُ اللَّهَ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
قَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَهُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، بَصِيرٌ بِلَا حَدٍّ وَلَا تَقْدِيرٍ وَلَا يَبْلُغُهُ الْوَاصِفُونَ وَصِفَاتُهُ مِنْهُ وَلَهُ وَلَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ، فَنَقُولُ كَمَا قَالَ، وَنَصِفُهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا نَتَعَدَّى ذَلِكَ وَلَا تَبْلُغُهُ صِفَةَ الْوَاصِفِينَ، نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَلَا نُزِيلُ عَنْهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ بِشَنَاعَةٍ شُنِّعَتْ وَوَصْفٍ وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَلَامٍ وَنُزُولٍ وَخُلُوِّهِ بِعَبْدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَضْعِهِ كَنَفَهُ عَلَيْهِ.
هَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يُرَى فِي الْآخِرَةِ. وَالتَّحْدِيدُ فِي هَذَا بِدْعَةٌ وَالتَّسْلِيمُ لِلَّهِ بِأَمْرِهِ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَا حَدٍّ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا عَالَمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَّامَ الْغُيُوبِ، فَهَذِهِ صِفَاتٌ وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ لَا تُرَدَّ وَلَا تُدْفَعُ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] كَيْفَ شَاءَ، الْمَشِيئَةُ إلَيْهِ عز وجل وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا حَدٍّ وَلَا تَقْدِيرٍ.
وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ. {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42] فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ صِفَاتُهُ مِنْهُ لَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ.
وَالْخَبَرُ بِضَحِكِ اللَّهِ، وَلَا نَعْلَمُ كَيْفَ ذَلِكَ إلَّا بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَتَبْيِينِ الْقُرْآنِ، لَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ وَلَا يَحُدُّهُ أَحَدٌ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُشْتَبِهَةُ قُلْت لَهُ: وَالْمُشَبِّهَةُ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: مَنْ قَالَ بَصَرٌ كَبَصَرِي. وَيَدٌ كَيَدِي - وَقَالَ حَنْبَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ - وَقَدَمٌ كَقَدَمِي. فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ بِخَلْقِهِ وَهَذَا يَحُدُّهُ. وَهَذَا كَلَامٌ سُوءٌ وَهَذَا مَحْدُودُ الْكَلَامِ فِي هَذَا لَا أُحِبُّهُ.
قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " يَضَعُ قَدَمَهُ ". نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَحُدُّهُ وَلَا نَرُدُّهُ عَلَى رَسُولِ صلى الله عليه وسلم بَلْ نُؤْمِنُ بِهِ.
قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ عز وجل بِالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ وَالنَّهْيِ عَمَّا نَهَى. وَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّلَلِ وَالِارْتِيَابِ وَالشَّكِّ إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٌ قَدِيرٌ، قَالَ الْخَلَّالُ: وَنَادَانِي أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْجَبَلِيِّ مِنْ حَنْبَلٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ تبارك وتعالى: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]{لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] هَذِهِ صِفَاتُ اللَّهِ عز وجل وَأَسْمَاؤُهُ تبارك وتعالى.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ إنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ. قَالَ: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27]- إلَى قَوْلِهِ - {دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ:{أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]- إلَى - {طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]{عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]{سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ لَا أَنْسَابَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] فَلَا أَنْسَابَ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ. فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُلْ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ فَخَتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا وَعِنْدَهُ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 42] الْآيَةَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ وَدَحَاهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَخُلِقَتْ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَخُلِقَتْ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ إنِّي لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إلَّا أَصَابَ فِيهِ الَّذِي أَرَادَ فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْك الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ الطَّرِيقِ الَّذِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ بِعَيْنِهَا مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِعَيْنِهِ بِأَلْفَاظِهِ التَّامَّةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ:
يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي صَدْرِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَكْذِيبٌ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ بِتَكْذِيبٍ وَلَكِنْ اخْتِلَافٌ قَالَ: فَهَلُمَّ مَا وَقَعَ فِي نَفْسِك فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: اسْمَعْ، اللَّهُ يَقُولُ:{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] .
وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27]{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا - وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 28 - 29]{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ ". وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10]{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158]{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، وَكَأَنْ كَانَ ثُمَّ انْقَضَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَاتِ مَا فِي نَفْسِك مِنْ هَذَا، فَقَالَ السَّائِلُ: إذَا أَنْبَأْتَنِي بِهَذَا فَحَسْبِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ:{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] ، فَهَذَا فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى يُنْفَخُ فِي الصُّوَرِ فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ثُمَّ إذَا كَانَ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى قَامُوا فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وَقَوْلُهُ:
{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ لَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ وَلَا يَغْفِرُ شِرْكًا، فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ قَالُوا إنَّ رَبَّنَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ تَعَالَوْا نَقُولُ إنَّا كُنَّا أَهْلَ ذُنُوبٍ وَلَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَا إذَا كَتَمُوا الشِّرْكَ فَاخْتِمْ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَيُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُمُ حَدِيثًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27]{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا - وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 28 - 29]{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَإِنَّهُ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ يَعْنِي ثُمَّ دَحَى الْأَرْضَ وَدَحْيُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى وَشَقَّ فِيهَا الْأَنْهَارَ وَجَعَلَ فِيهَا السُّبُلَ وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالْآكَامَ وَمَا فِيهَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وَقَوْلُهُ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] وَجُعِلَتْ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، {غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23] {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158] . فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَسَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: احْفَظْ عَنِّي مَا حَدَّثْتُك وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْك مِنْ الْقُرْآنِ أَشْبَاهُ مَا حَدَّثْتُك، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا إلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَعْلَمُونَ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْك الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ عَنْ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ كَمَا رَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ
وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي يَسِيرٍ مِنْ الْأَحْرُفِ، وَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مُتَعَيَّنٌ لِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ كَامِلًا بِصِفَاتِهِ، لَمْ تَحْدُثُ لَهُ صِفَةٌ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ صِفَةٌ،
لَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ لِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ يَنْزِلُ كَمَا يَشَاءُ وَيَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَشَاءُ وَأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ.
وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ، وَأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ صِفَاتِهِ؛ وَلَكِنَّ كَوْنَهُ بِحَيْثُ يَفْعَلُ إذَا شَاءَ هُوَ صِفَتُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْفِعْلِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ تَجَدُّدَ الصِّفَةِ أَوْ زَوَالَهَا يَقْتَضِي تَغَيُّرَ الْمَوْصُوفِ وَاسْتِحَالَتَهُ، وَيَقْتَضِي تَجَدُّدَ كَمَالٍ لَهُ بَعْدَ نَقْصٍ، أَوْ تَجَدُّدَ نَقْصٍ لَهُ بَعْدَ كَمَالٍ، كَمَا فِي صِفَاتِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا إذَا حَدَثَ لِلْمَوْصُوفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ، مِثْلُ تَجَدُّدِ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفِعْلِ.
وَهَكَذَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَاَلَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْهُمْ، مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَطَوَائِفَ مِنْ الشِّيعَةِ كَمَا نَقَلُوا عَنْ الْكَرَّامِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْإِرَادَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالنَّظَرِ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَمْ يَزَلْ بِمَشِيئَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَلَمْ يَزَلْ سَمِيعًا بَصِيرًا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ لَا تُوجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَصْفًا وَلَا هِيَ صِفَاتٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَاَلَّذِينَ يُنَازِعُونَ فِي هَذَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَقُولُونَ لَوْ قَامَ فِعْلٌ حَادِثٌ بِذَاتِ الْقَدِيمِ لَاتَّصَفَ بِهِ وَصَارَ الْحَادِثُ صِفَةً لَهُ إذْ لَا مَعْنَى لِقِيَامِ الْمَعَانِي وَاخْتِصَاصِهَا بِالذَّوَاتِ إلَّا كَوْنُهَا صِفَاتٍ لَهَا، فَلَوْ قَامَتْ الْحَوَادِثُ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْإِرَادَاتِ بِذَاتِ الْقَدِيمِ لَاتَّصَفَ بِهَا كَمَا اتَّصَفَ بِالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ، وَلَوْ اتَّصَفَ بِهَا لَتَغَيَّرَ بِهَا، وَالتَّغَيُّرُ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا صِفَةً وَتَغَيُّرًا لَا يُوَافِقُهُمْ الْأَوَّلُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ اللُّغَةُ أَيْضًا مُوَافِقَةً عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا لَا تُسَمِّي قِيَامَ الْإِنْسَانِ وَقُعُودَهُ تَغَيُّرًا لَهُ، وَلَا يُطْلَقَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ وَإِنْ أُطْلِقَ ذَلِكَ فَالنِّزَاعُ اللَّفْظِيُّ لَا يَضُرُّ إلَّا إذَا خُولِفَتْ أَلْفَاظُ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَتَنَازَعُونَ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الْمُتَشَابِهَةِ وَقَدْ قِيلَ أَكْبَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتَرَاك الْأَسْمَاءِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْبِدَعِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ الْكِتَابَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَرَكَةِ فِي الْجِهَاتِ لَيْسَتْ تَغَيُّرًا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»
() فَأَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ هُوَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِزَالَةِ صُورَتِهِ وَصِفَتِهِ بِتَحْرِيكِهِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ، فَتَغْيِيرُ الْخَمْرِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ نَقْلِهَا مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ، بَلْ بِإِرَاقَتِهَا أَوْ إفْسَادِهَا مِمَّا فِيهِ اسْتِحَالَةُ صُورَتِهَا وَذَلِكَ مَنْ رَأَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ زَوَالُ صُورَةِ الْقَتْلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ صُورَةِ الْقِتَالِ وَكَذَلِكَ الزَّانِيَانِ وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِدْعَةِ وَالدَّاعِي لَيْسَ تَغْيِيرُ هَذَا الْمُنْكَرِ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيلِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ
قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَطُّ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ فِي الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ إذْ الْأَحْيَازُ وَالْجِهَاتُ مُتَسَاوِيَةٌ فَهُوَ مُنْكَرٌ هُنَا كَمَا أَنَّهُ مُنْكَرٌ هُنَاكَ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى التَّغْيِيرِ بَلْ لَا بُدَّ فِي التَّغْيِيرِ مِنْ إزَالَةِ صُورَةٍ مَوْجُودَةٍ وَإِنَّ ذَاكَ قَدْ يَحْصُلُ بِالنَّقْلِ لَكِنَّ الْعَرْضَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَرَكَةِ كَحَرَكَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ لَا يُسَمَّى تَغَيُّرًا بِخِلَافِ مَا يَعْرِضُ لِلْجَسَدِ مِنْ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُغَيِّرُ صِفَتَهُ.
قُلْت وَفِي هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ وَسَائِرِ السَّلَفِ فِي مَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ كَالْعِلْمِ أَوْ الْمُرَادِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَمَا يُقَالُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ الْمُقْنِعِ، وَذَكَرَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ الْبَيَانِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ وَأَتْبَاعَهُ يَقُولُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَيَتَأَوَّلُونَ كَلَامَ أَحْمَدَ الْمُخَالِفَ لِذَلِكَ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَنَحْوِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بِهَا بَيْنَ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ.
وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْأَئِمَّةُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَلَا قَوْلَ هَؤُلَاءِ، بَلْ فِيهِ مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَمَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَثْبَتُ مِنْ الْحَقِّ مَا أَثْبَتَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَإِذَا نَظَرَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّورِ فَلَيْسَ كَالْمَخْلُوقَاتِ الْبَايِنَةِ عَنْهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ
بِمَشِيئَتِهِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَ أَحْمَدُ ثَلَاثَ صِفَاتٍ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا، فَالتَّكَلُّمُ يُشْبِهُ الْعِلْمَ مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يُشَبَّهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَالطَّائِفَةُ الَّتِي جَعَلَتْهُ كَالْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ وَالطَّائِفَةُ الَّتِي جَعَلَتْهُ كَالْمَغْفِرَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَصُرَتْ فِي مَعْرِفَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا وَصْفًا لَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهُ بِوُجُودِ الْكَلَامِ إذَا شَاءَ، وَسَيَجِيءُ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ.
مِنْ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ " وَلَيْسَا مِنْ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهُمَا وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا، فَقَدْ نَفَى عَنْهُمَا الْخَلْقَ فِي ذَاتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَاتِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهُمَا، وَهُنَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْقُرْآنَ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ، وَفِي كَلَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ أَوْ لَا تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ كِلَاهُمَا مُنْكَرٍ عِنْدَهُ، وَهُوَ تَقْتَضِي أُصُولُهُ لِأَنَّ فِي نَفْيِ ذَلِكَ بِدْعَةً وَفِي إثْبَاتِهِ أَيْضًا بِدْعَةً وَلِهَذَا أَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ إذْ كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ مَعْنَى الْخَلْقِ الْمَخْلُوقِ، كَمَا رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ. مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَالَ إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مُحْدَثَةٌ. فَقَالَ: كَافِرٌ. ثُمَّ قَالَ لِي: اللَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَمَنْ قَالَ إنَّهَا مُحْدَثَةٌ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ مَخْلُوقٌ، وَأَعْظَمَ أَمْرَهُمْ عِنْدَهُ وَجَعَلَ يُكَفِّرُهُمْ، وَقَرَأَ عَلَيَّ {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الصافات: 126] وَذَكَرَ آيَةً أُخْرَى.
وَقَالَ الْخَلَّالُ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْكِي عَنْ أَبِيهِ كَلَامَهُ فِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ، وَكِتَابَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ فَقَالَ: جَاءَنِي دَاوُد فَقَالَ: تَدْخُلُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَتُعْلِمُهُ قِصَّتِي وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنِّي يَعْنِي مَا حَكَوْا عَنْهُ. قَالَ: فَدَخَلْت عَلَى أَبِي فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ قَالَ: وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْبَابِ - فَقَالَ لِي: كَذَبَ قَدْ جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، هَاتِ تِلْكَ الضُّبَارَةَ قَالَ الْخَلَّالُ وَذَكَرَ الْكَلَامَ فَلَمْ أَحْفَظْهُ جَيِّدًا، فَأَخْبَرَنِي أَبُو يَحْيَى عَنْ زَكَرِيَّا أَبُو الْفَرَجِ الرَّازِيّ قَالَ: جِئْت يَوْمًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَإِذَا عِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَ أَبَا يَحْيَى مَا سَمِعْت مِنْ أَبِيك فِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَمَّا قَدِمَ دَاوُد مِنْ خُرَاسَانَ جَاءَنِي فَسَلَّمَ عَلَيَّ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ لِي قَدْ عَلِمْت شِدَّةَ مَحَبَّتِي لَكُمْ وَلِلشَّيْخِ.
وَقَدْ بَلَغَهُ عَنِّي كَلَامٌ فَأُحِبُّ أَنْ تَعْذُرَنِي عِنْدَهُ وَتَقُولَ لَهُ أَنْ لَيْسَ هَذَا مَقَالَتِي أَوْ لَيْسَ كَمَا قِيلَ لَك. فَقُلْت: لَا تُرِيدُ؟
فَأَبِي فَدَخَلْت إلَى أَبِي فَأَخْبَرْته أَنَّ دَاوُد جَاءَ فَقَالَ إنَّهُ لَا يَقُولُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَأَنْكَرَ. قَالَ: جِئْنِي بِتِلْكَ الْإِضْبَارَةِ [الْكُتُبِ] فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا فَقَالَ هَذَا كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ وَفِيهِ أَنَّهُ يَعْنِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ - أَحَلَّ فِي بَلَدِنَا الْحَالَ وَالْمَحَلَّ.
وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ فَقُلْت لَهُ إنَّهُ يُنْكِرُ ذَلِكَ. فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَصْدَقُ مِنْهُ لَا نَقْبَلُ قَوْلَ عَدُوِّ اللَّهِ. أَوْ نَحْوَ مَا قَالَ أَبُو يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ بِنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الْخَلَّالُ، وَأَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْخِرَقِيِّ - وَالِدَ أَبِي الْقَاسِمِ صَاحِبَ الْمُخْتَصَرِ، قَالَ: سَأَلْت أَبَا بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ قِصَّةِ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: كَانَ دَاوُد خَرَجَ إلَى خُرَاسَانَ إلَى إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ شَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو نَصْرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ وَشَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ. فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَنْ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ لَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ. فَقُلْت: هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي ثَوْرٍ، قَالَ جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ قَالَ بِبَلَدِنَا: إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ. ثُمَّ إنَّ دَاوُد قَدِمَ إلَى هَهُنَا فَذَكَرَ نَحْوَ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الْمَرْوَزِيِّ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهْوَيْهِ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ دَاوُد فِي بَيْتِهِ وَثَبَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ فَضَرَبَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ. هَذِهِ قِصَّتُهُ.
قَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّاشِدِيُّ قَالَ: لَقِيت ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بِالْبَصْرَةِ عِنْدَ بِنْدَارٍ، فَسَأَلْته عَنْ دَاوُد فَأَخْبَرَنِي بِمِثْلِ مَا كَتَبَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا مِنْ خُرَاسَانَ بِأَسْوَإِ حَالٍ وَكَتَبَ لِي بِخَطِّهِ وَقَالَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ بِخُرَاسَانَ عُلَمَاءُ نَيْسَابُورَ.
قُلْت: أَمَّا الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ إِسْحَاقَ فَأَظُنُّهُ كَلَامُهُ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ قَالَ: الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الْخَلَّالُ، سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَدَقَةَ، سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ سَمِعْت دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ وَلَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ. قُلْت فَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى دَاوُد قَوْلَهُ إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى هَذَا عِنْدَ النَّاسِ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.
وَكَانَتْ الْوَاقِفَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْخَلْقَ مَخْلُوقٌ وَيُظْهِرُونَ الْوَقْفَ، فَلَا يَقُولُونَ
مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَيَقُولُونَ إنَّهُ مُحْدَثٌ، وَمَقْصُودُهُمْ مَقْصُودُ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ مَخْلُوقٌ فَيُوَافِقُونَهُمْ فِي الْمَعْنَى وَيَسْتَتِرُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْ نَفْيِ الْخَلْقِ عَنْهُ، وَكَانَ إمَامُ الْوَاقِفَةِ فِي زَمَنِ أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ تِلْمِيذُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ تُرْسُ الْجَهْمِيَّةِ، وَلِهَذَا حَكَى أَهْلُ الْمَقَالَاتِ عَنْهُ ذَلِكَ.
قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ " قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَكْثَرُ الزَّيْدِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الرَّافِضَةِ: " إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لِلَّهِ لَا يُقَالُ مَخْلُوقٌ وَلَا أَنَّهُ خَالِقٌ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ وَزَادَ الثَّلْجِيُّ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَيْضًا كَمَا لَا يُقَالُ مَخْلُوقٌ لِأَنَّ الصِّفَاتِ لَا تُوصَفُ. وَحَكَى زُرْقَانُ عَنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى ضَرْبَيْنِ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْمَسْمُوعَ فَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الصَّوْتَ الْمُقَطَّعَ وَهُوَ رَسْمُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَفِعْلُ اللَّهِ، مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْحَرَكَةِ مِنْهُ لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْوَاقِفَةِ: إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَبِاَللَّهِ كَانَ وَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَهُ وَامْتَنَعُوا مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ. أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَلَا يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُحْدَثٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمُتَفَقِّهِينَ كَانَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ، وَيَقُولُ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، قَالَ وَهَذَا قَوْلُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ، وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ التُّومُنِيُّ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ حَدَثَ وَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ وَفُعِلَ لَيْسَ بِمَفْعُولٍ وَامْتَنَعَ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ خُلِقَ وَيَقُولُ لَيْسَ يُخْلَقُ وَلَا مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِاَللَّهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي إرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَجْمَعَ قَائِمٌ بِاَللَّهِ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَمْرٌ وَهُوَ الْإِرَادَةُ مِنْ اللَّهِ الْإِيمَانَ لِأَنَّ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِيمَانَ هُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ.
وَحَكَى زُرْقَانُ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَوْهَرَ، وَالْأَعْرَاضَ الَّتِي هِيَ فِيهِ هِيَ فِعْلُ الْجَوْهَرِ إنَّمَا هِيَ فِعْلُ الطَّبِيعَةِ. فَالْقُرْآنُ فِعْلُ الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِطَبْعِهِ فَهُوَ لَا خَالِقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ. وَهُوَ مُحْدِثٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي هُوَ حَالٌّ فِيهِ بِطَبْعِهِ وَحُكِيَ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَشْرَسَ النُّمَيْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَبْتَدِئُهُ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ ابْتَدَأَهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَ فِعْلَ الطَّبِيعَةِ فَهُوَ لَا خَالِقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ، قَالَ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِلَابٍ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِهِ وَإِنَّهُ قَدِيمٌ بِكَلَامِهِ. وَإِنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ. كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ قَائِمٌ بِهِ. وَالْقُدْرَةَ قَائِمَةٌ بِهِ. وَهُوَ قَدِيمٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَغَايَرُ. وَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ الرَّسْمَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُتَغَايِرَةُ دُونَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ.
وَإِنَّهُ خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ هُوَ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَخْتَلِفُ وَتَتَغَايَرُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَغَايِرٍ كَمَا أَنَّ ذِكْرَنَا اللَّهَ يَخْتَلِفُ وَيَتَغَايَرُ وَالْمَدْلُولُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَايَرُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُ اللَّهِ عَرَبِيًّا لِأَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَهُوَ قِرَاءَتُهُ عَرَبِيٌّ فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِعِلَّةٍ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِبْرَانِيَّا لِعِلَّةٍ وَهِيَ أَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ عِبْرَانِيٌّ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ أَمْرًا لِعِلَّةٍ وَنَهْيًا وَخَبَرًا لِعِلَّةٍ وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا قَبْلَ أَنْ يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا قَبْلَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَسْمِيَةِ كَلَامِهِ نَهْيًا وَخَبَرًا، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ لَمْ يَزَلْ مُخْبِرًا أَوْ لَمْ يَزَلْ نَاهِيًا وَقَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا إلَّا قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كُنْ مَخْلُوقًا قَالَ: وَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِلَابٍ أَنَّ مَا يَسْمَعُ النَّاسَ يَتْلُونَهُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّ مُوسَى سَمِعَ اللَّهَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِهِ وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] مَعْنَاهُ حَتَّى يَفْهَمَ كَلَامَ اللَّهِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ حَتَّى يَسْمَعَ التَّالِينَ يَتْلُونَهُ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ خَلْقَ الْقُرْآنِ إنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُكْتَبُ وَيُسْمَعُ وَإِنَّهُ مُتَغَايِرٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ غَيْرُ الْقُدْرَةِ وَالْقُدْرَةُ غَيْرُ الْعِلْمِ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيَّرَ صِفَاتِهِ وَصِفَاتُهُ مُتَغَايِرَةٌ وَهُوَ غَيْرُ مُتَغَايِرٍ قَالَ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهُ قَالَ: بَعْضُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَمَا كَانَ مِنْهُ مَخْلُوقًا فَمِثْلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْأَخْبَارُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ قَالَ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ بِهِ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْكَثِيرَةَ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِهَا وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: أَنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَنِصْفُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَحَكَى بَعْضُ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ
الْمَقَالَاتِ: أَنَّ قَائِلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَالَ مَا كَانَ عِلْمًا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ فَلَا نَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا نَقُولُ غَيْرُ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ.
وَحَكَى هَذَا الْحَاكِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ وَهُوَ مَعَهُ عِنْدِي قَالَ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقُ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ هُوَ بَعْضُهُ، وَحَكَى زُرْقَانُ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ اللَّهَ هُوَ بَعْضُ الْقُرْآنِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مُسَمًّى فِيهِ فَلَمَّا كَانَ اسْمُ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَانَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ هُوَ أَوْلَى قَائِمٌ بِاَللَّهِ لَمْ يَسْبِقْهُ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَكُلُّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَنَحْوِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَنَحْوِ زُهَيْرٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَنَحْوِ أَبِي مُعَاذٍ التُّونِيُّ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ قُلْت: مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ وِزْر قَالَ وَنَحْوُهُمَا هُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَنَقْلُهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهِ تَحْرِيفٌ فِي النَّقْلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْمَقَالَاتِ أَنَّهُ وَجَدَ ذَلِكَ فِي نَقْلِ الْمَقَالَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ الدَّيَّانَاتِ وَالتَّمْيِيزَ بَيْنَهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَذَاهِبِ وَالْمَقَالَاتِ وَرَأَيْت النَّاسَ فِي حِكَايَةٍ مَا يَحْكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْمَقَالَاتِ وَيُصَنِّفُونَ فِي النِّحَلِ وَالدَّيَّانَاتِ، مِنْ بَيْنِ مُقَصِّرٍ فِيمَا يَحْكِيهِ، وَغَالِطٍ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ، وَبَيْنَ مُعْتَمَدٍ لِلْكَذِبِ فِي الْحِكَايَةِ إرَادَةَ التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَمِنْ بَيْنِ تَارِكٍ لِلتَّقَضِّي فِي رِوَايَتِهِ لِمَا يَرْوِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يُضِيفُ إلَى قَوْلِ مُخَالِفِيهِ مَا يَظُنُّ أَنَّ الْحُجَّةَ تَلْزَمُهُمْ بِهِ.
قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا سَبِيلُ الدَّيَّانِينَ وَلَا سَبِيلُ أَلْفَاظِ الْمُتَمَيِّزِينَ، فَحَدَانِي مَا رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَرْحِ مَا الْتَمَسْت شَرْحُهُ مِنْ أَمْرِ الْمَقَالَاتِ وَاخْتِصَارٍ ذَلِكَ.
قُلْت: وَهُوَ نَفْسُهُ وَإِنْ تَحَدَّى فِيمَا يَنْقُلُهُ ضَبْطًا وَصِدْقًا، لَكِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَنْقُلُهُ مِنْ مَذَاهِبِ الَّذِينَ لَمْ يَقِفْ عَلَى كُتُبِهِمْ وَكَلَامِهِمْ هُوَ مِنْ نَقْلِ هَؤُلَاءِ الْمُصَنَّفِينَ فِي الْمَقَالَاتِ، كَزُرْقَانَ وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ وَابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ وَهُوَ شِيعِيٌّ، وَكَتَبَ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَنَحْوُهُمْ فَيَقَعُ فِي النَّقْلِ مَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ هَؤُلَاءِ مِثْلُ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقُ وَفِرْقَةٌ قَالَتْ هُوَ بَعْضُهُ، وَحِكَايَةُ زُرْقَانَ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا هُوَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، هُوَ مِنْ بَابِ النَّقْلِ بِتَأْوِيلِهِمْ الْفَاسِدِ،
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ اللَّهَ بَعْضُ الْقُرْآنِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مُسَمًّى فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ اسْمُ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَانَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ وَكِيعٌ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ إنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ، يَعْنُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، وَأَنَّ الصِّفَةَ هِيَ مِمَّا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَوْصُوفِ، كَمَا رَوَى الْخَلَّالُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ السَّالِمِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُول: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَرَوَاهُ اللَّالْكَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ، سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَعْمَرِيَّ، سَمِعْت ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ، سَمِعْت خَالِي مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَجَمَاعَةَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ يَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ، فَقَالُوا: كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَقَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى أَنَّ حَنْبَلًا حَدَّثَهُمْ سَمِعْت أَبَا نُعَيْمٍ الْفَضْلَ بْنَ دُكَيْنٍ يَقُولُ: أَدْرَكْت النَّاسَ مَا يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا وَلَا عَرَفْنَا هَذَا إلَّا بَعْدَ مُنْذُ سِنِينَ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَئُولُ إلَى خَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، هَذَا الَّذِي لَمْ نَزَلْ عَلَيْهِ وَلَا نَعْرِفُ غَيْرَهُ. قَالَ الْخَلَّالُ أَنْبَأْنَا الْمَرْوَزِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَعِيدٍ ابْن أَخِي حَجَّاجٍ الْأْنَمَاطِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّهُ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَهُوَ مِنْهُ.
وَرَوَى اللَّالْكَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الصُّوفِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ مَرْدُوَيْهِ قَالَ: اجْتَمَعْنَا إلَى إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ بَعْدَ مَا رَجَعَ مِنْ كَلَامِهِ. فَكُنْت أَنَا وَعَلِيٌّ فَتَى هُشَيْمٍ وَأَبُو الْوَلِيدِ خَلَفُ الْجَوْهَرِيُّ وَأَبُو كِنَانَةَ الْأَعْوَرُ وَأَبُو مُحَمَّدٍ سُرُورٌ مَوْلَى الْمُعَلَّى صَاحِبُ هُشَيْمٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ فَتَى هُشَيْمٍ: نُحِبُّ أَنْ نَسْمَعَ مِنْك مَا نُؤَدِّيهِ إلَى النَّاسِ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا كَانَ مِنِّي فِي الْمَجْلِسِ.
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ أَخْبَرْت عَنْ مُحْرِزِ بْنِ عَوْنٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ: عِلْمُهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْبَأْنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْبَهْلُولِ. سَمِعْت ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ. أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ عَنْ أَيِّ قَالَةٍ تَسْأَلُ قُلْت كَلَامُ اللَّهِ قَالَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا تَجْزَعْ أَنْ تَقُولَ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ
وَمِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ.
وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ سَأَلْت أَحْمَدَ فَقُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَقَعَ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ مَا قَدْ وَقَعَ فَإِنْ سُئِلْت عَنْهُ مَاذَا أَقُولُ، فَقَالَ لِي أَلَسْت أَنْتَ مَخْلُوقًا؟ قُلْت نَعَمْ، فَقَالَ أَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْك مَخْلُوقًا؟ قُلْت نَعَمْ، قَالَ فَكَلَامُ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ مِنْهُ؟ قُلْت نَعَمْ قَالَ فَيَكُونُ شَيْءٌ مِنْ اللَّهِ عز وجل مَخْلُوقًا قَالَ الْخَلَّالُ وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي حَنْبَلٌ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جِبْرِيلَ
وَسَمِعَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ مِنْ النَّبِيِّ
فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا نَشُكُّ، وَلَا نَرْتَابُ فِيهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَصِفَاتُهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْهُ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَقَدْ كُنَّا نَهَابُ الْكَلَامَ فِي هَذَا حَتَّى أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ مَا أَحْدَثُوا وَقَالُوا مَا قَالُوا وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى مَا دَعَوْهُمْ إلَيْهِ فَبَانَ لَنَا أَمْرُهُمْ وَهُوَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَزَالُ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا نَعْبُدُ اللَّهَ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181] {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73]{عَلامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] ؛ فَهَذِهِ صِفَاتُ اللَّهِ تبارك وتعالى وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ لَا تُدْفَعُ وَلَا تُرَدُّ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ كَمَا قَالَ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] كَيْفَ شَاءَ، الْمَشِيئَةُ إلَيْهِ وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَا يَبْلُغُهُ صِفَةُ الْوَاصِفِينَ وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدَ رَبِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] نَتْرُكُ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ فِيهِ لَا نُجَادِلُ وَلَا نُمَارِي وَنُؤْمِنُ بِهِ كُلُّهُ وَنَرُدُّهُ إلَى عَالِمِهِ تبارك وتعالى فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ فَقُلْت مُجِيبًا لَهُ: كَانَ اللَّهُ وَلَا عِلْمَ، فَالْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ وَلَهُ وَعِلْمُ اللَّهِ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَمَنْ قَالَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ مَخْلُوقٌ فَهَذَا الْكُفْرُ الْبَيِّنُ الصُّرَاحُ.
قَالَ وَسَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ قَالَ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْيَنُ قَالَ سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَقَالَ أَحْمَدُ مِنْهُ خَرَجَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْكَرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً أَدْرَكْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ دُونَهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ خَالِقٌ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ إلَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ الْخَلَّالُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصغاني، حَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ الطَّوِيلُ، قَالَ قَالَ وَكِيعٌ: مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ -.
وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ قَالَ ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ فَرَحٍ الضَّرِيرُ، وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهَاشِمِيُّ حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ سَمِعْت وَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ يَقُولُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقُلْت يَا أَبَا سُفْيَانَ مِنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقًا، قَالَ اللَّالَكِائِيُّ وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَالْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ فَهَذَا لَفْظُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ الَّذِي سَمَّاهُ زُرْقَانُ وَهُوَ لَفْظُ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ حَرَّفَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ قَوْلَهُمْ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ يُرِيدُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَالصِّفَةُ مِمَّا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ وَهَذَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَالْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ وَلَهُ وَعِلْمُ اللَّهِ مِنْهُ وَكَقَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ مَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُقَالُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ كَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ أَيْ مِمَّا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ.
وَالثَّانِي: يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ أَيْ خَرَجَ مِنْهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: 5] وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] .
وَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] وَهَذَا
اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مِمَّا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْآثَارُ كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ.
وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبٍ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ أَيْضًا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُسَاوِرٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ أَوْسِعْ عَلَيْهِ مُدْخَلَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَهْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبٍ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ
وَقَالَ الْخَلَّالُ حَدَّثَنِي الْمَرُّوذِيُّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي عَرَضَهُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ وَقَدْ أَخْبَرَنِي شَيْخٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ الْقُرْآنُ خَرَجَ مِنْ اللَّهِ قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ "
يَعْنِي الْقُرْآنَ قَالَ وَحَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْوَرَّاقُ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ حُنَيْسٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
«مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» يَعْنِي الْقُرْآنَ الْحَدِيثَ. قُلْت: وَالْأَوَّلُ الْمُرْسَلُ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ
فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا، وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلَاتِهِ، وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ» . قَالَ أَبُو النَّضْرِ يَعْنِي الْقُرْآنَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَبَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَتَرَكَهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، حَدَّثَنَا بِذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِأَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ يَعْنِي الْقُرْآنَ» .
وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكَائِيُّ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ الْمُتَقَدِّمُ وَذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو مَرْوَانَ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُيَيْنَةَ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسُ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. قَالَ اللَّالْكَائِيُّ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُنِيبٍ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، قَالَ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ الطَّبَرِيُّ بِمَكَّةَ وَكَانَ فَاضِلًا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعْت شَيْخَتَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قَالَ مُحَمَّد بْن عَمَّارٍ وَأَنَّ شَيْخَتَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ، وَذَكَرَ جَمَاعَةً. قَالَ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الْمَرُّوذِيُّ سَمِعْت أَبَا وَهْبٍ وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي مَكَّةَ وَكَانَ رَجُلُ صِدْقٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسَرَّةَ عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ.
قُلْت: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ الْحَكَمِ بِهَذَا اللَّفْظِ لَكِنَّهُ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى سُفْيَانَ، فَقَالَ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ كَتَبْت عَنْهُ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: أَدْرَكْت شَيْخَتَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَمْ يَرْوِهِ اللَّالْكَائِيُّ هَكَذَا عَنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَدْ أَثْبَتَ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو مُكْتَمِلَ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَإِنَّمَا سَمَّى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ زُرْقَانَ وَكِيعًا لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْلَمْ الْأَئِمَّةِ بِكُفْرِ الْجَهْمِيَّةِ وَبَاطِنِ قَوْلِهِمْ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِهِمْ ذَمًّا لَهُمْ وَتَنْفِيرًا عَنْهُمْ، فَبَلَغَ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ ذَمِّهِ لَهُمْ مَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ ذَمِّ غَيْرِهِ إذْ هُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ كُتُبُهُمْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ هَذَا مَجْرُوحٌ مُتَّهَمٌ فِي رِوَايَتِهِ وَتَرْجَمَتِهِ فِي كُتُبِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ تَرْجَمَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَتَجْرِيحُ حُكَّامِ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيل لَهُ مَشْهُورٌ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ، حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ اللال الْأَنْصَارِيُّ قَالَ سَمِعْت وَكِيعًا يَقُولُ لَا تَسْتَخِفُّوا بِقَوْلِهِمْ
الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُ شَرُّ قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَذْهَبُونَ إلَى التَّعْطِيلِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ وَكِيعٌ الرَّافِضَةُ شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ شَرٌّ مِنْهُمَا وَالْجَهْمِيَّةُ شَرُّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَيَقُولُونَ لَمْ يُكَلِّمْ وَيَقُولُونَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ وَكِيعٌ احْذَرُوا هَؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةِ وَهَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ وَالْمَرِيسِيُّ جَهْمِيٌّ وَعَلِمْتُمْ كَيْفَ كَفَرُوا قَالُوا تَكْفِيك الْمَعْرِفَةُ وَهَذَا كُفْرٌ، وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا فِعْلٍ وَهَذَا بِدْعَةٌ، فَمَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، قَالَ: وَقَالَ وَكِيعٌ عَلَى الْمَرِيسِيِّ لَعَنَهُ اللَّهُ يَهُودِيٌّ هُوَ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا قَالَ وَكِيعٌ وَعَلَى أَصْحَابِهِ لَعْنَةُ اللَّهِ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، وَضَرَبَ وَكِيعٌ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَقَالَ هُوَ بِبَغْدَادَ يُقَالُ لَهُ الْمَرِيسِيِّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَهْلِ الْبِدَعِ فَقَالَ لَمْ يَزَلْ فِي النَّاسِ إذَا كَانَ فِيهِمْ مَرْضَى أَوْ عَدْلٌ فَصَلِّ خَلْفَهُ، فَقُلْت: فَالْجَهْمِيَّةُ قَالَ لَا، هَذِهِ مِنْ الْمَقَاتِلِ هَؤُلَاءِ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ وَلَا يُنَاكَحُونَ وَعَلَيْهِمْ التَّوْبَةُ.
وَسُئِلَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٌ فَقَالَ فِيهِمْ مَا قَالَ ابْنُ إدْرِيسَ قِيلَ فَالْجَهْمِيَّةُ قَالَ لَا أَعْرِفُهُمْ قِيلَ لَهُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. قَالَ: لَا جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا أَوْرَدَتْ عَلَى قَلْبِي شَيْئًا لَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَطُّ. قُلْت فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَهُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ لَا يُنَاكَحُونَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ. وَسُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ نَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَتَيْت وَكِيعًا فَوَجَدْته مِنْ أَعْلَمِهُمْ بِهِمْ فَقَالَ: يَكْفُرُونَ مِنْ وَجْهِ كَذَا وَيَكْفُرُونَ مِنْ وَجْهِ كَذَا حَتَّى أَكْفَرَهُمْ كَذَا وَكَذَا وَجْهًا.
قُلْت: وَهَكَذَا رَأَيْت الْجَاحِظَ قَدْ شَنَّعَ عَلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ بِمَا لَمْ يُشَنِّعْ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمَا لِأَنَّ حَمَّادًا كَانَ مُعْتَنِيًا بِجَمْعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَإِظْهَارِهَا، وَمُعَاذٌ لَمَّا تَوَلَّى الْقَضَاءَ رَدَّ شَهَادَةَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَرَفَعُوا عَلَيْهِ إلَى الرَّشِيدِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ حَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَظَّمَهُ فَلِأَجَلِ مُعَادَاتِهِمْ لِمِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةٌ فِي السُّنَّةِ يُشَنِّعُونَ عَلَيْهِمْ بِمَا إذَا حَقَّقَ لَمْ يُوجَدْ مُقْتَضِيًا لِذَمٍّ.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقُ، وَفِرْقَةً قَالَتْ هُوَ بَعْضُهُ. فَقَدْ ذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ تَرْجَمَةَ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ وَسَبَبَ أَمْرِ أَحْمَدَ أَهْلَ السُّنَّةِ بِهَجْرِهِ، فَرَوَى الْخَلَّالُ مِنْ مَسَائِلِ أَبِي الْحَارِثِ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لِي ابْنُ الثَّلَّاجِ سَمِعْت رَجُلًا يَقُولُ الْقُرْآنُ هُوَ اللَّهُ، فَقَالَ لِي عَمُّهُ إنَّا بِتْنَا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ وَكَانَ ابْنُ الثَّلَّاجِ مَعَنَا وَكَانَ عَبَّاسٌ الْأَعْوَرُ فَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} [النساء: 59] قَالَ: إلَى كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ يَتَأَوَّلُ عَلَيْهِ هَذَا قُلْت لَهُ إنَّا قُلْنَا لِابْنِ الثَّلَّاجِ يَقُولُ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا قَالَ أَنَا لَا أَقُولُ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ، وَقُلْت لَهُ إنِّي سَمِعْته يَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ، فَقَالَ دَعْهُ يَقُولُ مَا شَاءَ كَمَا يَقُولُ لِي قَالَ ابْنُ الثَّلَّاجِ وَشَكَانِي.
قُلْت: فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَصْلُ حِكَايَتِهِ وَهُوَ أَنَّ ذِكْرَ أَنَّ الرَّدَّ إلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّهُ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنْ مَقْصُودِ ذَاكَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَنَّ الرَّدَّ إلَيْهِ، هُوَ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ كَلَامُهُ الْقَائِمُ بِهِ كَمَا أَنَّ الرَّدَّ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الرَّدُّ إلَى كَلَامِهِ الَّذِي قَامَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ إنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِبَعْضِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ، لَكَانَ الرَّدُّ إلَيْهِ رَدًّا إلَى ذَلِكَ الْجِسْمِ الْمَخْلُوقِ لَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقَ وَهَذَا ابْنُ الثَّلَّاجِ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ الْوَقْفَ فِي لَفْظِ الْمَخْلُوقِ دُونَ لَفْظِ الْمُحْدَثِ كَمَا حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُ وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَخْلُوقٌ، وَعَرَفَ الْأَئِمَّةُ حَقِيقَةَ حَالِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَائِرُ أَهْلِ السُّنَّةِ هَذِهِ التَّوْبَةَ لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، حَتَّى كَانَ يُعَادِي أَهْلَ السُّنَّةِ وَيَكْذِبُ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَذَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخِرَقِيِّ خَلِيفَةُ الْمَرُّوذِيِّ وَالِدُ أَبِي الْقَاسِمِ صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ فِي الْفِقْهِ فِي قَصَصِ الَّذِينَ أَمَرَ أَحْمَدُ بِهِجْرَانِهِمْ.
وَمَسْأَلَتُهُ لِلْمَرُّوذِيِّ عَنْهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا وَأَخْبَار الْمَرُّوذِيِّ لَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ وَنَقَلَ الْخَلَّالُ أَخْبَارَهُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مَا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ، فَقَالَ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْت أَبَا بَكْرٍ الْمَرُّوذِيَّ عَنْ قِصَّةِ ابْنِ الثَّلَّاجِ، فَقَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَاءَنِي هَارُونُ الْحَمَّالُ فَقَالَ إنَّ ابْنَ الثَّلَّاجِ تَابَ عَنْ صُحْبَةِ الْمَرِيسِيِّ فَأَجِيءُ بِهِ إلَيْك قَالَ، قُلْت لَا مَا أُرِيدُ أَنْ
يَرَاهُ أَحَدٌ عَلَى بَابِي، قَالَ أُحِبُّ أَنْ أَجِيءَ بِهِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَلَمْ يَزَلْ يَطْلُبُ إلَيَّ قَالَ قُلْت هُوَ ذَا يَقُولُ أَجِبْ فَأَيُّ شَيْءٍ أَقُولُ لَك، قَالَ: فَجَاءَ بِهِ فَقُلْت لَهُ اذْهَبْ حَتَّى تَصِحَّ تَوْبَتُك وَأَظْهَرَهَا ثُمَّ رَجَعَ قَالَ فَبَلَغَنَا أَنَّهُ أَظْهَرَ الْوَقْفَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ فَمَضَيْت وَمَعِي نَفْسَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَقُلْت لَهُ: قَدْ بَلَغَنِي عَنْك شَيْءٌ وَلَمْ أُصَدِّقْ بِهِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْت: نَقِفُ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ: أَنَا أَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ فَجَعَلَ يَحْتَجُّ بِيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ وَقَفُوا، فَقُلْت لَهُ: هَذَا مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي أَوْصَى لَكُمْ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ نُعَيْمٍ. فَقَالَ: لَا تَذْكُرُ النَّاسَ.
فَقُلْت لَهُ: أَلَيْسَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِمَخْلُوقٍ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت فَمَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ أَلَيْسَ قَدْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ كَفَّارَةً لِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: هَذَا مَتَاعُ أَصْحَابِ الْكَلَامِ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا أَقُولُ أَسْمَاءُ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ وَأَيُّ شَيْءٍ قَامَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثُمَّ قَالَ عَلَّمُوكُمْ الْكَلَامَ وَأَوْمَأَ إلَى نَاحِيَةِ الْكَرْخِ يُرِيدُ أَبَا ثَوْر وَغَيْرَهُ، فَقُمْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَمَا كَلَّمْنَاهُ حَتَّى مَاتَ.
وَرَوَى الْخَلَّالُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَعُلَمَاءُ الْوَاقِفَةِ جَهْمِيَّةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مِثْلُ ابْنِ الثَّلَّاجِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ.
قُلْت: وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الصِّفَاتِ بَعْضُهُ فَهَذَا إمَّا أَنْ يُنْكِرَ لَأَنْ يُقَالَ الصِّفَةُ الْقَائِمَةُ بِالْمَوْصُوفِ كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ لَا يُقَالُ هِيَ بَعْضُهُ أَوْ لِأَنَّ الرَّبَّ تبارك وتعالى لَا يُقَالُ: إنَّ لَهُ بَعْضًا كَمَا لِلْأَجْسَامِ بَعْضٌ، فَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ لِأَجْلِ الْأَوَّلِ فَأَهْلُ الْكَلَامِ مُتَنَازِعُونَ فِي صِفَاتِ الْجِسْمِ، هَلْ يُقَالُ إنَّهَا بَعْضُ الْجِسْمِ أَوْ يُقَالُ هِيَ غَيْرُهُ أَوْ لَا يُقَالُ هِيَ غَيْرُهُ فَذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ الْأَلْوَانُ وَالطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ وَالْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالرُّطُوبَةُ وَالْيُبُوسَةُ وَالرِّقَّةُ أَبْعَاضُ الْأَجْسَامِ وَأَنَّهَا مُتَجَاوِرَةٌ، قَالَ وَحُكِيَ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَالْحَيَاةِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونَ وَسَائِرَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ الْأَجْسَامِ أَعْرَاضٌ لَا أَجْسَامٌ.
وَحُكِيَ عَنْهُ فِي التَّأْلِيفِ أَنَّهُ كَانَ يَثْبُتُهُ بَعْضُ الْجِسْمِ فَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّنْ كَانَ يُنَافِي قَوْلَهُ فِي الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ كَانَ يَثْبُتُ التَّأْلِيفَ وَالِاجْتِمَاعَ وَالِافْتِرَاقَ، وَالِاسْتِطَاعَةَ غَيْرُ الْأَجْسَامِ
وَقَطَعَ عَنْهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَمَعَ الْفِعْلِ وَأَنَّهَا بَعْضُ الْمُسْتَطِيعِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ أَعْرَاضٌ مُجْتَمَعَةٌ، وَكَذَلِكَ الْجِسْمُ أَعْرَاضٌ مُجْتَمَعَةٌ مِنْ لَوْنٍ وَطَعْمٍ وَرَائِحَةٍ وَحَرَارَةٍ وَبُرُودَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْأَعْرَاضَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَنْقَلِبَ أَجْسَامًا، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ حَفْصٌ الْفَرْدُ وَغَيْرُهُ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْعَلُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالْعُمْقَ وَأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَاضُ الْجِسْمِ.
قَالَ: وَقَالَ الْأَصَمُّ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ أُسْتَاذُ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ الْأَصَمُّ لَا أُثْبِتُ إلَّا الْجِسْمَ الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ الْعَمِيقَ وَلَمْ يُثْبِتْ حَرَكَةَ غَيْرِ الْجِسْمِ وَلَا يُثْبِتُ سُكُونًا غَيْرَهُ وَلَا قِيَامًا غَيْرَهُ وَلَا قُعُودًا غَيْرَهُ وَلَا اجْتِمَاعًا غَيْرَهُ وَلَا حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا لَوْنًا وَلَا صَوْتًا وَلَا طَعْمًا غَيْرَهُ وَلَا رَائِحَةً. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ عَلِمَ الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونَ وَالْأَلْوَانَ ضَرُورَةً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا غَيْرُ الْجِسْمِ فَإِنَّهُ يَحْكِي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُثْبِتُ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَسَائِرَ الْأَفْعَالِ وَغَيْرَ الْجِسْمِ، وَلَا يَحْكِي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُثْبِتُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا قِيَامًا وَلَا قُعُودًا وَلَا اجْتِمَاعًا وَلَا افْتِرَاقًا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَعْرَاضِ.
قُلْت: هَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهَا ثَابِتَةٌ لَكِنْ لَيْسَتْ غَيْرَ الْجِسْمِ هُوَ الَّذِي قَدْ يَقُولُهُ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ، فَأَمَّا نَفْيُ وُجُودِهَا فَهُوَ سَفْسَطَةٌ مِنْ جِنْسِ نَفْيِ الْجِسْمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ غَيْرِ هَذَا مِثْلَ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ الْحَرَكَاتُ وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَسَائِرِ مَا يُثْبِتُ الْمُثْبِتُونَ أَعْرَاضًا أَنَّهَا صِفَاتُ الْأَجْسَامِ لَا هِيَ الْأَجْسَامُ وَلَا غَيْرُهَا إنَّهَا لَيْسَتْ بِأَجْسَامٍ فَيَقَعُ عَلَيْهَا التَّغَايُرُ. قَالَ وَقَدْ حُكِيَ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كَمَا حَكَيْنَا عَنْ هِشَامٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُثْبِتُ أَعْرَاضًا غَيْرَ الْأَجْسَامِ وَحُكِيَ عَنْ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزْعُمُ أَنَّ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ أَشْيَاءُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ هِيَ الْأَجْسَامُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهَا مَعَانٍ وَلَيْسَتْ بِأَشْيَاءَ.
