الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَانَ هَذَا الْبَيَانُ عَقِيبَ آيَةِ الرِّبَا مُنَاسِبًا، لِأَنَّ الرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَقِيبَهُ مَا دَلَّ الْأُمَّةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يُسْتَبَاحُ بِهَا الْخَمْرُ، وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَغَيْرُهَا، ثُمَّ إنَّهُ أَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ هَذِهِ الْمَحَارِمَ يَنْحَلُونَهَا أَسْمَاءً غَيْرَ الْأَسْمَاءِ الْحَقِيقِيَّةِ يُمْسَخُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ رضي الله عنه أَمَرَ بِتَرْكِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، كُلِّهَا وَبِتَرْكِ الرِّيَبِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْعٌ حَلَالٌ، بَلْ يُمْكِنُ أَنَّهَا رِبًا، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى تَشَابُهِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَتَوَافُقِهَا أَمْرًا وَإِخْبَارًا.
وَهَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا إذَا تَأَمَّلَهَا الْفَقِيهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِشْكَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَقِيقَةِ الْعُقُودِ وَمَقَاصِدِهَا الَّتِي تُؤَوَّلُ إلَيْهَا وَاَلَّتِي قُصِدَتْ بِهَا، وَأَنَّ الِاحْتِيَالَ لَا يُرْفَعُ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
[الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ]
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ.
أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ، كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّقَرُّبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، فَيَجْعَلُ الشَّيْءَ حَلَالًا، أَوْ حَرَامًا، أَوْ صَحِيحًا، أَوْ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ، فَاسِدًا مِنْ وَجْهٍ، كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً، أَوْ مُسْتَحَبَّةً أَوْ مُحَرَّمَةً، أَوْ صَحِيحَةً، أَوْ فَاسِدَةً.
وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228]، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] فَإِنَّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي أَنَّ الرَّجْعَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِمَنْ قَصَدَ الصَّلَاحَ دُونَ الضِّرَارِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229]- إلَى قَوْلِهِ: - {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]- إلَى قَوْلِهِ - {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230]
فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ إذَا خِيفَ أَنْ لَا يُقِيمَ الزَّوْجَانِ حُدُودَ اللَّهِ. وَأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ إنَّمَا يُبَاحُ إذَا ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَدَّمَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَصِيَّةَ مَنْ لَمْ يُضَارَّ الْوَرَثَةُ بِهَا، فَإِذَا وَصَّى ضِرَارًا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا، وَكَانَ لِلْوَرَثَةِ إبْطَالُهُ، وَحَرُمَ عَلَى الْمُوصَى لَهُ أَخْذُهُ بِدُونِ رِضَاهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13] إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النساء: 14] .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الضِّرَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ مِيرَاثَ الْعَمُودَيْنِ، وَالثَّانِيَةَ تَضَمَّنَتْ مِيرَاثَ الْأَطْرَافِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ وَالْإِخْوَةِ وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ يُضَارُّ زَوْجَتَهُ، وَإِخْوَتَهُ، وَلَا يَكَادُ يُضَارُّ وَلَدَهُ لَكِنَّ الضِّرَارَ نَوْعَانِ حَيْفٌ، وَإِثْمٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ مُضَارَّتَهُمْ وَهُوَ الْإِثْمُ وَقَدْ يُضَارُّهُمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهُوَ الْحَيْفُ فَمَتَى أَوْصَى بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ مُضَارٍّ قَصَدَ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ. فَتُرَدُّ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ.
وَإِنْ وَصَّى بِدُونِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَصَدَ الضِّرَارَ فَيُمْضِيهَا. فَإِنْ عَلِمَ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ ضِرَارًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَخْذُ. وَلَوْ اعْتَرَفَ الْمُوصِي: إنِّي إنَّمَا أَوْصَيْتُ ضِرَارًا لَمْ تَجُزْ إعَانَتُهُ عَلَى إمْضَاءِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَوَجَبَ رَدُّهَا فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ جُذَاذَ النَّخْلِ عَمَلٌ مُبَاحٌ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ صَاحِبُهُ، وَلَمَّا قَصَدَ أَصْحَابُهُ بِهِ فِي اللَّيْلِ حِرْمَانَ الْفُقَرَاءِ عَاقَبَهُمْ اللَّهُ بِإِهْلَاكِهِ، وَقَالَ:{وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} [الزمر: 26] ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ، عَنْ النَّبِيِّ عَاقَبَهُمْ بِكَرَاهَةِ الْجِذَاذِ فِي اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةً لِهَذَا الْفَسَادِ وَذَرِيعَةً إلَيْهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي طُعْمَةَ مَوْلَاهُمْ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيِّ أَنَّهُمَا سَمِعَا ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لُعِنَتْ الْخَمْرُ عَلَى عَشَرَةِ وُجُوهٍ: لُعِنَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا، وَشَارِبِهَا،
وَسَاقِيهَا، وَبَائِعِهَا، وَمُبْتَاعِهَا، وَعَاصِرِهَا، وَمُعْتَصِرِهَا، وَحَامِلِهَا، وَالْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ، وَآكِلِ ثَمَنِهَا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُد، وَلَفْظُهُ:«لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ» - وَلَمْ يَذْكُرْ " وَآكِلَ ثَمَنِهَا ".
وَلَمْ يَقُلْ عَشَرَةً. وَقَالَ بَدَلَ أَبِي طُعْمَةَ، أَوْ عَلْقَمَةَ، وَالصَّوَابُ أَبُو طُعْمَةَ. وَأَبُو طُعْمَةَ هَذَا قَالَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ: ثِقَةٌ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا طَعَنَ فِيهِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ وَوَكِيعٌ ثِقَتَانِ نَبِيلَانِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَدِيثٌ جَيِّدٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، وَمِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَهَذِهِ طُرُقٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَفِي الْبَابِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ عَاصِرَ الْخَمْرِ وَمُعْتَصِرَهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَعْصِرُ عِنَبًا فَيَصِيرُ عَصِيرًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يُخَمَّرُ، وَقَدْ لَا يُخَمَّرُ، وَلَكِنْ لَمَّا قَصَدَ بِالِاعْتِصَارِ تَصْيِيرَهُ خَمْرًا اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَثَبَتَ أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مُحَرَّمٌ، فَتَكُونُ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ بَاطِلَةً وَالْأُجْرَةُ مُحَرَّمَةً.
وَإِذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ الَّتِي يُعِينُ بِهَا غَيْرَهُ فِي شَيْءٍ قَصَدَ بِهِ الْمَعْصِيَةَ إجَارَةً مُحَرَّمَةً بَاطِلَةً، فَبَيْعُ نَفْسِ الْعِنَبِ، أَوْ الْعَصِيرِ لِمَنْ يَتَّخِذْهُ خَمْرًا أَقْرَبُ إلَى التَّحْرِيمِ وَالْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْخَمْرِ مِنْ عَمَلِ الْعَاصِرِ، وَقَدْ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:«وَبَائِعِهَا وَمُبْتَاعِهَا وَحَامِلِهَا وَالْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ وَآكِلِ ثَمَنِهَا» يَدْخُلُ فِي هَذَا عَيْنُ الْخَمْرِ وَعَصِيرُهَا وَعِنَبُهَا، كَمَا دَخَلَ الْعِنَبُ وَالْعَصِيرُ فِي الْعَاصِرِ وَالْمُعْتَصِرِ، لِأَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلْعُونِينَ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي عَيْنِ الْخَمْرِ، كَالسَّاقِي، وَالشَّارِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ كَالْعَاصِرِ وَالْمُعْتَصِرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا جَمِيعًا.
يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: قِيلَ لِسَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدَ الْعَشَرَةِ: تَبِيعُ عِنَبًا لَكَ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ عَصِيرًا، فَقَالَ: بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إنْ بِعْتُ الْخَمْرَ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَتْ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ أَرْضٌ فِيهَا عِنَبٌ فَجَاءَ قَيِّمُهُ
عَلَيْهَا، فَقَالَ: إنَّ عِنَبَهَا قَدْ أَدْرَكَ فَمَا نَصْنَعُ بِهِ، قَالَ: بِيعُوهُ، قَالَ: إنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: اصْنَعُوهُ زَبِيبًا، قَالَ: إنَّهُ لَا يَجِيءُ زَبِيبٌ، قَالَ: فَرَكِبَ سَعْدٌ وَرَكِبَ مَعَهُ نَاسٌ حَتَّى إذَا أَتَوْا الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا الْعِنَبُ أَمَرَ بِعِنَبِهَا فَنُزِعَ مِنْ أُصُولِهِ وَحَرَثَهَا.
