الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجْهٍ فَلَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ صِفَةً لِحَقِيقَتَيْنِ وَقِيلَ إنَّ الصِّفَةَ تَكُونُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهَا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، وَكَوْنَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَهَؤُلَاءِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، هَذَا كُلُّهُ تَنَزُّلٌ مَعَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْحَالِ وَأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ زَائِدٌ عَلَى حَقَائِقِهَا الْمَوْجُودَةِ وَإِلَّا فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ فِي الْخَارِجِ فَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَاسِدٌ.
[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا]
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ: إنَّهُ يُقَالُ هَبْ أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا قُلْتُمْ إنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَاحِدًا، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَقَدْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ الرَّازِيّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّهُ إمَّا مُمْتَنِعٌ أَوْ مُتَوَقِّفٌ فِي إمْكَانِهِ فَقَالَ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى الْإِجْمَاعِ لِلْحِكَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ فَبَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ بِلَا دَلِيلٍ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ: أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ كَثِيرًا مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ يُضَاهُونَ النَّصَارَى، وَهَذَا يَقُولُونَهُ تَارَةً لِإِثْبَاتِهِمْ الصِّفَاتِ وَتَارَةً لِقَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ أَنْزَلَهُ وَهُوَ فِي الْقُلُوبِ وَالْمَصَاحِفِ، وَالْجَهْمِيَّةُ هُمْ الْمُضَاهِئُونَ لِلنَّصَارَى فِيمَا كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِهِ لَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ الَّذِينَ ثَبَّتَهُمْ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ.
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْكَلَامِ فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَقُولُونَ إذَا قُلْتُمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَتَارَةً يَقُولُونَ إذَا قُلْتُمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي الْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَتْهُ وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى فِي النَّفْسِ وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ إلَى الْأَرْضِ كَلَامًا لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْغَرَضُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَمَّا أَنْتُمْ فَضَاهَيْتُمْ النَّصَارَى فِي نَفْسِ مَا هُوَ ضَلَالٌ مِمَّا خَالَفُوهُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَكَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَذْهَبِ النَّصَارَى فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ جَعْلُهُمْ وَلَدًا لِلَّهِ وَتَنْزِيهُ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا ذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا:{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34]{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35] .
وَقَالَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم: 88]{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 89]{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91]{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93 - 94]{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] الْآيَةَ. فَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73] . الْآيَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 171]{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] الْآيَةَ.
فَقَدْ ذَكَرَ كُفْرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فِي آيَةٍ وَنَهَى أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَهَذَانِ مَوْضِعَانِ ذَكَرَ فِيهِمَا التَّثْلِيثَ عَنْهُمْ وَفِي مَوْضِعَيْنِ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَأَمَّا ذِكْرُ الْوَلَدِ عَنْهُمْ فَكَثِيرٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَنْ النَّصَارَى هِيَ قَوْلُ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الْيَعْقُوبِيَّةُ وَهُمْ شَرُّهُمْ وَهُمْ السُّودَانُ مِنْ الْحَبَشَةِ، وَالْقِبْطُ ثُمَّ الْمَلْكَانِيَّةُ وَهُمْ أَهْلُ الشَّمَالِ مِنْ الشَّامِ وَالرُّومِ ثُمَّ النَّسْطُورِيَّةُ وَهُمْ نَشَئُوا فِي دَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ زَمَنِ الْمَأْمُونِ وَهُمْ قَلِيلٌ فَإِنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا وَامْتَزَجَا كَامْتِزَاجِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَالْخَمْرِ فَهُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ وَطَبِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فَصَارَ عَيْنُ النَّاسُوتِ عَيْنَ اللَّاهُوتِ وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ عَيْنُ اللَّاهُوتِ، والملكانية تَزْعُمُ أَنَّهُمَا صَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا لَهُ أُقْنُومَانِ وَقِيلَ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ لَهُ جَوْهَرَانِ والنسطورية يَقُولُونَ هُمَا جَوْهَرَانِ أُقْنُومَانِ وَإِنَّمَا اتَّحِدَا فِي الْمَشِيئَةِ وَهَذَانِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْحُلُولِ فَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَأَبِي الْمَعَالِي مَنْ يَذْكُرُ الْخِلَافَ فِي فِرَقِهِمْ الثَّلَاثِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ فِيهِ فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَأَنَّ اللَّاهُوتَ حَلَّ فِي النَّاسُوتِ وَقَالُوا هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ فَهُمَا جَوْهَرَانِ وَطَبِيعَتَانِ وَأُقْنُومَانِ كَالْجَسَدِ وَالرُّوحِ وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِظُهُورِ اللَّاهُوتِ فِي النَّاسُوتِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ.