قُلْت: وَهِشَامٌ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي صِفَاتِ اللَّهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ وَطَرَدَ الْقَوْلَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَدَفَعَ بِذَلِكَ مَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ تُورِدُهُ عَلَى الصِّفَاتِيَّةِ مِنْ التَّنَاقُضِ، قَالَ: وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ وَهِشَامٌ وَبِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَجَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ،
وَالْإِسْكَافِيُّ وَغَيْرُهُمْ، الْحَرَكَاتُ وَالسُّكُونُ وَالْقِيَامُ وَالْقُعُودُ وَالِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالْأَلْوَانُ وَالطُّعُومُ وَالرَّوَائِحُ وَالْأَصْوَاتُ وَالْكَلَامُ وَالسُّكُوتُ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ وَسَائِرُ أَفْعَالِ الْإِنْسَانِ وَالْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالرُّطُوبَةُ وَالْيُبُوسَةُ وَاللِّينُ وَالْخُشُونَةُ أَعْرَاضٌ غَيْرُ الْأَجْسَامِ قَالَ: وَحَكَى زُرْقَانُ عَنْ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْحَرَكَةَ جِسْمٌ وَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْجِسْمِ لِأَنَّ غَيْرَ الْجِسْمِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ يُشْبِهُهُ، قَالَ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّظَّامُ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ يَزْعُمُ أَنَّ الطُّولَ هُوَ الطَّوِيلُ وَأَنَّ الْعَرْضَ هُوَ الْعَرِيضُ وَكَانَ يُثْبِتُ الْأَلْوَانَ وَالطُّعُومَ وَالرَّوَائِحَ وَالْأَصْوَاتَ وَالْآلَامَ وَالْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ وَالرُّطُوبَةَ وَالْيُبُوسَةَ أَجْسَامًا لِطَافًا وَيَزْعُمُ أَنَّ حَيِّزَ اللَّوْنِ هُوَ حَيِّزُ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ وَأَنَّ الْأَجْسَامَ اللِّطَافَ قَدْ تَحُلُّ فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ وَكَانَ لَا يُثْبِتُ عَرْضًا إلَّا الْحَرَكَةَ فَقَطْ.
قَالَ: وَكَانَ عَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُثْبِتُ الْأَعْرَاضَ غَيْرَ الْأَجْسَامِ فَإِذَا قِيلَ لَهُ تَقُولُ الْحَرَكَةُ غَيْرُ الْمُتَحَرِّكِ وَالْأَسْوَدُ غَيْرُ السَّوَادِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ: قَوْلِي فِي الْجِسْمِ مُتَحَرِّكٌ إخْبَارٌ عَنْ جِسْمٍ وَحَرَكَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ أَقُولَ الْحَرَكَةُ غَيْرُ الْمُتَحَرِّكِ قَالَ: وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبَائِعِ، أَنَّ الْأَجْسَامَ كُلَّهَا مِنْ أَرْبَعَةِ طَبَائِعَ حَرَارَةٍ وَبُرُودَةٍ وَرُطُوبَةٍ وَيُبُوسَةٍ وَأَنَّ الطَّبَائِعَ الْأَرْبَعَةَ أَجْسَامٌ وَلَمْ يُثْبِتُوا شَيْئًا إلَّا هَذِهِ الطَّبَائِعَ الْأَرْبَعَةَ وَأَنْكَرُوا الْحَرَكَاتِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَلْوَانَ وَالطُّعُومَ وَالرَّوَائِحَ هِيَ الطَّبَائِعُ الْأَرْبَعُ، وَقَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ أَنَّ الْأَجْسَامَ مِنْ أَرْبَعَةِ طَبَائِعَ وَأَثْبَتُوا الْحَرَكَاتِ وَلَمْ يُثْبِتُوا عَرْضًا غَيْرَهَا وَيُثْبِتُونَ الْأَلْوَانَ وَالرَّوَائِحَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَائِعِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: الْأَجْسَامُ مِنْ أَرْبَعَةِ طَبَائِعَ، رُوحٌ سَائِحَةٌ فِيهَا وَأَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ جِسْمًا إلَّا هَذِهِ الْخَمْسَةَ الْأَشْيَاءَ وَأَثْبَتُوا الْحَرَكَاتِ أَعْرَاضًا.
قَالَ: وَقَالَ قَائِلُونَ بِإِبْطَالِ الْأَعْرَاضِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونِ وَأَثْبَتُوا السَّوَادَ وَهُوَ الشَّيْءُ الْأَسْوَدُ لَا غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الْبَيَاضُ وَسَائِرُ الْأَلْوَانِ، وَكَذَلِكَ الْحَلَاوَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَسَائِرُ الطُّعُومِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الرَّوَائِحِ وَالْحَرَارَةِ أَنَّهَا الشَّيْءُ الْحَارُّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالْيُبُوسَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَيَاةِ أَنَّهَا هِيَ الْحَيُّ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُ حَرَكَةَ الْجِسْمِ وَفِعْلُهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُ عَرْضًا غَيْرَ الْجِسْمِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.
قُلْت: هَذَا الْقَوْلُ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ يُضَاهِي قَوْلَ شَيْخِ الْمُعْتَزِلَةِ أَبِي الْهُذَيْلِ
فِي صِفَاتِ اللَّهِ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: قَالَ شَيْخُهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ، أَنَّ عِلْمَ الْبَارِي تَعَالَى هُوَ هُوَ، وَكَذَلِكَ قُدْرَتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَكَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ فِي سَائِرِ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَكَانَ يَزْعُمُ إذَا زَعَمَ أَنَّ الْبَارِيَ عَالِمٌ فَقَدْ أَثْبَتَ عِلْمًا هُوَ اللَّهُ وَنَفَى عَنْ اللَّهِ جَهْلًا وَدَلَّ عَلَى مَعْلُومٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ، وَإِذَا قَالَ إنَّ الْبَارِيَ قَادِرٌ فَقَدْ أَثْبَتَ قُدْرَةً هِيَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَفَى عَنْ اللَّهِ عَجْزًا وَدَلَّ عَلَى مَقْدُورٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ، وَكَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الذَّاتِ عَلَى هَذَا التَّثْبِيتِ وَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ حَدِّثْنَا عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ أَتَزْعُمُ أَنَّهُ قُدْرَتُهُ أَبَى ذَلِكَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ قُدْرَتِهِ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهَذَا نَظِيرُ مَا أَنْكَرَهُ مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يُقَالُ هُوَ اللَّهُ وَلَا يُقَالُ غَيْرُهُ، وَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ فَقُلْ إنَّ اللَّهَ عِلْمٌ نَاقِضٌ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ عِلْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ. قَالَ وَكَانَ يَسْأَلُ فِيمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ طُولَ الشَّيْءِ هُوَ هُوَ: وَكَذَلِكَ عَرْضُهُ فَيَقُولُ إنَّ طُولَهُ هُوَ عَرْضُهُ. قَالَ وَهَذَا رَاجِعٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ إنَّ عِلْمَ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ وَإِنَّ قُدْرَتَهُ هِيَ هُوَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِلْمُهُ هُوَ هُوَ وَقُدْرَتُهُ هِيَ هُوَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ هُوَ قُدْرَتُهُ وَالْإِلْزَامُ التَّنَاقُضُ، قَالَ: وَهَذَا أَخَذَهُ أَبُو الْهُذَيْلِ عَنْ أَرِسْطَاطَالِيسَ وَذَلِكَ أَنَّ أَرِسْطَاطَالِيسَ قَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ إنَّ الْبَارِيَ عِلْمٌ كُلُّهُ قُدْرَةٌ كُلُّهُ حَيَاةٌ كُلُّهُ سَمْعٌ كُلُّهُ بَصَرٌ كُلُّهُ فَحُسْنُ اللَّفْظِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَقَالَ عِلْمُهُ هُوَ هُوَ.
قُلْت: هُوَ قَوْلُ أَرِسْطُو وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْعَقْلَ وَالْعَاقِلَ وَالْمَعْقُولَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ الْعِنَايَةُ.
قُلْت: فَهَذِهِ نُقُولُ أَهْلِ الْكَلَامِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ فَهُوَ لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُمْ إنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ.
وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتُ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُ النَّقْلِ عَنْهُمْ، وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الصِّفَةَ بَعْضُ الْمَوْصُوفِ أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ فَقَدْ قَالَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَفُرْسَانِهِمْ، وَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمُنَازَعَاتِ لَمْ يَجِدْ الْعَاقِلُ السَّلِيمُ الْعَقْلَ مَا يُخَالِفُ ضَرُورَةَ الْعَقْلِ لِغَيْرِ غَرَضٍ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَازَعَاتِ يَكُونُ لَفْظِيًّا أَوْ اعْتِبَارِيًّا فَمَنْ قَالَ إنَّ الْأَعْرَاضَ بَعْضُ الْجِسْمِ أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ غَيْرَهُ، وَمَنْ قَالَ إنَّهَا غَيْرُهُ يَعُودُ النِّزَاعُ بَيْنَ مُحَقِّقِيهِمْ إلَى لَفْظٍ وَاعْتِبَارٍ وَاخْتِلَافِ اصْطِلَاحٍ فِي مُسَمَّى بَعْضٍ وَغَيْرِهِ كَمَا قَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي بَيَانِ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ وَيُسَمَّى أَيْضًا تَخْلِيصُ التَّلْبِيسِ مِنْ كِتَابِ التَّأْسِيسِ الَّذِي وَضَعَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ
الْخَبَرِيَّةِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهَا يَسْتَلْزِمُ افْتِقَارَ الرَّبِّ تَعَالَى إلَى غَيْرِهِ وَتَرْكِيبِهِ مِنْ الْأَبْعَاضِ، وَبَيَّنَّا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الْجُمْلَةِ فَهَذَا إنْ كَانَ أَحَدٌ أَطْلَقَ لَفْظَ الْبَعْضِ عَلَى الذَّاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَقَالَ إنَّهُ بَعْضُ اللَّهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَيْسَتْ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ لَفْظُ الْبَعْضِ، فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ نَطَقَ بِهِ أَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ ذَاكِرِينَ وَآثِرِينَ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَن عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَوِّفَ عِبَادَهُ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ لِلْأَرْضِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَزَلْزَلَتْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُدَمْدِمَ عَلَى قَوْمٍ تَجَلَّى لَهَا عز وجل.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ فِي تَجَلِّيهِ سُبْحَانَهُ لِلْجَبَلِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الدَّارِمِيَّ أَنْبَأْنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] قَالَ حَمَّادٌ هَكَذَا وَأَمْسَكَ سُلَيْمَانُ بِطَرَفِ إبْهَامِهِ عَلَى أُنْمُلَةِ أُصْبُعِهِ الْيُمْنَى قَالَ فَسَاخَ الْجَبَلُ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ العنقزي، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيَّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] قَالَ مَا تَجَلَّى مِنْهُ إلَّا مِثْلُ الْخِنْصَرِ قَالَ فَجَعَلَهُ دَكًّا، قَالَ تُرَابًا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَك تُبْت إلَيْك عَنْ أَنْ أَسْأَلَك الرُّؤْيَةَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِك مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ عَاصِمٍ الْحَمَّالُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَرِيُّ فَذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] ، قَالَ مَا تَجَلَّى مِنْهُ إلَّا مِثْلُ الْخِنْصَرِ فَجَعَلَهُ دَكًّا قَالَ تُرَابًا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَهُ
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ يَعْنِي الْعَدْفَانِيَّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ فِي التَّفْسِيرِ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيَّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: تَجَلَّى مِنْهُ مِثْلُ طَرَفِ الْخِنْصَرِ فَجَعَلَهُ دَكًّا. وَالصَّفَّانِيُّ وَمِنْ فَوْقِهِ إلَى عِكْرِمَةَ رَوَى لَهُمْ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ؟ وَعِكْرِمَةُ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَبَعْضُهُمْ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي قَوْلِهِ فِي قِصَّةِ دَاوُد: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] قَالَ يُدْنِيهِ حَتَّى يَمَسَّ بَعْضُهُ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} [ص: 25] قَالَ ذَكَرَ الدُّنُوَّ مِنْهُ حَتَّى أَنَّهُ يَمَسُّ بَعْضَهُ، وَقَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فعنيل عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قَالَ: يُقْعِدُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٍ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] فَقَالَ لَهُ عِكْرِمَةُ أَلَيْسَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ بَلَى. قَالَ أَفَكُلُّهَا تُرَى؟ فَفِي هَذِهِ أَنَّ عِكْرِمَةَ أَخْبَرَ قُدَّامَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ إدْرَاكَ الْبَصَرِ هُوَ رُؤْيَةُ الْمُدْرَكِ كُلِّهِ دُونَ رُؤْيَةِ بَعْضِهِ، فَاَلَّذِي يَرَى السَّمَاءَ وَلَا يَرَاهَا كُلَّهَا وَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا، وَجَعَلَ هَذَا تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَأَقَرَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ عَنْهُمْ هَذَا اللَّفْظُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ أَيْضًا إنْكَارُ تَبَعُّضِهِ سبحانه وتعالى، وَبَيَّنَ النَّاقِلُونَ مَعْنَى ذَلِكَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْآمِلِيُّ عَنْ
مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ حَمَّادِ بْنِ زُغْبَةَ. حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا نُوحُ ابْنُ مَرْيَمَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ، نَبِّئْنَا كَيْفَ مَعْرِفَتُك بِرَبِّك تبارك وتعالى فَإِنَّ مَنْ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ نَصَبَ دِينَهُ عَلَى الْقِيَاسِ لَمْ يَزَلْ الدَّهْرَ فِي الْتِبَاسٍ، مَائِلًا عَنْ الْمِنْهَاجِ، ظَاعِنًا فِي الِاعْوِجَاجِ، ضَالًّا عَنْ السَّبِيلِ، قَائِلًا غَيْرَ جَمِيلٍ، أَعْرِفُهُ بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ تبارك وتعالى مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ.
قَالَ نُعَيْمٌ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا وَأَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ، مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ شَبِيهٍ، وَمُتَدَانٍ فِي بُعْدِهِ.
قَالَ نُعَيْمٌ: يَقُولُ هُوَ عَلَى الْعَرْشِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. لَا تُتَوَهَّمُ دَيْمُومَتُهُ وَلَا يُمَثَّلُ بِخَلِيقَتِهِ. وَلَا يَجُورُ فِي قَضِيَّةٍ. الْخَلْقُ إلَى مَا عَلِمَ مُنْقَادُونَ. وَعَلَى مَا سَطَّرَ فِي الْمَكْنُونِ مِنْ كِتَابِهِ مَاضُونَ. لَا يَعْلَمُونَ بِخِلَافِ مَا مِنْهُمْ عِلْمٌ وَلَا غَيْرُهُ. يُرِيدُونَ فَهُوَ قَرِيبٌ غَيْرُ مُلْتَزِقٍ يَعْنِي قَرِيبًا بِعِلْمِهِ وَبَعِيدًا غَيْرَ مُنْقَضٍ يُحَقِّقُ وَلَا يُمَثَّلُ وَيُوجَدُ وَلَا يُبَعَّضُ. قَالَ نُعَيْمٌ لَا يُقَالُ بَعْضُهُ عَلَى الْعَرْضِ وَبَعْضُهُ عَلَى الْأَرْضِ يُدْرَكُ بِالْآيَاتِ. وَيَثْبُتُ بِالْعَلَامَاتِ. هُوَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ تبارك وتعالى. قُلْت:
هَذَا الْكَلَامُ فِي صِحَّتِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَظَرٌ وَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَنُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ لَهُ مَفَارِيدُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ. وَلَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ حَمَّادٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ.
وَهُوَ قَدْ نَفَى تَبْعِيضَهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرَهُ. وَهَذَا مَا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ. وَهَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]{اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَفْظَ الْبَعْضِ وَالْجُزْءِ وَالْغَيْرِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ فِيهَا إيهَامٌ وَإِبْهَامٌ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَيَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ أَوْ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ.