وَعَنْ عُقَارِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ: أَتَبِيعُ عِنَبًا لِي عَصِيرًا؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ زَبِّبْهُ، ثُمَّ بِعْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الْعَصِيرِ، فَقَالَ: لَا يَصْلُحُ قَالَ: فَقُلْت: فَشُرْبُهُ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ» .
ثُمَّ فِي مَعْنَى هَؤُلَاءِ كُلُّ بَيْعٍ، أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ إعَارَةٍ تُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةٍ إذَا ظَهَرَ الْقَصْدُ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزُولَ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ، مِثْلُ بَيْعِ السِّلَاحِ لِلْكُفَّارِ، أَوْ لِلْبُغَاةِ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ، وَبَيْعِ الرَّقِيقِ لِمَنْ يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ.
فَإِنَّ ذَلِكَ قِيَاسٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى عَاصِرِ الْخَمْرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إنَّمَا اسْتَحَقَّ اللَّعْنَةَ وَصَارَتْ إجَارَتُهُ وَبَيْعُهُ بَاطِلًا إذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ، أَوْ الْمُسْتَأْجِرَ يُرِيدُ التَّوَسُّلَ بِمَالِهِ وَنَفْعِهِ إلَى الْحَرَامِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ فِي الْعُقُودِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَلْعَنَ الْعَاصِرَ، وَأَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَعْصِرَ الْعِنَبَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُ التَّخْمِيرُ لِجَوَازِ تَبَدُّلِ الْقَصْدِ، وَلِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْقَصْدِ عِنْدَهُ فِي الْعُقُودِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ بِنِيَّتِهِ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ» ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَادَ لَكُمْ»
رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ فَرَدَّهُ وَقَالَ:«إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» .
وَكَذَلِكَ صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَصَحَّ عَنْهُ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ، لَمَّا صَادَ لَحْمَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، فَأَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ الْمُحْرِمِينَ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ وَغَيْرِهِ وَلَا مَحْمَلَ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبَاحَهُ لِمُحْرِمٍ لَمْ يُصَدْ لَهُ، وَرَدَّهُ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ صِيدَ لَهُ.
وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى إبَاحَتِهِ لِلْمُحْرِمِ مُطْلَقًا، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَقْيَسَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمَقَاصِدَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] .
فَحَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ صَيْدَ الْبَرِّ دُونَ طَعَامِهِ، وَصَيْدُهُ مَا صِيدَ مِنْهُ حَيًّا وَطَعَامُهُ مَا كَانَ قَدْ مَاتَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ أَكْلَ لَحْمِهِ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ قَالَ:{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] .
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالصَّيْدِ نَفْسَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمُحَرَّمُ وَلَوْ قَصَدَ تَحْرِيمَهُ مُطْلَقًا لَقَالَ: لَحْمُ الصَّيْدِ، كَمَا قَالَ: لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، فَلَمَّا بَيَّنَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ إذَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِلْحَرَامِ وَذَبَحَهُ لِأَجْلِهِ، كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلَوْ أَنَّهُ اصْطَادَهُ اصْطِيَادًا مُطْلَقًا، وَذَبَحَهُ لَكَانَ حَلَالًا لَهُ، وَلِلْمُحْرِمِ مَعَ أَنَّ الِاصْطِيَادَ وَالزَّكَاةَ عَمَلٌ حِسِّيٌّ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ فِيهِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ.
عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَصْدَ مُؤَثِّرٌ فِي تَحْرِيمِ الْعَيْنِ الَّتِي تُبَاحُ بِدُونِ الْقَصْدِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ فَفِي الْأَقْوَالِ وَالْعُقُودِ أَوْلَى، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا صَادَ الصَّيْدَ، أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ بِدَلَالَتِهِ، أَوْ إعَارَةِ آلَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُ فِعْلٌ ظَهَرَ بِهِ تَحْرِيمُ
الصَّيْدِ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ اُسْتُحِلَّ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَصَارَ كَذَكَاتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ. أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَشْعُرْ، وَإِنَّمَا الْحَلَالُ قَصَدَ أَنْ يَصِيدَهُ لِيَضِيفَهُ بِهِ، أَوْ لِيَهَبَهُ لَهُ أَوْ لِيَبِيعَهُ إيَّاهُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَهُ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا، لِئَلَّا يَكُونَ لِلْمُحْرِمِ سَبَبٌ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلِيُتِمَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ وَصِيَانَتَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُحْرِمِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَإِذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَهُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّيْدِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَأَبَاحَهَا لَهُ إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّيْدَ وَأَحَلَّهُ لَهُ إذَا ذَبَحَهُ غَيْرُهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ إنَّمَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ، فَهُوَ كَمَا إذَا قَصَدَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِالذَّبْحِ أَنْ يُحِلَّ لِلْمُحْرِمِ، فَإِنَّ الْمَنَاكِحَ وَالذَّبَائِحَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَفْعَلَ السَّبَبَ الْمُبِيحَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ.
وَيَتَأَيَّدُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الذَّبْحَ لَا يُحَلِّلُ الْبَهِيمَةَ حَتَّى يَقْصِدَ بِهِ أَكْلَهَا فَلَوْ قَصَدَ بِهِ جَعْلَهَا غَرَضًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ وَغَيْرُهُمَا إنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْمِلْكَ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْعُقُودِ لَمْ يُفِدْ حُكْمَهُ إذَا قَصَدَ الْإِحْلَالَ لِلْغَيْرِ، أَوْ إجَازَةَ قَرْضٍ بِمَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ إلَيْهَا فَهُوَ زَانٍ وَمَنْ أَدَانَ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ فَهُوَ سَارِقٌ» . رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ، بِإِسْنَادِهِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُشْتَرِيَ وَالْمُسْتَنْكِحَ إذَا قَصَدَا أَنْ لَا يُؤَدِّيَا الْعِوَضَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَحَلَّ الْفَرْجَ وَالْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَيَكُونُ كَالزَّانِي وَالسَّارِقِ فِي الْإِثْمِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» ، فَهَذِهِ النُّصُوصُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقَاصِدَ تُفِيدُ أَحْكَامَ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ
الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا.
وَالْأَحْكَامُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا اشْتَرَى، أَوْ اسْتَأْجَرَ، أَوْ اقْتَرَضَ وَنَوَى أَنَّ ذَلِكَ لِمُوَكِّلِهِ، أَوْ لِمُوَلِّيهِ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لَهُ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَاقِدِ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَمَلَّكَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَوَى أَنَّهُ لِمُوَكِّلِهِ وَقَعَ الْمِلْكُ لَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ لَمَّا اشْتَرَكَ هُوَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ فِي غَنِيمَةِ بَدْرٍ. نَعَمْ لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمُوَكِّلِ، لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ السِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ فَافْتَقَرَ الْعَقْدُ إلَى تَعْيِينِهِ لِذَلِكَ، لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَعْقُودًا لَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِمَالِكَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عِنْدَ تَغَيُّرِ النِّيَّةِ ثَبَتَ أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي التَّصَرُّفَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا، أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْوِي التَّبَرُّعَ وَالْهِبَةَ لَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ بِالْبَذْلِ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَهُ الرُّجُوعُ إنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِذْنِهِ وِفَاقًا، وَبِغَيْرِ، إذْنِهِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ.