وَذَكَرَ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَابْنِ الزَّاغُونِيِّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَقُولُونَ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، لَكِنْ الِاتِّحَادُ فِي الْمَسِيحِ وَالْحُلُولُ فِي مَرْيَمَ، فَقَالُوا: اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ النَّصَارَى عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقَانِيمِ جَوْهَرٌ خَاصٌّ يَجْمَعُهَا الْجَوْهَرُ الْعَامُّ وَذَكَرُوا اخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ ثُمَّ قَالُوا وَزَعَمُوا أَنَّ الْجَوْهَرَ هُوَ الْأَبُ وَالْأَقَانِيمُ الْحَيَاةُ وَهِيَ رُوحُ الْقُدُسِ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَأَنَّ اللَّهَ اتَّحَدَ بِأَحَدِ الْأَقَانِيمِ الَّذِي هُوَ الِابْنُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَكَانَ مَسِيحًا عِنْدَ الِاتِّحَادِ لَاهُوتِيًّا وَنَاسُوتِيًّا حُمِلَ وَوُلِدَ وَنَشَأَ وَقُتِلَ وَصُلِبَ وَدُفِنَ. ثُمَّ ذَكَرُوا الْيَعْقُوبِيَّةَ والنسطورية وَالْمَلَكِيَّةَ. قَالَ النَّاقِلُونَ عَنْهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلِمَةِ الْمُلْقَاةِ إلَى مَرْيَمَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْكَلِمَةَ حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ حُلُولَ الْمُمَازَجَةِ كَمَا يَحِلُّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ فَيُمَازِجُهُ وَيُخَالِطُهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنَّهَا حَلَّتْ فِي مَرْيَمَ مِنْ غَيْرِ مُمَازَجَةٍ وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ النَّصَارَى أَنَّ اللَّاهُوتَ مَعَ النَّاسُوتِ كَمِثْلِ الْخَاتَمِ مَعَ الشَّمْعِ يُؤَثِّرُ فِيهِ بِالنَّقْشِ ثُمَّ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَثَرٌ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَؤُلَاءِ
عَنْهُمْ فِي الِاتِّحَادِ نَحْوَ مَا حَكَى الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا قَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الِاتِّحَادِ اتِّحَادًا مُتَبَايِنًا. فَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ حَلَّتْ قَبْلَ جَسَدِ الْمَسِيحِ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ وَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ الِاخْتِلَاطُ وَالِامْتِزَاجُ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْيَعْقُوبِيَّةِ هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ انْقَلَبَتْ لَحْمًا وَدَمًا بِالِاتِّحَادِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْيَعْقُوبِيَّةِ والنسطورية الِاتِّحَادُ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ اخْتَلَطَا فَامْتَزَجَا كَاخْتِلَاطِ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ وَالْخَمْرِ بِاللَّبَنِ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَنَّ الِاتِّحَادَ هُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا فَصَارَا هَيْكَلًا وَمَحَلًّا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الِاتِّحَادُ مِثْلُ ظُهُورِ صُورَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْمِرْآةِ وَالطَّابَعِ فِي الْمَطْبُوعِ مِثْلُ الْخَاتَمِ فِي الشَّمْعِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْكَلِمَةُ اتَّحَدَتْ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا حَلَّتْهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ كَمَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ.
وَقَالَ الْمَلَكِيَّةُ الِاتِّحَادُ هُوَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ صَارَا وَاحِدًا وَصَارَتْ الْكَثْرَةُ قِلَّةً فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّحَدَا حَتَّى صَارَا شَيْئًا وَاحِدًا وَاَلَّذِينَ قَالُوا هُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ طَبِيعَتَانِ فَيَقُولُونَ هُوَ وَلَدُهُ بِمَنْزِلَةِ الشُّعَاعِ الْمُتَوَلِّدِ عَنْ الشَّمْسِ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِجَوْهَرَيْنِ وَطَبِيعَتَيْنِ وَأُقْنُومَيْنِ مَعَ الرَّبِّ قَالُوا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ إنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ لَهُمْ لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّ النَّصَارَى افْتَرَقُوا وَأُلْقِيَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ بِقَوْلِهِ:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذَا إخْبَارٌ بِتَفَرُّقِهِمْ إلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَقِبَ قَوْلِهِ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ اتَّخَذُوهُ وَلَدًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171] وَذَكَرَ أَيْضًا مَا يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ مِنْ الشِّرْكِ، فَقَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ الشِّرْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَلَا يَخُصُّونَهُ بِالْمَسِيحِ بَلْ يُثْبِتُونَ أَنَّ لَهُ وُجُودًا وَهُوَ الْأَبُ لَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ فَإِنَّ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُ مَعَهُ إشْرَاكٌ وَذَلِكَ مَضْمُومٌ إلَى قَوْلِهِ إنَّهُ هُوَ وَقَوْلِهِمْ إنَّهُ وَلَدُهُ وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1 - 2] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا ذُكِرَ فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُمَا اتَّحَدَا وَصَارَا شَيْئًا وَاحِدًا يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّمَا اتَّحَدَ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ الِابْنُ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ هُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ طَبِيعَتَانِ يَقُولُونَ إنَّ الْمَسِيحَ إلَهٌ وَإِنَّهُ اللَّهُ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ حَلَّ فِيهِ يَقُولُونَ حَلَّتْ فِيهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ الِابْنُ وَهِيَ اللَّهُ أَيْضًا بِوَجْهٍ آخَرَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ اللَّهَ وَاللَّاهُوتَ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ وَجَسَدِ الْمَسِيحِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ النَّصَارَى لَا يَجْعَلُ لَاهُوتَ الْمَسِيحِ وَنَاسُوتَهُ إلَهَيْنِ وَيَفْصِلُ النَّاسُوتَ عَنْ اللَّاهُوتِ بَلْ سَوَاءٌ قَالَ بِالِاتِّحَادِ أَوْ بِالْحُلُولِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلَّاهُوتِ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ عَنْ النَّصَارَى {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء: 171] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] .
قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلُ النَّصَارَى بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُهُمْ بِالْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَهُ الْأَقَانِيمُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا ثَلَاثَةَ جَوَاهِرَ وَثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ أَيْ ثَلَاثَةَ صِفَاتٍ وَخَوَاصَّ، وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَابْنُ اللَّهِ هُوَ الِاتِّحَادُ وَالْحُلُولُ،
فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تِلْكَ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ تَثْلِيثُ الْأَقَانِيمِ، وَهَاتَانِ فِي قَوْلِهِمْ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، فَالْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ رَدَّ فِي كُلِّ آيَةٍ عَلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَعْلُهُمْ لِلْمَسِيحِ إلَهًا، وَلِأُمِّهِ إلَهًا مَعَ اللَّهِ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] إلَى قَوْلِهِ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] الْآيَةَ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]{أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74]{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] عَقِبَ قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّثْلِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ اتِّخَاذُ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمُّهُ إلَهَيْنِ، وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ حَكَى مِنْ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي مَرْيَمَ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَذْهَبِهِمْ.
وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ كُلُّ آيَةٍ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ تَعُمُّ جَمِيعَ طَوَائِفِهِمْ، وَتَعُمُّ أَيْضًا بِتَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ، وَبِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، فَتَعُمُّ أَصْنَافَهُمْ وَأَصْنَافَ كُفْرِهِمْ، لَيْسَ يَخْتَصُّ كُلَّ آيَةٍ بِصِنْفٍ، كَمَا قَالَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ، وَلَا تَخْتَصُّ آيَةٌ بِتَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ، وَآيَةٌ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ كُفْرَهُمْ الْمُشْتَرَكَ، وَلَكِنْ وَصَفَ كُفْرَهُمْ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ وَكُلُّ صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، حَيْثُ اتَّخَذُوا الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَذَا بِالِاتِّحَادِ، وَهَذِهِ بِالْحُلُولِ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ إثْبَاتُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ مُنْفَصِلَةٍ غَيْرِ الْأَقَانِيمِ.
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ كُفْرِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِلَهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثُ أَقَانِيمَ، وَهَذِهِ الْأَقَانِيمُ يَجْعَلُونَهَا تَارَةً جَوَاهِرَ وَأَشْخَاصًا، وَتَارَةً صِفَاتٍ وَخَوَاصًّا، فَيَقُولُونَ: الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ الْأَبُ، وَالِابْنُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ، وَالْقُدْرَةُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِيهِمْ. فَيَقُولُونَ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَالِمٌ نَاطِقٌ أَوْ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ. لَكِنْ يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ جَوْهَرٌ، وَرُوحُ الْقُدُسِ أَيْضًا جَوْهَرٌ، وَأَنَّ الْمُتَّحِدَ بِالْمَسِيحِ هُوَ جَوْهَرُ الْكَلِمَةِ دُونَ جَوْهَرِ الْأَبِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَمِنْ هُنَا قَالُوا كُلُّهُمْ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ، وَقَالُوا كُلُّهُمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ وَرُوحَ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَجَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَقَدْ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَبَ جَوْهَرٌ وَالِابْنُ جَوْهَرٌ وَرُوحُ الْقُدُسِ جَوْهَرٌ وَاَلَّذِي اتَّحَدَ بِهِ هُوَ جَوْهَرُ الِابْنِ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ ابْنَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ - وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَضَمِّنًا لِكُفْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمَا مُتَنَاقِضَانِ، إذْ كَوْنُهُ هُوَ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ ابْنَهُ، لَكِنْ النَّصَارَى يَقُولُونَ هَذَا كُلُّهُمْ، وَيَقُولُونَ هَذَا كُلُّهُمْ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ مَعْلُومَ التَّنَاقُضِ فِي بَدِيهَةِ الْعُقُولِ، عِنْدَ كُلِّ مَنْ تَصَوَّرَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَانِيمَ إذَا كَانَتْ صِفَاتٍ أَوْ خَوَّاصًا وَقُدِّرَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَهُ بِكُلِّ صِفَةٍ اسْمٌ كَمَا مَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِمْ " زَيْدٌ الطَّبِيبُ "" وَزَيْدٌ الْحَاسِبُ "" وَزَيْدٌ الْكَاتِبُ " لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّحِدُ بِشَيْءٍ دُونَ الْجَوْهَرِ، وَلَا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يُفَارِقُ بَعْضًا فَلَا يُتَصَوَّرُ مُفَارَقَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا وَلَا مُفَارَقَةُ شَيْءٍ مِنْهَا لِلْمَوْصُوفِ حَتَّى يُقَالَ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ بَعْضُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُتَّحَدَ بِهِ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْهَرٌ إلَّا جَوْهَرَ الْأَبِ كَانَ جَوْهَرُ الْأَبِ هُوَ الْمُتَّحِدَ، وَإِنْ كَانَ جَوْهَرُ الِابْنِ غَيْرَهُ فَهُمَا جَوْهَرَانِ مُنْفَصِلَانِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ.
وَالْمَوْصُوفُ أَيْضًا لَا يُفَارِقُ صِفَاتِهِ، كَمَا لَا تُفَارِقُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: اتَّحَدَ الْجَوْهَرُ بِالْمَسِيحِ بِأُقْنُومِ الْعِلْمِ دُونَ الْحَيَاةِ، إذْ الْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ لَازِمَانِ لِلذَّاتِ، لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُفَارِقَهُمَا الذَّاتُ وَلَا يُفَارِقَهُمَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: النَّصَارَى غَلِطُوا فِي أَوَّلِ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْحِسَابِ الَّذِي يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ،، وَهُوَ قَوْلُهُمْ الْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَحَدِيُّ الذَّاتِ، ثُلَاثِيٌّ الصِّفَاتِ، فَهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ - كَمَا تَقَدَّمَ - بَلْ يَقُولُونَ الثَّلَاثَةُ جَوَاهِرُ وَالْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ وَاحِدٌ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَهُمْ عَلَى قَوْلٍ يُعْقَلُ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ، كَقَوْلِ الْمُتَكَايِسِينَ مِنْهُمْ هَذَا كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الطَّبِيبُ، وَزَيْدٌ الْحَاسِبُ، وَزَيْدٌ الْكَاتِبُ فَهُمْ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ، وَهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَنْ يَقُولُ هَذَا لَا يَقُولُ بِأَنَّ زَيْدًا الطَّبِيبَ فَعَلَ كَذَا أَوْ اتَّحَدَ بِكَذَا أَوْ حَلَّ بِهِ دُونَ زَيْدٍ الْحَاسِبِ وَالْكَاتِبِ، بَلْ أَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ وُصِفَ بِهِ زَيْدٌ الطَّبِيبُ فِي هَذَا الْمِثَالِ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِهِ زَيْدٌ الْكَاتِبُ الْحَاسِبُ.
وَالنَّصَارَى يُثْبِتُونَ هَذَا الْمُثَلَّثَ فِي الْأَقَانِيمِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمُتَّحِدَ هُوَ الْوَاحِدُ فَيَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَوْصُوفُ اتَّحَدَ بِهِ، وَيَجْعَلُونَهُ هُوَ ابْنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا اتَّحَدَ بِهِ الْجَوْهَرُ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، أَوْ إنَّمَا اتَّحَدَ بِهِ الْكَلِمَةُ دُونَ الْأَبِ الَّذِي هُوَ الْمَوْجُودُ، وَدُونَ رُوحِ الْقُدُسِ وَهُمَا أَيْضًا جَوْهَرَانِ، فَقَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّ قَوْلَ النَّصَارَى بِهَذَا وَبِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ أَفْسَدُ شَيْءٍ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كُفْرٌ كَمَا كَفَّرَهُمْ اللَّهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ الْأُمَّ الَّتِي هِيَ وَالِدَةُ الْإِلَهِ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا كُفْرٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ تَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ، فَالْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَصْنَافِ كُفْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ تَنَاوُلًا تَامًّا، وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مُضَاهَاةِ الْجَهْمِيَّةِ لَهُمْ دُونَ تَفْصِيلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ. وَالْجَهْمِيَّةُ الْغِلَاظُ يُضَاهُونَهُمْ مُضَاهَاةً عَظِيمَةً، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا ذِكْرُ مُضَاهَاةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ؛ فَيُقَالُ: أَنْتُمْ قُلْتُمْ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدُ هُوَ بِعَيْنِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ، فَجَعَلْتُمْ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةً، وَجَعَلْتُمْ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، وَهَذَا مُضَاهَاةٌ قَوِيَّةٌ لِقَوْلِ النَّصَارَى: الرَّبُّ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ، فَجَعَلُوهُ وَاحِدًا.
