الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَسْتَحِقُّهُ فَيُعْطِيهِ الْعَطِيَّةَ يَخْرُجُ بِهَا يَتَأَبَّطُهَا نَارًا تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا اعْتِقَادَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْعَزْمُ وَالْإِرَادَةُ. فَأَمَّا اعْتِقَادُ الْحُكْمِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْفِعْلَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ فَتَأْثِيرُ هَذَا فِي الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ وَطِئَ فَرْجًا يَعْتَقِدُهُ حَلَالًا لَهُ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَلَالًا، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا، أَوْ اتَّهَبَهَا، أَوْ وَرِثَهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَصْبٌ، أَوْ حُرَّةٌ، أَوْ يَتَزَوَّجُهَا تَزَوُّجًا فَاسِدًا لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ، إمَّا بِأَنْ لَا يَعْلَمَ السَّبَبَ الْمُفْسِدَ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ، أَوْ عَلِمَ السَّبَبَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِجَهْلٍ كَمَنْ يَتَزَوَّجُ الْمُعْتَدَّةَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ جَائِزٌ، أَوْ لِتَأْوِيلٍ، كَمَنْ يَتَزَوَّجُ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَإِنَّ حُكْمَ هَذَا الْوَطْءِ حُكْمُ الْحَلَالِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ وَحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَفِي ثُبُوتِ الْمُصَاهَرَةِ وَالْعِدَّةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، أَوْ سُرِّيَّتُهُ وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لِهَذَا الِاعْتِقَادِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الدَّمِ وَالْمَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ فِيمَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَسُقُوطِ الْعَزْمِ فِيمَا مَلَكَهُ الْكُفَّارُ وَأَتْلَفُوهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوهُ وِفَاقًا وَلَا يُسْلَبُونَ مَا مَلَكُوهُ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي دِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَغَيْرِهَا، وَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَقْوَالِ فِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَكِنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي قَصَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ هُنَا وَإِنْ كَانَ يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْجُمْلَةِ.
[الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ]
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، رَوَتْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: «أَمَّا بَعْدُ فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ
مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» .
وَفِي لَفْظٍ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ «مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ خَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَزَادَ:«فَكُلُّ بِدْعَةٍ فِي النَّارِ» وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَخْطُبُ بِهَذَا الْخُطْبَةِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:«إنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ الْكَلَامُ وَالْهَدْيُ فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ أَلَا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» وَفِي لَفْظٍ: «غَيْرَ أَنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» .
وَهَذَا مَشْهُورٌ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَانَ يَخْطُبُ بِهِ كُلَّ خَمِيسٍ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بِهِ فِي الْجُمَعِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» .
وَهَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ:{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92]، الْآيَةَ: قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا، فَقَالَ:«أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي سَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فِي لَفْظِ: «تَرَكَتْكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ - وَفِيهِ - عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي» .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَذَّرَ الْأُمَّةَ الْأُمُورَ الْمُحْدَثَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا تَنْحَصِرُ دَلَائِلُهَا وَكَثْرَةُ وَصَايَا السَّلَفِ بِمَضْمُونِهَا وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ عَلَى لُزُومِ طَرِيقَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمُجَانَبَةِ مَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ مِمَّا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْحِيَلُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ وَمِنْ الْبِدَعِ الطَّارِئَةِ. أَمَّا الْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَعْلِيمُهَا لِلنَّاسِ، وَإِنْفَاذُهَا فِي الْحُكْمِ وَاعْتِقَادُ جَوَازِهَا فَأَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ صِغَارِ التَّابِعِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَلَيْسَ فِيهَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ تُؤْثَرُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ الْمُسْتَفِيضُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سُئِلُوا عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَزَجَرُوا عَنْهُ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ الْعِينَةِ وَالتَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِمَا مَا بَيَّنَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ، وَأَمَّا فِعْلُهَا مِنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ، فَقَدْ كَانَ يَصْدُرُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، لَكِنَّهُ يُنْكِرُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى مَنْ يَفْعَلُهُ كَمَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ وَالرِّبَا وَسَائِرَ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَرَوْنَهَا دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُدُوثِ الْفَتْوَى بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَكَوْنِهَا بِدْعَةً أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِآثَارِ السَّلَفِ وَأَيَّامِ الْإِسْلَامِ وَتَرْتِيبِ طَبَقَاتِ الْمُفْتِينَ وَالْحُكَّامِ وَيُسْتَبَانُ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ. مِنْهَا: أَنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَضَايَاهُمْ لَيْسَ فِيهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانُوا يُفْتُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ غَيْرُهُ، وَاَلَّذِينَ صَنَّفُوا فِي الْحِيَلِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ حَرَصُوا عَلَى أَثَرٍ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ التَّعْرِيضِ وَاللَّحْنِ، وَقَوْلُهُمْ إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ، وَالْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُكْذَبَ ظَرِيفٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي قُلْنَا إنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَلَا مِنْ جِنْسِهَا، فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالتَّأْوِيلِ فِي الْكَلَامِ، وَفِي الْحَلِفِ لِلْمَظْلُومِ بِأَنْ يَنْوِيَ بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ صلى الله عليه وسلم، وَكَمَا فَعَلَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي
حَلَفَ أَنَّهُ أَخُوهُ وَعَنَى أَخُوهُ فِي الدِّينِ، وَكَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ ". وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْكَافِرِ الَّذِي سَأَلَهُ مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَمْرٌ جَائِزٌ.
وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بِسَبِيلٍ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَمَ عَنْ الْمُخَاطَبِ مَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ، أَوْ فَهَّمَهُ خِلَافَ مَا فِي نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا عَنَاهُ وَالْمُخَاطَبُ ظَالِمٌ فِي تَعَرُّفِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَكُونُ جَهْلُهُ بِهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَهَذَا فِعْلُ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَمَعَ الْمُخَاطَبِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ عَقِيبَ هَذَا الْوَجْهِ وَاَلَّذِي يَلِي هَذَا ذِكْرُ أَقْسَامِ الْحِيَلِ، وَأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ الْمَأْثُورَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الْمَعَارِيضِ جَائِزٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ الْحِيَلِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا الَّتِي مَضْمُونُهَا الِاحْتِيَالُ عَلَى مُحَرَّمٍ، إمَّا بِسَبَبٍ لَا يُبَاحُ بِهِ قَطُّ، أَوْ يُبَاحُ بِهِ إذَا قُصِدَ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَقْصُودُهُ الْأَصْلِيُّ وَكَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ، أَوْ الِاحْتِيَالُ عَلَى مُبَاحٍ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ أَوْ الِاحْتِيَالُ عَلَى مُحَرَّمٍ بِحَرَامٍ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأُصُولَ، فَهَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي قُلْنَا لَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يُفْتِي بِهَا، أَوْ يَعْلَمُهَا بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْهَا.
وَأَمَّا تَعْرِيفُ الطَّرِيقِ الَّذِي يَنَالُ بِهِ الْحَلَالُ، وَالِاحْتِيَالُ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الْمَأْثَمِ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ يَقْصِدُ بِهِ مَا شُرِعَ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانُوا يُفْتُونَ بِهِ وَهُوَ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْخَيْرِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ:«بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» . وَكَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " إنَّ أَوْرَاقَنَا تُزَيَّفُ عَلَيْنَا أَفَنَزِيدُ عَلَيْهَا وَنَأْخُذُ مَا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهَا قَالَ: لَا، وَلَكِنْ ائْتِ النَّقِيعَ فَاشْتَرِي بِهَا سِلْعَةً، ثُمَّ بِعْهَا بِمَا شِئْت. وَكَمَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: " إذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ دَرَاهِمُ لَا تُنْفَقُ فَلْيَبْتَعْ بِهَا ذَهَبًا وَلْيَبْتَعْ بِهِ مَا شَاءَ " رَوَاهُمَا سَعِيدٌ.
فَهَذَا يَبِيعُ بَيْعًا بَتَاتًا مَقْصُودًا، وَيَسْتَوْفِي الثَّمَنَ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِهِ مَا أَحَبَّ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُمْ كَرِهُوهُ حَيْثُ يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يَبْتَاعَ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ، وَرَخَّصَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ، وَالْبَيْعُ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِحُصُولِ الْمِلْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْبَائِعِ فِيهِ عَلَاقَةٌ فَإِذَا سَلَكَ
وَقَصَدَ بِهِ ذَلِكَ، فَهَذَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ إيضَاحُ ذَلِكَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ نَصَبَ الشَّارِعُ إلَى الْأَحْكَامِ أَسْبَابًا يُقْصَدُ بِهَا مَحْصُولُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، فَمَنْ دَلَّ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهَا مِمَّنْ يَقْصِدُ الْحَلَالَ لِيَقْصِدَ بِهَا الْمَقْصُودَ الَّذِي جُعِلَتْ مِنْ أَجْلِهِ، فَهَذَا مُعَلِّمُ خَيْرٍ، وَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَ هَذَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ حِيلَةَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا شُرِعَ لَهُمْ، فَيَسْلُكُوا فِي حُصُولِ الشَّيْءِ الطَّرِيقَ الَّذِي يُشْرَعُ لِتَحْصِيلِهِ دُونَ مَا لَمْ يَقْصِدْ الشَّارِعُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْكِ أَحَدٌ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْحِيَلِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْإِفْتَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الِاسْتِحْلَالُ بِالطُّرُقِ الْمُدَلَّسَةِ الَّتِي لَا يُقْصَدُ بِهَا الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَسَنُطِيلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الطُّرُقِ الْمُبَيَّنَةِ وَالطُّرُقِ الْمُدَلَّسَةِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ مُخَادَعَةِ الظَّالِمِ لِلْخَلَاصِ مِنْهُ وَمُخَادَعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي دِينِهِ، لِئَلَّا يُظَنَّ بِمَا يُحْكَى عَنْهُمْ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ وَمَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُفْتُوا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لَهَا لَوْ كَانَتْ جَائِزَةً فَقَدْ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِهَا وَالْإِنْكَارِ لَهَا فِي قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمْصَارٍ مُتَبَايِنَةٍ يُعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ إنْكَارَهَا كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ هَذَا الْإِنْكَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى إنْكَارِهَا وَتَحْرِيمِهَا وَهَذَا أَبْلَغُ فِي كَوْنِهَا بِدْعَةً مُحْدَثَةً فَإِنَّ أَقْبَحَ الْبِدَعِ مَا خَالَفَتْ كِتَابًا، أَوْ سُنَّةً، أَوْ إجْمَاعًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ مَا زَالَ وَاقِعًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ وَمَا زَالَ الْمُطَلِّقُونَ يَنْدَمُونَ، وَيَتَمَنَّوْنَ الْمُرَاجَعَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْصَحُ النَّاسِ لِأُمَّتِهِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يُحَلِّلُهَا لَأَوْشَكَ أَنْ يَدُلُّوا عَلَيْهِ وَلَوْ وَاحِدًا، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ إذَا تَوَافَرَتْ عَلَى طَلَبِ فِعْلٍ وَهُوَ مُبَاحٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ الزَّجْرُ عَنْهُ، عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ.
وَهَذِهِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهَا، وَجَعَلَتْ تَخْتَلِفُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ إلَى خَلِيفَتِهِ تَتَمَنَّى مُرَاجَعَةَ رِفَاعَةَ وَهُمْ يَزْجُرُونَهَا عَنْ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ فَلَا
يُطَلِّقُهَا، وَكَانَتْ رَاغِبَةً فِي رِفَاعَةَ، فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ مُمْكِنًا لَكَانَ أَنْصَحُ الْأُمَّةِ لَهَا يَأْمُرُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمُحَلِّلٍ، فَإِنَّهَا لَنْ تَعْدَمَ أَنْ تُبَيِّتَهُ عِنْدَهَا لَيْلَةً وَتُعْطِيَ شَيْئًا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمَ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ذِكْرُ قِصَّتِهَا.
وَمَنْ لَمْ تَسَعْهُ السُّنَّةُ حَتَّى تَعَدَّاهَا إلَى الْبِدْعَةِ مَرَقَ مِنْ الدِّينِ وَمَنْ أَطْلَقَ لِلنَّاسِ مَا لَمْ يُطْلِقْهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْإِطْلَاقِ، فَقَدْ جَاءَ بِشَرِيعَةٍ ثَانِيَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلرَّسُولِ، فَلْيَنْظُرْ امْرُؤٌ أَيْنَ يَضَعُ قَدَمَهُ، وَكَذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ كَانَتْ التِّجَارَةُ فِيهِمْ فَاشِيَةً وَالرِّبْحُ مَطْلُوبٌ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ الَّتِي تَقْصِدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ مِنْ رِبْحِ دَرَاهِمَ فِي دَرَاهِمَ بِاسْمِ الْبَيْعِ جَائِزٌ، وَلَا شَكَّ أَنْ يُفْتُوا بِهَا، وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاعُ لِحِلِّ الْيَمِينِ وَبِالْجُمْلَةِ الْأَسْبَابُ الْمُحْوِجَةُ إلَى هَذِهِ الْحِيَلِ مَا زَالَتْ مَوْجُودَةً، فَلَوْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً لَنَبَّهَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهَا فَلَمَّا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِنْكَارُ بِحَقِيقَتِهَا مَعَ وُجُودِ الْحَاجَةِ فِي زَعْمِ أَصْحَابِهَا إلَيْهَا، عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ، وَهَذَا قَاطِعٌ لَا خَفَاءَ بِهِ لِمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ، أَوْ مَا ظَهَرَ الْإِفْتَاءُ بِهَا فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، مِثْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَمِثْلُ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ، وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قُضَاةِ الْكُوفَةِ.
وَتَكَلَّمَ عُلَمَاءُ ذَلِكَ الْعَصْرِ مِثْلُ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَابْنِ عَوْنٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، وَالسُّفْيَانَيْنِ، وَالْحَمَّادَيْنِ، وَمَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي الدِّينِ، وَتَوَسَّعُوا فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ لَا يُقَالُ مِثْلُهُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ بِدْعَةٍ لَا تُعْرَفُ دُونَ مَنْ أَفْتَى بِمَا كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ تُفْتِي بِهِ، أَوْ بِحَقٍّ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ، وَأَمْثَالَهُمْ هُمْ سُرُجُ الْإِسْلَامِ، وَمَصَابِيحُ الْهُدَى، وَأَعْلَامُ الدِّينِ، وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ أَهْلِ وَقْتِهِمْ، وَأَعْلَمَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِالسُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ وَأَفْقَهَ فِي الدِّينِ، وَأَرْوَعَ فِي الْمَنْطِقِ، وَقَدْ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَيَقُولُونَ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ.
فَلَمَّا اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْحِيَلَ عُلِمَ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ
هَذِهِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ، وَفِي كَلَامِهِمْ دَلَالَاتٌ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ وَصْفِهِمْ مَنْ كَانَ يُفْتِي بِذَلِكَ بِأَنَّهُ يَقْلِبُ الْإِسْلَامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَيَتْرُكُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ الثَّوْبِ السَّابِرِيِّ، وَيَنْقُضُ الْإِسْلَامَ عُرْوَةً عُرْوَةً إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَكَانَ أَعْظَمُ مَا أَنْكَرُوا عَلَى الْمُتَوَسِّعِ فِي الرَّأْيِ مُخَالَفَةَ الْأَحَادِيثِ وَالْإِفْتَاءِ بِالْحِيَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى لَا يُخَالِفُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْدًا، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، أَوْ لِنِسْيَانِهِ إيَّاهُ وَذُهُولِهِ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ، أَوْ لِعَدَمِ تَفَطُّنِهِ لِوَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ، أَوْ لِقِلَّةِ اعْتِنَائِهِ بِمَعْرِفَتِهِ، أَوْ لِنَوْعِ تَأْوِيلٍ يَتَأَوَّلُهُ عَلَيْهِ، أَوْ ظَنِّهِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا مِنْ الْفُقَهَاءِ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ بَعْضُ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُنْكِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ فِي الْمَاضِينَ الْإِفْتَاءَ بِالْحِيَلِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الرَّأْيِ تَصْرِيحٌ، أَنَّهُ قَالَ: مَا نَقَمُوا عَلَيْنَا مِنْ أَنَّا عَمَدْنَا إلَى أَشْيَاءَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ فَاحْتَلْنَا فِيهَا حَتَّى صَارَتْ حَلَالًا.
وَقَالَ آخَرَانِ: إلَّا احْتَلْنَا لِلنَّاسِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً احْتَالَ عَلَى هَذَا فِي قَضِيَّةٍ جَرَتْ لَهُ مَعَ رَجُلٍ وَلَمَّا وَضَعَ بَعْضُ النَّاسِ كِتَابًا فِي الْحِيَلِ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ، لِذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ مَرْوَانَ كَانَتْ امْرَأَةٌ هَاهُنَا تَمُرُّ وَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَلِعَ مِنْ زَوْجِهَا فَأَبَى زَوْجُهَا عَلَيْهَا، فَقِيلَ: لَهَا لَوْ ارْتَدَدْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَبِنْتِ مِنْ زَوْجِكِ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - وَقِيلَ لَهُ: إنَّ هَذَا كِتَابُ الْحِيَلِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ وَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ شَفِيقِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ إنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ فَذَكَرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغْضَبٌ:" أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ، أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ بِهِ، أَوْ هَوِيَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ". ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا " أَرَى الشَّيْطَانَ كَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَا حِينَئِذٍ، أَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ ".
وَقَالَ إِسْحَاقُ الطَّالَقَانِيُّ قِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ هَذَا وَضَعَهُ إبْلِيسُ يَعْنِي كِتَابَ الْحِيَلِ، فَقَالَ إبْلِيسُ مِنْ الْأَبَالِسَةِ وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: فِي كِتَابِ الْحِيَلِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، أَوْ ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً كُلُّهَا كُفْرٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: قَالَ شَرِيكٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِيَ الْكُوفَةِ الْإِمَامَ الْمَشْهُورَ - وَذُكِرَ لَهُ كِتَابَ الْحِيَلِ - قَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ.
وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَهُوَ كَذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ كِتَابُ الْفُجُورِ.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: الْقَاسِمُ بْنُ مَعْنٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَاضِيَ الْكُوفَةِ أَيْضًا - كِتَابُكُمْ هَذَا الَّذِي وَضَعْتُمُوهُ فِي الْحِيَلِ كِتَابُ الْفُجُورِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ سَابُورٍ: إنَّ الرَّجُلَ لَا يَأْتِي الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحِيَلِ فَيُعَلِّمُهُ الْفُجُورَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ سَمِعْت أَيُّوبَ يَقُولُ: وَيْلَهُمْ مَنْ يَخْدَعُونَ - يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ سَمِعْت يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ يَقُولُ: لَقَدْ أَفْتَى - يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِيَلِ - فِي شَيْءٍ لَوْ أَفْتَى بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَانَ قَبِيحًا أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي حَلَفْتُ أَنْ لَا أُطَلِّقَ امْرَأَةً بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّهُمْ قَدْ بَذَلُوا إلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا قَالَ فَقَبِّلْ أُمَّهَا، قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً.