فَصُورَةُ الْفِعْلِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ، هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَاتِ، أَوْ مِنْ بَابِ أَكْثَرِ التَّبَرُّعَاتِ بِالنِّيَّةِ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ إلَى غَيْرِهِ مَالًا رِبَوِيًّا بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَتَقَابَضَا، وَجَوَّزَ الدَّفْعَ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ هَذَا يَقْبِضُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يُعْطِي مِثْلَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِلْمَقَاصِدِ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الْقَرْضِ إرْفَاقُ الْمُقْتَرِضِ وَنَفْعُهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الْمُعَاوَضَةَ وَالرِّبْحَ، وَلِهَذَا شُبِّهَ بِالْعَارِيَّةِ حَتَّى سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنِيحَةَ وَرِقٍ، فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ الدَّرَاهِمَ، ثُمَّ اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ لَكِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ فَاسْتَرْجَعَ الْمِثْلَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَبَرَّعَ لِغَيْرِهِ بِمَنْفَعَةِ حَالِهِ، ثُمَّ اسْتَعَادَ الْعَيْنَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ رِبًا مُحَرَّمًا، وَلَوْ بَاعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ وَوَهَبَهُ دِرْهَمًا هِبَةً مُطْلَقَةً لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبَيْعِ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا.
فَلَوْلَا اعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ لَأَمْكَنَ كُلَّ مُرْبٍ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِاخْتِلَافِ النَّقْدِ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك أَلْفًا بِأَلْفٍ، وَوَهَبْتُك خَمْسَمِائَةٍ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ إنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ اشْتِرَائِهِ مِنْهُ تِلْكَ الْأَلْفَ فَتَصِيرُ دَاخِلَةً
فِي الْمُعَاوَضَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاهِبَ لَا يَهَبُ إلَّا لِلْأَجْرِ فَتَكُونُ صَدَقَةً، أَوْ لِكَرَامَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَتَكُونُ هَدِيَّةً، أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَمَا لَوْ وَهَبَ لِلْمُقْرِضِ، أَوْ وَهَبَ لِعَامِلِ الزَّكَاةِ شَيْئًا وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.
وَالْمُقْرِضُ الْمَحْضُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ إلَّا مِثْلُ مَالِهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا بِخِلَافِ الْبَائِعِ، فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ يُسَاوِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا غَرَضَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَإِنَّمَا يَبِيعُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَرْفَعَ سِكَّةً، أَوْ مَصُوغًا، أَوْ أَجْوَدَ فِضَّةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ، فَإِذَا قَابَلَتْ الصِّفَةُ جِنْسَهَا فِي الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ - فِي بَابِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَالْقَرْضِ - يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ لِأَنَّ الْعِوَضَ هُنَاكَ ثَبَتَ شَرْعًا لَا شَرْطًا فَصَارَ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي الْقَرْضِ وَالْإِتْلَافِ لَا يُقْصَدُ فِي الْبَيْعِ وَمَا يُقْصَدُ فِي الْبَيْعِ أَهْدَرَهُ الشَّارِعُ.
ثُمَّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهَذَا هُوَ الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ، فَلَوْلَا مَقَاصِدُ الْعِبَادِ وَنِيَّاتُهُمْ لَمَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ثُمَّ الْأَسْمَاءُ تَتْبَعُ الْمَقَاصِدَ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْأَحْكَامَ اخْتَلَفَتْ بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظٍ لَمْ تَخْتَلِفْ مَعَانِيهَا وَمَقَاصِدُهَا، بَلْ لَمَّا اخْتَلَفَتْ الْمَقَاصِدُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا وَأَحْكَامُهَا، وَإِنَّمَا الْمَقَاصِدُ حَقَائِقُ الْأَفْعَالِ وَقِوَامُهَا، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عُقُودِ الْمُكْرَهِ وَأَقْوَالِهِ مِثْلِ: بَيْعِهِ، وَقَرْضِهِ، وَرَهْنِهِ، وَنِكَاحِهِ، وَطَلَاقِهِ، وَرَجْعَتِهِ، وَيَمِينِهِ، وَنَذْرِهِ، وَشَهَادَتِهِ، وَحُكْمِهِ، وَإِقْرَارِهِ، وَرِدَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا مِنْهُ مُلْغَاةٌ مُهْدَرَةٌ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى بَعْضِهِ الْقُرْآنُ مِثْلُ قَوْلِهِ:{إِلا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] .
وَالْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ: «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي غِلَاقٍ» - أَيْ إكْرَاهٍ، إلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ.
فَنَقُولُ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَدْ أَتَى بِاللَّفْظِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ. وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ، وَإِرَادَتِهِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَكَوْنِهِ إنَّمَا قَصَدَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ حُكْمِهِ. فَعُلِمَ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ لَيْسَ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ اقْتِضَاءَ الْفِعْلِ أَثَرَهُ. فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ، أَوْ غَصَبَ، أَوْ أَتْلَفَ أَوْ بَخَسَ الْبَائِعَ مُكْرَهًا لَمْ نَقُلْ إنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ أَوْ الْغَصْبَ، أَوْ الْإِتْلَافَ، أَوْ الْبَخْسَ فَاسِدٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ. فَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي احْتَالَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَعْنًى آخَرَ مِثْلَ الْبَيْعِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الرِّبَا وَالتَّحْلِيلِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى رَدِّ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا لَكِنَّ الْمُكْرَهَ قَصْدُهُ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا قَصْدُهُ التَّوَسُّلُ إلَى غَرَضٍ رَدِيءٍ فَالْمُكْرَهُ وَالْمُحْتَالُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بِالسَّبَبِ حُكْمَهُ وَلَا بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَا التَّوَسُّلَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَظَاهِرِ ذَلِكَ السَّبَبِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرَ حُكْمِ السَّبَبِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا رَاهِبٌ - قَصْدُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ - وَلِهَذَا يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَالْآخَرَ رَاغِبٌ - قَصْدُهُ إبْطَالُ حَقٍّ، أَوْ إثْبَاتُ بَاطِلٍ وَلِهَذَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ. فَالْمُكْرَهُ يَبْطُلُ حُكْمُ السَّبَبِ فِيمَا عَلَيْهِ وَفِيمَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْمُحْتَالُ فَيَبْطُلُ حُكْمُ السَّبَبِ فِيمَا احْتَالَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ تَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحْتَالٌ كَمَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ كَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ. لَكِنَّ الْمُكْرَهَ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهَةً بِخِلَافِ الْمُحْتَالِ، وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ عُقُودُ الْهَزْلِ. وَعُقُودُ التَّلْجِئَةِ. إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا يَحْتَاجُ بَعْضُهُ إلَى أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ لَا أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ. وَيَحْتَاجُ بَعْضُهُ إلَى أَنْ يُجَابَ عَنْهُ.
فَنَقُولُ: الْهَازِلُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمُوجَبِهِ، وَإِرَادَةٍ لِحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ بَلْ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، وَنَقِيضُهُ الْجَادُّ: وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ - كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَدَّ فُلَانٌ إذَا عَظُمَ وَاسْتَغْنَى وَصَارَ ذَا حَظٍّ، وَالْهَزْلُ مِنْ هَزِلَ إذَا ضَعُفَ وَضَؤُلَ. كَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَهُ مَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَهُ قِوَامٌ مِنْ مَالٍ، أَوْ شَرَفٍ وَاَلَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِقِ فَمَا يُقِيمُهُ وَيُمْسِكُهُ - وَالتَّلْجِئَةُ هُوَ: أَنْ يَتَوَاطَأَ اثْنَانِ عَلَى إظْهَارِ الْعَقْدِ، أَوْ صِفَةٍ فِيهِ، أَوْ الْإِقْرَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صُورَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ. مِثْلُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ ظَالِمٌ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ فَيُوَاطِئُ بَعْضَ مَنْ يُخَافُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ صُورَةً
لِيَنْدَفِعَ ذَلِكَ الظَّالِمُ وَلِهَذَا سُمِّيَ تَلْجِئَةً - وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ أَلْجَأْتُهُ إلَى هَذَا الْأَمْرِ تَلْجِئَةً -؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ أُلْجِئَ إلَى هَذَا الْأَمْرِ، ثُمَّ صَارَ كُلُّ عَقْدٍ قُصِدَ بِهِ السُّمْعَةَ دُونَ الْحَقِيقَةِ يُسَمَّى تَلْجِئَةً وَإِنْ قُصِدَ بِهِ دَفْعُ حَقٍّ، أَوْ قُصِدَ بِهِ مُجَرَّدُ السُّمْعَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْهَازِلُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَكَحَ لَاعِبًا، أَوْ طَلَّقَ لَاعِبًا، أَوْ أَعْتَقَ لَاعِبًا فَقَدْ جَازَ» .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ إذَا تُكُلِّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ. وَالْعَتَاقُ. وَالنِّكَاحُ. وَالنَّذْرُ، وَعَنْ عَلِيٍّ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: ثَلَاثٌ اللَّعِبُ فِيهِنَّ كَالْجِدِّ الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتْقُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: النِّكَاحُ جِدُّهُ وَلَعِبُهُ سَوَاءٌ. رَوَاهُنَّ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ.