كَمَا يُقَالُ: حَدُّ الْغِيَرَيْنِ مَا جَازَ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ كَصِفَاتِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ أَجْزَائِهَا وَأَعْرَاضِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَتَفَرَّقَ وَتَنْفَصِلَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُقَدَّسٌ عَنْ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وَقَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ
فَيَكُونُ الْمَعْلُومُ لَيْسَ هُوَ غَيْرُ الْمَعْلُومِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ لَا يُفَارِقُهُ وَالتَّغَايُرُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَعْلَمُ وُجُودَ الْحَقِّ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ ثُمَّ أَنَّهُ عَالِمٌ ثُمَّ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ تَعَالَى كَالْعِلْمِ بِهِ فَمَنْ نَفَى عَنْهُ وَعَنْ صِفَاتِهِ التَّغَايُرَ وَالتَّبْعِيضَ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُعَطِّلٌ جَاحِدٌ لِلرَّبِّ فَإِنَّ هَذَا التَّغَايُرَ لَا يَنْتَفِي إلَّا عَنْ الْمَعْدُومِ.
وَهَذَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كِتَابِ بَيَانِ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَسْطًا بَيِّنًا وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبُهَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَقَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْهُ، وَعِلْمُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَهُ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَعْمَلُوا فِيهِ لَفْظَ مِنْ، وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَعْنَاهَا التَّبْعِيضُ فَهُوَ تَبْعِيضٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا يُقَالُ إنَّهُ تَغَايُرٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثُمَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَمْتَنِعُ أَوْ يَنْفِي لَفْظَ التَّغَايُرِ وَالتَّبْعِيضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَعْضُ النَّاسِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ لَفْظِ التَّغَايُرِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ لَفْظِ التَّبْعِيضِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ اللَّفْظَيْنِ إذَا فَسَّرَ الْمَعْنَى وَأُزِيلَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ وَالْإِجْمَالُ الَّذِي فِي اللَّفْظِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ تَقُولُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِيهِ تَنَاقُضًا مَعْلُومًا بِالْبَدِيهَةِ ثُمَّ إنَّ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنْ لَا يَتَّصِفَ إلَّا بِالْمَعْدُومِ فَيَتَنَاقَضُونَ وَيُعَطِّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ كَوْنَهُ وَاحِدًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْكَثْرَةَ وَالْعَدَدِيَّةَ قَالُوا وَيَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ ثُبُوتِ عَدَدٍ وَكَثْرَةٍ فِي وَصْفٍ أَوْ قُدْرَةٍ ثُمَّ إنَّهُمْ يَضْطَرُّونَ إلَى أَنْ يَقُولُوا هُوَ قَدِيمٌ حَقٌّ رَبٌّ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُمْكِنُ عِلْمُنَا بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَالْمَعْلُومُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَا فَرُّوا مِنْهُ مِمَّا سَمُّوهُ تَعَدُّدًا وَكَثْرَةً وَتَبْعِيضًا وَتَغَايُرًا، فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ ثُمَّ إنْ سَلَبَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ الْمَعْدُومِ وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فَإِمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا مُحْدَثٌ وَإِمَّا مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُمْكِنٌ مُفْتَقِرٌ إلَى غَيْرِهِ وَأَنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا قَائِمٌ بِغَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تُمَيَّزُ بِهَا الْمَوْجُودَاتُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ إذْ لِكُلِّ مَوْجُودٍ حَقِيقَةٌ خَاصَّةٌ يُمَيَّزُ بِهَا يُعْلَمُ مِنْهَا شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَذَلِكَ هُوَ التَّبْعِيضُ وَالتَّغَايُرُ الَّذِي يُطْلِقُونَ إنْكَارَهُ وَهَذَا أَصْلُ نُفَاةِ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ وَهُمْ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِي أَقُولُ إنَّهُ إذَا نَظَرَ إلَى إسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعِ
الْوُفُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يَعْرِفْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّينَ وَبِإِعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الرِّسَالَةِ. لَا مِنْ قِبَلِ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ وَلَا مِنْ بَابِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَلَا مِنْ بَابِ كَانَ وَيَكُونُ وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا وَفِي الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ لَازِمًا مَا أَضَاعُوهُ، وَلَوْ أَضَاعُوا الْوَاجِبَاتِ لَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ بِتَزْكِيَتِهِمْ وَتَقْدِيمِهِمْ وَلَا أَطْنَبَ فِي مَدْحِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ مَشْهُورًا وَمِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَعْرُوفًا لَاسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَاشْتَهَرُوا بِهِ كَمَا اشْتَهَرُوا بِالْقُرْآنِ وَالرِّوَايَاتِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» عِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] وَمِثْلُ قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] كُلُّهُمْ يَقُولُ يَنْزِلُ وَيَتَجَلَّى وَيَجِيءُ بِلَا كَيْفٍ، وَلَا يَقُولُونَ كَيْفَ يَجِيءُ وَكَيْفَ يَتَجَلَّى وَكَيْفَ يَنْزِلُ، وَفِي قَوْلِهِ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَجَلِّيًا لِلْجَبَلِ، وَفِي مَا يُفَسِّرُ لَك حَدِيثَ التَّنْزِيلِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] فَلْيَنْظُرْ فِي تَفْسِيرِ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ وَتَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وَلْيَقِفْ عَلَى مَا ذَكَرَا مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ أَبْطَالِ التَّأْوِيلَاتِ لِأَخْبَارِ الصِّفَاتِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ الْخَوْلَانِيُّ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَوِّفَ عِبَادَهُ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ إلَى الْأَرْضِ فَعِنْدَ ذَلِكَ تُزَلْزَلُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَى قَوْمٍ تَجَلَّى لَهَا قَالَ وَرَوَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَوِّفَ أَهْلَ الْأَرْضِ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَيْهَا تَجَلَّى لَهَا ثُمَّ قَالَ أَمَّا قَوْلُهُ أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ إذْ لَيْسَ فِي حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا يُحِيلُ صِفَاتِهِ وَلَا يُخْرِجُهَا عَمَّا تَسْتَحِقُّ. فَإِنْ قِيلَ بَلْ فِي حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا يُحِيلُ صِفَاتِهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِالْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَالْجُزْءِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى إبْدَاءِ بَعْضِ آيَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ تَحْذِيرًا وَإِنْذَارًا قِيلَ لَا يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى التَّجْزِئَةِ وَالتَّبْعِيضِ، كَمَا أَطْلَقْنَا تَسْمِيَةَ يَدٍ وَوَجْهٍ لَا عَلَى وَجْهِ التَّجْزِئَةِ وَالتَّبْعِيضِ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْيَدَ فِي الشَّاهِدِ بَعْضُ الْجُمْلَةِ قَالَ: وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُحْمَلَ
قَوْلُهُ وَإِذَا أَبْدَى عَنْ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَحْمِلَ قَوْلَهُ أَرَادَ أَنْ يُدَمِّرَ عَلَى قَوْمٍ تَجَلَّى لَهَا عَلَى جَمِيعِ آيَاتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُدَمِّرْ قَرْيَةً بِجَمِيعِ آيَاتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ أَهْلَكَ بِلَادًا كُلُّ بَلَدٍ بِغَيْرِ مَا أَهْلَكَ بِهِ الْآخَرُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ جَهْمٍ قَالَ فَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَكَذَبَ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَزَعَمَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا مِمَّا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ حَدَّثَ عَنْهُ رَسُولُهُ كَانَ كَافِرًا فَبَيَّنَ أَحْمَدُ فِي كَلَامِهِ أَنَّ مِنْ اللَّهِ مَا يُوصَفُ وَأَنَّهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ فَذَلِكَ مَوْصُوفٌ وَالرَّبُّ مَوْصُوفٌ بِهِ وَهَذَا كَلَامٌ سَدِيدٌ، فَإِنَّ اللَّهَ فِي كَلَامِهِ وَصَفَ مَا وَصَفَ مِنْ عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ وَخَلْقِهِ بِيَدَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفَهَا وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ صِفَاتٍ فَإِنَّ الصِّفَةَ أَصْلُهَا وَصْفَةٌ مِثْلُ جِهَةٍ أَصْلُهَا وُجْهَةٌ وَعِدَةٌ وَزِنَةٌ أَصْلُهَا وَعْدَةٌ وَوَزْنَةٌ وَهَذَا الْمِثَالُ وَهُوَ فِعْلُهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرًا كَالْعِدَّةِ وَالْوَعْدِ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ وَمُوصِفٌ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ، حِلْيَةٌ وَوِجْهَةٌ وَشِرْعَةٌ وَبِدْعَةٌ فَإِنَّ فِعْلًا يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ {بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] أَيْ بِمَذْبُوحٍ وَالشِّرْعَةُ الْمَشْرُوعَةُ وَالْبِدْعَةُ وَالْوَجْهُ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا، فَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ فِي لَفْظِ الصِّفَةِ إنْ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الْمَصْدَرِ أَنَّهُمَا الْمَوْصُوفَةُ.
وَعَلَى هَذَا يَنُبْنِي نِزَاعُ النَّاسِ هَلْ الْوَصْفُ وَالصِّفَةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِمَعْنَى الْأَقْوَالِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَا فِي الْمَعَانِي تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ إذْ الْوَصْفُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْمَصْدَرُ وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَفْعُولُ الَّذِي يُوصَفُ بِالْقَوْلِ وَأَكْثَرُ الصِّفَاتِيَّةِ عَلَى هَذَا الثَّانِي، وَقَوْلُهُمْ أَيْضًا يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَمَا كُنَّا نُقْرِرْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، إذْ أَهْلُ الْعُرْفِ قَدْ يَخُصُّونَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ بِالنَّقْلِ دُونَ الْآخَرِ، لَكِنْ تَقْرِيرُ قَوْلِهِمْ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا.
فَقَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ: فَمَنْ وَصَفَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا مِمَّا يَصِفُ بِهِ نَفْسَهُ فَالشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ هُوَ الصِّفَةُ كَعِلْمِهِ وَيَدَيْهِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ الْمَوْصُوفَةُ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ أَيْ أَخْبَرَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وَقَوْلُهُ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] .
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ.
فَقُلْنَا: هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقُلْنَا: قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تَأْتَمُّونَ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ إلَى أَنْ قَالَ لَهُمْ فَقَدْ جَمَعْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ لَفْظِهِ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ إلَى قَوْلِهِ قَالَ فَقَالُوا: لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا قَدْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ، فَقُلْنَا نَحْنُ نَقُولُ قَدْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ، وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا فَقُلْنَا أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جِذْعٌ وَكَرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمُ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَسُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ هُوَ جَاهِلٌ وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَجُلًا كَافِرًا اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]
وَقَدْ كَانَ اللَّهُ سَمَّاهُ وَحِيدًا لَهُ عَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَجَوَارِحُ كَثِيرَةٌ، فَقَدْ سَمَّاهُ وَحِيدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى هُوَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ فَهُوَ مُعْدَمٌ وَهَذَا حَقٌّ وَبَيِّنٌ أَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ بِهَا الْجَهْمِيَّةُ وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا قُلْنَا لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا وَبَيَّنَ أَنَّ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ يُسَمَّى وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ هِيَ كَالْجِذْعِ وَالْكَرَبِ مِنْ النَّخْلَةِ، وَكَالْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ الْإِنْسَانِ فَالرَّبُّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَهُ صِفَاتٌ، إذْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَاسْمُ الْوَاحِدِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي قَدْ تَتَفَرَّقُ صِفَاتُهَا وَتَتَبَعَّضُ وَتَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْهَا، وَالرَّبُّ تَعَالَى " أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سَمَّى هَذِهِ الْأُمُورَ صِفَاتٍ أَيْضًا.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّإِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ، إلَّا أَنَّهُمْ يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجِدُونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا
مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ وَهُمْ عِنْدَ مَنْ أَقَرَّ بِهَا نَافُونَ لِلْمَعْبُودِ بِلَا سَوْفٍ، وَالْحَقُّ فِيمَا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ وَهُمْ أَئِمَّةُ الْجَمَاعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
رَوَى حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ مِثْلَ قَوْلِهِ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] فَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عُنُقِهِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فَأَشَارَ إلَى عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ أَوْ شَيْئًا مِنْ يَدَيْهِ قُطِعَ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ: أَمَا سَمِعْت قَوْلَ الْبَرَاءِ حِينَ حَدَّثَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُضَحِّي بِأَرْبَعٍ مِنْ الضَّحَايَا وَأَشَارَ الْبَرَاءُ بِيَدِهِ كَمَا أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْبَرَاءُ وَيَدَيَّ أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فَكَرِهَ الْبَرَاءُ أَنْ يَصِفَ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إجْلَالًا لَهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ فَكَيْفَ الْخَالِقُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ انْتَهَى.
وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ مَنْ وَصَفَ شَيْئًا مِنْ ذَاتِ اللَّهِ فَجَعَلَ الْمَوْصُوفَ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَغَالِبُ كَلَامِ السَّلَفِ عَلَى هَذَا، كَقَوْلِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ نَظِيرُ مَالِكٍ فِي كَلَامِهِ الْمَشْهُورِ فِي الصِّفَاتِ. وَقَدْ رَوَاهُ بِالْإِسْنَادِ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَأَبُو عَمْرٍو الطَّلْمَنْكِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كُتُبِهِمْ وَغَيْرِهِمْ
قَالَ: أَمَّا بَعْدَ فَقَدْ فَهِمْت مَا سُئِلْت فِيمَا تَتَابَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ خَلَفَهَا فِي صِفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي فَاقَتْ عَظَمَتُهُ الْوَصْفَ وَالتَّقْدِيرَ وَكَلَّتْ الْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ وَانْحَسَرَتْ الْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ رُدَّتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولُ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ بِالتَّقْدِيرِ وَإِنَّمَا يُقَالُ كَيْفَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً ثُمَّ كَانَ فَأَمَّا الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ لَهُ مَثَلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إلَّا هُوَ، وَكَيْفَ يَعْرِفُ قَدْرَ مَنْ لَمْ يَبْدَأْ وَمَنْ لَا يَمُوتُ وَلَا يَبْلَى وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهًى يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ، عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ لَا حَقَّ أَحَقُّ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ أَبَيْنَ مِنْهُ. الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةٍ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَكَادُ تَرَاهُ صَغِيرًا يَحُولُ وَيَزُولُ وَلَا يُرَى لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ لِمَا يَتَقَلَّبُ بِهِ وَيَحْتَالُ مِنْ عَقْلِهِ أَعْضَلَ بِك وَأَخْفَى عَلَيْك مِمَّا ظَهَرَ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَخَالِقُهُمْ وَسَيِّدُ السَّادَةِ وَرَبُّهُمْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ،
اعْرِفْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى وَغَنَاكَ عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وَصَفَ مِنْهَا إذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وَصَفَ، فَمَا كَلَّفَك عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ، هَلْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طَاعَتِهِ أَوْ يَنْزَجِرُ بِهِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا قَدْ اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ فَصَارَ يُسْتَدَلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا فَعَمِيَ عَنْ الْبَيِّنِ بِالْخَفِيِّ فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبَّ مِنْ نَفْسِهِ لِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] : فَقَالَ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَحَدَ وَاَللَّهِ أَفْضَلُ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ وَنَظْرَتِهِ إيَّاهُمْ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، فَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَنْظُرُونَ إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا لَا» : قَالَ: مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَمْتَلِئُ النَّارُ حَتَّى يَضَعَ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطُّ قَطُّ وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ» .
«وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ مِمَّا فَعَلَتْ بِضَيْفِك الْبَارِحَةَ» . وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا: «أَنَّ اللَّهَ لَيَضْحَكُ مِنْ أَزْلِكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَةِ إجَابَتِكُمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ: إنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ» خَيْرًا فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لَمْ يَخُصَّهُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ:
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وَقَالَ:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وَقَالَ:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وَقَالَ:{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ، أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي أُلْقِيَ فِي رُوعِهِمْ وَخُلِقَ عَلَى مَعْرِفَةِ قُلُوبِهِمْ فَمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ صِفَةَ مَا سِوَاهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا لَا نَجْحَدُ مَا وَصَفَ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ.
اعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الدِّينِ أَنْ تَنْتَهِيَ حَيْثُ انْتَهَى بِك وَلَا تُجَاوِزُ مَا قَدْ حُدَّ لَك فَإِنَّ مِنْ قِوَامِ الدِّينِ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارَ الْمُنْكَرِ فَمَا بُسِطَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ وَسَكَنَتْ إلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ وَذُكِرَ أَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَوَارَثَتْ عِلْمَهُ الْأُمَّةُ فَلَا تَخَافَنَّ فِي ذِكْرَهُ وَصِفَتِهِ مِنْ رَبِّك مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَيْنًا وَلَا تَتَكَلَّفَنَّ بِمَا وَصَفَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا، وَمَا أَنْكَرَتْهُ نَفْسُك وَلَمْ تَجِدْ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ رَبِّك وَلَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ نَبِيِّك مِنْ ذِكْرِ رَبِّك فَلَا تَتَكَلَّفَنَّ عِلْمَهُ بِعَقْلِك وَلَا تَصِفَهُ بِلِسَانِك وَاصْمُتْ عَنْهُ كَمَا صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَكَلُّفَك مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ مِثْلُ إنْكَارِك مَا وَصَفَ مِنْهَا، فَكَمَا أَعْظَمْت مَا جَحَدَ الْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ تَكَلُّفَ مَا وَصَفَ الْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا، فَقَدَّرَ اللَّهَ عز وجل الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْمَعْرُوفَ وَبِمَعْرِفَتِهِمْ يُعْرَفُ، وَيُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرُ يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَمَا يَبْلُغُهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ، فَمَا مَرِضَ مِنْ ذِكْرِ هَذَا وَتَسْمِيَتِهِ مِنْ الرَّبِّ قَلْبُ مُسْلِمٍ، وَلَا تَكَلَّفَ صِفَةَ قَدْرِهِ وَلَا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنْ الرَّبِّ مُؤْمِنٌ.
وَمَا ذُكِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمَّاهُ مِنْ صِفَةِ رَبِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمَّى وَوَصَفَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْوَاقِفُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمْ الْوَاصِفُونَ لِرَبِّهِمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، التَّارِكُونَ لِمَا تَرَكَ مِنْ ذِكْرِهَا لَا يُنْكِرُونَ صِفَةَ مَا سَمَّى مِنْهَا جَحْدًا، وَلَا يَتَكَلَّفُونَ وَصْفَهُ بِمَا لَمْ يُسَمِّ تَعَمُّقًا لِأَنَّ الْحَقَّ تَرَكَ مَا تَرَكَ وَسَمَّى مَا سَمَّى
فَمَنْ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ، وَهَبَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ حُكْمًا وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ.
فَتَدَبَّرْ كَلَامَ هَذَا الْإِمَامِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَيَانِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا تَكَلُّمُهُ بِلَفْظِ مِنْ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ كَقَوْلِهِ: وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهًى يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ فَذَكَرَ أَنَّ صِفَةَ شَيْءٍ مِنْهُ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ حَدَّهَا وَلَا قَدْرَهَا ثُمَّ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ فَجَعَلَ الصِّفَةَ هُنَا لَهُ لَا لِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ تَمَّ أَمَرَ بِمَعْرِفَةِ مَا ظَهَرَ عِلْمُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالسُّكُوتِ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ عِلْمُهُ، وَذَمِّ مَنْ نَفَى مَا ذَكَرَ أَوْ تَكَلَّفَ عِلْمَ مَا لَمْ يُذْكَرْ، فَقَالَ: اعْرِفْ غِنَاك عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وَصَفَ مِنْهَا فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَصِفْهُ وَنَهَى عَنْ تَكَلُّفِ صِفَتِهِ، لِأَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ، فَالْعَجْزُ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ أَوْلَى، قَالَ: إذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وُصِفَ فَمَا كَلَّفَك عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَصَارَ يُسْتَدَلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَذَا فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ لِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا فَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الرَّبَّ وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ مَا وَصَفَ وَسَمَّى وَصَمَتَ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ الْجَهْمِيَّةَ يَجْحَدُونَ الْمَوْصُوفَ الْمُسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَذَا وَيَنْفُونَ اللَّازِمَ الَّذِي صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْجَهْمَيْ يُنْكِرُ الرُّؤْيَةَ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا، فَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا صَدَقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَجَحَدَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ، وَأَنَّ الْجَهْمَيَّ عَلِمَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ مَا جَحَدَهُ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهَا.
وَهَكَذَا فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ ذَلِكَ لَا رَيْبَ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ وَوَافَقَ الْجَهْمَيَّ عَلَى نَفْيِ لَوَازِمِهَا مُخَالِفًا لِلْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ الْمُثْبِتَةِ وَالنَّافِيَةِ، ثُمَّ قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ.
فَذَكَرَ أَنَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ هُوَ مَا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْمَوْصُوفَ مِنْهُ نَظِيرُهُ مِنْهُمْ صَغِيرٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا عَظَمَةَ الَّذِي هُوَ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ فَكَيْفَ بِعَظَمَةِ مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ سبحانه وتعالى، ثُمَّ قَالَ: فَمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ وَلَمْ تَتَكَلَّفْ مِنْ صِفَةِ مَا سِوَاهُ.
فَذَكَرَ أَنَّا نُسَمِّي وَنَصِفُ مَا سَمَّى وَوَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا نَتَكَلَّفُ أَنْ نَصِفَ مِنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ، لَا نَجْحَدُ الْمَوْصُوفَ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَسَائِرُ كَلَامِهِ يُوَافِقُ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ مَوْصُوفَاتٍ وَسَكَتَ عَمَّا لَمْ يَصِفْهُ مِنْ نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ فَإِنَّ تَكَلُّفَك مَعْرِفَة مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلُ إنْكَارِك مَا وَصَفَ مِنْهَا، فَكَمَا أَعْظَمْت مَا جَحَدَ الْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ تَكَلُّفَ مَا وَصَفَ الْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا.
فَقَدْ وَاَللَّهِ عَزَّ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْمَعْرُوفَ وَبِمَعْرِفَتِهِمْ يُعْرَفُ، وَيُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ، وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرُ وَيَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَمَا يُبَلِّغُهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ فَمَا مَرِضَ مَنْ ذَكَرَ هَذَا وَتَسْمِيَتَهُ مِنْ الرَّبِّ قَلْبُ مُسْلِمٍ، وَلَا تَكَلَّفَ صِفَةَ قَدْرِهِ وَلَا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنْ الرَّبِّ قَلْبٌ مُؤْمِنٌ.
قَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ، فَاَللَّهُ قَالَ هُنَا مَا وَصَفَ الرَّبُّ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ يَقُولُ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُنَا قَالَ يَسْمَعُونَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ الْكَلَامُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَالْمَسْمُوعُ يَتَضَمَّنُ مَا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا قَالَ يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فَمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ، أَرَادَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَبَيَّنَهُ وَوَصَفَهُ وَهُوَ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّاهُ، وَذَلِكَ يَعْلَمُ وَيُعْرَفُ وَيُذْكَرُ وَلَا يُسْمَعُ إلَّا إذَا وُصِفَ وَذُكِرَ وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوْصُوفَاتِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يُوصَفُ بِهَا أَيْضًا فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِاعْتِبَارٍ وَالرَّبُّ يُوصَفُ بِهَا بِاعْتِبَارٍ.
وَذَكَرَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ قَالَ وَفِيمَا أَجَازَنِي جَدِّي رحمه الله قَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى وَصَفَ نَفْسَهُ مِنْ كِتَابِهِ بِصِفَاتٍ اسْتَغْنَى الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَنْ أَنْ يَصِفُوهُ بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَجَلَّهُ فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْنَى إرَادَةِ اللَّهِ تبارك وتعالى قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ ذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَالَ:
{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]() وَقَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ()، وَقَالَ:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وَقَالَ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] . وَقَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَقَالَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وَكُلُّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِمَّا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا لَمْ نَذْكُرْ فَهُوَ كَمَا ذُكِرَ.
وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْعِبَادَ الِاسْتِسْلَامُ لِذَلِكَ وَالتَّعَبُّدُ لَا نُزِيلُ صِفَةً مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَ الرَّسُولُ عَنْ جِهَتِهِ لَا بِكَلَامٍ وَلَا بِإِرَادَةٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ الْأَدَاءُ وَيُوقِنُ بِقَلْبِهِ أَنَّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هِيَ صِفَاتُهُ، وَلَا يَعْقِلُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ تِلْكَ الصِّفَاتِ إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي عَرَّفَهُمْ الرَّبُّ تبارك وتعالى، فَأَمَّا أَنْ يُدْرِكَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ مَعْنَى تِلْكَ الصِّفَاتِ فَلَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا وَصَفَ مِنْ صِفَاتِهِ قَدْرَ مَا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُ ذَوِي الْأَلْبَابِ.
لِيَكُونَ إيمَانُهُمْ بِذَلِكَ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا يَعْقِلُ أَحَدٌ مُنْتَهَاهُ وَلَا مُنْتَهَى صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يُثْبِتَ مَعْرِفَةَ صِفَاتِ اللَّهِ بِالْإِتْبَاعِ وَالِاسْتِسْلَامِ كَمَا جَاءَ، فَمَنْ جَهِلَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ إنَّمَا أَصِفُ مَا قَالَ اللَّهُ وَلَا أَدْرِي مَا مَعَانِي ذَلِكَ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِمَعْنَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ يَدٌ نِعْمَةٌ وَيَحْتَجْ بِقَوْلِهِ أَيْدِينَا أَنْعَامًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. هَذَا مَحْضُ كَلَامِ الْجَهْمِيَّةِ حَيْثُ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ مَا وَصَفْنَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَ مَعْنَى الصِّفَاتِ عَنْ جِهَتِهَا الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، حَتَّى يَقُولُوا مَعْنَى السَّمِيعِ هُوَ الْبَصِيرُ وَمَعْنَى الْبَصِيرِ هُوَ السَّمِيعُ، وَيَجْعَلُونَ الْيَدَ يَدَ نِعْمَةٍ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ يُحَرِّفُونَهَا عَنْ جِهَتِهَا لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُعَطِّلَةُ.
فَقَدْ تَبَيَّنَ مُسْتَنِدُ حِكَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ وَزُرْقَانَ وَغَيْرِهِمَا، لِمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ
أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ التَّحْرِيفِ، كَقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْقُرْآنُ أَوْ إنَّ الْقُرْآنَ بَعْضُهُ
وذكر أَنْ مُحَمَّد بْن شُجَاع إمَام الْوَاقِف هُوَ وَأَصْحَابه الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُحْدَثٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ إلَّا فِي اللَّفْظِ، وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ، يَقُولُونَ هُوَ مُحْدَثٌ مَجْعُولٌ وَلَا يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ يَحْتَمِلُ الْمُفْتَرِيَ، وَهُمْ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقُونَ لِأَصْحَابِ الْمَخْلُوقِ.
وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى التَّرَادُفِ طَوَائِفُ الْكِلَابِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ، يَقُولُونَ الْمُحْدَثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ فِي غَيْرِهِ لَا يُسَمُّونَ مُحْدَثًا إلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَزِمَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلْإِنْكَارِ عَلَى دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ دَاوُد وَأَبُو مُعَاذٍ وَغَيْرُهُمَا لَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ مُحْدَثٌ أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُرِيدُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ، بَلْ ذَهَبَ دَاوُد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مُسْتَنَدُ دَاوُد فِي قَوْلِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ أُحِبُّ أَنْ تَعْذُرَ بِي عِنْدَهُ، وَتَقُولَ لَهُ لَيْسَ هَذَا مَقَالَتِي أَوْ لَيْسَ كَمَا قِيلَ لَك، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَصَدَ بِذَلِكَ أَنِّي لَا أَقُولُ إنَّهُ مُحْدَثٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمُوهُ وَأَفْهَمُوهُ وَهُوَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبِي، وَلَمْ يَقْبَلْ أَحْمَدُ قَوْلَهُ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكَرٌ، وَلَوْ فَسَّرَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِأَنَّهُ أَنْكَرَ مُطْلَقًا فَلَمْ يَقْرَبَا لِلَّفْظِ الَّذِي قَالَهُ وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَظْهَرَ مَعَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ بِدْعَةً أُخْرَى وَهِيَ إبَاحَةُ التَّحْلِيلِ وَهُوَ مَذْهَبُهُ.
وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْحَاكِمَ، سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مَنْصُورٍ الْقَاضِي يَقُولُ سَمِعْت خَالِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْجَارُودِ يَقُولُ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى فَقَامَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَتَعَجَّبَ مِنْهُ النَّاسُ ثُمَّ قَالَ لِبَنِيهِ وَأَصْحَابِهِ اذْهَبُوا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَاكْتُبُوا عَنْهُ،
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي لَفْظِ الْمُحْدَثِ هَلْ هُوَ مُرَادِفٌ لِلَّفْظِ الْمَخْلُوقِ أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ، لَمَّا ذَكَرَ النِّزَاعَ فِي الْخَلْقِ وَالْكَسْبِ وَالْفِعْلِ قَالَ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى مَخْلُوقٍ مَعْنَى مُحْدَثٍ، وَمَعْنَى مُحْدَثٍ مَعْنَى مَخْلُوقٍ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدِي وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ وَبِهِ أَقُولُ.
وَقَالَ زُهَيْرٌ الْأَبَرِيُّ وَأَبُو مُعَاذٍ التُّومُنِيُّ مَعْنَى مَخْلُوقٍ أَنَّهُ وَقَعَ عَنْ إرَادَةٍ مِنْ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ لَهُ كُنْ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مَعْنَى الْمَخْلُوقِ أَنَّ لَهُ خَلْقًا، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْخَلْقَ قَوْلًا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْهُمْ أَبُو مُوسَى وَبِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْمُحْدَثِ هُوَ اصْطِلَاحُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَدَثٍ وَمُحْدَثٍ كَمَا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْأَشْعَرِيُّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي أَثْنَاءِ أَبْوَابِ الْقُرْآنِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلَائِقِ وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ هُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ وَأَمْرُهُ وَتَخْلِيقُهُ وَتَكْوِينُهُ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ وَقَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ شَيْئًا، حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ، قَالَ: وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ» .
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَلَغَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى الصَّفْوَانِ حَتَّى إذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] ، وَقَوْلُهُ، {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وَإِنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ، لِقَوْلِهِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» . وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاَللَّهِ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ.
وَرُوِيَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاَللَّهِ مَحْضًا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكُتُبَ، وَقَالُوا هُوَ مِنْ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا أَوَ لَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكُمْ.
وَاَلَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ، أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَالْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْكَلَامِ لَهُ حُرُوفٌ وَمَعَانٍ فَلَيْسَ الْكَلَامُ وَلَا الْقُرْآنُ إذَا أُطْلِقَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَلَا أَسْمَاءً لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي، بَلْ الْكَلَامُ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا فَنَشَأَ بَعْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِمَّنْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ طَائِفَتَانِ.
طَائِفَةٌ قَالَتْ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى قَائِمٍ بِالنَّفْسِ وَحُرُوفُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا وَلَا يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَ " الم " وَ " طس " وَ " ن " وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ هُوَ بِهِ، وَلَكِنْ خَلَقَهَا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ خَلَقَهَا فِي الْهَوَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ خَلَقَهَا مَكْتُوبَةً فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا وَصَنَّفَهَا بِأَقْدَارِ اللَّهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا وَصَنَّفَهَا بِأَقْدَارِ اللَّهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْجَهْمِيَّةَ فِي نَفْيِهِمْ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْكَلَامِ مَا نَفَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ، وَفِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا مَخْلُوقًا كَمَا جَعَلَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ مَخْلُوقًا، لَكِنْ فَارَقُوهُمْ فِي أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَعْنَى الْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَقَالُوا إنَّ كَلَامَ اللَّهِ اسْمٌ لِمَا يَقُومُ بِهِ
وَيَتَّصِفُ بِهِ، لَا لِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ، وَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُرِيدُونَ جَمِيعَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْعَامَّةُ بَلْ بَعْضُهُ، كَمَا أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ تُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقَوْلَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا يَعْنُونَ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي يَعْنِيهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْعَامَّةُ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ مَنَعُوا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْحُرُوفُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَالْجَهْمِيَّةُ الْمَحْضَةُ سَمُّوهَا كَلَامَ اللَّهِ، لَكِنْ قَالُوا هِيَ مَعَ ذَلِكَ مَخْلُوقَةٌ، وَأُولَئِكَ لَا يَجْعَلُونَ مَا يُسَمُّونَهُ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُسَمَّى كَلَامُ اللَّهِ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ نُسَمِّيهَا بِذَلِكَ مَجَازًا، وَأَيْضًا فَجَعَلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مَعْنَى وَاحِدًا قَائِمًا بِذَاتِ الرَّبِّ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةُ الدَّيْنِ وَجُمْهُورُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ يَقُولُونَ إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَفِطْرَةِ بَنِي آدَمَ وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُعَبِّرُ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ لَا يُعَبِّرُ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الْأُخْرَى الْأَخْرَسَ الَّذِي يَقُومُ بِنَفْسِهِ مَعَانٍ فَيُعَبِّرُ غَيْرُهُ عَنْهُ بِعِبَارَتِهِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُشَارِكُونَ لِلْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ جَعَلُوا غَيْرَ اللَّهِ يُعَبِّرُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ قَامَ بِنَفْسِهِ مَعْنَى فَتَجْعَلُهُ كَالْأَخْرَسِ وَالْجَهْمِيَّةُ تَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّنَمِ الَّذِي لَا يَقُومُ بِهِ مَعْنًى وَلَا لَفْظٌ.
فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ أَوْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَقَالُوا إنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْمَعَانِيَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ، وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ الْجَهْمِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِهِ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِهِ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَؤُلَاءِ أَخْرَجُوا الْمَعَانِيَ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَكَلَامُ اللَّهِ كَمَا أَخْرَجَ الْأَوَّلُونَ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعْنًى بَلْ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا الْمُتَكَلِّمُ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ هَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ أَمْ هِيَ حَقِيقَةٌ
أُخْرَى لَيْسَتْ هِيَ الْعُلُومُ وَالْإِرَادَاتُ فَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَقِيقَةً غَيْرَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ لَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ.
وَالنِّزَاعُ الثَّانِي: أَنَّ مُسَمَّى الْكَلَامِ هَلْ هُوَ الْمَعْنَى أَوْ هُوَ اللَّفْظُ فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ الْكَلَامُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ هُمْ وَإِنْ وَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ أَوْ أَمْرًا آخَر قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ وَالْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ نَحْوَهُمْ لَا تُثْبِتُ مَعْنَى قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ بَلْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ الْحُرُوفُ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْضًا فَمُوَافَقَةُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَقَلُّ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِينَ بِكَثِيرٍ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا فَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِ مَجَازٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا تَقُولُهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى مَجَازٌ فِي اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ الْأَوَّلِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَجْمُوعِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ احْتَاجَ إلَى قَرِينَةٍ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ. وَقَدْ يَحْكِي الْأَوَّلُونَ عَنْ الْآخَرِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّ الْقَدِيمَ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ الْمَصَاحِفِ فَيَحْكُونَ عَنْهُمْ أَنَّ نَفْسَ صَوْتِ الْعَبْدِ وَنَفْسِ الْمِدَادِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ فَسَادَهُ بِالْحِسِّ وَالِاضْطِرَارِ وَمَا وَجَدْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ يُقِرُّ بِذَلِكَ بَلْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْجِبَالِ وَنَحْوِهِ وَإِنْكَارُ ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ قَالَ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيم فَأَمَّا الْأَوْعِيَةُ فَمَنْ شَكَّ فِي خَلْقِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2]{فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] .
وَقَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21]{فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] .
فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَحْيَةُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ الْوَرَقُ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَكِنَّ مِنْهُمْ طَائِفَةً يَقُولُونَ إنَّ لَفْظَهُمْ بِالْقُرْآنِ أَوْ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ أَنَّهُ يُسْمَعُ مِنْهُمْ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ وَالصَّوْتُ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ لَكِنْ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ أَئِمَّتُهُمْ وَجَمَاهِيرُهُمْ.
وَالْآخَرُونَ يَحْكُونَ عَنْ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ وَإِنَّمَا هَذَا حِكَايَةٌ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ صَادِقُونَ فِي هَذَا النَّقْلِ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ الْقَوْلَ بِالْحِكَايَةِ وَالْعِبَارَةِ وَهِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي أَضَافَهَا الْمُسْلِمُونَ إلَى ابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ ابْنَ كِلَابٍ قَالَ الْحُرُوفُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ وَاَللَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ فَوَافَقَ الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي هَذَا النَّفْيِ فَجَاءَ الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِابْنِ كِلَابٍ عَلَى عَامَّةِ أُصُولِهِ فَقَالَ الْحِكَايَةُ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ وَلَيْسَ الْحُرُوفُ مِثْلَ الْمَعْنَى بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى وَدَالَّةٌ عَلَيْهِ وَهُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ يَقُولُونَ إنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ كَلَامًا لِلَّهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ الْحَقِيقِيَّ بِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَ اللَّهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ سَوَاءٌ قَالُوا إنَّ الْحُرُوفَ تُسَمَّى كَلَامًا مَجَازًا أَوْ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي لِأَنَّهَا وَإِنْ سُمِّيَتْ كَلَامًا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ الْجَمَاعَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ فَيَصِحُّ عَلَى أَحَدِ قَوْلِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ كَلَامًا لِلْعِبَادِ حَقِيقَةً لِقِيَامِهَا بِهِمْ وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِهِ عِنْدَهُمْ بِحَالٍ فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ تُسَمَّى كَلَامًا لَهُ حَقِيقَةً أَوْ إنَّ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ أَوْ يُوجَدُ فِي الْمَصَاحِفِ يُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً لَلَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُسَمَّى الْكَلَامِ مَا لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بَلْ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى مَا يَقُومُ الْمُتَكَلِّمُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ وَهَذَا مَا وَجَدْته لَهُمْ وَهُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يُقَالَ لَكِنْ مَتَى قَالُوهُ انْتَقَضَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْحُجَجِ الَّتِي أَبْطَلُوا بِهَا مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْهِمْ وَصَارَ لِلْمُعْتَزِلَةِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ.
وَقَدْ يَحْكِي الْآخَرُونَ عَنْ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَهِينُونَ بِالْمَصَاحِفِ فَيَطَئُونَهَا وَيَنَامُونَ عَلَيْهَا وَيَجْعَلُونَهَا مَعَ نِعَالِهِمْ وَرُبَّمَا كَتَبُوا الْقُرْآنَ بِالْعَذِرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ وَهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْغُلُوِّ مِنْهُمْ لِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ أَئِمَّتُهُمْ أَنْ
هَذَا لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ صَارُوا يُفَرِّعُونَ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا مِنْ عِنْدِهِمْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهَا أَئِمَّتُهُمْ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ فِي وُجُوبِ احْتِرَامِ الْمَصَاحِفِ وَإِكْرَامِهَا وَإِجْلَالِهَا وَتَنْزِيهِهَا وَفِي الْعَمَلِ يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» .
وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبِدْعَةِ يَتَنَاقَضُونَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ الْبِدْعَةِ لَكِنَّ التَّنَاقُضَ جَائِزٌ عَلَى الْعِبَادِ وَهُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْتِزَامِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْبِدْعَةُ هِيَ الْمِرْقَاةَ إلَى هَذَا الْفَسَادِ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي جَعَلَتْ الْقُرْآنَ هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أُولَئِكَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ وَسَائِرَ الْكَلَامِ هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ كَلَامًا تَكَلَّمَ هُوَ بِهِ وَقَامَ بِهِ وَلَا جَعَلُوا لِهَذِهِ الْحُرُوفِ مَعَانِيَ تَقُومُ بِاَللَّهِ أَصْلًا إذْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَقُمْ بِاَللَّهِ لَا عِلْمٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ جَعَلُوا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مَخْلُوقَةً خَلَقَهَا اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ خَلَقَ فِي نَفْسِ الشَّجَرَةِ صَوْتًا سَمِعَهُ مُوسَى حُرُوفُ ذَلِكَ الصَّوْتِ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ إنَّنِي، أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي إذْ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ كَمَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ بِالْحَرَكَةِ وَالْعَالِمَ بِالْعِلْمِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَغَيْرَهَا هُوَ مَنْ يَقُومُ بِهِ الصِّفَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَقُومُ بِهِ أَصْلًا كَمَا لَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ وَمُتَحَرِّكًا بِحَرَكَةٍ لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ وَطَرَدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الصِّفَاتِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَاعِلًا خَالِقًا وَمُكَوِّنًا بِفِعْلٍ وَخَلْقٍ وَتَكْوِينٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوْلُهَا قَوْلُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ وَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكُتُبِ فِي الظَّاهِرِ كَانُوا فِي ذَلِكَ مُنَافِقِينَ عَالِمِينَ بِنِفَاقِ أَنْفُسِهِمْ كَمَا عَلَيْهِ طَوَاغِيتُهُمْ الَّذِينَ عَلِمُوا بِمُخَالَفَةِ أَنْفُسِهِمْ لِلرُّسُلِ وَأَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ.
وَأَمَّا الْجُهَّالُ بِنِفَاقِ أَنْفُسِهِمْ صَارُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ الْبَاطِنِ وَتَصْدِيقِهِمْ الظَّاهِرِ جَامِعِينَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُضْطَرِّينَ إلَى السَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْقَرَامِطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ مُفْسِدِينَ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ وَقَوْلُهُمْ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ مِنْ أُصُولِ نِفَاقِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَكُونُ حَيًّا إلَّا بِحَيَاةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَيًّا بِلَا حَيَاةٍ أَوْ بِحَيَاةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْقَادِرُ لَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا بِلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ أَوْ بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحَكِيمُ وَالرَّحِيمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ حَكِيمًا وَلَا رَحِيمًا أَوْ مُتَكَلِّمًا أَوْ مُرِيدًا إلَّا بِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ أَوْ كَلَامٍ وَإِرَادَةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَكِيمًا بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا رَحِيمًا بِلَا رَحْمَةٍ أَوْ بِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا وَلَا مُرِيدًا بِلَا كَلَامٍ وَلَا إرَادَةٍ أَوْ بِكَلَامٍ وَإِرَادَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْكَلَامَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَحِلٍّ إذْ هَذِهِ صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْعِلْمُ يَكُونُ عَالِمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الْقُدْرَةُ يَكُونُ قَادِرًا وَاَلَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الرَّحْمَةُ يَكُونُ رَحِيمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الْإِرَادَةُ يَكُونُ مُرِيدًا فَهَذِهِ الْأُمُورُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي فِطْرِ النَّاسِ تَعْلَمُهَا قُلُوبُهُمْ عِلْمًا فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا وَالْأَلْفَاظُ الْمُعَبِّرَةُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ مِنْ اللُّغَاتِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ فَلَا يُسَمُّونَ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَمَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ سَمُّوهُ عَالِمًا قَادِرًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ إنَّ الصِّفَةَ إذَا قُدِّمَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ دُونَ غَيْرِهِ أَيْ إذَا قَامَ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ بِمَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحِلٍّ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهَا اسْمٌ كَمَا يُشْتَقُّ لِمَحَلِّ الْعِلْمِ عَلِيمٌ وَلِمَحِلِّ الْكَلَامِ مُتَكَلِّمٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ أَنَّ صِدْقَ الْمُشْتَقِّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ أَيْ أَنَّ لَفْظَ الْعَلِيمِ وَالْمُتَكَلِّمِ مُشْتَقٌّ مِنْ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فَإِذَا صَدَقَ عَلَى الْمَوْصُوفِ أَنَّهُ عَلِيمٌ لَزِمَ أَنْ يَصْدُقَ حُصُولُ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الَّذِينَ عَرَفُوا حَقِيقَةَ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ بَلْ الْكَلَامُ قَامَ بِجِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ غَيْرِهِ وَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا يُوجِبُ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ دُونَ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا أَصْلًا وَصَارُوا
يَذْكُرُونَ قَوْلَهُمْ بِحَسَبِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَإِنَّمَا خَلَقَ شَيْئًا تَكَلَّمَ عَنْهُ وَهَكَذَا كَانَتْ الْجَهْمِيَّةُ تَقُولُ أَوَّلًا ثُمَّ أَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا عَلَى قَوْلَيْنِ فَلَهُمْ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِالْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ وَهُمْ فِيهِ أَصْدَقُ لِإِظْهَارِهِمْ كُفْرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا تَكَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّمُ.
وَالثَّانِي: وَهُمْ فِيهِ مُتَوَسِّطُونَ فِيهِ النِّفَاقُ أَنَّهُ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُمْ فِيهِ مُنَافِقُونَ نِفَاقًا مَحْضًا أَنَّهُ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَأَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فَلِهَذَا كَانُوا مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ لَيْسَ قَائِمًا بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَخْلُوقٌ فِي غَيْرِهِ كَمَا كَانُوا كَاذِبِينَ مُفْتَرِينَ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَالِمًا قَادِرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا بِلَا عِلْمٍ يَقُومُ بِهِ وَلَا قُدْرَةٍ وَلَا إرَادَةٍ وَلَا كَلَامٍ فَكَانُوا وَإِنْ نَطَقُوا بِأَسْمَائِهِ فَهُمْ كَاذِبُونَ بِتَسْمِيَتِهِ بِهَا وَهُمْ مُلْحِدُونَ فِي الْحَقِيقَةِ كَإِلْحَادِ الَّذِينَ نَفْوًا عَنْهُ أَنْ يُسَمَّى بِالرَّحْمَنِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمْ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ خَبِرَ مَقَالَاتِهِمْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ قَالُوا: نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ. قُلْنَا:
فَهَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ قَالُوا نَعَمْ قُلْنَا قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تُثْبِتُونَ شَيْئًا إنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ وَقُلْنَا، لَهُمْ: هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى، قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِجَارِحَةٍ وَالْجَوَارِحُ عَنْ اللَّهِ مَنْفِيَّةٌ فَإِذَا سَمِعَ الْجَاهِلُ قَوْلَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَقُودُونَ بِقَوْلِهِمْ إلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ.
وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قُلْنَا لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَسُمِعَ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ
وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ فَقُلْنَا هَلْ يَجُوزُ لِمُكَوِّنٍ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ: يَا مُوسَى {أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] أَوْ {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12] فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ بِأَوَّلًا أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ الْأَشْيَاءَ كَأَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ يَا مُوسَى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَقَالَ {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وَقَالَ {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ» .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أَتَرَاهَا أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] أَتَرَاهَا أَنَّهَا سَبَّحَتْ بِجَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَالْجَوَارِحُ إذَا شَهِدَتْ عَلَى الْكَافِرِ {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] أَتَرَاهَا نَطَقَتْ بِجَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَمَا شَاءَ فَكَذَلِكَ تَكَلَّمَ اللَّهُ كَيْف شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ قُلْنَا غَيْرُهُ مَخْلُوقٌ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ الشُّنْعَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِمَا تُظْهِرُونَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ «لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ يَا رَبِّ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك قَالَ نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا تُطِيقُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمُتّ قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا أَتَصِفُ لَنَا كَلَامَ رَبِّك قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا فَشَبِّهْهُ لَنَا قَالَ: أُسْمِعْتُمْ الصَّوَاعِقَ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ» .
وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ مَنْ الْقَائِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ قَالُوا يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ كَمَا كَوَّنَ فَعَبَّرَ لِمُوسَى قُلْنَا فَمَنْ الْقَائِلُ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6 - 7]
أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ قَالُوا هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ قُلْنَا قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَكَلَّمُ وَلَا تَحَرَّكَ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان.
فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْنَا وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ عليه السلام وَكَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَقَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ التَّكَلُّمَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَم كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً فَقَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ لَنَا لَمَّا وَصَفْنَا مِنْ اللَّهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ وَنُورَهُ وَاَللَّهَ وَقَدَرَتْهُ وَاَللَّهَ وَعَظَمَتَهُ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ فَقُلْنَا لَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ بِنُورِهِ وَبِقُدْرَتِهِ لَا مَتَى قَدَرَ وَلَا كَيْفَ قَدَرَ فَقَالُوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ فَقُلْنَا نَحْنُ نَقُولُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَضَرَبَنَا لَهُمْ مَثَلًا فِي ذَلِكَ فَقُلْنَا لَهُمْ أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جُذُوعٌ وَكَرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ سُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهً وَاحِدً لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ وَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ هُوَ عَاجِزٌ وَلَا نَقُولُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ فَهُوَ جَاهِلٌ.
وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ قَادِرًا عَالِمًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَجُلًا كَافِرًا اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] وَقَدْ كَانَ اللَّهُ سَمَّاهُ وَحِيدًا لَهُ عَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَجَوَارِحُ كَثِيرَةٌ فَقَدْ سَمَّاهُ وَحِيدًا
بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى هُوَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ وَهَذَا ذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَصَّرَنَا خَطَأَ الْمُخْطِئِينَ وَعَمَى الْعَمِينَ وَحَيْرَةَ الْمُتَحَيِّرِينَ الَّذِينَ نَفَوَا صِفَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَا صِفَاتٍ لَهُ وَإِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ لَهُ وَلَا عِزَّ لَهُ وَلَا جَلَالَ لَهُ وَلَا عَظَمَةَ لَهُ وَلَا كِبْرِيَاءَ لَهُ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي سَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي يُوصِفُ بِهَا نَفْسَهُ قَالَ وَهَذَا قَوْلٌ أَخَذُوهُ عَنْ إخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا لَمْ يَزَلْ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا حَيٍّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا قَدِيرٍ وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِأَنْ قَالُوا عَيْنُ لَمْ يَزَلْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فِي الصِّفَاتِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُظْهِرُوا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ تُظْهِرُهُ فَأَظْهَرُوا مَعْنَاهُ بِنَفْيِهِمْ أَنْ يَكُونَ لِلْبَارِي عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَحَيَاةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَلَوْلَا الْخَوْفُ لَأَظْهَرُوا مَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ تُظْهِرُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَأَفْصَحُوا بِهِ غَيْرَ أَنَّ خَوْفَ السَّيْفِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِابْنِ الْإِيَادِيِّ كَانَ يَنْتَحِلُ قَوْلَهُمْ فَزَعَمَ أَنَّ الْبَارِّي تَعَالَى عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فِي الْمَجَازِ لَا فِي الْحَقِيقَةِ وَمِنْهُمْ رَجُلٌ يُعْرَفُ بِعَبَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ إنَّ الْبَارِيَ عَالِمٌ قَادِرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ حَكِيمٌ جَلِيلٌ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ قَالَ لِأَنِّي لَوْ قُلْت إنَّهُ عَالِمٌ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ لَكَانَ لَا عَالِمَ إلَّا هُوَ وَكَانَ يَقُولُ الْقَدِيمُ لَمْ يَزَلْ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَمْ يَزَلْ وَمَنْ لَمْ يَزَلْ فَقَدِيمٌ فَلَوْ كَانَ الْبَارِي عَالِمًا فِي حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ لَكَانَ لَا عَالِمَ إلَّا هُوَ قَالَ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ اخْتِلَافًا تَشَتَّتَ فِيهِ أَهْوَاؤُهُمْ وَاضْطَرَبَتْ فِيهِ أَقَاوِيلُهُمْ ثُمَّ سَاقَ اخْتِلَافَهُمْ.
وَكَذَلِكَ قَالَ: فِي الْإِبَانَةِ فَصْلٌ وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا حَيَاةَ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ لَهُ وَأَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَمَنَعَهُمْ خَوْفُ السَّيْفِ مِنْ إظْهَارِهِمْ نَفْيُ ذَلِكَ فَأَتَوْا بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُمْ إذَا قَالُوا لَا عِلْمَ لِلَّهِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ؛ وَلَا قَادِرٍ وَوَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا إنَّمَا أَخَذُوهُ عَنْ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالتَّعْطِيلِ لِأَنَّ الزَّنَادِقَةَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَلَا قَادِرٍ وَلَا حَيٍّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ فَلَمْ تَقْدِرْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنْ تُفْصِحَ بِذَلِكَ فَأَتَتْ بِمَعْنَاهُ وَقَالَتْ إنَّ اللَّهَ عَالِمٌ قَادِرٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مِنْ طَرِيقِ التَّسْمِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ.
وَمَقْصُودُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَسْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ مَعَ أَنَّ الْحَيَّ الْعَالِمَ الْقَادِرَ الْمُتَكَلِّمَ الْمُرِيدَ لَا بُدَّ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ وَإِنَّ مَا قَامَ بِهِ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ مُرِيدٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ ثُبُوتُ حُكْمِ الصِّفَةِ لِمَحِلِّهَا وَانْتِفَاؤُهُ عَنْ غَيْرِ مَحِلِّهَا وَثُبُوتُ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ مِنْ اسْمِهَا لِمَحَلِّهَا وَانْتِفَاءُ الِاسْمِ عَنْ غَيْرِ مَحِلِّهَا وَالْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ خَالَفُوا ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: زَعْمُهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ بِهِ حَيَاةٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ فَأَثْبَتُوا الْأَسْمَاءَ وَالْأَحْكَامَ مَعَ نَفْيِ الصِّفَاتِ.
الثَّانِي: أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ أَنَّهُمْ قَالُوا هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ الْجِسْمُ الَّذِي قَامَ بِهِ الْكَلَامَ مُتَكَلِّمًا بِهِ فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ بِدُونِ الصِّفَةِ وَنَفَوْا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ عَنْ مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مُتَكَلِّمًا إلَّا مَنْ لَهُ كَلَامٌ وَجَعَلُوا هُنَاكَ عَالِمًا قَادِرًا مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ.
الثَّالِثُ: أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ مَا قَالُوهُ فِي الْإِرَادَةِ تَارَةً يَنْفُونَهَا وَتَارَةً يَقُولُونَ هُوَ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ لَا فِي مَحَلٍّ فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ وَالْحُكْمَ بِدُونِ الصِّفَةِ وَجَعَلُوا الصِّفَةَ تَقُومُ بِغَيْرِ مَحَلٍّ وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مِمَّا يُعْلَمُ بِبِدَايَةِ الْعَقْلِ وَبِمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعِبَادَ بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَهُوَ مِنْ النِّفَاقِ لَكِنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِحُجَّةٍ أَلْزَمَهَا لَهُمْ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَهُوَ الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ مِثْلُ كَوْنِهِ خَالِقًا رَازِقًا عَادِلًا مُحَيِّيًا مُمِيتًا وَتُسَمَّى صِفَةَ التَّكْوِينِ وَتُسَمَّى الْخَالِقَ وَتُسَمَّى صِفَةَ الْفِعْلِ وَتُسَمَّى التَّأْثِيرَ فَقَالُوا هُوَ خَالِقٌ فَاعِلٌ مُكَوِّنٌ عَادِلٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ خَلْقٌ وَلَا تَكْوِينٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا تَأْثِيرٌ وَلَا عَدْلٌ فَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ وَقَالُوا إنَّ الْخَلْقَ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقِ وَاتَّبَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فَصَارَ لِلْأَوَّلِينَ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا قَرَنَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إنْ قُلْنَا إنَّ التَّكْوِينَ قَدِيمٌ لَزِمَ قِدْمُ الْمُكَوَّنَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالْحِسِّ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ مُحْدَثٌ لَزِمَ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الرَّادِّينَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَيَطْرُدُونَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَيَقُولُونَ لَا يَكُونُ فَاعِلًا إلَّا بِفِعْلٍ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَتَكْوِينٌ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَالْخَلْقُ الَّذِي يَقُومُ بِذَاتِهِ غَيْرُ الْخَلْقِ
الَّذِي هُوَ الْمَخْلُوقُ وَهَذَا هُوَ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ كَالطَّحَاوِيِّ وَأَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَكَمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَكَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَحْمَدَ كَأَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمْ لَكِنَّ الْقَاضِي ذَكَرَ فِي الْخَلْقِ هَلْ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَوْ غَيْرُهُ قَوْلَيْنِ وَلَكِنْ اسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ خَالَفَهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْكَلَابَاذِيُّ فِي كِتَابِ اعْتِقَادِ الصُّوفِيَّةِ وَكَمَا ذَكَرَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ بَابَ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْخَلَائِقِ وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلُهُ وَأَمْرُهُ وَكَلَامُهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرُهُ وَتَخْلِيقُهُ وَتَكْوِينَهُ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوِّنٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هُوَ الْحَقُّ.
فَإِنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ الْحُجَّةِ أَنَّ الْعَالِمَ الْقَادِرَ الْمُتَكَلِّمَ الْمُرِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ هُوَ بِعَيْنِهِ يُقَالُ فِي الْخَالِقِ وَالْفَاعِلِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ وَضَرُورَتِهَا أَنَّ الصَّانِعَ الْفَاعِلَ لَا يَكُونُ صَانِعًا فَاعِلًا إلَّا أَنْ يَقُومَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ فَاعِلًا صَانِعًا وَلَا يُسَمَّى الْفَاعِلُ فَاعِلًا كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ وَالْمُحْسِنِ وَالْمُطْعِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا إذَا قَامَ بِهِ الْفِعْلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمُ وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّةَ نَفَتْ هَذَا كُلُّهُ وَفُرُوخُهُمْ وَافَقَتْهُمْ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَأَمَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ فَبَاقُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَكَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَفْعَالِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَكِنْ هُنَا أَخْبَرَ بِأَفْعَالِهِ وَهُنَاكَ ذَكَرَ أَسْمَاءَهُ الْمُتَضَمَّنَةَ لِلْأَفْعَالِ وَلَمْ يُفَرِّقُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَأَسْمَاءِ الْكَلَامِ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ إنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ فَذَكَرَ مَسَائِلَهُ وَمِنْهَا قَالَ وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158]{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَوْلُهُ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْ
لَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ بِتَمَامِهِ وَاخْتَصَرَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ بِتَمَامِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] وَ {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ هَذَا لَفْظُ الْحُمَيْدِيِّ صَاحِبِ الْجَمْعِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْبَرْقَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ إبْرَاهِيمَ الْبُوشْنَجِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ قَالَ إنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَلْهُ غَيْرُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ يُوسُفَ وَلَفْظُ السَّائِلِ فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى وَلَفْظُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ غَيْرُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَانَ اللَّهُ أَيْ لَمْ يَزَلْ يُقَالُ جَعَلْت زَيْدًا عَالِمًا إذْ جَعَلْته فِي نَفْسِك وَجَعَلْته عَالِمًا إذَا جَعَلْته فِي نَفْسِي أَيْ اعْتَقَدْته عَالِمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] أَيْ اعْتَقَدُوهُمْ {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا} [النحل: 91] أَيْ فِي نُفُوسِكُمْ بِمَا عَقَدْتُمُوهُ مِنْ الْيَمِينِ.
فَقَوْلُهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَلَى الثَّانِي أَيْ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِثُبُوتِهِ لَهُ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ لَمْ يَنْحَلْهُ ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ الْخَلْقُ هُمْ الَّذِينَ حَكَمُوا بِذَلِكَ لَهُ وَسَمَّوْهُ بِذَلِكَ فَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ نِحْلَةِ الْخَلْقِ لَهُ لَكَانَ مُحْدَثًا لَهُ بِحُدُوثِ الْخَلْقِ فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ وَجَعَلَ نَفْسَهُ كَذَلِكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ فَلِهَذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ وَلِهَذَا اتَّبَعَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ ذَلِكَ كَقَوْلِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا غَفُورًا وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا قَادِرًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ وَلِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فَقَالَ: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ» . فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ يَعُوذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إذَا نَزَلَ مَنْزِلًا قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ
قَالَ حِينَ يُمْسِي أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ» .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ
قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالُ أُعِيذُك بِالسَّمَاءِ أَوْ بِالْجِبَالِ أَوْ بِالْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِالْمَلَائِكَةِ أَوْ بِالْعَرْشِ أَوْ بِالْأَرْضِ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ وَلَا يَعُوذُ إلَّا بِاَللَّهِ أَوْ بِكَلِمَاتِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الِاحْتِجَاجَ بِهَذَا الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لَكِنْ نُقِلَ احْتِجَاجُ أَحْمَدَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ وَعُورِضَ بِمُعَارَضَةٍ فَلَمْ يُجِبْ عَنْهَا ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ مَخْلُوقٍ بِمَخْلُوقٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَعِيذُ بِذَاتِهِ وَذَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ثُمَّ قَالَ وَبَلَغَنِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ مَخْلُوقٍ إلَّا وَفِيهِ نَقْصٌ. قُلْت:
احْتِجَاجُ أَحْمَدَ هُوَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ كَمَا حَكَيْنَا لَفْظَ الْمَرُّوذِيِّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي عَرَضَهُ عَلَى أَحْمَدَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا ثُمَّ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ دُونَ الْمَعَانِي ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتِ الَّتِي سَمِعَهَا مُوسَى عِبْرِيَّةٌ وَاَلَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ عَرَبِيَّةٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ إلَّا مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ قَدْرَ مُشْتَرَكٍ أَصْلُهُ بَلْ كَانَ يَكُونُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ سَمِعَ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الَّتِي لَمْ يَسْمَعْهَا كَذِبٌ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَنْ حَكَى اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِلُغَتِهِمْ وَقَدْ حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ بِاللُّغَةِ الَّتِي أَنْزَلَ بِهَا الْقُرْآنَ وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ وَكَلَامُ اللَّهِ صِدْقٌ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُمْ مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الَّتِي قَالُوهَا لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ لَمْ تَكُنْ الْحِكَايَةُ عَنْهُمْ مُطْلَقًا بَلْ كَلَامُهُمْ كَانَ حُرُوفًا وَمَعَانِيَ فَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِلُغَةٍ أُخْرَى وَالْحُرُوفُ تَابِعَةٌ لِلْمَعَانِي وَالْمَعَانِي هِيَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ.
كَمَا يُتَرْجِمُ كَلَامُ سَائِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَهَؤُلَاءِ الْمُثْبِتَةُ الَّذِينَ وَافَقُوا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَوَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ إلَّا مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَيَّنْته أَيْضًا فِي جَوَابِ الْمِحْنَةِ وَبَيَّنْت أَنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ
أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَلَا قَالُوا أَيْضًا إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ بَلْ كِلَاهُمَا بِدْعَةٌ وَأَنَّ لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدِيمٌ غَيْرُ حَادِثٍ لِمُوَافَقَتِهِمْ الطَّائِفَةَ الْأُولَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، إنَّهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ قَطُّ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَلْ يَقُولُ هُوَ وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَهُوَ قَائِمٌ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَإِنَّهُ إذَا شَاءَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِذَا شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ.
وَظَنَّ الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى فِي النَّفْسِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَنَّهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَهَذَا اعْتَقَدُوهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُضَافَةِ إلَى اللَّهِ أَنَّهَا إمَّا أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً مُنْفَصِلَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَنَعُوا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ أَوْ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَوْ إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَلَامِ أَوْ التَّكَلُّمِ أَوْ إنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ أَوْ إنَّهُ إنْ شَاءَ تَكَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ أَوْ إنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَحْيَا إذَا شَاءَ أَوْ إنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْيَا وَعَلَى أَنْ لَا يَحْيَا إنَّ الْحَيَاةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إلَّا حَيًّا قَيُّومًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَاعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ فِي الْكَلَامِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَالرِّضَاءِ وَالسَّخَطِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ مِثْلُ الْحَيَاةِ.
وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الْمُوَافِقِينَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ وَهَذَا مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ بَلْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُ يَقُولُ بِقَوْلِهِ وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الزَّيْدِيَّةِ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِبَعْضِ قَوْلِهِ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ قَوْلَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ فَقَالَ هَلْ هَذِهِ حِكَايَةُ قَوْلِ جُمْلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ.
جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُرِيدُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَاَللَّهُ تَعَالَى إلَهٌ
وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وَكَمَا قَالَ {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وَأَنَّ لَهُ عَيْنَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَا يُقَالُ إنَّهَا غَيْرُ اللَّهِ كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] وَكَمَا قَالَ: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] وَأَثْبَتُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْقُوَّةَ كَمَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] وَقَالُوا إنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] .
وَلَمَّا قَالَ الْمُسْلِمُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَا يَكُونُ وَقَالُوا إنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَكُونُ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ أَوْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَأَقَرُّوا أَنَّهُ لَا خَالِقَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَخْلُقُوا شَيْئًا وَأَنَّ اللَّهَ وَفَّقَ الْمُؤْمِنِينَ لِطَاعَتِهِ وَخَذَلَ الْكَافِرِينَ وَلَطَفَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَصْلَحَهُمْ وَهَدَاهُمْ وَلَمْ يَلْطُفْ بِالْكَافِرِينَ وَلَا أَصْلَحَهُمْ وَلَا هَدَاهُمْ وَلَوْ أَصْلَحَهُمْ لَكَانُوا صَالِحِينَ وَلَوْ هَدَاهُمْ لَكَانُوا مُهْتَدِينَ وَأَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ أَنْ يُصْلِحَ الْكَافِرِينَ وَيَلْطُفَ بِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونُوا كَافِرِينَ.
كَمَا عَلِمَ وَأَخْذَلَهُمْ وَلَمْ يُصْلِحْهُمْ وَطَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدْرِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدْرِهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ وَيُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ كَمَا قَالَ وَيُلْجِئُونَ أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ وَيُثْبِتُونَ الْحَاجَةَ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَالْفَقْرَ إلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍّ وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.