وَقَالَ جَيْشُ بْنُ سِنْدِي سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي جَارِيَةً ثُمَّ يُعْتِقُهَا مِنْ يَوْمِهِ وَيَتَزَوَّجُهَا أَيَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ، قَالَ: كَيْفَ يَطَؤُهَا مِنْ يَوْمِهِ هَذَا وَقَدْ وَطِئَهَا ذَلِكَ بِالْأَمْسِ هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْحِيلَةِ وَغَضِبَ وَقَالَ هَذَا أَخْبَثُ قَوْلٍ.
رَوَاهُنَّ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي الْعِلْمِ، عَنْ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: مَنْ كَانَ كِتَابُ الْحِيَلِ بِبَيْتِهِ يُفْتِي بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السَّدُوسِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى.
وَقَالَ رَجُلٌ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَفْتَيْتُ رَجُلًا فِي يَمِينٍ حَلَفْت بِهَا فَقَالَ لِي: إنْ فَعَلْت ذَلِكَ حَنِثْت وَأَنَا أَحْتَالُ لَك حَتَّى تَفْعَلَ، وَلَا تَحْنَثَ فَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: تَعْرِفُ الرَّجُلَ، قَالَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ارْجِعْ فَاسْتَثْبِتْهُ فَإِنِّي أَحْسَبُهُ شَيْطَانًا تَشَبَّهَ لَك فِي صُورَةِ إنْسَانٍ رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَطَّةَ فِي مَسْأَلَةِ خُلْعِ الْيَمِينِ.
وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِيَالَ عَلَى
تَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، وَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ وَحِلِّ الرِّبَا، وَإِسْقَاطِ الْكَفَّارَاتِ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالْأَيْمَانِ وَحِلِّ السِّفَاحِ وَفَسْخِ الْعُقُودِ وَفِيهِ الْكَذِبُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَإِبْطَالُ الْحُقُوقِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَقْبَحِ مَا فِيهِ الِاحْتِيَالُ لِمَنْ أَرَادَتْ فِرَاقَ زَوْجِهَا بِأَنْ تَرْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَيَعْرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَلَا تُسْلِمَ فَتُحْبَسَ وَيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ ثُمَّ تَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ بَلْ بَعْضُهَا كُفْرٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الْأَمْرُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ هِيَ كُفْرٌ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ جَاهِلٌ بِأُصُولِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْحِيلَةُ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى أَصْلِ بَعْضِهِمْ بِحَيْثُ لَا يُبْطِلُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْحِيلَةِ شَيْءٌ وَعَدَمَ إبْطَالِهَا بِمَنْ يَفْعَلُهَا شَيْءٌ آخَرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفَقِيهِ لَا يُبْطِلُهَا أَنْ يُبِيحَهَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُقُودِ يُحَرِّمُهَا الْفَقِيهُ، ثُمَّ لَا يُبْطِلُهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَرْضِيُّ عِنْدَنَا إبْطَالَ الْحِيلَةِ وَرَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا حَيْثُ أَمْكَنَ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحِيلَةِ، وَإِبْطَالِهَا. وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هُنَا أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ الَّتِي هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَى إمَامٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِ وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي الْأُمَّةِ حَيْثُ ائْتَمُّوا بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ وَفِي ذَلِكَ نِسْبَةٌ لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ إلَى تَكْفِيرٍ، أَوْ تَفْسِيقٍ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْأَمْرُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْحِيلَةِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْحِكَايَةُ بَاطِلَةً، أَوْ يَكُونَ الْحَاكِي لَمْ يَضْبِطْ الْأَمْرَ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ إنْفَاذُهَا بِإِبَاحَتِهَا، وَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِبَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَمْ يَمُتْ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ الْخُرُوجُ عَنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْقَوْلُ بِفِسْقِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَوْ كُفْرِهِ وَكِلَا هَذَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ هَذَا لَعَمْرِي فِي الْحِيَلِ الَّتِي يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا أَمْرًا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ كُفْرًا بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلُ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا فَتُؤْمَرَ بِالرِّدَّةِ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ وَذَلِكَ أَنَّهَا إنْ ارْتَدَّتْ. فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّكَاحَ يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النِّكَاحَ يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنْ عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَدَّةَ يَجِبُ قَتْلُهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، إذَا لَمْ تَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ تُضْرَبُ وَتُحْبَسُ، وَلَا تُقْتَلُ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذَا ارْتَدَّتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَلَا تُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ الِامْتِنَاعِ، ثُمَّ إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَمْرُ وَلَا الْإِذْنُ فِي التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ، بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا فَيَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ إنَّ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَشَدُّ، فَإِنَّ لَهُمْ مِنْ الْكَلِمَاتِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَرَوْنَ أَنَّهَا كُفْرٌ مَا هُوَ دُونَ الْأَمْرِ بِالْكُفْرِ، حَتَّى إنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسْلِمَ، فَقَالَ: اصْبِرْ سَاعَةً فَقَدْ كَفَّرُوهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ سَاعَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ غَيْرُ الْكُفْرِ، فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ بِإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ الَّتِي هِيَ أَغْلَظُ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ.
فَعَلِمْت أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِنْتَ أَبِي رَوْحٍ بِالِارْتِدَادِ لَمْ يَكُونُوا مُقْتَدِينَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَنْفُذُ إلَّا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِكَوْنِهَا لَا تُقْتَلُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَنْفُذُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَيْضًا وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إذَا لَمْ تَظْهَرْ الْحِيلَةُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَشَدِّ الْمَذَاهِبِ تَغْلِيظًا لِمِثْلِ هَذَا وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ الْمَذَاهِبِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْكُفْرِ.
وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى بَعْضُ الْفَسَقَةِ أَنَّهَا إذَا ارْتَدَّتْ حَصَلَ غَرَضُهَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ دَلَّهَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّلَالَةُ مِنْ الْمَذْهَبِ، كَمَا أَنَّ الْفَاجِرَ قَدْ يَأْمُرُ الشَّخْصَ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ، أَوْ شَهَادَةِ زُورٍ لِيَحْصُلَ بِهَا غَرَضُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالْحَاكِمُ مَعْذُورٌ بِإِنْفَاذِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ لَا يَسْتَجِيزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ قَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ فِي الْفُرُوعِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْأُصُولِ مَعَ بَرَاءَةِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أُولَئِكَ الْأَتْبَاعِ، وَهَذَا مَشْهُورٌ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْ انْتَسَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفُرُوعِ مَعَ أَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا مِنْ أَبْرَإِ النَّاسِ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا.
وَقَالَ نُوحٌ الْجَامِعُ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ، فَقَالَ: كَلَامُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَيْك بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَدَعْ مَا أُحْدِثَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَأَرَادَ أَبُو يُوسُفَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ لَمَّا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ حَتَّى فَرَّ مِنْهُ وَهَرَبَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ وَأَنَّهَا تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ، وَذَكَرَ كَلَامًا فِيهِ طُولٌ لَا يَحْضُرُنِي هَذِهِ السَّاعَةَ يَرُدُّ بِهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ.
وَمَا زَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِهِ يُنَابِذُونَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَقَدْ كَانَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ رَأْسُ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُد قَاضِي الْقُضَاةِ، وَنُظَرَاؤُهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ يَنْتَسِبُونَ فِي الْفُرُوعِ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُمْ الَّذِينَ أَوْقَدُوا نَارَ الْحَرْبِ حَتَّى جَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ الْمِحْنَةُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى تَعْطِيلِ الصِّفَاتِ وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
فَلَعَلَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَمَرُوا بِنْتَ أَبِي رَوْحٍ بِالِارْتِدَادِ عَنْ الْإِسْلَامِ كَانُوا مِنْ هَذَا النَّمَطِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الزَّمَانُ قَبْلَ زَمَانِ الْمِحْنَةِ بِقَلِيلٍ وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِأَحْوَالِ بَعْضِ الْمُتَرَائِسِينَ بِالْعِلْمِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ، عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي أَشْيَاءَ لَا يَجُوزُ إضَافَتُهَا إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، فَتَكْفِيرُ السَّلَفِ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَى مِثْلِ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِينَ أَمَرُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهَا فُجُورٌ وَنَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ، فَهَذَا الْكَلَامُ كَانَ فِي بَعْضِ الْحِيَلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مَعَ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَئِمَّةِ الْكُوفِيِّينَ، مِثْلِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ، وَمِثْلِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَهَؤُلَاءِ قُضَاةُ الْكُوفَةِ، وَحَفْصٌ بَعْدَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَصْلَ الْحِيَلِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا بَيَانَ أَعْيَانِ الْحِيَلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُعْذَرُ فِيهِ الْمُفْتِي فِي الْجُمْلَةِ وَمَا لَا يُعْذَرُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيَلَ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْإِفْتَاءَ بِهَا إنَّمَا وَقَعَ مُتَأَخِّرًا، وَأَنَّ بَقَايَا السَّلَفِ أَعْظَمُوا الْقَوْلَ فِيمَنْ أَفْتَى بِهَا إعْظَامَهُمْ الْقَوْلَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَوْ كَانَ جِنْسُهَا مَأْثُورًا عَمَّنْ سَلَفَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ، فَمَا لَهَا مَسَاغٌ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَلَا يُنْكِرُونَ مَا فَعَلَتْهُ
الصَّحَابَةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى اسْتِكْرَاهٍ شَدِيدٍ مِنَّا لِمَا يُشْبِهُ الْعِينَةَ فَضْلًا عَنْ الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَلَكِنَّ وُجُوبَ النَّصِيحَةِ اضْطَرَّنَا إلَى أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى مَا عِيبَ عَلَى بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْحِيَلِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَسْمَعُ كَلِمَاتِ الْعُلَمَاءِ الْغَلِيظَةَ قَدْ لَا يَعْرِفُ مَخْرَجَهَا، وَكَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَرْوُونَهَا رِوَايَةَ مُتَشَفٍّ مُتَعَصِّبٍ، مَعَ أَنَّهُمْ دَائِمًا يَفْعَلُونَ فِي الْفُتْيَا أَقْبَحَ مِمَّا عِيبَ بِهِ مَنْ عِيبَ مَعَ كَوْنِ أُولَئِكَ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ وَأَتْقَى، وَلَوْ عَلِمَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ وَهَدِيَ رُشْدَهُ لَكَانَ اعْتِبَارُهُ بِمَنْ سَلَفَ يَكْفِهِ عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي أَقْبَحَ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ، وَلَكَانَ شُغْلُهُ بِصَلَاحِ نَفْسِهِ اسْتِغْفَارًا وَشُكْرًا شَغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ عُيُوبِ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِفَاءِ وَالِاعْتِصَابِ.
وَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُخَالِفُ الْمَشْرِقِيِّينَ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَيَرَى أَنَّهُ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْأَثَرِ، وَآخَذُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الْحِيَلِ وَيُرِقُّ الدِّينَ وَيَنْقُضُ عُرَى الْإِسْلَامِ، وَيَفْعَلُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا، أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْكَى عَنْهُمْ حَتَّى دَبَّ هَذَا الدَّاءُ إلَى كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْحِيَلِ تَلَطَّخُوا بِهَا، فَأَدْخَلَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَذَكَرُوا طَائِفَةً مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ بِأَعْيَانِهَا مِنْ أَشَدِّ مَا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى الْمَشْرِقِيِّينَ، وَحَتَّى اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ خُلْعِ الْيَمِينِ وَصِحَّةَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَجَوَازَ بَعْضِ الْحِيَلِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ الْأَعْيَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّغَ بَعْضَ الْحِيَلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، مَعَ رَدِّهِ عَلَى أَصْحَابِ الْحِيَلِ، وَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ قَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى إبْطَالِ الْحِيلَةِ فِيهَا إلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ، وَكَثُرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، وَتَوَسَّعَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا تَوَسُّعًا تَدُلُّ أُصُولُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى خِلَافِهِ، وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ تَزَلْزَلَ فِيهَا تَزَلْزُلَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُ بَعْضِهَا، وَحَتَّى صَارَ مَنْ يُفْتِي بِهَا كَأَنَّهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، أَوْ صِفَةَ الصَّلَاةِ لَا يُبَيِّنُ الْمُسْتَفْتِيَ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ أَكْثَرِهِمْ، وَعِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ رضي الله عنهم، وَحَتَّى أَلْقَوْا فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهَا حَلَالٌ، وَأَنَّهَا مِنْ دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَتَجِدُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ يَكْرَهُهَا وَيَنْفِرُ قَلْبُهُ مِنْهَا، وَالْمُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَقُولُ لَهُ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا جَائِزٌ، وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ أَكْثَرِهَا الْكَرَاهَةُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اتِّفَاقَهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْلِيلِ الْمُتَوَاطَإِ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ غَايَةَ مَا يَبْلُغُك مِنْ الْكَلِمَاتِ الشَّدِيدَةِ فِي بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ أَصْلَ ذَلِكَ قَاعِدَةُ الْحِيَلِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ دَائِمًا تُنْكِرُهَا لَا سِيَّمَا قُلُوبَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْوِلَايَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَيَجِدُونَ يَنْبُوعَهَا مِنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ، فَيَتَكَلَّمُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ مَنْشَأُ هَذِهِ الْحِيَلِ مِنْ الْيَهُودِ صَارَ الْغَاوِي مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ مُتَشَبِّهًا بِهِمْ، وَصَارَ أَهْلُ الْحِيَلِ تَعْلُوهُمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ لِمُشَارَكَتِهِمْ الْيَهُودَ فِي بَعْضِ أَخْلَاقِهِمْ، ثُمَّ قَدْ اسْتِطَارَ شَرُّ هَذِهِ الْحِيَلِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الدِّينِ وَصَارَتْ مَعْرُوفَةً، وَرَدُّهَا مُنْكَرًا عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ أُمُورَ الْإِسْلَامِ وَأُصُولَهُ، وَكُلَّمَا رَقَّ دِينُ بَعْضِ النَّاسِ وَاسْتَخَفَّ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْحُكَّامِ وَالشَّرْطِيِّينَ وَالْمُفْتِي أَحْدَثَ حِيلَةً بَعْدَ حِيلَةٍ وَأَكْثَرُهَا مِمَّا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِهَا، مِثْلُ تَلْقِينِ الشُّرَطِيِّ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُمَلِّكَ ابْنَهُ أَوْ غَيْرَهُ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ إقْرَارًا، أَوْ يَجْعَلَهُ بَيْعًا، وَيُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِنَقْضِ الثَّمَنِ.
وَهَذَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ يَضُرُّ الْوَرَثَةَ، وَمَقْصُودُهُمْ أَنْ لَا يُمْكِنَ فَسْخُهُمْ بِمَا تُفْسَخُ بِهِ الْهِبَاتُ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَكْتُبُ عِنْدَهُ كَتَبَ بَعْضَهَا أَنَّهُ مِلْكٌ لِابْنِهِ، وَبَعْضَهَا أَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ، وَيُخْرِجُ كُلَّ كِتَابٍ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَحَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ يَتَوَرَّعُ مِنْ الشُّهُودِ يَحْسَبُ أَنْ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ مِنْ عَقْدٍ أَوْ إقْرَارٍ، أَوْ حُكْمٍ حَرَامٌ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ» . وَمِثْلُ مَا أَحْدَثَ بَعْضُ الْحُكَّامِ الدَّعْوَى الْمَرْمُوزَةَ الْمُسَخَّرَةَ.
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا بَعْضُ قُضَاةِ الشَّامِ قَبْلَ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَبَعْدَ الْخَامِسَةِ، فَصَارُوا يَقُولُونَ حَكَمَ بِكَذَا، وَثَبَتَ عِنْدَهُ كَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ خَصْمَيْنِ مُدَّعٍ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ جَازَ حُضُورُهُمَا، وَاسْتِمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مَعَ الْقَطْعِ وَالْعِلْمِ الْيَقِينِ بِأَنَّ الْحَاضِرَيْنِ لَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ، فَإِنَّ الْخَصْمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ، بَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْحَقُّ وَذَاكَ الْحَاضِرُ لَوْ لَمْ يُجَبْ لَادَّعَى عَلَى آخَرَ، وَآخَرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مُطَالَبَتَهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ وَاحِدٌ يَقُولُ بِلِسَانِهِ لَا حَقَّ لَك
قِبَلِي، أَوْ لَا أَعْلَمُ صِحَّةَ مَا تَدَّعِيهِ، فَتَكُونُ صُورَتُهُ صُورَةَ الْخَصْمِ الْمَطْلُوبِ.
وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِئُ أَوَّلًا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ صُورَتُهُ صُورَةُ الدَّعْوَى وَالطَّلَبِ، وَلَيْسَ هُوَ مُدَّعِيًا عَلَى ذَلِكَ الْآخَرِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ جَازَ اسْتِمَاعُ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ أَقْبَحِ الْقَوْلِ فِي دِينِ اللَّهِ، أَتَرَى اللَّهَ أَجَازَ أَنْ أَسْتَمِعَ دَعْوَى وَأَجْعَلَهَا دَعْوَى صَحِيحَةً شَرْعِيَّةً قَدْ عَلِمْت بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ قَائِلَهَا لَا يَدَّعِي شَيْئًا وَلَا يَطْلُبُ مِنْ ذَلِكَ الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا أَتَى أَمْرُهُ بِصُورَةِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ، وَأُعَيِّنَ لَهُ مَنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْوُكَلَاءِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالدَّعَاوَى، وَلَوْ سُلِكَتْ الطَّرِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَاسْتُغْنِيَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَابٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ، إلَّا وَقَدْ فَتَحَهُ الشَّارِعُ لَهُمْ.
وَمِنْ أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ احْتِجَاجُ بَعْضِ أَهْلِ الشُّرَطِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، بِقَوْلِ أَحَدِ الْمَلَكَيْنِ عليهما السلام:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23]- الْآيَةَ وَتِلْكَ لَيْسَتْ خُصُومَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ثُبُوتٌ، أَوْ حُكْمٌ فِي دَمٍ، أَوْ مَالٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِثْلُ ضَرْبٍ لِتَفْهِيمِ دَاوُد عليه السلام، وَلِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ الْخُصُومَاتِ الْمَضْرُوبَةِ أَمْثَالًا مَا شَاءَ. أَمَّا تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا وَذِكْرُ أَنَّ أَصْحَابَهَا خَصْمٌ مُحَقَّقٌ أَجَازَ الشَّارِعُ اسْتِمَاعَ الدَّعْوَى مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَوْلُهُ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَذِبَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمَ.