فَأَمَّا طَلَاقُ الْهَازِلِ فَيَقَعُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُهُ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ طَلَاقِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَزْلَ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَازِمٌ؛ فَلَوْ خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَوَلِيُّهَا حَاضِرٌ وَكَانَتْ فَوَّضَتْ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْت. أَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَخُطِبَتْ إلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: قَدْ أَنْكَحْت، فَقَالَ: لَا أَرْضَى لَزِمَهُ النِّكَاحُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ فِي السُّلَيْمَانِيَّةِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: نِكَاحُ الْهَازِلِ لَا يَجُوزُ. قَالَ سُلَيْمَانُ: إذَا عُلِمَ الْهَزْلُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَهُوَ جَائِزٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنْ قَامَ دَلِيلُ الْهَزْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا نِكَاحٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَاقِ. وَإِنْ قَامَ دَلِيلُ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ لَزِمَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْهَا لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا بَيْعُ الْهَازِلِ وَنَحْوُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ الْمَحْضَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا أَظُنُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ الصَّغِيرِ وَقَالَ فِي خِلَافِهِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الِانْتِصَارُ يَصِحُّ بَيْعُهُ كَطَلَاقِهِ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ قَاسَ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ.
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَتَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ، فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ، أَوْ أَبَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ الْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَهُ قَصْدٌ آخَرُ، كَالْمُكْرَهِ وَالْمُحَلِّلِ، فَإِنَّهُمَا قَصَدَا شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَمُوجَبِهِ. فَكَذَلِكَ جَاءَ الشَّرْعُ بِإِبْطَالِهِمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ قَصَدَ دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَقْصِدْ الْمُسَبَّبَ ابْتِدَاءً، وَالْمُحَلِّلَ قَصْدُهُ إعَادَتُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ، وَذَلِكَ يُنَافِي قَصْدَهُ لِمُوجَبِ السَّبَبِ، وَالْهَازِلُ قَصَدَ السَّبَبَ وَلَمْ يَقْصِدْ حُكْمَهُ وَلَا مَا يُنَافِي حُكْمَهُ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِلَغْوِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ لَمْ يَقْصِدْ اللَّفْظَ، وَإِنَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِكَثْرَةِ اعْتِيَادِ اللِّسَانِ لِلْيَمِينِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْهَزْلَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْعَاقِدِ الْآخَرِ.
وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَابِهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَبَابِهِ، قَالَ: الْحَدِيثُ وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعُقُودِ مَا يَكُونُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَقِيلَ: إنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا وَالْكَلَامَ كُلَّهُ جِدَّهُ وَهَزْلَهُ سَوَاءٌ، وَفُرِّقَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ وَالرَّجْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهَذَا فِي الْعِتْقِ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْبُضْعِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِبَاحَتُهُ، وَلِهَذَا تَجِبُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهَا الزَّوْجَةُ، وَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ حِلَّ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَى وَجْهٍ لَوْ أَرَادَ الْعَبْدُ حِلَّهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَمْ يُمْكِنْ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجَانِ بِبَذْلِ الْبُضْعِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ لَمْ يَجُزْ وَيُفِيدُ حُرْمَةَ مَا كَانَ حَلَالًا وَهُوَ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فَالتَّحْرِيمُ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَلِهَذَا لَمْ يُسْتَبَحْ إلَّا بِالْمَهْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مَعَ تَعَاطِي
السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَقْصِدَ عَدَمَ الْحُكْمِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي كَلِمَاتِ الْكُفْرِ قَالَ سُبْحَانَهُ:{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَضَمِّنَ لِمَعْنًى فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يُمْكِنُ قَبُولُهُ مَعَ دَفْعِ ذَلِكَ الْحَقِّ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْزِلَ مَعَ رَبَّهُ وَلَا يَسْتَهْزِئَ بِآيَاتِهِ، وَلَا يَتَلَاعَبَ بِحُدُودِهِ وَلَعَلَّ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ» فِي الْهَازِلِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَهَا لَعِبًا غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ لِحُكْمِهَا، وَحُكْمُهَا لَازِمٌ لَهُمْ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ بَذْلَهُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَلْعَبُ مَعَ الْإِنْسَانِ وَيَتَبَسَّطُ مَعَهُ، فَإِذَا تَكَلَّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ الْجَادِّ؛ لِأَنَّ الْمِزَاحَ مَعَهُ جَائِزٌ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرَيْنِ اللَّعِبِ وَالْهَزْلِ وَالْمِزَاحِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ غَيْرُ جَائِزٍ فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ فِي حُقُوقِهِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ يُمَازِحُهُ:«مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ؟ فَقَالَ: تَجِدُنِي رَخِيصًا. فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ غَالٍ» وَقَصَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالصِّيغَةُ صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ، فَلَا يَضُرُّ، لِأَنَّهُ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ: مَنْ يَتَزَوَّجُ امْرَأَتِي، وَنَحْوَ ذَلِكَ لَكَانَ مِنْ أَقْبَحِ الْكَلَامِ، بَلْ قَدْ عَابَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَ امْرَأَتَهُ كَأُمِّهِ. وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَضْرِبُ مَنْ يَدْعُو امْرَأَتَهُ أُخْتَهُ.
وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْحَاجَةِ لَا فِي الْمِزَاحِ، فَإِذَا كَانَ الْمِزَاحُ فِي الْبَيْعِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ جَائِزًا، وَفِي النِّكَاحِ وَمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُشْبِهُ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّوَافِلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ - وَالْبَيْعُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ - وَلِهَذَا اشْتَرَطَ مَنْ اشْتَرَطَ لَهُ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ مِثْلِ الْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ
الْهَزْلُ فِيهِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ فِيهِ رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَى كَلَامِهِ وَحُكْمِهِ. وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ هُوَ الْحُكْمَ بِحُكْمِ وِلَايَةِ الشَّارِعِ عَلَى الْعَبْدِ، فَالْمُكَلَّفُ قَصَدَ الْقَوْلَ وَالشَّارِعُ قَصَدَ الْحُكْمَ لَهُ فَصَارَ الْجَمِيعُ مَقْصُودًا.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا لَا يَنْقُضُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ؛ لِأَنَّا إنَّمَا قَصَدْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يُصَحِّحُ بَعْضَ الْأُمُورِ إلَّا مَعَ الْعَقْدِ، وَبَعْضُ الْأُمُورِ يُصَحِّحُهَا إلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَصْدٌ يُخَالِفُ مُوجَبَهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا قَدْ تَبَيَّنَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ إمَّا بَطَلَ؛ لِأَنَّ النَّاكِحَ قَصَدَ مَا يُنَاقِضُ النِّكَاحَ، لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُ لَهَا وَسِيلَةً إلَى رَدِّهَا إلَى الْأَوَّلِ، وَالشَّيْءُ إذَا فُعِلَ لِغَيْرِهِ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرَ لَا إيَّاهُ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِنِكَاحِهَا أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ لَا أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ.
وَهَذَا الْقَدْرُ يُنَافِي قَصْدَ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ، إذْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَنَافٍ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ بِحَالٍ حَتَّى يُقَالَ: قَصَدَ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً لَهُ فِي وَقْتٍ وَلِغَيْرِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يُشْبِهُ قَصْدَ الْمُتْعَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ فَقَدْ قِيلَ هُوَ كَقَصْدِ التَّحْلِيلِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُهُ بِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي النِّكَاحَ فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَآلِ بِوَجْهٍ، مَعَ كَوْنِهِ قَدْ أَتَى بِالْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ فِي الشَّرْعِ لِقَصْدِ النِّكَاحِ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا التَّلْجِئَةُ: فَاَلَّذِي، عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا شَيْئًا بِثَمَنٍ ذَكَرَاهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَلْجِئَةً لَا حَقِيقَةَ مَعَهَا، ثُمَّ تَعَاقَدَا الْبَيْعَ قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، فَالْبَيْعُ تَلْجِئَةٌ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَقُولَا فِي الْعَقْدِ قَدْ تَبَايَعْنَاهُ تَلْجِئَةً.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا النِّكَاحُ.
وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ عِنَبَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، وَقَالَ: وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ - إذَا أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَمَاتَ وَهِيَ وَارِثَةٌ فَهَذِهِ قَدْ أَقَرَّ لَهَا وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَلْجِئَةً فَيُرَدُّ، وَنَحْوَ هَذَا نَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ،
وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَكُونُ تَلْجِئَةً حَتَّى يَقُولَا فِي الْعَقْدِ قَدْ تَبَايَعْنَا هَذَا الْعَقْدَ تَلْجِئَةً.
وَمَأْخَذُ مَنْ أَبْطَلَهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الْعَقْدَ حَقِيقَةً وَالْقَصْدُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ وَأَنَّهُمَا يُمْكِنُهُمَا أَنْ يَجْعَلَاهُ هَزْلًا بَعْدَ وُقُوعِهِ فَكَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ.
وَمَأْخَذُ مَنْ يُصَحِّحُهُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ وَالْمُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ الشَّرْطُ الْمُقَارِنُ.
وَالْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى، وَيَقُولُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرْطِ الْمُقَارِنِ وَالْمُتَقَدِّمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا ذَاكَ فِي الشَّرْطِ الزَّائِدِ عَلَى الْعَقْدِ بِخِلَافِ الرَّافِعِ لَهُ، فَإِنَّ التَّشَارُطَ هُنَا يَجْعَلُ الْعَقْدَ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَهُنَاكَ هُوَ مَقْصُودٌ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَنْ شَرْطٍ مُقَارِنٍ.
فَأَمَّا نِكَاحُ التَّلْجِئَةِ فَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَحِيحٌ، كَنِكَاحِ الْهَازِلِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِلْعَقْدِ بَلْ هَازِلٌ لَهُ، وَنِكَاحُ الْهَازِلِ يَصِحُّ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ رَفْعَ مُوجَبِهِ، مِثْلُ: أَنْ يَشْرِطَ أَنْ لَا يَطَأَهَا أَوْ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ يَصِحُّ الْعَقْدُ دُونَ الشَّرْطِ فَالْإِنْفَاقُ عَلَى التَّلْجِئَةِ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَعْقِدَا عَقْدًا لَا يَقْتَضِي مُوجَبَهُ وَهَذَا لَا يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ قَصَدَ رَفْعَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهَذَا أَمْرٌ مُمْكِنٌ فَصَارَ قَصْدُهُ مُؤَثِّرًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ وَهَذَا فَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقٌ لِلْفَرْقِ الْأَوَّلِ بَيْنَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَالْهَازِلِ.
فَإِنَّ الْهَازِلَ قَصَدَ قَطْعَ مُوجَبِ السَّبَبِ عَنْ السَّبَبِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ ذَلِكَ قَصْدٌ لِإِبْطَالِ حُكْمِ الشَّارِعِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَقْدَحُ هَذَا الْقَصْدُ فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَالْمُحَلِّلُ قَصَدَ رَفْعَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهَذَا مُمْكِنٌ فَيَكُونُ قَصْدًا مُؤَثِّرًا فَيَقْدَحُ فِي مَقْصُودِ النِّكَاحِ فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مُمْكِنٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَازِلَ يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ فَإِنْ أَحَبَّ قَطْعَهُ احْتَاجَ إلَى قَصْدٍ ثَانٍ. وَالْمُحَلِّلُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ قَدْ عَزَمَ عَلَى رَفْعِهِ.
وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ رَفْعَ الْعَقْدِ وَهُوَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ، أَوْ الْمُتْعَةِ
كَانَ بَاطِلًا. وَلَوْ شَرَطَا فِيهِ رَفْعَ حُكْمِهِ، مِثْلُ عَدَمِ الْحِيَلِ وَنَحْوِهِ لَكَانَ يُصَحِّحُهُ مَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْأَوَّلَ وَمَنْ قَالَ هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: لَوْ قَالَ زَوَّجْتُك هَازِلًا فَقَالَ قَبِلْت أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ كَمَا لَوْ قَالَ طَلَّقْت هَازِلًا وَيَتَخَرَّجُ فِي نِكَاحِ التَّلْجِئَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ الْمَوْجُودَ قَبْلَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ فِي أَظْهَرِ الطَّرِيقَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَلَوْ اشْتَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ نِكَاحُ تَلْجِئَةٍ لَا حَقِيقَةٍ لَكَانَ نِكَاحًا بَاطِلًا، وَإِنْ قِيلَ: إنَّ فِيهِ خِلَافًا فَإِنَّ أَسْوَأَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ شَرَطَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ وَهَذَا الشَّرْطُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَزْلِ فَإِنَّهُ قَصْدٌ مَحْضٌ لَمْ يَتَشَارَطَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَهُ أَحَدُهُمَا وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَهْزِلَ فِيمَا يُخَاطِبُ بِهِ غَيْرَهُ وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ.
وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا فِي السِّرِّ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ وَأَظْهَرَا فِي الْعَقْدِ أَلْفَيْنِ فَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْقَدِيمِ وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُمَا الثَّمَنُ مَا أَظْهَرَاهُ عَلَى قِيَاسِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ فِي الْمَهْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا أَظْهَرَاهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ التَّلْجِئَةِ فِي الثَّمَنِ وَالتَّلْجِئَةِ فِي الْبَيْعِ بِأَنَّ التَّلْجِئَةَ فِي الْبَيْعِ تَجْعَلُهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَالْقَصْدُ مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ وَهُنَا الْعَقْدُ مَقْصُودٌ وَمَا تَقَدَّمَهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْجَمِيعِ بِمَا أَظْهَرَاهُ، وَفِي الْمَهْرِ عَنْهُ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي التَّعْلِيقِ الْجَدِيدِ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِثْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ: الثَّمَنُ مَا أَسَرَّاهُ وَالزِّيَادَةُ سُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ بِخِلَافٍ الْمَهْرِ إلْحَاقًا لِلْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِلْحَاقًا لِلْمَهْرِ بِالنِّكَاحِ، وَجَعَلَا الزِّيَادَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَهِيَ لَاحِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَكْسَ هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَسْمِيَةَ الْعِوَضِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ، وَقَالَ صَاحِبَاهُ: الْعِبْرَةُ فِي الْجَمِيعِ بِمَا أَسَرَّاهُ.
وَإِنَّمَا يَتَحَرَّرُ الْكَلَامُ فِي هَذَا بِمَسْأَلَةِ الْمَهْرِ، وَلَهَا فِي الْأَصْلِ صُورَتَانِ؛ وَكَلَامُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا عَامٌّ فِيهِمَا، أَوْ مُجْمَلٌ.
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْقِدُوهُ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ وَقَدْ اتَّفَقُوا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفٌ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ سُمْعَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدُوهُ بِالْأَقَلِّ، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ تَصَادَقُوا عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ مِنْ جِنْسِ السِّرِّ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالُوا: وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ
أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِي الرَّجُلِ يُصْدِقُ صَدَاقًا فِي السِّرِّ وَفِي الْعَلَانِيَةِ شَيْئًا آخَرَ يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى شَيْءٍ وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْهَرَ فِي السِّرِّ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ فِي رَجُلٍ أَصْدَقَ صَدَاقًا سِرًّا وَصَدَاقًا عَلَانِيَةً يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ إذَا كَانَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ قِيلَ لَهُ فَقَدْ أَشْهَدَ شُهُودًا فِي السِّرِّ بِغَيْرِهِ قَالَ: وَإِنْ؛ أَلَيْسَ قَدْ أَقَرَّ بِهَذَا أَيْضًا عِنْدَ شُهُودٍ؟ يُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ رضي الله عنه أَقَرَّ بِهِ أَيْ رَضِيَ بِهِ وَالْتَزَمَهُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] . وَهَذَا يَعُمُّ التَّسْمِيَةَ فِي الْعَقْدِ وَالِاعْتِرَافَ بَعْدَهُ وَيُقَالُ أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ وَأَقَرَّ لِلسُّلْطَانِ بِالطَّاعَةِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الرَّجُلِ يُعْلِنُ مَهْرًا وَيُخْفِي آخَرَ أُوخِذَ بِمَا يُعْلِنُ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَلَانِيَةِ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي السِّرِّ وَأَعْلَنُوا مَهْرًا آخَرَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا، وَأَمَّا هُوَ فَيُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِمَهْرِ الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا أَسَرَّ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ لِئَلَّا يَحْصُلَ مِنْهُمْ غُرُورٌ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَأَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِمَهْرِ السِّرِّ، فَقِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ.
وَقِيلَ: بَلْ ذَاكَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ: إذَا عَلِمَ الْمَشْهُودُ أَنَّ الْمَهْرَ الَّذِي يُظْهِرُهُ سُمْعَةٌ، وَأَنَّ أَصْلَ الْمَهْرِ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَزَوَّجَ وَأَعْلَنَ الَّذِي قَالَ فَالْمَهْرُ هُوَ السِّرُّ وَالسُّمْعَةُ بَاطِلَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَإِسْحَاقَ.
وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
يَبْطُلُ الْمَهْرُ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَهُوَ خِلَافُ مَا حَكَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسِّرِّ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ تَلْجِئَةٌ، فَقَالَ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ أَظْهَرَ صَدَاقًا وَأَسَرَّ غَيْرَ ذَلِكَ نُظِرَ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالشُّهُودِ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَوْكَدَ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ تَدْفَعُ الْعَلَانِيَةَ.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ تَأَوَّلَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ هَذَا عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ السِّرِّ عُدُولٌ وَبَيِّنَةَ الْعَلَانِيَةِ، غَيْرُ عُدُولٍ حُكِمَ بِالْعُدُولِ قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ حَكَمَ بِنِكَاحِ السِّرِّ إذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِنِكَاحِ الْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: إذَا تَكَافَأَتْ الْبَيِّنَاتُ وَقَدْ شَرَطُوا فِي السِّرِّ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْعَلَانِيَةِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَا يُطَالِبُوهُ بِالظَّاهِرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» فَإِنَّ الْقَاضِيَ، وَظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَبِي حَفْصٍ أَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لِلسِّرِّ حُكْمًا قَالَ وَالْمَذْهَبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
قُلْت: كَلَامُ أَبِي حَفْصٍ الْأَوَّلُ فِيمَا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ النِّكَاحَ عُقِدَ فِي السِّرِّ بِالْمَهْرِ الْقَلِيلِ وَلَمْ يَثْبُتْ نِكَاحُ الْعَلَانِيَةِ، وَكَلَامُهُ الثَّانِي فِيمَا إذَا ثَبَتَ نِكَاحُ الْعَلَانِيَةِ، وَلَكِنْ تَشَارَطُوا إنَّمَا يُظْهِرُونَ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو حَفْصٍ أَشْبَهُ بِكَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ، فَإِنَّ عَامَّةَ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ، وَلَمْ يَثْبُتْ بَيِّنَةٌ وَلَا اعْتِرَافٌ أَنَّ مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ سُمْعَةٌ، بَلْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِالْأَكْثَرِ، وَادُّعِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُؤَاخَذَ بِمَا أَقَرَّ بِهِ إنْشَاءً، أَوْ إخْبَارًا. وَإِذَا أَقَامَ شُهُودًا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ تَرَاضَوْا بِدُونِ ذَلِكَ حُكِمَ بِالْبَيِّنَةِ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ التَّرَاضِيَ بِالْأَقَلِّ فِي وَقْتٍ لَا يَمْنَعُ التَّرَاضِيَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ:" أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَلَانِيَةِ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا بِمَا كَانَ أَسَرَّهُ ".
فَقَوْلُهُ: " لِأَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ، وَإِلَّا فَمَا يَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ لَا يُعَلَّلُ بِالْإِشْهَادِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفُوا لَهُ وَأَمَّا هُوَ فَيُؤَاخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ وَأَنَّ أُولَئِكَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْوَفَاءُ.
وَقَوْلُهُ " يَنْبَغِي " تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ أَكْثَرَ مِمَّا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُسْتَحَبِّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ زُوِّجَتْ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى أَلْفٍ وَفِي السِّرِّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ سَوَاءً أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ وَهُوَ خَرَّجَ: يُؤَاخَذُ بِالْأَكْثَرِ وَقُيِّدَتْ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا وَأَنَّ كِلَيْهِمَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ.
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: وَهُوَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، فَهُنَا قَالَ الْقَاضِي، - فِي الْمُجَرَّدِ وَالْجَامِعِ: إنْ تَصَادَقَا عَلَى نِكَاحِ السِّرِّ لَزِمَ نِكَاحُ السِّرِّ بِمَهْرِ السِّرِّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُتَقَدِّمَ قَدْ صَحَّ وَلُزُومَ النِّكَاحِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَحَمَلَ مُطْلَقَ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْخِرَقِيِّ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى صَدَاقَيْنِ سِرٍّ وَعَلَانِيَةٍ أَخَذْنَا بِالْعَلَانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ السِّرُّ قَدْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ: تَزَوَّجَتْ فِي الْعَلَانِيَةِ عَلَى أَلْفٍ وَفِي السِّرِّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَعُمُومُ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، ثُمَّ طَرِيقُهُ وَطَرِيقَةُ جَمَاعَةٍ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْعَلُوا مَا أَظْهَرَاهُ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ بَعْدَ لُزُومِهِ لَازِمَةٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَ السِّرُّ هُوَ الْأَكْثَرَ، أُوخِذَ بِهِ أَيْضًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ أُوخِذَ بِالْعَلَانِيَةِ يُؤَاخَذُ بِالْأَكْثَرِ.
وَلِهَذَا الْقَوْلِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ: وَهُوَ أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَكْتُمُوهُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَنَصِّهِمَا. فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ كَانَتْ الْعِبْرَةُ إنَّمَا هِيَ بِالثَّانِي فَقَدْ تَحَرَّرَ أَنَّ أَصْحَابَنَا مُخْتَلِفُونَ، هَلْ يُؤَاخَذُ بِصَدَاقِ الْعَلَانِيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَقَطْ فِيمَا إذَا كَانَ السِّرُّ تَوَاطُئًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ؟ وَإِنْ كَانَ السِّرُّ عَقْدًا، فَهَلْ هِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا أَوْ يُؤَاخَذُ هُنَا بِالسِّرِّ فِي الْبَاطِنِ بِلَا تَرَدُّدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ظَاهِرًا فَقَطْ. وَإِنَّهُمْ فِي الْبَاطِنِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُؤَاخَذُوا إلَّا بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَمْ يُرِدْ نَقْضًا، وَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ.
وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ وَصِفَاتِهِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ سُمْعَةً كَذِكْرِهِ هَزْلًا وَالنِّكَاحُ جِدُّهُ وَهَزْلُهُ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ مَا هُوَ
فِيهِ. يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ حِلَّ الْبُضْعِ مَشْرُوطٌ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَقْدِ وَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ عَلَى مَا أَظْهَرَاهُ فَيَكُونُ وُجُوبُ الْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ.
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُقُودِ الْهَزْلِ وَالتَّلْجِئَةِ قَدْ يُعَارَضُ بِمَا يَصِحُّ مِنْهَا عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ الْحُكْمِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ تَحْقِيقُ مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَقَاصِدِ. فَنَقُولُ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ السُّنَّةَ وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ فَرَّقَتْ بَيْنَ قَصْدِ التَّحْلِيلِ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْهَازِلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا السُّنَّةَ وَالْآثَارَ الدَّالَّةَ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْهَازِلِ، ثُمَّ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ نُصُوصٌ فِي أَنَّ قَصْدَ التَّحْلِيلِ مَانِعٌ مِنْ حِلِّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ الْفَرْقُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم مَعَ السُّنَّةِ، وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ مِنْ أَجْوَدِ الْحِيَلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا فَإِذَا بَطَلَ فَمَا سِوَاهُ مِنْ الْحِيَلِ أَبْطَلُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْهَزْلَ لَا يَقْدَحُ فِي اعْتِبَارِ الْقَصْدِ لِئَلَّا تَتَنَاقَضَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.
