الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضَيَّقَ مَا وَسَّعَتْهُ السُّنَّةُ فَاحْتَاجَ صَاحِبُهُ إلَى أَنْ يَحْتَالَ لِلتَّوْسِعَةِ، مِثْلُ انْتِفَاعِ الْمُرْتَهِنِ بِالظَّهْرِ وَالدَّارِ إذَا أَنْفَقَ بِقَدْرِ مَا انْتَفَعَ، وَمِثْلُ بَابِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ هَذَا خَالَفَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَمَا عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ إلَى يَوْمِهِمْ اضْطَرَّهُ الْحَالُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْحِيَلِ يَسْتَحِلُّ بِهَا ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سُنَّةٌ لَكَانَ إلْحَاقُهَا بِالْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهَا بِهَا أَشْبَهُ وَأَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهَا بِالْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْهَا أَبْعَدُ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، أَنَّ الرَّأْيَ كَانَ وَاقِعًا عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يَتَضَمَّنُ الْحِيَلَ: أَنَّ بِشْرَ بْنَ السَّرِيِّ وَهُوَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَدْرَكَ الْعَصْرَ الَّذِي اشْتَهَرَ فِيهِ الرَّأْيُ وَهُوَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَبَقَتُهُ قَالَ: " نَظَرْتُ فِي الْعِلْمِ فَإِذَا هُوَ الْحَدِيثُ وَالرَّأْيُ فَوَجَدْتُ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَذِكْرَ الْمَوْتِ وَذِكْرَ رُبُوبِيَّةِ الرَّبِّ وَجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَذِكْرَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَثِّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَجِمَاعِ الْخَيْرِ، وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ فَإِذَا فِيهِ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالتَّشَاحُّ وَاسْتِقْصَاءُ الْحَقِّ وَالْمُمَاكَسَةُ فِي الدَّيْنِ وَاسْتِعْمَالُ الْحِيَلِ وَالْبَعْثُ عَلَى قَطْعِ الْأَرْحَامِ وَالتَّجَرُّؤُ عَلَى الْحَرَامِ ".
وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت أَحْمَدَ وَذَكَرَ الْحِيَلَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ فَقَالُوا: يَحْتَالُونَ لِنَقْضِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْحِيَلُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ]
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ: «أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنْهُ الصَّلَاةُ» ، وَحَدَّثَ عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ مِنْ الْقُلُوبِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَقَالَ:«خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْدَهُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ، وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحِيَلِ يَفْتَحُ بَابَ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ لَا يَتِمُّ إلَّا أَنْ يَتَّفِقَ الرَّجُلَانِ عَلَى عَقْدٍ يُظْهِرَانِهِ وَمَقْصُودُهُمَا أَمْرٌ آخَرُ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّمْلِيكِ لِلْوَقْفِ، وَكَمَا فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ، وَحِيَلِ الْمَنَاكِحِ، وَذَلِكَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ إنْ لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا.
وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فَقَدْ جُوِّزَتْ الْخِيَانَةُ وَالْكَذِبُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلِهَذَا لَا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْحِيَلَ خَوْفًا مِنْ مَكْرِهِ، وَإِظْهَارِهِ مَا يُبْطِنُ خِلَافَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» ، وَالْمُحْتَالُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَارُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ: فَكَيْفَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَا تَعْرِفُ وَتَدَعُ مَا تُنْكِرُ وَتُقْبِلُ عَلَى خَاصَّتِكَ وَتَدَعُهُمْ وَعَوَامَّهُمْ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ
، وَالْحِيَلُ تُوجِبُ مَرْجَ الْعُهُودِ وَالْأَمَانَاتِ وَهُوَ قَلَقُهَا وَاضْطِرَابُهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا سَوَّغَ لَهُ مَنْ يُعَاهِدُ عَهْدًا، ثُمَّ لَا يَفِي بِهِ، أَوْ أَنْ يُؤْمَنَ عَلَى شَيْءٍ فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ ارْتَفَعَتْ الثِّقَةُ بِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَلَمْ يُؤْمَنْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ حِيَلَ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ الَّتِي اسْتَحَلُّوا بِهَا الْمَحَارِمَ، وَدَخَلُوا بِهَا فِي الْغُلُولِ وَالْخِيَانَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعَهَا عَهْدٌ وَلَا أَمَانَةٌ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الِاحْتِيَالَ وَالتَّأْوِيلَاتِ أَوْجَبَ عِظَمَ ذَلِكَ، وَعَلِمَ خُرُوجَ أَهْلِ الْحِيَلِ مِنْ قَوْلِهِ:{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، وَقَوْلِهِ:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وَمُخَالَفَتَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وَقَوْلِهِ:{وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقَوْله تَعَالَى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رَوَاهُ