وَجَعَلُوهُ ثَلَاثَةً، ثُمَّ قُلْتُمْ: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ، يَنْزِلُ تَارَةً فَيَكُونُ أَمْرًا؛ وَتَارَةً فَيَكُونُ خَبَرًا، وَتَارَةً فَيَكُونُ نَهْيًا؛ وَإِذَا نَزَلَ فَكَانَ أَمْرًا، لَمْ يَكُنْ خَبَرًا، وَإِنَّمَا
نَزَلَ فَكَانَ خَبَرًا لَمْ يَكُنْ أَمْرًا؛ فَإِنَّهُ إذَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فَكَانَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَهِيَ خَبَرٌ لَمْ يَكُنْ آيَةَ الدَّيْنِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ، وَهَذَا لَعَلَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُضَاهَاةِ كَقَوْلِ النَّصَارَى: إنَّ الْجَوْهَرَ الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَإِذَا اتَّحَدَ فَإِنَّمَا يَكُونُ كَلِمَةً وَابْنًا لَا يَكُونُ أَبًا وَلَا رُوحَ قُدُسٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَمَا جَعَلُوا الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ يَتَّحِدُ وَلَا يَتَّحِدُ مَا يَتَّحِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَلِمَةً، وَلَا يَتَّحِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وُجُودًا، أَجَعَلَ أُولَئِكَ الَّذِي هُوَ كَلَامٌ وَاحِدٌ يَنْزِلُ وَلَا يَنْزِلُ، يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَمْرًا، وَلَا يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ ضَاهَوْا النَّصَارَى فِي تَحْرِيفِ مُسَمَّى الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِكَلِمَتِهِ: {كُنْ فَيَكُونُ} ، كَمَا يُسَمَّى مُتَعَلِّقُ الصِّفَاتِ بِأَسْمَائِهَا فَيُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً، وَالْمَعْلُومُ عِلْمًا، وَمَا يُرْحَمُ بِهِ رَحْمَةً، وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَهَذَا كَثِيرٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، لَكِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ نَادِرَةٌ يَجْعَلُونَهَا صِفَةً لِلَّهِ، وَيَقُولُونَ هِيَ الْعِلْمُ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَهِيَ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ حَرَّفُوا مُسَمَّى الْكَلِمَةِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ الْمَعْنَى، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ، وَلَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ الْكَلَامُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ؛ إلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ الصَّوْتُ جِسْمٌ مِنْ الْأَجْسَامِ.
وَأَيْضًا فَهُمْ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حُرُوفُهُ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى الْمَعْنَى لَهُمْ مُضَاهَاةٌ قَوِيَّةٌ بِالنَّصَارَى فِي جَسَدِ الْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ مُتَدَرِّعٌ لِلَّاهُوتٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ، كَمَا أَنَّ النَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّاهُوتِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ، ثُمَّ يَقُولُونَ: الْمَعْنَى الْقَدِيمُ لَمَّا أُنْزِلَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَخْلُوقَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْحُرُوفَ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً كَمَا يُسَمِّي الْمَعْنَى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازًا، كَمَا أَنَّ النَّصَارَى مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَاهُوتًا حَقِيقَةً لِاتِّحَادِهِ بِاللَّاهُوتِ، وَاخْتِلَاطِهِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مَحَلُّ اللَّاهُوتِ وَوِعَاؤُهُ.
ثُمَّ النَّصَارَى تَقُولُ: هَذَا الْجَسَدُ إنَّمَا عُبِدَ لِكَوْنِهِ مَظْهَرَ اللَّاهُوتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ إيَّاهُ، وَلَكِنْ صَارَ هُوَ إيَّاهُ بِطَرِيقِ الِاتِّحَادِ، وَهُوَ مَحَلُّهُ بِطَرِيقِ الْحُلُولِ، فَعُظِّمَ كَذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا، وَلَكِنْ
خَلَقَهَا وَأَظْهَرَ بِهَا الْمَعْنَى الْقَدِيمَ وَدَلَّ بِهَا عَلَيْهِ، فَاسْتَحَقَّتْ الْإِكْرَامَ وَالتَّحْرِيمَ لِذَلِكَ، حَيْثُ يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ بِحَيْثُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُفْصَلُ بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا مُظْهَرٌ هَذَا دَلِيلُهُ، وَجَعَلُوا مَا لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ قَطُّ كَلَامًا لِلَّهِ مُعَظَّمًا تَعْظِيمَ كَلَامِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَتْ النَّصَارَى النَّاسُوتَ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِإِلَهٍ قَطُّ، وَلَا هُوَ الْكَلِمَةُ إلَهًا وَكَلِمَةً، وَعَظَّمُوهُ تَعْظِيمَ الْإِلَهِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّصَارَى عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ كَابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْأَقَانِيمَ الَّتِي هِيَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ، هِيَ خَوَاصُّ، هِيَ صِفَاتٌ نَفْسِيَّةٌ لِلْجَوْهَرِ، لَيْسَتْ صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ الْعِلْمُ، لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا كَقَوْلِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ، الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَكُونُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ خَاطَبَهُمْ مُتَكَلِّمُو الْجَهْمِيَّةِ مِنْ النَّسْطُورِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَمِمَّنْ تَفَلْسَفَ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ، وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي النَّصَارَى مُثَبِّتَةً لِلصِّفَاتِ، بَلْ غَالِيَةً فِي ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ أَيْضًا فِيهِمْ الْمُثْبِتَةُ وَالنَّفَّات.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ لِلْعِلْمِ كَلِمَةً دُونَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مَعْقُولًا، كَمَا تُعْقَلُ الصِّفَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَوْصُوفِ، ضَاهَاهُمْ فِي ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ دُونَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْمَعْقُولَ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ، فَحَرَّفُوا اسْمَ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ، كَمَا حَرَّفَتْ النَّصَارَى اسْمَ الْكَلِمَةِ وَمَعْنَاهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرْته مِنْ مُضَاهَاةِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
[وَقَدْ] رَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ النَّاسَ قَدْ نَبَّهُوا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِيِّ: فِي مَسْأَلَةِ وَحْدَةِ الْكَلَامِ دَلِيلٌ آخَرُ، يُقَالُ لَهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ فِي قَوْلِكُمْ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ اثْنَانِ وَهُمَا وَاحِدٌ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ قَوْلٌ صَحِيحٌ غَيْرُ مُنَافٍ لِلصِّحَّةِ وَالْإِمْكَانِ، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ وَاللَّاهُوتَ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى قُبْحِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكَلِمَةَ غَيْرُ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، وَكَذَلِكَ الْآخَرَانِ صِفَةٌ وَمَعْنًى، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُخَالِفُ النَّهْيَ صِفَةً وَمَعْنًى؟ قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ، وَلَا انْفِصَالَ لَهُمْ مِنْهُ إلَّا بِزَخَارِفَ عَاطِلَةٍ عَنْ صِحَّةٍ لَا يَصْلُحُ مِثْلُهَا أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تُوقَفُ مَعَهَا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ عَيْنَ الْأَمْرِ هُوَ النَّهْيُ، مَعَ كَوْنِ الْأَمْرِ يُخَالِفُ النَّهْيَ فِي وَصْفِهِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ، وَمَوْضُوعُ الْأَمْرِ إنَّمَا يُرَادُ مِنْهُ تَحْصِيلُ مَا يُرَادُ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ، وَمَوْضُوعُ النَّهْيِ يُرَادُ مِنْهُ مُجَانَبَةُ مَا يُكْرَهُ إمَّا بِطَرِيقِ التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ؛ وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ يَتَّصِلُ بِهِ أَوْ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَقْتَضِيَ النَّهْيُ الصِّحَّةَ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ يَتَّصِلُ بِهِ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نُهِيَ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا عِنْدَ النَّاهِي عَنْهُ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمَرَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَبْغُوضًا عِنْدَ الْآمِرِ بِهِ، لَكَانَ هَذَا قَوْلًا بَاطِلًا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِفَسَادِهِ، وَيُعْرَفُ جَرْيُ الْعَادَةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ وَعَيْنِهِ غَيْرَ النَّهْيِ بِنَفْسِهِ وَعَيْنِهِ، وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ غَيْرُ مُسَوَّغٍ حُصُولُهُ لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مُمْكِنًا.
قُلْت: مَا ذَكَرَهُ مِنْ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ كَمَا ذَكَرَهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ وَلِمَنْ وَافَقَهُ: وَأَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ قُلْتُمْ فِي مُقَابَلَةِ هَؤُلَاءِ مَا هُوَ فِي الْفَسَادِ ظَاهِرٌ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْحُرُوفِ وَالصَّوْتِ، قَالُوا: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْقُرْآنَ صَوْتٌ نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا، وَاَلَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي إنَّمَا هُوَ صَوْتُهُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْهُ، وَهُوَ عَرَضٌ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمِهِ وَعُدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَقُومُ بِهِ وَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ حَرَكَاتِهِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا هُوَ الْقَدِيمُ، فَنَقُولُ لَكُمْ: هَذَا هُوَ صَوْتُ اللَّهِ، فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّا نَعْلَمُهُ وَنَتَحَقَّقُهُ صَوْتُ الْقَارِئِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ صَوْتُ الْقَارِئِ، فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِكُمْ.
قَالَ: قُلْنَا: قَوْلُكُمْ إنَّ الصَّوْتَ الَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي لِلْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ صَوْتُهُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ هُوَ دَعْوَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ. بَلْ نَقُولُ: إنَّ هَذَا الَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ، فَلَا نُسَلِّمُ لَكُمْ مَا قُلْتُمْ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالْفِنَاءِ بَعْدَ الْوُجُودِ، لَيْسَ لِأَمْرٍ كَذَلِكَ بَلْ نَقُولُ: إنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ حَرَكَاتِ التَّالِي بِالْآيَةِ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ، فَأَمَّا عَدَمُهُ قَبْلُ وَبَعْدُ، فَلَا.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِحَرَكَاتِهِ فَقَدْ أَسْلَفْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ.
وَأَمَّا سُؤَالُكُمْ لَنَا: هَلْ هَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ صَوْتُ اللَّهِ تَعَالَى؟ أَمْ صَوْتُ الْآدَمِيِّ؟ فَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا جَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا قُلْنَا إنَّهُ ظَهَرَ عِنْدِ حَرَكَاتِ آلَاتِ الْآدَمِيِّ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ فَإِنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْعَبْدِ وَلَا مِنْهُ، وَلَا هُوَ مُضَافٌ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ التَّوَلُّدِ وَالِانْفِعَالِ وَنَتَائِجِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَدْرِ مَا تُوجِبُهُ الْإِضَافَةُ، وَاَلَّذِي تُوجِبُهُ الْإِضَافَةُ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا وَكَلَامًا لِلَّهِ.
وَقَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إنَّ مَا يَصِلُ إلَى السَّمْعِ هُوَ صَوْتُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ فِيهِ، وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ الْجَلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ زِيَادَةَ الْأَصْوَاتِ تَكْثُرُ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاعْتِمَادَاتِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي الْأَدَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ عَلَى وَجْهٍ لَا زِيَادَةَ فِيهِ، بَلْ هُوَ كَافٍ فِي إيصَالِهِ إلَى السَّمْعِ عَلَى وَجْهٍ، فَإِنْ نَقَصَ لَمْ يَصِلْ وَإِنْ زَادَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَصَلَ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، إمَّا فِي وَاقِعِ رَفْعِ الصَّوْتِ وَإِمَّا فِي الْأَدَاءِ مِنْ الْمَدِّ وَالْهَمْزِ وَالتَّشْدِيدِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةِ التِّلَاوَةِ، وَتَصْفِيَةِ الْأَدَاءِ بِالْقُوَّةِ وَالتَّحْسِينِ، فَمَا لَا غِنَاءَ عَنْهُ فِي تَحْصِيلِ الِاسْتِمَاعِ وَتَكْمِلَةِ الْفَهْمِ فَذَلِكَ هُوَ الْقَدِيمُ، وَمَا قَارَنَهُ مِمَّا اقْتَضَى الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ مِمَّا لَوْ أُسْقِطَ لَمَا أَثَّرَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَالْفَهْمِ فَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى الْعَبْدِ.
فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ اقْتَرَنَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ عَلَى وَجْهٍ يَعْسُرُ تَمْيِيزُهُ إلَّا بَعْدَ التَّلَفُّظِ وَالتَّأَنِّي فِي التَّدَبُّرِ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إلَى مَقَامِ الْفَهْمِ وَالتَّبْيِينِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ يَمْضِي الْعَقْلُ بِتَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ.
قُلْت: دَعْوَى أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ، أَوْ بَعْضَهُ، هُوَ صَوْتُ اللَّهِ، أَوْ هُوَ قَدِيمٌ، بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ مُخَالِفَةٌ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ، بَلْ أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ الطَّوَائِفِ.
وَهِيَ أَقْبَحُ وَأَنْكَرُ مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