الثَّانِي: إنَّمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَصْدَ مُعْتَبَرٌ فِي، الْعُقُودِ وَمُؤَثِّرٌ فِيهَا، وَلَمْ نَقُلْ إنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ مُؤَثِّرٌ فِيهَا، وَالْهَازِلُ وَنَحْوُهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ قَصْدٌ يُخَالِفُ مُوجَبَ الْعَقْدِ، وَلَكِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الْقَصْدُ إلَى مُوجَبِ الْعَقْدِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ قَصْدِ الْحُكْمِ وَبَيْنَ وُجُودِ قَصْدِ ضِدِّهِ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَصْدِ التَّكَلُّمِ، وَإِرَادَتِهِ. فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْكَلِمَةَ صَدَرَتْ مِنْ نَائِمٍ، أَوْ ذَاهِلٍ، أَوْ قَصَدَ كَلِمَةً فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِأُخْرَى، أَوْ سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى مِثْلِ هَذَا حُكْمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَطُّ، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
وَالْكَلَامُ يَكُونُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَمَلِ اللِّسَانِ وَحَرَكَتِهِ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْحَرَكَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تُسَمَّى كَلَامًا أَيْضًا. فَإِذَا عَمِلَهُ لَمْ يَقْصِدْ مُوجَبَهُ وَمُقْتَضَاهُ كَانَ هَازِلًا لَاعِبًا، فَإِنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ شَيْئًا مِنْ فَوَائِدِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي فَوَائِدَهُ الشَّرْعِيَّةَ، فَهُنَا أَمْكَنَ تَرَتُّبُ الْفَائِدَةِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْقَوْلِ الْمُقْتَضِي فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ تَرَتُّبًا شَرْعِيًّا لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَإِذَا قَصَدَ الْمُنَافِيَ فَقَدْ عَارَضَ الْمُقْتَضِيَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا، فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا الْوَجْهِ.
الثَّالِثِ: أَنَّ الْهَازِلَ لَوْ وَصَلَ قَوْلَهُ بِلَفْظِ الْهَزْلِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: طَلَّقْتُكِ هَازِلًا، أَوْ طَلَّقْتُكِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ.
وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهِ لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَازِلًا، أَوْ زَوَّجْتُكَ غَيْرَ قَاصِدٍ لَأَنْ تَمْلِكَ الْمَرْأَةَ. فَأَمَّا لَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ عَلَى أَنْ تُحِلَّهَا بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ، أَوْ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَهَا إذَا أَحْلَلْتهَا لَمْ يَصِحَّ، فَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَفْظًا فَثُبُوتُهُ بِالْبَيِّنَةِ مِثْلُهُ سَوَاءً بَلْ أَوْلَى، وَسِرُّ هَذَا الْفَرْقِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَإِنَّ الْهَازِلَ مَعَ عَدَمِ قَصْدِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَالْعَدَمِ لَوْ أَظْهَرَهُ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ، وَالْمُحَلِّلُ وَنَحْوُهُ مَعَهُ قَصْدٌ يُنَافِي الْمُقْتَضِيَ وَمَا يُنَافِي الْمُقْتَضِيَ لَوْ أَظْهَرَهُ كَانَ شَرْطًا فَالْهَازِلُ عَقَدَ عَقْدًا نَاقِصًا فَكَمَّلَهُ الشَّارِعُ. وَالْمُحَلِّلُ زَادَ عَلَى الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ مَا أَوْجَبَ عَدَمَهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ نِكَاحَ الْهَازِلِ وَنَحْوَهُ حُجَّةٌ لِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ مَنَعَ أَنْ تُتَّخَذَ آيَاتُ اللَّهِ هُزُوًا، وَأَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ الْعُقُودُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْجِدِّ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ مُوجَبَاتِهَا الشَّرْعِيَّةَ. وَلِهَذَا يُنْهَى عَنْ الْهَزْلِ بِهَا، وَعَنْ التَّلْجِئَةِ، كَمَا يُنْهَى عَنْ التَّحْلِيلِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ طَلَّقْتُكِ رَاجَعْتُكِ» . فَعُلِمَ أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا حَرَامٌ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَمَعْنَى فَسَادِهِ عَدَمُ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ الَّذِي يُرِيدُهُ الْمَنْهِيُّ، مِثْلُ نَهْيِهِ عَنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّ فَسَادَهُ عَدَمُ حُصُولِ الْمِلْكِ، وَالْهَازِلُ اللَّاعِبُ بِالْكَلَامِ غَرَضُهُ التَّفَكُّهُ وَالتَّلَهِّي وَالتَّمَضْمُضُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ حُكْمِهِ لَهُ، فَأَفْسَدَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ هَذَا الْغَرَضَ بِأَنْ أَلْزَمَهُ الْحُكْمَ مَتَى تَكَلَّمَ بِهَا، فَلَمْ يَتَرَتَّبْ غَرَضُهُ مِنْ التَّلَهِّي بِهَا وَاللَّعِبِ وَالْخَوْضِ، بَلْ لَزِمَهُ النِّكَاحُ وَثَبَتَ فِي حَقِّهِ النِّكَاحُ وَمَتَى ثَبَتَ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ تَبِعَتْهُ أَحْكَامُهُ، وَالْمُحْتَالُ كَالْمُحَلِّلِ مِثْلُ غَرَضِهِ إعَادَةُ الْمَرْأَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَجِبُ فَسَادُ هَذَا الْغَرَضِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَحِلَّ عَوْدُهَا، وَإِنَّمَا لَا يَحِلُّ عَوْدُهَا إذَا كَانَ نِكَاحُهُ فَاسِدًا فَيَجِبُ إفْسَادُ نِكَاحِهِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ اعْتِبَارَ الشَّارِعِ لِلْمَقَاصِدِ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ صِحَّةَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَفَسَادَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ.
وَإِيضَاحُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَنْ تُتَّخَذَ آيَاتُهُ هُزُوًا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ النِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ، وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ يُلْعَبَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيُسْتَهْزَأَ بِآيَاتِهِ فَيُقَالُ: طَلَّقْتُكِ، رَاجَعْتُكِ، خَلَعْتُكِ، رَاجَعْتُكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالْكَلَامِ الْحَقِّ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يُقَالَ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، إمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ مَقْصُودٌ غَيْرُ حَقِيقَةٍ كَكَلَامِ الْمُنَافِقِ، أَوْ لَا يُقْصَدَ إلَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِهِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، كَكَلَامِ السُّفَهَاءِ، وَكَلَامُ الْوَجْهَيْنِ حَرَامٌ وَهُوَ كَذِبٌ وَلَعِبٌ، فَيَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ. فَيُمْنَعُ الْأَوَّلُ مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ الْمُبَايِنِ لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَيَمْنَعُ الثَّانِي مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ الَّذِي هُوَ اللَّعِبُ.
ثُمَّ إنْ كَانَ مَنْعُهُ مِنْ مَقْصُودِهِ بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ بَعْضِهَا، أَوْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ شُرِعَ ذَلِكَ، وَالْمُحَلِّلُ إنَّمَا يُمْنَعُ الْمَقْصُودَ الْبَاطِلَ بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ مُطْلَقًا، وَإِلَّا فَتَصْحِيحُ النِّكَاحِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ، وَلَمَّا لَحَظَ بَعْضُ أَهْلِ الرَّأْيِ هَذَا رَأَى أَنْ يُصَحِّحَ النِّكَاحَ وَيَمْنَعَ حُصُولَ الْحِلِّ، كَمَا يُوقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ وَيُوجَبُ الْمِيرَاثُ.
لَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ هُنَا، لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْعَنَ إلَّا الْمُحَلَّلُ لَهُ فَقَطْ، إذَا كَانَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْحِلِّ لِنَفْسِهِ. وَلَكَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى تَيْسًا مُسْتَعَارًا؛ لِأَنَّهُ زَوْجٌ مِنْ الْأَزْوَاجِ، غَيْرَ أَنَّ نِكَاحَهُ لَمْ يُفِدْ الْحِلَّ الْمُطْلَقَ كَالنِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ، ثُمَّ إنَّ مَادَّةَ الْفَسَادِ إنَّمَا تَنْحَسِمُ بِتَحْرِيمِ الْعَقْدَيْنِ مَعًا، وَالطَّلَاقُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ.
