الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12]{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] .
فَعُلِمَ أَنَّهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ مَنَعَ الْخَيْرَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَإِنَّهُمْ انْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْعُقُوبَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ غَيْرُ جَائِزٍ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ مَعَ هَذَا أَنَّهُمْ أَكَلُوا، أَوْ شَرِبُوا.
فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ عُوقِبُوا عَلَى قَصْدِ مَنْعِ الْخَيْرِ الْمُسْتَحَبِّ فَكَيْفَ بِمَنْ قَصَدَ مَنْعَ الْوَاجِبِ، إنْ كَانُوا إنَّمَا قَصَدُوا مَنْعَ وَاجِبٍ وَهُوَ الصَّوَابُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، فَهُمْ لَمْ يَمْنَعُوهُ بَعْدَ وُجُوبِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ وَجَبَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ صَرْمِهِ بِاللَّيْلِ وَصَرْمِهِ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا بِالصَّرْمِ لَيْلًا الْفِرَارَ مِمَّا كَانَ لِلْمَسَاكِينِ فِيهِ مِنْ اللَّقَاطِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ كَانَ فِيمَا يَتَسَاقَطُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا مُوَقَّتًا، وَوُجُوبُ هَذَا مَشْرُوطٌ بِسُقُوطِهِ وَحُضُورِ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ، كَأَنَّ السَّاقِطَ عَفْوُ الْمَالِ وَفَضْلُهُ، وَحُضُورُ أَهْلِ الْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ السُّؤَالِ، وَالْفَاقَةِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ يَجِبُ فِيهَا مَا لَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا، كَمَا يَجِبُ قِرَى الضَّيْفِ، وَإِطْعَامُ الْمُضْطَرِّ، وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ، وَحَمْلُ الْعَقْلِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَيَكُونُ هَذَا فِرَارًا مِنْ حَقٍّ قَدْ انْعَقَدَ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ، فَهُوَ مِثْلُ الْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ. وَالْفِرَارِ مِنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ إرَادَةِ الْبَيْعِ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَالْفِرَارِ مِنْ قِرَى الضَّيْفِ قَبْلَ حُضُورِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّ قَصْدَنَا هُنَا الْإِشَارَةُ فَقَطْ لَبَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ.
[الْوَجْهُ الرَّابِعُ قَالَ اللَّه وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت]
الْوَجْهُ الرَّابِعُ
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ:
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] .
وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ احْتَالُوا عَلَى الصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ بِحِيلَةٍ تُخَيَّلُ بِهَا فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَصِيدُوا فِي السَّبْتِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ - وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ -: لَقَدْ مُسِخَ الْيَهُودُ قِرَدَةً بِدُونِ هَذَا.
وَقَالَ قَبْلَهُ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إبْطَالِ الْحِيَلِ: وَهَلْ أَصَابَ الطَّائِفَةَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَسْخُ إلَّا بِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، بِأَنْ حَظَرُوا الْحَظَائِرَ عَلَى الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ سَبْتِهِمْ، فَمَنَعُوهَا الِانْتِشَارَ يَوْمَهَا إلَى الْأَحَدِ فَأَخَذُوهَا. وَكَذَلِكَ السِّلْسِلَةُ الَّتِي كَانَتْ تَأْخُذُ بِعُنُقِ الظَّالِمِ فَاحْتَالَ لَهَا صَاحِبُ الدِّرَّةِ؛ إذْ صَرَّهَا فِي قَصَبَةٍ، ثُمَّ دَفَعَهَا بِالْقَصَبَةِ إلَى خَصْمِهِ، وَتَقَدَّمَ إلَى السِّلْسِلَةِ لِيَأْخُذَهَا فَرُفِعَتْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزْجَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُتَعَاطِينَ الْحِيَلَ عَلَى الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ مِمَّنْ يَتَلَبَّسُ بِعِلْمِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ بِفَقِيهٍ؛ إذْ الْفَقِيهُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَالتَّحْلِيلِ بِاسْتِعَارَةِ الْمُحَلِّلِ لِلْمُطَلَّقَاتِ وَالْخُلْعِ لِحِلِّ مَا لَزِمَ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعَلَّقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظَائِمَ وَمَصَائِبَ لَوْ اعْتَمَدَ بَعْضَهَا مَخْلُوقٌ فِي حَقِّ مَخْلُوقٍ لَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ فَكَيْفَ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَشَاهِيرِ الْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنًى مُتَقَارِبٍ، وَذَكَرَهَا السُّدِّيَّ فِي تَفْسِيرِهِ الَّذِي رَوَاهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: كَانَتْ الْحِيتَانُ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَبْقَ حُوتٌ إلَّا خَرَجَ حَتَّى يُخْرِجْنَ خَرَاطِيمَهُنَّ مِنْ الْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ
يَوْمُ السَّبْتِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ:{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] .
وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ تَعْمَلَ شَيْئًا يَوْمَ السَّبْتِ، فَاشْتَهَى بَعْضُهُمْ السَّمَكَ، فَجَعَلَ يَحْتَفِرُ الْحَفِيرَةَ، وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إلَى الْبَحْرِ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ أَقْبَلَ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ أَنْ يَخْرُجَ فَلَا يُطِيقُ مِنْ أَجْلِ قِلَّةِ مَاءِ النَّهْرِ، فَيَمْكُثُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ جَاءَ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَشْوِي السَّمَكَ فَيَجِدُ جَارُهُ رِيحَهُ، فَيُخْبِرُهُ فَيَصْنَعُ مِثْلَ مَا صَنَعَ جَارُهُ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَنْصِبُونَ الْحَبَائِلَ وَالشُّصُوصَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيُخْرِجُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فَفَعَلُوا ذَلِكَ زَمَانًا فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَلَمْ يُنْزِلْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَتَجَرَّءُوا عَلَى الذَّنْبِ، وَقَالُوا: مَا نَرَى السَّبْتَ إلَّا أُحِلَّ لَنَا، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ صَارَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفًا أَمْسَكَ وَنَهَى، وَصِنْفًا أَمْسَكَ وَلَمْ يَنْهَ، وَصِنْفًا انْتَهَكَ الْحُرْمَةَ، وَتَمَامُ الْقِصَّةِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ ذَكَرَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] . قَالَ: رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ، ثُمَّ أَرْجَئُوهَا فِي الْمَاءِ فَاسْتَخْرَجُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَطَبَخُوهَا فَأَكَلُوهَا فَأَكَلُوا - وَاَللَّهِ - أَوْخَمَ أَكْلَةٍ أُكِلَتْ أَسْرَعَتْ فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةً وَأَسْرَعَتْ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، وَاَللَّهِ مَا كَانَتْ لُحُومُ تِلْكَ الْحِيتَانِ بِأَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ دِمَاءِ قَوْمٍ مُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ عَجَّلَ لِهَؤُلَاءِ وَأَخَّرَ لِهَؤُلَاءِ.
فَقَوْلُ الْحَسَنِ: رَمَوْهَا فِي السَّبْتِ، يَعْنِي: احْتَالُوا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ، كَمَا بَيَّنَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ حَفَرُوا لَهَا حِيَاضًا، ثُمَّ فَتَحُوهَا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ، أَوْ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمْ رَمَوْا الْحَبَائِلَ يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ أَخَّرُوهَا فِي الْمَاءِ إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ، فَاسْتَخْرَجُوهَا بِالْحِيتَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ بَاشَرُوا إلْقَاءَهَا يَوْمَ السَّبْتِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ اجْتَرَءُوا عَلَى
ذَاكَ لَاسْتَخْرَجُوهَا إلَّا أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوا أَنَّ إلْقَاءَهَا بِأَيْدِيهِمْ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَالْمُحَرَّمُ إنَّمَا هُوَ الصَّيْدُ.
فَقَدْ رُوِيَ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَنْقَرِيُّ فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ وَأَظُنُّهُ الْهُزَلِيَّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَيَبْكِي، فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى أَخَذْتُ بِلَوْحَيْ الْمُصْحَفِ. فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يُبْكِينِي هَذِهِ الْوَرَقَاتُ. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ أَيْلَةَ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ: إنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهَا حَيًّا مِنْ الْيَهُودِ فَابْتَلَاهُمْ بِحِيتَانٍ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ وَأَحَلَّهَا لَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَالَ: وَكَانَ إذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَتْ إلَيْهِمْ، فَإِذَا ذَهَبَ السَّبْتُ غَاصَتْ فِي الْبَحْرِ حَتَّى لَا يَعْرِضَ لَهَا الطَّالِبُونَ، وَإِنَّ الْقَوْمَ اجْتَمَعُوا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا. فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ أَنْ تَأْكُلُوهَا، فَصِيدُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكُلُوهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أَنْ تَصِيدُوهَا، أَوْ تُؤْذُوهَا أَوْ تُنَفِّرُوهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَتْ إلَيْهِمْ شُرَّعًا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ. فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا نَأْخُذُهَا وَلَا نَقْرَبُهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَأْخُذُهَا وَلَا نَأْكُلُهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةً عَلَى إيمَانِهِمْ، وَفِرْقَةً عَلَى شَمَائِلِهِمْ، وَفِرْقَةً وَسْطَهُمْ. فَقَامَتْ الْفِرْقَةُ الْيُمْنَى فَجَعَلَتْ تَنْهَاهُمْ وَجَعَلَتْ تَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ نُحَذِّرُكُمْ بَأْسَ اللَّهِ. وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الْيُسْرَى فَكَفَّتْ أَيْدِيَهَا، وَأَمْسَكَتْ أَلْسِنَتَهَا، وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الْوُسْطَى فَوَثَبَتْ عَلَى السَّمَكِ تَأْخُذُهُ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ فِي مَسْخِ اللَّهِ إيَّاهُمْ قِرَدَةً.
