الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِلَفْظِ الْعَقْدِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، لَا مُوجَبَ ذَلِكَ اللَّفْظِ، كَمَا قَصَدَ النَّاطِقُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ لَا حَقِيقَةَ الْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ الْمُخَادِعُ مِثْلُ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ قَصَدَ بِلَفْظِ الْعَقْدِ رَفْعَ التَّحْرِيمِ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا، لَا مُوجَبَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُوَ كَنُطْقِ الْمُنَافِقِ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ كَنُطْقِ الْمُكْرَهِ بِهَا فَكِلَاهُمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غَيْرَ مُوجَبِهِ، بَلْ إمَّا بَعْضَ تَوَابِعِ مُوجَبِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْمُكْرَهَ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ خَارِجٍ، وَالْمُخَادِعَ غَيْرُ مَعْذُورٍ إذْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ نَفْسِهِ.
وَنُكْتَةُ هَذَا: أَنَّ مَقْصُودَ النِّيَّاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ، كَاعْتِبَارِهَا فِي الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَكُلُّ مَنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ الْمَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ بَلْ قَصَدَ بِهِ سَبَبًا آخَرَ أَرَادَ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِالْعَقْدِ إلَيْهِ، فَهُوَ مُخَادِعٌ، بِمَنْزِلَةِ الْمُرَائِي الَّذِي يَقْصِدُ بِالْعِبَادَاتِ عِصْمَةَ دَمِهِ وَمَالِهِ لَا حَقِيقَةَ الْعِبَادَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَقْصُودًا تَابِعًا لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ لَكِنَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ لَا يَمَسُّ بِخُصُوصِهِ مَسْأَلَةَ التَّحْلِيلِ لَمْ نَذْكُرْهُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهَا خُصُوصًا كَمَا دَلَّ عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ عُمُومًا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ تَلَقِّيَ الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ بِعَيْنِهِ أَقْوَى مِنْ تَلَقِّيه مِنْ دَلِيلٍ عَامٍّ.
[الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]
الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ ذَلِكَ لِاشْتِمَالِ هَذَا التَّحْرِيمِ عَلَى مَصْلَحَةٍ لِعِبَادِهِ، وَحُصُولِ مُفْسِدَةٍ فِي حِلِّهَا لَهُ بِدُونِ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا لَهُمْ لِيُمَيِّزَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَقَدْ قِيلَ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ كُلَّمَا شَاءَ الرَّجُلُ طَلَّقَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا فَقَصَرَ اللَّهُ الْأَزْوَاجَ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ لِيَكُفَّ النَّاسُ عَنْ الطَّلَاقِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ، إلَّا إذَا كَانَ زَاهِدًا فِي الْمَرْأَةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِأَنْ يَرْغَبَ إلَى بَعْضِ الْأَرَاذِلِ فِي أَنْ يَطَأَ الْمَرْأَةَ وَيُعْطِيَ شَيْئًا عَلَى ذَلِكَ، كَانَ زَوَالُ هَذَا التَّحْرِيمِ مِنْ أَيْسَرِ الْأَشْيَاءِ، فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ وَيَبْذُلَ، فَكَيْفَ إذَا أُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا.
وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» ، فَإِنَّ أَدْنَى الْحِيلَةِ مِنْ الْحِيَلِ يُمْكِنُ اسْتِحْلَالُ الْمَحَارِمِ بِهَا، وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ الْمُتَضَمِّنُ لِجَلْبِ مَصَالِحِ خَلْقِهِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ يَزُولُ بِأَدْنَى سَعْيٍ غَيْرَ مَقْصُودٍ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ، وَكَانَ إلَى اللَّعِبِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْجَدِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ.
فَإِذَا قِيلَ: إنَّ هَذَا حَلَالٌ كَانَ حَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهَا فَحْلٌ مِنْ الْفُحُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي نِكَاحِهَا بَلْ يُعْطَى عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا، لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ صُورَةَ الْعَقْدِ وَالْتِزَامَ الْمَهْرِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ فَيَكُونُ قَائِلُ هَذَا قَدْ ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تُوطَأَ وَطْئًا شَبِيهًا بِالزِّنَا بَلْ هُوَ زِنًا، فَإِنَّ هَذَا مَعْنَاهُ مَعْنَى الزِّنَا إذْ الزَّانِي هُوَ مَنْ يُرِيدُ وَطْءَ الْمَرْأَةِ، بِدُونِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما وَقَدْ سُئِلَ عَنْ التَّحْلِيلِ، هُوَ السِّفَاحُ لَوْ أَدْرَكَكُمْ عُمَرُ لَنَكَلَكُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ «كُنَّا نَعُدُّهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِفَاحًا» ، وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا وَشَبَّهَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ إذْ الْمَقْصُودُ وَطْؤُهُ لَا مِلْكُهُ، كَذَلِكَ هَذَا الْمُحَلِّلُ إنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ الْوَطْءَ الْمُجَرَّدَ لَا أَحْكَامَ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ، وَلَمَّا رَأَى كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُ إنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَحْرُمُ حَتَّى تُوطَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى هَذَا مَعْنَى الزِّنَا، وَحَسِبَ أَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ الْمَأْخُوذِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ تَجَاهَلَ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ أَخَذَ يُعَيِّرُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا وَيَقُولُ، إنَّ دِينَهُمْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ تَحْرُمُ حَتَّى تَزْنِيَ فَإِذَا زَنَتْ حَلَّتْ. ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ حَتَّى اعْتَمَدَ بَعْضُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّصَارَى فِيمَا يَهْجُو بِهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، وَأَخَذَ يُنَفِّرُ أَهْلَ دِينِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالتَّشْنِيعِ بِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الدِّينِ وَلَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ السَّابِقِينَ، وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، بَلْ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ وَأَقُولُ إنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ وَطَهَّرَهُ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِالتَّوْقِيرِ وَالصِّيَانَةِ مِنْ عِلَّةٍ تَشِينُهُ، وَأَنْ يُنَزَّهَ عَمَّا أَصْبَحَ أُمَنَاءُ الْمِلَلِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، يُعَيِّرُونَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ أَزْكَى وَأَطْهَرَ مِنْ أَنْ يُحَرِّمَ