وَلِهَذَا إذَا وَقَعَ مَعَ التَّحْرِيمِ وَقَعَ كَطَلَاقِ الْبِدْعَةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ مَعَ التَّحْرِيمِ كَانَ فَاسِدًا كَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، فَلَمَّا مَنَعَ الشَّارِعُ مَقْصُودَ الْمُحَلِّلِ مَنَعَ أَيْضًا مَقْصُودَ الْهَازِلِ وَهُوَ اللَّعِبُ بِالْعُقُودِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءٍ لِأَحْكَامِهَا فَأَوْجَبَ أَحْكَامَهَا مَعَهَا، وَهَذَا كَلَامٌ مَتِينٌ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ وَجَدَ الشَّرِيعَةَ مُتَنَاسِبَةً، وَأَنَّ تَصْحِيحَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيَلِ.
وَكَذَلِكَ نِكَاحُ التَّلْجِئَةِ إذَا قِيلَ بِصِحَّتِهِ، فَإِنَّ التَّلْجِئَةَ نَوْعٌ مِنْ الْحِيَلِ بِإِظْهَارِ صُورَةِ الْعَقْدِ لِسُمْعَةٍ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ مُوجَبَهَا بِإِبْطَالِ هَذِهِ الْحِيَلِ، بِأَنْ يَلْتَزِمُوا مُوجَبَهُ حَتَّى لَا يَجْتَرِئَ أَحَدٌ أَنْ
يَعْقِدَ الْعَقْدَ إلَّا عَلَى وَجْهٍ لِرَغْبَةٍ فِي مَقْصُودِهَا دُونَ الِاحْتِيَالِ بِهَا إلَى غَيْرِ مَقَاصِدِهَا.
وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا أَنَّ كَلِمَتَيْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ إذَا قَصَدَ الْإِنْسَانُ بِهِمَا غَيْرَ حَقِيقَتِهِمَا صَحَّ كُفْرُهُ وَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ. فَإِنَّ الْمُنَافِقَ قَصَدَ بِالْإِيمَانِ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ لِمَقْصُودِ الْكَلِمَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ، وَالرَّجُلُ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَصَالِحِ دُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةِ اعْتِقَادٍ صَحَّ كُفْرُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ مُعْتَقِدًا لِحَقِيقَتِهَا، وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ الْكَذِبِ جَادًّا وَلَا هَازِلًا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ أَوْ الْكَذِبِ جَادًّا، أَوْ هَازِلًا كَانَ كَافِرًا، أَوْ كَاذِبًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ بِهَذَا الْكَلِمَاتِ غَيْرُ مُبَاحٍ، فَيَكُونُ وَصْفُ الْهَزْلِ مُهْدَرًا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَتَبْقَى الْكَلِمَةُ مُوجِبَةً لِمُقْتَضَاهَا.
وَنَظِيرُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَصْدَ اللَّفْظِ بِالْعُقُودِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، بِحَيْثُ لَوْ جَرَى اللَّفْظُ فِي حَالِ نَوْمٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ سَبْقِ اللِّسَانِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَهُ الْقَلْبُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَهُمْ صَحَّحُوا عُقُودَ السَّكْرَانِ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهِ اللَّفْظَ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ عَقْلَهُ كَانَ فِي حُكْمِ مَنْ بَقِيَ عَقْلُهُ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْهَازِلِ وَالْمُخَادِعِ لَمَّا أَخْرَجَا الْعَقْدَ عَنْ حَقِيقَتِهِ. فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمَا مِنْهُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ عُوقِبَا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمَا. وَمَقْصُودُ الْهَازِلِ نَفْيُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَيَثْبُتُ. وَمَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ ثُبُوتُ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ، وَثُبُوتُ الْحِلِّ لَهُ لِيَكُونَ وَسِيلَةً فَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِعَكْسِ السُّنَّةِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَصَحَّحَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ دُونَ نِكَاحِ الْهَازِلِ، نَظَرًا إلَى أَنَّ الْهَازِلَ لَمْ يَقْصِدْ مُوجَبَ الْعَقْدِ، فَصَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا وَالْمُحَلِّلُ قَصَدَ مُوجَبَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلَى غَرَضٍ آخَرَ.
وَهَذَا مُخَيَّلٌ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، لَكِنْ يَصُدُّ عَنْ اعْتِبَارِهِ مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَّةِ، وَبَعْدَ إمْعَانِ النَّظَرِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُهُ نَظَرًا كَمَا تَبَيَّنَ أَثَرًا، فَإِنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَقْدِ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهِ مُحَرَّمٌ، فَإِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَقَدْ أُعِينَ عَلَى التَّحْرِيمِ الْمُحَرَّمِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إفْسَادٌ لِهَذَا الْهَزْلِ الْمُحَرَّمِ وَإِبْطَالُ اللَّعِبِ يَجْعَلُ الْهَزْلَ بِآيَاتِ اللَّهِ جِدًّا، كَمَا جُعِلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ، وَقَصْدُ الْمُحَلِّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِقَصْدِ
الشَّارِعِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الرَّدَّ إلَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْهُ الشَّارِعُ، فَقَدْ قَصَدَ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الشَّارِعُ، وَلَمْ يَقْصِدْ مَا قَصَدَهُ، فَيَجِبُ إبْطَالُ قَصْدِهِ بِإِبْطَالِ وَسِيلَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّوَاهِدِ أَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ هَذَا يَجْتَثُّ قَاعِدَةَ الْحِيَلِ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ هُوَ الَّذِي لَا يَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفِ مَقْصُودَهَا الَّذِي جُعِلَ لِأَجْلِهِ، بَلْ يَقْصِدُ بِهِ إمَّا اسْتِحْلَالَ مُحَرَّمٍ، أَوْ إسْقَاطَ وَاجِبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِثْلُ الْمُحَلِّلِ الَّذِي لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ مِنْ الْأُلْفَةِ وَالسَّكَنِ الَّتِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ نَقِيضَ النِّكَاحِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لِتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ.
وَكَذَلِكَ الْمُعِينُ لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ الْبَيْعِ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يُعْطِيَ أَلْفًا حَالَّةً بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ مُؤَجَّلَةً. وَكَذَلِكَ الْمُخَالِعُ خُلْعَ الْيَمِينِ لَا يَقْصِدُ مَقْصُودَ الْخُلْعِ مِنْ الْفُرْقَةِ وَالْبَيْنُونَةِ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ حِلَّ يَمِينِهِ بِدُونِ الْحِنْثِ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مَقْصُودَ الْخُلْعِ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ. وَهَذَا يُوجِبُ فَسَادَ الْحِيَلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِتِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ مُوجَبَاتِهَا الشَّرْعِيَّةَ، بَلْ قَصَدَ خِلَافَهَا وَنَقِيضَهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَصَدَ بِهَا إسْقَاطَ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالَ مُحَرَّمٍ دُونَ سَبَبِهِ الشَّرْعِيِّ.
لَكِنْ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ كَالْعُقُودِ الَّتِي قَدْ تَوَاطَأَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ إبْطَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَبْطُلُ الْحُكْمُ الَّذِي اُحْتِيلَ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ النِّصَابَ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ، أَوْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ فِرَارًا مِنْ الْإِرْثِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي.
وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَاقِعٌ لَكِنْ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَيَثْبُتُ الْإِرْثُ إبْطَالًا لِلتَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنْ صَحَّ فِي حُكْمٍ آخَرَ. كَمَا أَنَّ صَيْدَ الْحَلَالِ لِلْمُحْرِمِ وَذَبْحَهُ يَجْعَلُ اللَّحْمَ ذَكِيًّا فِي حَقِّ الْحَلَالِ مَيِّتًا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ، وَكَمَا أَنَّ بَيْعَ الْمَعِيبِ وَالْمُدَلَّسِ إذَا صَدَرَ مِمَّنْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ كَانَ حَرَامًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ حَلَالًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي.
وَكَذَلِكَ رِشْوَةُ الْعَامِلِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَمِنْ هَذَا إعْطَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ مَا لَا