فَهَذِهِ الْآثَارُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا اصْطَادُوا لَهَا مُحْتَالِينَ مُسْتَحِلِّينَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ، فَكَانَ أَجْوَدُهُمْ تَأْوِيلًا الَّذِي احْتَالَ عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْحِيَاضِ وَالشُّصُوصِ يَوْمَ السَّبْتِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ مِنْهُ؛ إذْ ذَاكَ. وَبَعْدَهُ مَنْ بَاشَرَ إلْقَاءَهَا فِي الْمَاءِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا بَعْدَ السَّبْتِ. وَبَعْدَهُ مَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ الْمَاءِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ تَأْوِيلًا مِنْهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَكْلُ.
وَكَذَلِكَ صَحَّ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] . قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ
يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا بَلَاءً اُبْتُلُوا بِهِ، وَلَا تَأْتِيهِمْ فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَطْلُبُوهَا بَلَاءً أَيْضًا بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَأَخَذُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ اسْتِحْلَالًا وَمَعْصِيَةً لِلَّهِ عز وجل. فَقَالَ اللَّهُ:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] إلَّا طَائِفَةً مِنْهُمْ لَمْ يَعْتَدُوا وَنَهَوْهُمْ.
فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ اسْتَحَلُّوهَا وَعَصَوْا اللَّهَ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِلُّوهَا تَكْذِيبًا لِمُوسَى عليه السلام وَكُفْرًا بِالتَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْلَالُ تَأْوِيلٍ وَاحْتِيَالٍ ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ الِاتِّقَاءِ، وَحَقِيقَتُهُ حَقِيقَةُ الِاعْتِدَاءِ.
وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُسِخُوا قِرَدَةً، لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرْدِ فِيهَا شَبَهٌ مِنْ صُورَةِ الْإِنْسَانِ. وَفِي بَعْضِ مَا يُذْكَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ شَبَهٌ مِنْهُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَلَمَّا مَسَخَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ دِينَ اللَّهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَسَّكُوا إلَّا بِمَا يُشْبِهُ الدِّينَ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً يُشْبِهُونَهُمْ فِي بَعْضِ ظَاهِرِهِمْ دُونَ الْحَقِيقَةِ جَزَاءً وِفَاقًا.
يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ أَكَلُوا الرِّبَا وَأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَمَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَاكَ حَرَامٌ فِي شَرِيعَتِنَا أَيْضًا، وَالصَّيْدَ فِي السَّبْتِ لَيْسَ حَرَامًا عَلَيْنَا، ثُمَّ إنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا وَأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَمْ يُعَاقَبُوا بِالْمَسْخِ، كَمَا عُوقِبَ بِهِ مُسْتَحِلُّو الْحَرَامِ بِالْحِيلَةِ، وَإِنَّمَا عُوقِبُوا بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِ عُقُوبَاتِ غَيْرِهِمْ فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانُوا أَعْظَمَ جُرْمًا، فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالذَّنْبِ. بَلْ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ - كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ - كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ أَغْلَظَ مِنْ عُقُوبَةِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا وَالصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَالِمًا بِأَنَّهُ حَرَامٌ، فَقَدْ اقْتَرَنَ بِمَعْصِيَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالتَّحْرِيمِ وَهُوَ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَرَجَاءِ مَغْفِرَتِهِ، وَإِمْكَانِ التَّوْبَةِ مَا قَدْ يُفْضِي بِهِ إلَى خَيْرٍ، وَمَنْ أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا بِنَوْعِ احْتِيَالٍ تَأَوَّلَ فِيهِ فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْحَرَامِ، وَقَدْ اقْتَرَنَ بِهِ اعْتِقَادُهُ الْفَاسِدُ فِي حِلِّ الْحَرَامِ. وَذَلِكَ قَدْ يُفْضِي بِهِ إلَى شَرٍّ طَوِيلٍ، وَلِهَذَا حَذَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:«لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» .