وَمِنْ الْحِيَلِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي لَا أَعْلَمُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الطَّوَائِفِ خِلَافًا فِي تَحْرِيمِهَا أَنْ يُرِيدَ الرَّجُلُ أَنْ يَقِفَ شَيْئًا عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَاتٍ مُتَّصِلَةٍ، فَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ: أَقِرَّ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي بِيَدِك وَقْفٌ عَلَيْك مِنْ غَيْرِك، وَيُعَلِّمُونَهُ الشُّرُوطَ الَّتِي يُرِيدُ إنْشَاءَهَا فَيَجْعَلُونَهَا إقْرَارًا. فَيُعَلِّمُونَهُ الْكَذِبَ فِي الْإِقْرَارِ، وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِهِ، وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ، وَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي أَنَّ هَذَا حَرَامٌ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يُلَقَّنُ شَهَادَةَ زُورٍ، ثُمَّ إنْ كَانَ وَقْفُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا فِي دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَقَدْ عَلَّمْنَاهُ حَقِيقَةَ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا قَبْلَ الْإِقْرَارِ، وَلَا صَارَ وَقْفًا بِالْإِقْرَارِ بِالْكَذِبِ، فَيَصِيرُ الْمَالُ حَرَامًا عَلَى مَنْ يَتَنَاوَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ وَقْفُهُ صَحِيحًا، فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ تَكَلُّفِ الْكَذِبِ بَلْ لَوْ وَقَفَهُ
عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ لِصِحَّتِهِ مَسَاغٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَقْفِهِ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءٍ مُتَقَدِّمٍ، فَلَا يَجْعَلُهُ وَقْفًا بِالِاتِّفَاقِ، إذْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ إقْرَارًا حَقِيقِيًّا.
وَلَهُمْ حِيلَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْوَقْفَ يُمَلِّكُهُ لِبَعْضِ ثِقَاتِهِ، ثُمَّ يَقِفُهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي قُبْحِهِ وَبُطْلَانِهِ، فَإِنَّ حَدَّ التَّمْلِيكِ: أَنْ يَرْضَى الْمُمَلِّكُ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا يُحِبُّ مِمَّا يَجُوزُ، وَهُنَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَخَلْقُهُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُمَلَّكُ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَيْهِ خَاصَّةً عَلَى شُرُوطِهِ، بَلْ قَدْ مَلَّكَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَقْفًا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ فَاسِدٌ. بَلْ لَيْسَ هُوَ هِبَةً وَتَمْلِيكًا أَصْلًا، فَإِنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ الْهِبَةِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَوْهُوبِ وَلَوْ إلَى حِينٍ، وَهُنَا لَمْ يُبِحْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَطُّ وَلَوْ تَصَرَّفَ مِنْهُ بِشَيْءٍ لَعَدَّهُ غَادِرًا مَاكِرًا، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْعَوْدُ إلَى الْمُعْمِرِ، فَإِنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَشَرَطَ الْعَوْدَ، وَهُنَا لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا قَطُّ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعْنَاهُ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ.
وَقَدْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقَانِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْخِدَاعِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقِفَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَثْنِيَ الْمَنْفَعَةَ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَمْلُوكِ مَعَ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهِ فَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ، أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَتِهِ.
وَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَقِفَ الشَّيْءَ وَيَسْتَثْنِيَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، أَوْ إلَى حِينِ مَوْتِهِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ بَعِيرِ جَابِرٍ. وَبِحَدِيثِ عِتْقِ أُمِّ سَلَمَةَ، سَفِينَةً. وَبِحَدِيثِ عِتْقِ صَفِيَّةَ رضي الله عنها وَبِآثَارٍ عَنْ السَّلَفِ فِي الْوَقْفِ مَعَ قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْقِيَاسِ.
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَلَكِنَّ أَخْذَ الْإِنْسَانِ بِمِثْلِ هَذَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا فِيهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ وَخِدَاعٌ وَزُورٌ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ نُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْحِيَلُ فَأَمْرٌ مُحْدَثٌ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا، وَإِعْظَامِ الْقَوْلِ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، فَإِذَا قَلَّدَ الْإِنْسَانُ مَنْ يُفْتِي بِهَا
فَلَهُ ذَلِكَ، وَالْإِنْكَارُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ غَيْرُ سَائِغٍ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ كَانَ مُتَقَيِّدًا بِمَذْهَبِ مَنْ يُرَخِّصُ فِيهَا -، أَوْ قَدْ تَفَقَّهَ فِيهَا وَرَأَى الدَّلِيلَ يَقْتَضِي جَوَازَهَا، وَقَدْ شَاعَ الْعَمَلُ بِهَا عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَالْقَوْلُ بِهَا مَعْزُوًّا إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنهما، وَمَا قَالَهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لَا يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ الْبَلِيغُ فِيهِ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجَوِّزِينَ لَهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَقَدْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مُتَابَعَةُ مَذْهَبِهِمْ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَلْفِ وَالِاعْتِيَادِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَهَبْ هَذَا الِاعْتِقَادَ بَاطِلًا أَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَ فَضْلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَمَكَانَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالتَّقْوَى وَكَوْنَ بَعْضِهِمْ أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ؟ فَإِذَا قَلَّدَ الْعَامِّيُّ، أَوْ الْمُتَفَقِّهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ، أَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ يُقَلِّلُ فِيهِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ هُوَ الْمَذْهَبَ الَّذِي الْتَزَمَهُ، فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ لَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ.
وَهَذَا إنْ قِيلَ كَانَ فِيهِ طَعْنٌ عَلَى الْأَئِمَّةِ لِمُخَالَفَةِ الْقَوَاطِعِ وَهَذَا قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِمْ، وَحَاشَا اللَّهَ أَنْ يَقُولُوا مَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذَا. ثُمَّ قَدْ يَقْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُقَابَلَةِ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا مِمَّنْ يَحْمِلُهُ هَوَى دِينِهِ، أَوْ دُنْيَاهُ عَلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَرُكُوبٌ لِلتَّفَرُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَحِينَئِذٍ فَتَصِيرُ مَسَائِلُ الْفِقْهِ مِنْ بَابِ الْأَهْوَاءِ وَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ، مَعَ بَقَاءِ الْأُلْفَةِ وَالْعِصْمَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
قُلْنَا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا يَقْضِي إلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ الْأَئِمَّةِ، أَوْ انْتِقَاصٍ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِمَقَادِيرِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، أَوْ مُحَادَّتِهِمْ وَتَرْكِ مَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، وَنَرْجُو مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ وَيُوَالِيهِمْ وَيَعْرِفُ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَفَضْلِهِمْ مَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ الْأَتْبَاعِ، وَأَنْ يَكُونَ نَصِيبُنَا مِنْ ذَلِكَ أَوْفَرَ نَصِيبٍ وَأَعْظَمَ حَظٍّ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
لَكِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ فَضْلِ الْأَئِمَّةِ وَحُقُوقِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ، وَتَرْكُ كُلِّ مَا يَجُرُّ إلَى ثَلْمِهِمْ.
وَالثَّانِي: النَّصِيحَةُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَإِبَانَةُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى.
وَلَا مُنَافَاةَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْقِسْمَيْنِ لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ، وَإِنَّمَا يَضِيقُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ جَاهِلٌ بِمَقَادِيرِهِمْ وَمَعَاذِيرِهِمْ، أَوْ رَجُلٌ جَاهِلٌ بِالشَّرِيعَةِ وَأُصُولِ الْأَحْكَامِ.
وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَتَلَخَّصُ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ، وَهُوَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانَةٍ عُلْيَا قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ، بَلْ مَأْجُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّبَعَ فِيهَا مَعَ بَقَاءِ مَكَانَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمُنَاظَرَةِ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: كُنَّا بِالْكُوفَةِ فَنَاظَرُونِي فِي ذَلِكَ يَعْنِي النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ، فَقُلْت لَهُمْ: تَعَالَوْا فَلْيَحْتَجَّ الْمُحْتَجُّ مِنْكُمْ عَنْ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالرُّخْصَةِ، فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ الرَّدَّ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِشِدَّةٍ صَحَّتْ عَنْهُ، فَاحْتَجُّوا فَمَا جَاءُوا عَنْ أَحَدٍ بِرُخْصَةٍ إلَّا جِئْنَاهُمْ بِشِدَّةٍ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ احْتِجَاجُهُمْ عَنْهُ فِي شِدَّةِ النَّبِيذِ بِشَيْءٍ يَصِحُّ عَنْهُ إنَّمَا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَنْبِذْ لَهُ فِي الْجَرِّ إلَّا حَذِرًا، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: فَقُلْت لِلْمُحْتَجِّ عَنْهُ فِي الرُّخْصَةِ: يَا أَحْمَقُ عُدَّ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَوْ كَانَ هَاهُنَا جَالِسًا فَقَالَ هُوَ لَك حَلَالٌ وَمَا وَصَفْنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي الشِّدَّةِ كَانَ يَنْبَغِي لَك أَنْ تَحْذَرَ، أَوْ تَجُرَّ، أَوْ تَخْشَى، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَسَمَّى عِدَّةً مَعَهُمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ الْحَرَامَ فَقُلْت لَهُمْ: عُدُّوا عِنْدَ الِاحْتِجَاجِ تَسْمِيَةَ الرِّجَالِ قُرْبَ رَجُلٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَاقِبُهُ كَذَا وَكَذَا وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ زَلَّةٌ أَفَلِلْأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ قَالُوا: كَانُوا خِيَارًا، قُلْت: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالُوا: حَرَامٌ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا فَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ.؟ ، فَبَقُوا وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: رَآنِي أَبِي وَأَنَا أَنْشُدُ الشِّعْرَ فَقَالَ لَا يَا بُنَيَّ لَا تُنْشِدْ الشِّعْرَ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَتِ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُنْشِدُ فَقَالَ لِي: أَيْ بُنَيَّ إنْ أَخَذْت بِشَرِّ مَا فِي الْحَسَنِ وَبِشَرِّ مَا فِي ابْنِ سِيرِينَ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَّا لَهُمْ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا السُّنَّةُ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحْصَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَغُضُّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ وَلَا يُسَوِّغُ اتِّبَاعَهُمْ فِيهَا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] .
قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ إنْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا إجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يَنْبَغِي تَأَمُّلُهُ فَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنُ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» .
وَقَالَ زِيَادُ بْنُ حُدَيْرٍ: قَالَ عُمَرُ: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ زَلَّةُ الْعَالِمِ وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ وَجِدَالَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَأَعْلَامِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ - قَلَّ مَا يُخْطِيهِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ - اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ، إنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ قَدْ قَرَأْت الْقُرْآنَ فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتَّبِعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، قَالَ: فَإِيَّاكُمْ وَمَا اُبْتُدِعَ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ فَتَلَقَّوْا الْحَقَّ عَمَّنْ قَدْ جَاءَ بِهِ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا، قَالُوا: وَكَيْفَ زَيْغَةُ الْحَكِيمِ؟ قَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ تُرَوِّعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا وَتَقُولُونَ مَا هَذِهِ فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ وَلَا يَصُدَّنَّكُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَأَنْ يُرَاجِعَ الْحَقَّ، وَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ مَكَانُهُمَا إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثَةٍ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَجِدَالِ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ وَدُنْيَا تُقَطِّعُ أَعْنَاقَكُمْ، فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ فَإِنْ اهْتَدَى فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ تَقُولُ: نَصْنَعُ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ وَنَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ فُلَانٌ إنْ أَخْطَأَ فَلَا تَقْطَعُوا إيَاسَكُمْ مِنْهُ فَتُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ. وَأَمَّا مُجَادَلَةُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ مَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَخُذُوهُ وَمَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَأَمَّا دُنْيَا تُقَطِّعُ أَعْنَاقَكُمْ فَانْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ دُونَكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ قِيلَ كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ. وَهَذِهِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ رَوَاهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
وَغَيْرُهُ فَإِذَا كُنَّا قَدْ حُذِّرْنَا مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَقِيلَ لَنَا: إنَّهَا أَخْوَفُ مَا يُخَافُ عَلَيْنَا وَأُمِرْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُرْجَعَ عَنْهُ فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَتْهُ مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يَحْكِيَهَا لِمَنْ يَتَقَلَّدُ بِهَا بَلْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِهَا إلَى أَنْ يَتَيَقَّنَ صِحَّتَهَا وَإِلَّا تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهَا فَمَا أَكْثَرَ مَا يُحْكَى عَنْ الْأَئِمَّةِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يُخَرِّجُهَا بَعْضُ الْأَتْبَاعِ عَلَى قَاعِدَةٍ مَتْبُوعَةٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنَّهَا تَقْضِي إلَى ذَلِكَ لَمَا الْتَزَمَهَا، وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ، وَمَنْ عَلِمَ فِقْهَ الْأَئِمَّةِ وَوَرَعَهُمْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا هَذِهِ الْحِيَلَ وَمَا أَفَضْت إلَيْهِ مِنْ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ لَقَطَعُوا بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يَقْطَعُوا بِهِ أَوَّلًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا مِنْ الْعُلَمَاءِ بِبَعْضِ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، أَوْ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ قَوَاعِدِهِمْ لَوْ بَلَغَهُمْ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لَرَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ يَقِينًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْإِنْصَافِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْجِعُ عَنْ رَأْيِهِ بِدُونِ مَا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي الْحَائِطَ " وَهَذَا قَوْلُ لِسَانِ حَالِ الْجَمَاعَةِ، وَمِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ أَقْوَالَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُنْتَشِرَةَ لَا تُتْرَكُ إلَّا بِمِثْلِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّحْلِيلِ وَالْعِينَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا يَقْطَعُ مَعَهُ اللَّبِيبُ أَنْ لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ فِي مُخَالَفَتِهَا وَلَمْ تَشْتَمِلْ كُتُبُ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهَا حَتَّى يُقَالَ: إنَّهُمْ تَأَوَّلُوهَا فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْهُمْ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ الْحِيَلِ قَطْعِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَمَا قَدْ
بَيَّنَّاهُ وَبَيَّنَّا إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا بِكَلَامٍ غَلِيظٍ يُخْرِجُهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَاتِّفَاقَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ تُخَالِفُ السُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، وَهَذَا مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ يُفْتِي بِهَا وَيَجِبُ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ الدَّلَالَةُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِهَا مَعَ جَوَازِ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَإِنْ كُنَّا نَعْذُرُ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي بَعْضِهَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ أَعْيَانَ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّبِيذِ وَنَحْوِهَا بَلْ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا وَاخْتَلَفُوا فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ فَرَدَّهَا مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ مَعَهُمْ فِيهِمَا سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، لَكِنَّ سُنَّةَ الْمُتْعَةِ مَنْسُوخَةٌ، وَحَدِيثُ الصَّرْفِ يُفَسِّرُهُ سَائِرُ الْأَحَادِيثِ، فَكَيْفَ بِالْحِيَلِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ مِنْ سُنَّةٍ وَلَا أَثَرٍ أَصْلًا بَلْ السُّنَنُ وَالْآثَارُ تُخَالِفُهَا.
وَقَوْلُهُمْ مَسَائِلُ الْخِلَافِ لَا إنْكَارَ فِيهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ، إمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقَوْلِ بِالْحُكْمِ أَوْ الْعَمَلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً، أَوْ إجْمَاعًا قَدِيمًا وَجَبَ إنْكَارُهُ وِفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْكَرُ بِمَعْنَى بَيَانِ ضَعْفِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهُمْ عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ، أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إنْكَارُهُ أَيْضًا بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ شَارِبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَكَمَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ اتَّبَعَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ يُنْكَرُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا، أَوْ مُقَلِّدًا، وَإِنَّمَا دَخَلَ هَذَا اللَّبْسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ هِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ - وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا، مِثْلُ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَسُوغُ لَهُ - إذَا عَدِمَ ذَلِكَ فِيهَا - الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَارِبَةِ. أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ.
وَقَدْ تَيَقَّنَّا صِحَّةَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
فِيهَا. مِثْلُ كَوْنِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ. وَأَنَّ الْجِمَاعَ الْمُجَرَّدَ عَنْ إنْزَالٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ. وَأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ وَالْمُتْعَةَ حَرَامٌ، وَأَنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي الرُّكُوعِ الْأَخْذُ بِالرُّكَبِ، وَأَنَّ دِيَةَ الْأَصَابِعِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ رُبُعِ دِينَارٍ، وَأَنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ بِسِلْعَتِهِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي. وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ. وَأَنَّ الْحَاجَّ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ يَكْفِي فِيهِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ إلَى الْكُوعَيْنِ. وَأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ جَائِزٌ حَضَرًا وَسَفْرًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يُحْصَى. وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ بَلَغَهُ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عُذْرٌ بِتَقْلِيدِ مَنْ يَنْهَاهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ.
وَنَقُولُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَقُولَ مَا قُلْت حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْت، أَوْ تَقُولَ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا تَعْبَأْ بِقَوْلِي وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ أَحَادِيثُ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُعَلِّمُ هَذِهِ الْحِيَلَ وَيُفْتِي بِهَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ، وَأَنَّهَا لَا تَلِيقُ بِدِينِ اللَّهِ أَصْلًا، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الدِّينِ.
الْوَجْهِ الرَّابِعِ: إنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحِيَلَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ - كَمَا يَخْتَارُهُ فِي بَعْضِهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ - فَإِنَّا إنَّمَا بَيَّنَّا الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى تَحْرِيمِهَا كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا جَوَازُ تَقْلِيدِ مَنْ يُخَالِفُ فِيهَا وَيُسَوِّغُ الْخِلَافَ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْمَسَائِلِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ السُّؤَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ وَضَحَ لَهُ الْحَقُّ وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَمَنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ الْحَقُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَحْدَثُوا حِيَلًا لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِهَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَنَسَبُوهَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ غَيْرِهِ، وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي نَسَبِهَا لَا إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ خَطَأً بَيِّنًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ نُصُوصَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه لَيْسَ مَعْرُوفًا بِأَنْ يَفْعَلَ الْحِيَلَ وَلَا يَدُلَّ عَلَيْهَا وَلَا يُشِيرَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَسْلُكَهَا وَلَا يَأْمُرَ بِهَا مَنْ اسْتَنْصَحَهُ. بَلْ هُوَ يَكْرَهُهَا وَيَنْهَى عَنْهَا بَعْضَهَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ وَبَعْضَهَا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ أَوْ أَكْثَرُ الْحِيَلِ الْمُضَافَةِ إلَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ
بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ تَلَقَّوْهَا عَنْ الْمَشْرِقِيِّينَ، نَعَمْ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يُجْرِي الْعُقُودَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالِ الْمُعَاقِدِ عَنْ مَقْصُودِهِ. كَمَا يُجْرِي أَمْرَ مَنْ ظَهَرَتْ زَنْدَقَتُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ عَلَى ظَاهِرِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى بَاطِنِهِ. وَكَمَا يُجْرِي كِنَايَاتِ الْقَذْفِ وَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ إنَّهُ مَقْصُودُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَرُبَّمَا أُخِذَ مِنْ كَلَامِهِ عَدَمُ تَأْثِيرِ الْعَقْدِ فِي الظَّاهِرِ بِمَا يَسْبِقُهُ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ وَعَدَمِ فَسَادِهِ بِمَا يُقَارِنُهُ مِنْ النِّيَّاتِ عَلَى خِلَافِهِ عَنْهُ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، أَمَّا إنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه، أَوْ مَنْ هُوَ دُونَهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِشَيْءٍ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ بَاطِنَهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى هَذَا عَنْ مِثْلِ هَؤُلَاءِ. فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ. فَرُبَّ قَاعِدَةٍ لَوْ عَلِمَ صَاحِبُهَا مَا تُفْضِي إلَيْهِ لَمْ يَقُلْهَا.
فَمِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُحْكَى هَذَا عَنْهُمْ - وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُمْ - لِفَرْطِ قُبْحِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه يَكْرَهُ أَنْ يَحْكِيَ عَنْ الْكُوفِيِّينَ وَالْمَدَنِيِّينَ وَالْمَكِّيِّينَ الْمَسَائِلَ الْمُسْتَقْبَحَةَ. مِثْلَ مَسْأَلَةِ النَّبِيذِ. وَالصَّرْفِ. وَالْمُتْعَةِ. وَفَحَّاشِ النِّسَاءِ. إذَا حُكِيَتْ لِمَنْ يَخَافُ أَنْ يُقَلِّدَهُمْ فِيهَا. أَوْ يَنْتَقِصَهُمْ بِسَبَبِهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ أَنْ آمُرَ بِشَيْءٍ. أَوْ أَفْعَلَهُ، وَبَيْنَ أَنْ أَقْبَلَ مِنْ غَيْرِي ظَاهِرَهُ.
وَقَدْ كَانَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُحْكَى عَنْهُ الْإِفْتَاءُ بِالْحِيَلِ. مِثْلُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ سَأَلْت أَبَا بَكْرٍ الْآجُرِّيَّ - وَأَنَا وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ فِي مَكَّةَ - عَنْ هَذَا الْخُلْعِ الَّذِي يُفْتَى بِهِ النَّاسُ - وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ رَجُلٌ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، فَيُقَالَ لَهُ: اخْلَعْ زَوْجَتَك، وَافْعَلْ مَا حَلَفْت عَلَيْهِ، ثُمَّ رَاجِعْهَا -، وَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا.
وَقُلْت: إنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ الرَّجُلَ الَّذِي يَحْلِفُ بِأَيْمَانِ الْبَيْعِ وَيَحْنَثُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِيَمِينِ الْبَيْعَةِ شَيْئًا. فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَعْجَبُ سُؤَالِي عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ قَالَ لِي: اعْلَمْ مُنْذُ كَتَبْت الْعِلْمَ وَجَلَسْت لِلْكَلَامِ فِيهِ، وَالْفَتْوَى مَا أَفْتَيْت فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَرْفٍ وَلَقَدْ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ الضَّرِيرَ عَنْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، كَمَا سَأَلْتنِي عَنْ التَّعَجُّبِ مِمَّنْ يُقْدِمُ عَلَى الْفَتْوَى فِيهِمَا. فَأَجَابَنِي بِجَوَابٍ كَتَبْته عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ فَأَخْرَجَ لِي كِتَابَ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ وَالنُّشُوزِ مِنْ كِتَابِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَى ظَهْرِهِ بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيَّ فَقُلْت
لَهُ الرَّجُلُ يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ.
وَقُلْت لَهُ: إنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ يُفْتُونَ فِيهَا بِالْخُلْعِ؛ يُخَالِعُ ثُمَّ يَفْعَلُ فَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ مَا أَعْرِفُ هَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ لَهُ فِي هَذَا قَوْلًا مَعْرُوفًا، وَلَا أَرَى مَنْ يَذْكُرُ هَذَا عَنْهُ إلَّا مُحِيلًا.
وَقُلْت لَهُ الرَّجُلُ يَحْلِفُ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ، فَيَحْنَثُ وَيَبْلُغُنِي أَنَّ قَوْمًا يُفْتُونَهُمْ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، فَجَعَلَ الزُّبَيْرِيُّ يَتَعَجَّبُ مِنْ هَذَا.
وَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَمَا بَلَغَنِي عَنْ عَالِمٍ وَلَا بَلَغَنِي فِيهِ قَوْلٌ وَلَا فَتْوَى. وَلَا سَمِعْت أَنَّ أَحَدًا أَفْتَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ قَطُّ. قُلْت لِلزُّبَيْرِيِّ وَلَا عِنْدَك فِيهَا جَوَابٌ. فَقَالَ: إنْ أَلْزَمَ الْحَالِفُ نَفْسَهُ جَمِيعَ مَا فِي يَمِينِ الْبَيْعَةِ، وَإِلَّا فَلَا أَقُولُ غَيْرَ هَذَا - قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ.
فَكَتَبْت هَذَا الْكَلَامَ مِنْ ظَهْرِ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ وَقَرَأْته عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْت لَهُ: فَأَنْتَ إيشْ تَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: هَكَذَا أَقُولُ، وَإِلَّا فَالسُّكُوتُ عَنْ الْجَوَابِ أَسْلَمُ لِمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذَكَرَ هَذَا الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ فِي جُزْءٍ صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُفْتِي بِخُلْعِ الْيَمِينِ وَذَكَرَ الْآثَارَ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ بِالرَّدِّ لَهُ وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ: وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي خُلْعِ الْيَمِينِ فَكَيْفَ أَنْ يَهَبَهُ شَيْئًا لِيَقِفَهُ عَلَيْهِ وَأَمْثَالُهَا.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَتَقَلَّدَ قَوْلَ مَنْ يُصَحِّحُ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِمَا.
وَهُوَ مُتَوَجَّهٌ. فَإِنَّ حُجَّةَ الْمَانِعِ امْتِنَاعُ كَوْنِ الْإِنْسَانِ مُعْطِيًا مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ وَلَا يَهَبَ نَفْسَهُ. فَيُقَالُ الْوَاقِفُ شَبِيهُ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْتَنِعُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ. وَأَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ أُمُّ الْوَلَدِ، وَهَذَا مَأْخَذُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ يَنْتَقِلُ مِلْكُهَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولٍ. وَإِذَا كَانَ مِثْلَ التَّحْرِيرِ لَمْ يَكُنْ مُمَلِّكًا لِنَفْسِهِ، بَلْ يَكُونُ مُخْرِجًا لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَانِعًا لِنَفْسِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ مَعَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَنْفَعَةِ فَيُشْبِهُ الِاسْتِيلَاءَ، وَلَوْ قِيلَ: إنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ تَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ يُنْقَلُ إلَى جَمِيعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ يَتَلَقَّوْنَهُ مِنْ الْوَاقِفِ - وَالطَّبَقَةُ الْأُولَى أَحَدُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ - وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، أَوْ بَاعَ جَازَ عَلَى الْمُخْتَارِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمِلْكَيْنِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِلْكُهُ الْمُخْتَصُّ إلَى طَبَقَاتِ مَوْقُوفٍ عَلَيْهَا - هُوَ أَحَدُهُمَا - أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ نَقَلَ مِلْكَهُ الْمُخْتَصَّ إلَى مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ، ثُمَّ لَهُ فِي الشَّرِكَةِ الْمِلْكُ الثَّانِي مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقَبَةِ، وَفِي الْوَقْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَكُونُ الْجَوَازُ فِيهِ أَوْلَى.
يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْجِهَةِ كَوَقْفِ عُثْمَانَ رضي الله عنه بِئْرَ رُومَةَ وَجَعْلِهِ دَلْوَهُ كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَصَلَاةِ الْمَرْءِ فِي مَسْجِدٍ وَقَفَهُ، وَدَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةٍ سَبَّلَهَا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ، فَإِذَا جَازَ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فِي الْجِهَةِ الْعَامَّةِ، جَازَ مِثْلُهُ فِي الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ الْمَحْصُورَةِ. لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى. بَلْ الْجَوَازُ هُنَا أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ بِالتَّعْيِينِ، وَهُنَاكَ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ بِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ.
وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَقْرِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا. وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ، حِيَلًا وَخُدَعًا أَكْثَرَ مِمَّا أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَى مَنْ أَفْتَى بِالْحِيَلِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَغْنَاهُمْ عَنْهَا بِسُلُوكِ طَرِيقٍ إمَّا جَائِزٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَوْ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا يَسُوغُ مَعَهُ الْأَخْذُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اجْتِهَادًا، أَوْ تَقْلِيدًا وَهَذَا خَيْرٌ عِنْدَ مَنْ فَقِهَ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ مِنْ الْمُخَادَعَاتِ الَّتِي مَضْمُونُهَا الِاسْتِهْزَاءُ بِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّلَاعُبُ بِحُدُودِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا مَلَّكَ الرَّجُلُ غَيْرَهُ شَيْئًا لِيَقِفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ مِنْ بَعْدِهِ فَمَا حُكْمُ هَذَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَيْفَ حُكِمَ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْوَقْفِ؟ قِيلَ: هَذَا التَّمْلِيكُ وَالشَّرْطُ يَضْمَنُ شَيْئَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ إلَى الْمَالِكِ.
وَالثَّانِي: الْإِذْنُ لَهُ فِي الْوَقْفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَمُوَافَقَتُهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا فِي الْمَعْنَى تَوْكِيلٌ لَهُ فِي الْوَقْفِ: فَحُكْمُ هَذَا الْمِلْكِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُمَلَّكُ. وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ وَقْفِهِ لَمْ يَحِلَّ لِوَرَثَتِهِ أَخْذُهُ. وَلَوْ أَخَذَهُ وَلَمْ يَقِفْهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ كَانَ ظَالِمًا عَاصِيًا. وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ هَذَا التَّمْلِيكِ لَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذًا لِنُفُوذِهِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ - وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِمَا تَوَاطَآ
عَلَيْهِ، أَوْ اعْتَرَفَ لَهُ الْمُمَلَّكُ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي ذَلِكَ.
لَكِنَّ الْمَالِكَ قَدْ أَذِنَ لِهَذَا فِي أَنْ يَقِفَهُ وَهُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ، وَهَذَا الْإِذْنُ وَالتَّوْكِيلُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ فَسَدَتْ الشَّرِكَةُ، أَوْ الْمُضَارَبَةُ، فَإِنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ وَالْعَامِلِ صَحِيحٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مَعَ الْإِذْنِ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، بَلْ الْإِذْنُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ الْبَاطِلَةِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَقِفَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ لَيْسَتْ هِبَةً بَتَاتًا بَلْ هِيَ مِثْلُ هَذِهِ التَّلْجِئَةِ فَيَكُونُ الِاتِّفَاقُ لِلْأَوَّلِ إذْنًا صَحِيحًا، وَرَدُّهُ بَعْدَهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ، وَكَانَ مَثَلُ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ، أَوْ هِبَةِ تَلْجِئَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَأْذُونِ فِيهَا تَقَعُ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ صَحِيحَةٌ فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهَا مَا يُنَاقِضُهَا فِي الْحَقِيقَةِ.
الثَّانِي: أَنَّا إنَّمَا أَبْطَلْنَا هَذَا الْعَقْدَ لِكَوْنِهِ قَدْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُوهَبِ لَهُ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إلَّا بِالْوَقْفِ الَّذِي هُوَ فِي الظَّاهِرِ وَاهِبٌ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمِلْكِ، بَلْ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَبِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْمِلْكِ بُطْلَانُ الْإِذْنِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَنَدُ غَيْرُ الْمِلْكِ وَلَا يُقَالُ: لَمَّا بَطَلَ الْمِلْكُ بَطَلَ التَّصَرُّفُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ التَّصَرُّفُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ مَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ مِلْكٌ لِلثَّانِي وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِلْكًا لِلثَّانِي، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ، وَفِي الظَّاهِرِ مِلْكٌ لِلثَّانِي فَبُطْلَانُ هَذَا الثَّانِي لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا بُطْلَانَ تَوَابِعِهِ.
يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْحِيَلَ الَّتِي اُسْتُحِلَّتْ بِأَسْمَاءٍ بَاطِلَةٍ يَجِبُ أَنْ تُسْلَبَ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الْمَنْحُولَةَ وَتُعْطَى الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا يُسْلَبُ مِنْهَا مَا يُسَمَّى بَيْعًا، أَوْ نِكَاحًا، أَوْ هَدِيَّةً وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ تُسَمَّى رِبًا وَسِفَاحًا وَرِشْوَةً، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْهِبَةُ تُسْلَبُ اسْمَ الْهِبَةِ وَتُسَمَّى تَوْكِيلًا، وَإِذْنًا، فَإِنَّ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ مَخْصُوصٍ بَلْ بِكُلِّ قَوْلٍ دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ فَهُوَ وَكَالَةٌ.
وَهَذِهِ الْمُوَاطَأَةُ عَلَى هَذِهِ الْهِبَةِ لَا رَيْبَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي هَذَا الْوَقْفِ
فَتَكُونُ وَكَالَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ اعْتَقَدَ صِحَّةَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَّا مَأْخَذَهُ، وَاعْتَقَدَ صِحَّةَ هَذَا الْوَقْفِ، كَانَ هَذَا الْوَقْفُ لَازِمًا إذَا وَقَفَهُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الْمُوَكَّلُ كَلُزُومِهِ لَوْ وَقَفَهُ الْمَالِكُ نَفْسُهُ، أَوْ وَكِيلٌ مَحْضٌ، وَيَنْبَنِي، عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَقْفِ الصَّحِيحِ مِنْ حِلِّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمَنْ اعْتَقَدَ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بَاطِلًا كَانَ هَذَا وَقْفًا مُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْوَقْفُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَالْوَقْفُ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَقِيلَ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ بِخِلَافِ الْمُنْقَطِعِ الِانْتِهَاءِ؛ لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ تَبَعٌ لِلْأُولَى فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْأُولَى فَمَا بَعْدَهَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَصِيرَ لِلثَّانِيَةِ إلَّا بَعْدَ الْأُولَى وَمَا رَضِيَ بِهِ لَمْ يَرْضَ بِهِ الشَّارِعُ فَاَلَّذِي رَضِيَهُ الشَّارِعُ لَمْ يَرْضَهُ وَاَلَّذِي رَضِيَهُ لَمْ يَرْضَهُ الشَّارِعُ، وَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ مِنْ رِضَى الْمُتَصَرِّفِ وَمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ، فَعَلَى هَذَا هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، فَإِذَا مَاتَ انْبَنَى عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ هَذَا وَقْفٌ بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ، أَوْ هُوَ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ كَالْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ. فَلَا كَلَامَ.
وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَأَنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى حَرْبِيٍّ، أَوْ مُرْتَدٍّ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَنْ يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ أَمْكَنَ أَنْ يُلْغَى قَوْلُهُ " عَلَى نَفْسِي " وَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ مَوْتِي عَلَى كَذَا وَهَذَا يُصَحِّحُهُ مَنْ لَا يُصَحِّحُ الْوَقْفَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ إلْحَاقًا لِلْوَقْفِ بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَطَايَا، وَالْعَطِيَّةُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي الْوَصَايَا إلْحَاقًا بِالْمِيرَاثِ، وَقِيلَ إنَّ هَذَا الْوَقْفَ الْمُنْقَطِعَ الِابْتِدَاءٍ صَحِيحٌ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ مَصْرِفَ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ الِابْتِدَاءِ فَإِذَا مَاتَ هَذَا الْوَاقِفُ صُرِفَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الْبَاطِلَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي الْحَالِ فَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ صُرِفَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ الصَّحِيحَةِ جَعْلًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ - وَكَذَلِكَ جُعِلَ فِي تَعْلِيقِ الْوَاقِفِ بِالشَّرْطِ وَجْهَانِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ شِبْهِ الْعِتْقِ وَالتَّحْرِيرِ وَبَيْنَ شِبْهِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ أَقَرَّ مَنْ فِي يَدِهِ عَقَارٌ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ عَلَى جِهَةٍ مُتَّصِلَةٍ وَكَانَ قَدْ جَعَلَ هَذَا حِيلَةً لِوَقْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ وَحُكْمُ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ؟
قِيلَ: هَذَا أَيْضًا إنَّمَا قَصَدَ إنْشَاءَ الْوَقْفِ فَيَكُونُ كَمَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ يَنْوِي بِهِ الْإِنْشَاءَ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَنْعَقِدُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَبِاللَّفْظِ الْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَيَصِحُّ أَيْضًا بِالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ هُوَ الْوَقْفَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّمَ بِقَوْلِهِ هَذَا وَقْفٌ عَلَيَّ، ثُمَّ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَمَيَّزَهُ بِالْفِعْلِ عَنْ مِلْكِهِ صَارَ كَمَا لَوْ قَالَ وَقَفْته عَلَى نَفْسِي، ثُمَّ عَلَى كَذَا وَكَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِتَابَةً فِي الْإِنْشَاءِ، يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْإِخْبَارَ فَإِذَا قَصَدَ بِهِ دُيِّنَ. بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ إقْرَارًا مَحْضًا وَهُوَ يَعْلَمُ كَذِبَ نَفْسِهِ فِيهِ كَانَ وُجُودُ هَذَا الْإِقْرَارِ كَعَدَمِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ: فَفُرِّقَ بَيْنَ إقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَمَّا مَضَى. وَإِقْرَارٍ قَصَدَ بِهِ الْإِنْشَاءَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ قَدْ قِيلَ: هِيَ إنْشَاءَاتٌ. وَقِيلَ: إخْبَارَاتٌ - وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ إخْبَارٌ عَنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقَلْبِ وَتِلْكَ الْمَعَانِي أُنْشِئَتْ فَاللَّفْظُ خَبَرٌ وَالْمَعْنَى إنْشَاءٌ إنَّمَا يَتِمُّ حُكْمُهُ بِاللَّفْظِ، فَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ وَقْفٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقِفْهُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَاذِبٌ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يَصِيرَ هُوَ وَاقِفًا لَهُ فَقَدْ أَجْمَعَ لَفْظَ الْإِخْبَارِ، وَإِرَادَتَهُ الْوَقْفَ. فَلَوْ كَانَ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْإِرَادَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رَيْبٌ أَنَّهُ إنْشَاءُ وَقْفٍ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ إخْبَارًا عَنْ غَيْرِ مَا عَنَاهُ وَاَلَّذِي عَنَاهُ لَمْ يَلْفِظْ بِهِ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً، لَكِنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ وَنَحْوِهِ وَمَعَ الْفِعْلِ الَّذِي لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظٍ لَكَانَ مَعَ النِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْوَقْفِ يُوجِبُ جَعْلَ هَذَا وَقْفًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا -، وَإِذَا كَانَ هَذَا إنْشَاءٌ لِلْوَقْفِ فَحُكْمُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مَثَلًا بُطْلَانَ وَقْفِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَبُطْلَانَ اسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ. فَالْوَاجِبُ مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ إمَّا الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، أَوْ الْوَصِيَّةُ بِالْوَقْفِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِيمَا يَسُوغُ الْوَصِيَّةُ فِيهِ وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا زَادَ، أَوْ تَرْكُ الْوَقْفِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اعْتَقَدَ اعْتِقَادًا يَرَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمُوجَبِهِ كَالْأُمُورِ الَّتِي لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهَا مِنْ الرِّبَا وَالسِّفَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