ثُمَّ رَأَيْتُ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
قَالَ: «يُحْشَرُ أَكَلَةُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الْخَنَازِيرِ وَالْكِلَابِ مِنْ أَجْلِ حِيلَتِهِمْ عَلَى الرِّبَا كَمَا مُسِخَ أَصْحَابُ دَاوُد لِاحْتِيَالِهِمْ عَلَى أَخْذِ الْحِيتَانِ يَوْمَ السَّبْتِ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعْنَى الْمَسْخِ لِأَجْلِ الِاسْتِحْلَالِ بِالِاحْتِيَالِ. قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مَعْرُوفَةٍ لَمْ نَذْكُرْ هَذَا الْحَدِيثَ.
وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ، أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ - وَاَللَّهِ مَا كَذَبَنِي - سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ:«لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ» - وَذَكَرَ كَلَامًا - قَالَ: «يَمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . إنَّمَا ذَاكَ إذَا اسْتَحَلُّوا هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ.
فَإِنَّهُمْ لَوْ اسْتَحَلُّوهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الرَّسُولَ حَرَّمَهَا كَانُوا كُفَّارًا، وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أُمَّتِهِ وَلَوْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّهَا حَرَامٌ لَأَوْشَكَ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا بِالْمَسْخِ كَسَائِرِ الَّذِينَ لَمْ يَزَالُوا يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ، وَلِمَا قِيلَ فِيهِمْ: يَسْتَحِلُّونَ فَإِنَّ الْمُسْتَحِلَّ لِلشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْلَالُهُمْ الْخَمْرَ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا. كَمَا جَاءَ الْحَدِيثُ، فَيَشْرَبُونَ الْأَنْبِذَةَ الْمُحَرَّمَةَ وَلَا يُسَمُّونَهَا خَمْرًا، وَاسْتِحْلَالُهُمْ الْمَعَازِفَ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ مُجَرَّدُ سَمْعِ صَوْتٍ فِيهِ لَذَّةٌ وَهَذَا لَا يَحْرُمُ كَأَلْحَانِ الطُّيُورِ، وَاسْتِحْلَالُ الْحَرِيرِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِهِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ حَلَالٌ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَقَدْ سَمِعُوا أَنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهُ عِنْدَ الْقِتَالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، فَقَاسُوا سَائِرَ أَحْوَالِهِمْ عَلَى تِلْكَ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ الثَّلَاثَةُ وَاقِعَةٌ فِي الطَّوَائِفِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا ابْنُ الْمُبَارَكِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلَّا
…
الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْ أَصْحَابِهَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَبَيَّنَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ.
ثُمَّ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى قَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» . هَذَا لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: وَإِسْنَادُهُمَا وَاحِدٌ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِهِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِمَّا نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ كَوْنِ الْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ اعْتَدَوْا بِالِاحْتِيَالِ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُعَارِضُهُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا قَدْ يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ اصْطَادُوا يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّهُمْ اصْطَادُوا مُتَأَوِّلِينَ بِنَوْعٍ مِنْ الْحِيلَةِ وَهَذَا النَّقْلُ الْمُفَسَّرُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ النَّقْلَ الْمُجْمَلَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَعَلَتْهُ طَائِفَةٌ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَنْقُولَاتِ.
إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] . قَالُوا: مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعَالِهِمْ، وَقَالُوا: نَكَالًا عُقُوبَةً لِمَا قَبْلَهَا وَعِبْرَةً لِمَا بَعْدَهَا، كَمَا قَالَ فِي السَّارِقِ:{نَكَالا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] . وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالنَّكَالِ الْعِبْرَةَ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ:{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] .
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَكَّلَ بِعُقُوبَةِ هَؤُلَاءِ سَائِرَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَوَعَظَ بِهَا الْمُتَّقِينَ، فَحَقِيقٌ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْذَرَ اسْتِحْلَالَ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ أَسْبَابِ الْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا وَالْمَعَاصِي، ثُمَّ مِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ الَّتِي احْتَالَهَا أَصْحَابُ السَّبْتِ فِي الصَّيْدِ قَدْ اسْتَحَلَّهَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُفْتِينَ حَتَّى تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْحِيلَةِ، فَقَالُوا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا نَصَبَ شَبَكَةً، أَوْ شِصًّا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ لِيَقَعَ فِيهِ الصَّيْدُ بَعْدَ إحْرَامِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ بَعْدَ حِلِّهِ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ،