المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المسلك الثاني عشر أن جواز التحليل قد أفضى إلى مفاسد كثيرة] - الفتاوى الكبرى لابن تيمية - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ] [

- ‌نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ]

- ‌[الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ بُطْلَانُ الْحِيَلِ وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَخْبَرَ اللَّه عَنْ أَهْل الْجَنَّة الَّذِينَ بَلَاهُمْ فِي سُورَة نُون]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ قَالَ اللَّه وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ]

- ‌[الْوَجْه السَّادِسُ قَوْل النَّبِيّ مَنْ أَدَخَلَ فَرَسًا بَيْن فَرَسَيْنِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّامِنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا]

- ‌[الْوَجْهُ الْعَاشِرُ قَالَ صلى الله عليه وسلم لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا]

- ‌[الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْحِيلَة تَصْدُرُ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً]

- ‌ أَقْسَامِ الْحِيَلِ

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ]

- ‌[الْوَجْه الثَّامِن عَشْر أوجب اللَّه النَّصِيحَة وَالْبَيَان فِي الْمُعَامَلَات خَاصَّة]

- ‌[الْوَجْه التَّاسِع عَشْر اسْتَعْمَلَ الرَّسُول رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَة]

- ‌[الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ إذَا تَأَمَّلْت عَامَّةَ الْحِيَلِ وَجَدْتهَا رَفْعًا لِلتَّحْرِيمِ]

- ‌[الْوَجْه الرَّابِع وَالْعُشْرُونَ أَنْ اللَّه وَرَسُوله سَدّ الذَّرَائِع الْمُفْضِيَة إلَى الْمَحَارِم]

- ‌[الطَّرِيقُ الثَّانِي إبْطَالُ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ] [

- ‌الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ]

- ‌[الْمَسْلَك الثَّالِث التَّحْلِيل لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ النَّبِيّ يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ طلق ثَلَاثًا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[الْمَسْلَك الْخَامِس قَالَ اللَّه بَعْد الطَّلَاق مَرَّتَانِ وَبَعْد الخلع فَإِن طلقها]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ]

- ‌[كِتَابٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الطَّوَائِفِ الْمُلْحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ] [

- ‌خِطْبَة الْكتاب]

- ‌[أَوْجُهٍ الرد عَلَيَّ الْمعَارضين]

- ‌[الْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ]

- ‌[فَصْلٌ قَالُوا وَلَا نَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ]

- ‌[الْأَصْلُ التَّاسِعُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا وَإِثْبَاتِ قِدَمِ كَلَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ إنَّ هَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ الَّذِي هُوَ الْقَلْبُ يُوصَفُ بِالنُّطْقِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي إثْبَاتِ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَلَامِ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَحْكُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ إنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالذَّاتِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إذَا جَاءَ أَنْ تَجْعَلُوا هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ حَقِيقَةً وَاحِدَةً]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ إنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا حُجَّتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَمْت دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ قَدِيمًا وَاحِدًا لَيْسَ بِمُتَغَايِرٍ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ إمَّا قِدَمُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ إنَّ قَوْلَك عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ إنْ عَنَيْت بِهِ أَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَتْ كَحَقِيقَةِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْكَلَامَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَسَائِرَ الصِّفَاتِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْمَخْلُوقَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ إنَّك اعْتَمَدَتْ فِي كَوْنِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا قَدِيمًا]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ قِيَاسُك الْوَحْدَةَ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْكَلَامِ عَلَى الْوَحْدَةِ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْمُتَكَلِّمِ قِيَاسٌ لِلشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ أَنْ يُقَالَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ كَوْنَ الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ إنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ شَيْئًا وَاحِدًا لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ أَنْ يُقَالَ مَا تَعْنِي بِقَوْلِك كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَهُ ذَلِكَ قِدَمُهُ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتِينَ لِلْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ قَالُوا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ اجْتِمَاعَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالرُّؤْيَةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْقَوْل بِالتَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ فِي كَلَام اللَّه]

- ‌[الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ قَوْلُهُمْ كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي الْجَوَابِ عَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَاحِدًا]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ كَانَ الْبَارِي عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ مَا شُكَّ فِيهِ يُقْطَعُ فِيهِ بِالِامْتِنَاعِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ]

- ‌[بَابٌ فِي ذِكْرِ كَلَامِ الْأَشْعَرِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَطَبَقَتِهِ]

الفصل: ‌[المسلك الثاني عشر أن جواز التحليل قد أفضى إلى مفاسد كثيرة]

فَرْجًا مِنْ الْفُرُوجِ حَتَّى يُسْتَعَارَ لَهُ مِنْ تَيْسٍ مِنْ التُّيُوسِ، لَا يُرْغَبُ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي مُصَاهَرَتِهِ وَلَا يُرْغَبُ بَقَاؤُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ أَصْلًا فَيَنْزُو عَلَيْهَا وَتَحِلُّ بِذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا بِالسِّفَاحِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ، بَلْ هُوَ سِفَاحٌ وَزِنًا كَمَا سَمَّاهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَرَامُ مُحَلَّلًا؟ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْخَبِيثُ مُطَيَّبًا؟ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ النَّجَسُ مُطَهَّرًا،؟ وَغَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَنَوَّرَ قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ أَنَّ هَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ الَّتِي لَا تَأْتِي بِهَا سِيَاسَةُ عَاقِلٍ فَضْلًا عَنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ لَا سِيَّمَا أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ وَأَشْرَفُ الْمَنَاهِجِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يُشَرِّعَ مِثْلَ هَذَا وَلَمَّا رَأَتْ الْقُلُوبُ السَّلِيمَةُ وَالْفِطْرُ الْمُسْتَقِيمَةُ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا حَقِيقَةُ السِّفَاحِ لَا النِّكَاحِ، لَمْ تُلْقِ لَهُ بَالًا فَصَارَ يَتَوَلَّدُ مِنْ فِعْلِ هَذَا مِنْ الْمَفَاسِدِ أَضْعَافُ مَفَاسِدِ الْمُتْعَةِ.

[الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ]

الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ

وَهَذَا هُوَ الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ وَهُوَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ وَصَارَ مَظِنَّةً لَهَا وَلِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ التُّيُوسِ الْمُسْتَعَارَةِ صَارَ يُحَلِّلُ الْأُمَّ وَبِنْتَهَا عَلَى مَا أَخْبَرَنِي بِهِ مَنْ صَدَّقْتُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِهَذَا السِّفَاحِ، فَلَا يُمَيِّزُ مَنْ الْمَنْكُوحَةُ وَلَا لَهُ غَرَضٌ فِي الْمُصَاهَرَةِ حَتَّى يَجْتَنِبَ مَا حَرَّمَتْهُ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجْمَعُ مَاءَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بَلْ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرٍ وَهُوَ مَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَمَا رَوَاهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا.

وَمِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مَا يَتَوَاطَؤُ هُوَ وَالْمَرْأَةُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَهَا إذْ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي ذَلِكَ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَعُدُّهُ زَوْجًا فَتَنْكَشِفُ أَوْ تَسْتَحِي أَوْ تَهَابُ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا لِاسْتِشْعَارِهَا أَنَّهُ لَمْ يُتَّخَذْ زَوْجًا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ غَالِبًا لَا يَكُونُ كُفْئًا لِلْمَرْأَةِ وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ مَكْرُوهٌ أَوْ مَشْرُوطٌ فِيهِ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ بَاطِلٌ وَغَالِبًا لَا يُرَاعَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُطَلِّقِينَ لِمَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ خِفَّةُ مَئُونَةِ الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ يَزُولُ بِتَيْسٍ يُعْطِي ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي مِمَّنْ صَدَّقَتْهُ

ص: 264

أَنَّ بَعْضَ التُّيُوسِ طَلَبَ أَكْثَرَ مَا بُذِلَ لَهُ، فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ وَأَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ فَعَلْتَ وَأَخَذْتَ سَامَحَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى رُبَّمَا كَتَمَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ وَحَلَّلَهَا بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُزَوِّجُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ مِنْ أَبْطَلْ النِّكَاحِ وَأَعْظَمِهِ مُرَاغَمَةً لِلشَّرِيعَةِ وَمِمَّا آلَ بِهِ اسْتِخْفَافُ شَأْنِ التَّحْلِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ أَفْضَى إلَى أَنْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَحْسِبُ أَنَّ مُجَرَّدَ وَطْءِ الذَّكَرِ مُبِيحٌ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ ذَكَرًا حَلَّتْ، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا بِقَدَمِهِ حَلَّتْ، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا صَبَّ دُهْنًا فَوْقَ رَأْسِهَا حَلَّتْ كَأَنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِصَبِّ الْمَنِيِّ.

حَدَّثَنِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي تُفْضِي النِّسَاءُ إلَيْهِنَّ أَسْرَارَهُنَّ، وَحِلُّهُ بِالْأَوَّلِ مُسْتَقِرٌّ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْجُهَّالِ، حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَكِيم النَّهْرَوَانِيُّ صَاحِبَ أَبِي الْخَطَّابِ حَضَرَ حَلْقَةَ شَيْخٍ نَبِيلِ الصُّورَةِ فَأَكْرَمَهُ، وَسَأَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَكِيم عَنْ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا ذَكَرًا هَلْ تَحِلُّ فَقَالَ لَا، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَنَا أُفْتِي أَنَّهَا تَحِلُّ مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى هُنَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَكِيمٍ مَا زِلْت تُفْتِي بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْفَضَائِحِ الَّتِي فِيهَا انْهِدَامُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ، أَصْلُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا أُلْقِيَ إلَيْهِمْ ابْتِدَاءً مِنْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِنِكَاحٍ خَارِجٍ عَنْ النِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ، وَإِلَّا فَلَوْ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ لَا تُنْكَحُ إلَّا كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ابْتِدَاءً لَمْ يَشْتَبِهْ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ كَاشْتِبَاهِ التَّحْلِيلِ بِهِ، وَمِنْ مَفَاسِدِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ إذَا لَمْ تَنْكِحْ التَّيْسَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا غَرَضٌ فِي الْوِلَادَةِ مِنْهُ، وَلَا فِي أَنْ يَبْقَى بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ، فَرُبَّمَا قَتَلَتْ الْوَلَدَ بَلْ لَعَلَّ هَذَا أُوقِعَ كَثِيرًا وَدَائِمًا وَكَثِيرٌ مِنْهُنَّ يَسْتَطِيلُ الْعِدَّةُ فَإِمَّا أَنْ تَكْذِبَ أَوْ تَكْتُمَ.

وَمَا ذَاكَ إلَّا؛ لِأَنَّهُ يَتَوَالَى عَلَيْهَا عِدَّتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ وَهِيَ شَدِيدَةُ الرَّغْبَةِ فِي الْعَوْدَةِ إلَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُلْقِيَ إلَيْهَا الْيَأْسُ مِنْ الْعَوْدِ إلَى الْأَوَّلِ، إلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ تَامٍّ كَالنِّكَاحِ الْمُبْتَدَإِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَمِنْ ذَاكَ مَا بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا تَرَكَ مَنْ حَلَّلَ امْرَأَةً فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا خَرَجَ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى أَنْ رَاوَدَ الْمَرْأَةَ عَنْ نَفْسِهَا وَقَالَ إنَّ الْحِلَّ لَا يَتِمُّ إلَّا بِرَجُلَيْنِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ رَأَى غَيْرَهُ قَدْ أَتَى بِالسِّفَاحِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى التَّشَبُّهِ بِهِ إذْ النُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى التَّشَبُّهِ، وَلَوْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَحْصَنَ فَرْجَ الْمَرْأَةِ وَنَكَحَهَا نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُحَدِّثْ هَذَا نَفْسَهُ بِالتَّشَبُّهِ بِهِ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ.

ص: 265

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَجْوِيزَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَا هُوَ غَالِبٌ فِي التَّحْلِيلِ الْمُظْهَرِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ لَازِمٌ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ قَالَ تَعَالَى:{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] . وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَيَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُمْكِنُ عَوْدُهَا إلَى زَوْجِهَا. مِثْلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُخْطَبَ تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا، بَلْ ذَلِكَ تَخْبِيبٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَحْرَمُ عَلَى الْمُطَلِّقِ مِنْ الْمُزَوَّجَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا وَلَا يُعَرِّضَ لَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ إذَا تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا، أَوْ لَا يُعَرِّضُ حَتَّى يُطَلِّقَهَا ثُمَّ إذَا طَلَّقَهَا لَمْ يَجُزْ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ وِفَاقًا، وَقَدْ أَفْضَى تَجْوِيزُ التَّحْلِيلِ إلَى أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ ثَلَاثًا فَيُوَاعَدَهَا فِي عِدَّتِهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ، وَيَسْعَى هُوَ فِي هَذَا التَّحْلِيلِ، وَرُبَّمَا أَعْطَاهَا مَا تُعْطِيهِ الْمُحَلِّلُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مُدَّةَ الْعِدَّتَيْنِ إنْفَاقَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ مُوَاعَدَتُهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ مُوَاعَدَتِهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ بِدَرَجَتَيْنِ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى اللَّبِيبِ أَنَّ هَذَا رُكُوبٌ لِلْمُحَرَّمِ مُكَرَّرًا مُغَلَّظًا، وَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مَظِنَّةً لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَسَمَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ مَادَّتَهُ بِتَحْرِيمِهِ جَمِيعِهِ، أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي الِانْتِبَاذِ فِي وِعَاءٍ صَغِيرٍ قَالَ لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَجَعَلْتُمُوهَا مِثْلَ هَذِهِ، ثُمَّ يَشْرَبُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَضْرِبَ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ» أَوْ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم. «وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ قَدْ أَصَابَهُ ذَلِكَ. قَالَ فَسَدَلْتُ رَحْلِي حَيَاءً مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . فَحَرَّمَ

ص: 266

اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَلِيلَ الْخَمْرِ وَكَثِيرَهَا، وَحَكَمَ بِنَجَاسَتِهَا وَنَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ، وَعَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعَنْ الْأَوْعِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ. كُلُّ ذَلِكَ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْعِنَادُ التَّامُّ هُوَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَثِيرَ طَبْعًا.

فَكَذَلِكَ أَصْلُ التَّحْلِيلِ لَمَّا كَانَ مُفْضِيًا إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا، كَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ تَحْرِيمَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْلَكِ الذَّرَائِعِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُتْعَةِ شَرٌّ إلَّا وَفِي التَّحْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ الْمُسْتَمْتِعَ رَاغِبٌ إلَى وَقْتٍ فَيُعْطِي الرَّغْبَةَ حَقَّهَا، بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ تَيْسٌ مُسْتَعَارٌ، فَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُشَنَّعَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَلَهُمْ فِي اسْتِحْلَالِهِ سَلَفٌ، وَمَعَهُمْ فِيهِ أَثَرٌ وَحَظٌّ مِنْ قِيَاسٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْفُوعًا بِمَا قَدْ نَسَخَهُ، ثُمَّ يُرَخِّصُ فِي التَّحْلِيلِ الَّذِي لَعَنَ الشَّارِعُ فَاعِلَهُ وَلَمْ يُبِحْهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَاتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ عَلَى لَعْنِ فَاعِلِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ قِيَاسٍ، بَلْ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، وَيَعْتَصِمُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِمُقَارَنَةِ الشَّرْطِ الْعَقْدَ وَتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ هَذَا شَرْطًا وَذَاكَ تَوْقِيتًا، وَهُوَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا يُعْرَفُ مَأْثُورًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، بَلْ الْأُصُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ مُعْتَبَرَةٌ إمَّا صِحَّةً وَوَفَاءً وَإِمَّا فَسَادًا أَوْ إلْغَاءً سَوَاءٌ قَارَنَتْ الْعَقْدَ أَوْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ لَبَسَطَنَا الْقَوْلَ فِيهِ. فَإِنَّمَا قَدْ قَرَّرَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ تَحْلِيلٌ، وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ لِكَيْ يَدْخُلَ فِيهِ إذَا تَوَاطَآ عَلَى التَّحْلِيلِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا غَيْرَ نَاوٍ لِلتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَقَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] .

وَقَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] . وَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] . وَلَمْ يُفَرِّقْ سُبْحَانَهُ بَيْنَ عَقْدٍ وَعَقْدٍ وَعَهْدٍ وَعَهْدٍ، وَمَنْ شَارَطَ غَيْرَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ عَلَى صِفَاتٍ اتَّفَقَا عَلَيْهَا ثُمَّ تَعَاقَدَا بِنَاءً عَلَيْهَا فَهِيَ مِنْ عُقُودِهِمْ وَعُهُودِهِمْ، لَا يَعْقِلُونَ وَلَا

ص: 267

يَفْهَمُونَ إلَّا ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وَقَالَ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] يَعْنِي الْعُهُودَ وَمَنْ نَكَثَ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ فَهُوَ نَاكِثٌ، كَمَنْ نَكَثَ الْمُقَارِنَ لَا تُفَرِّقُ الْعَرَبُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ.

وَالْمُسْلِمُونَ يَفْهَمُونَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْعَقْدَ شَرْطٌ كَمَا قَارَنَهُ، حَتَّى أَنَّهُ وَقْتَ الْخِصَامِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَلَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ بَيْنَنَا كَذَلِكَ، أَلَمْ نُشَارِطُكَ عَلَى كَذَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ نَقْلِ اللُّغَةِ وَتَعْيِيرِهَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ. فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» .

وَمَنْ شَارَطَ غَيْرَهُ عَلَى شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَتَعَاقَدَا ثُمَّ لَمْ يَفِ لَهُ بِشَرْطِهِ فَقَدْ غَدَرَ بِهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَعْقِلُهُ النَّاسُ وَيَفْهَمُونَهُ وَلَا يُعْرَفُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي مَعَانِي الْكَلَامِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَا فِي الْحُكْمِ عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ تَلْزَمُهُ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَمَّا خَطَبَ فِي شَأْنِ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ، لَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، قَالَ فَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ أَبِي الْعَاصِ قَالَ حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَّى لِي» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا مَدْحًا لِمَنْ فَعَلَهُ وَذَمًّا لِمَنْ تَرَكَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمَّا قَرَنَهُ بِهِ، وَالْوَعْدُ فِي الْعُقُودِ إنَّمَا يَتَقَدَّمُهَا لَا يُقَارِنُهَا، فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ وَفَّى بِهِ كَانَ مَمْدُوحًا وَمَنْ لَمْ يَفِ بِهِ كَانَ مَذْمُومًا مَعِيبًا، وَهَذَا شَأْنُ الْوَاجِبِ.

وَفِي حَدِيثِ السِّيرَةِ الْمَشْهُورِ «أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا بَايَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِك وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِك، فَقَالَ أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَزْرَكُمْ وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي أَنْ تُوَاسُوهُمْ. فَقَالُوا إذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ الْجَنَّةُ قَالُوا مُدَّ يَدَك فَوَاَللَّهِ لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك. فَبَايَعُوهُ» .

أَفَلَا تَرَى كَيْفَ تَقَدَّمَ الشَّرْطُ الْعَقْدَ وَلَمْ يَحْتَجْ حِينَ الْمُبَايَعَةِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَوْ كَانُوا قَدْ تَكَلَّمُوا بِهَا فَإِنَّهُمْ سَمَّوْا مَا قَبْلَ الْعَقْدِ اشْتِرَاطًا، فَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى

ص: 268

الشَّرْطِ الَّذِي دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهَذَا الْمُحَلِّلُ يُقَالُ لَهُ شَرَطْنَا عَلَيْك أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَطَلِّقْهَا، وَيَعْقِدُ الْعَقْدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَيْضًا لَوْ وَصَفَ الْمَبِيعَ أَوْ الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ بِصِفَاتٍ عِنْدَ التَّسَاوُمِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ تَعَاقُدًا كَانَ الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمَا مِنْ الصِّفَةِ، حَتَّى إذَا ظَهَرَ الْمَبِيعُ نَاقِصًا عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ، وَلَوْلَا أَنَّ الصِّفَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارِنَةِ لَمَا وَجَبَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ ثُمَّ تَعَاقَدَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ لَا يَفْتُرُ فِي مِثْلِهِ غَالِبًا، وَلَوْلَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارِنَةِ لَمَا لَزِمَ الْبَيْعُ، وَبَعْضُ النَّاسِ يُخَالِفُ فِي الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا مُخَالِفًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، بَلْ الْوَاصِفُ إلَى الْفُرْقَةِ أَقْرَبُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ مَعَ رَجُلٍ فِي عَقْدٍ عَلَى صِفَاتٍ تَشَارَطُوا عَلَيْهَا وَعَقَدُوا الْعَقْدَ ثُمَّ نَكَثَ بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ خَدَعَهُ وَمَكَرَ بِهِ، فَإِنَّ الْخَدْعَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ شَيْئًا وَيُبْطِنَ خِلَافَهُ، وَالْمَكْرُ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا تُسَمِّيهِ النَّاسُ خَدِيعَةً وَمَكْرًا.

وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا لَا زَوَالُهَا وَتَغْيِيرُهَا، وَالْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ حَرَامٌ فِي النَّارِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُمَا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَلَمَّا كَانَتْ الْبُيُوعُ تَقَعُ غَالِبًا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِكْشَافِ، شُرِعَ فِيهَا الْخِيَارُ إلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ لِيَتِمَّ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَاكْتَفَى فِي النِّكَاحِ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ تَقَدُّمِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْعَقْدِ، لِاسْتِعْلَامِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ، وَإِذَا تَشَارَطَا عَلَى أَمْرٍ يَتَعَاقَدَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَعَاقَدَا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنَّمَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الشَّرْطُ الَّذِي تَشَارَطَا عَلَيْهِ أَوَّلًا.

وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ أَحَدَهُمَا رَضِيَ بِعَقْدٍ مُطْلَقٍ خَالٍ عَنْ شَرْطٍ كَانَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ، وَإِذَا كَانَا إنَّمَا رَضِيَا بِالْعَقْدِ الَّذِي تَشَارَطَا عَلَيْهِ قَبْلَ عَقْدِهِ وَمَلَاكُ الْعُقُودِ هُوَ الرِّضَا، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَا رَضِيَا بِهِ لَا سِيَّمَا فِي النِّكَاحِ الَّذِي سَبَقَ شَرْطُهُ عَقْدَهُ، وَلَيْسَ بَعْدَ عَقْدِهِ خِيَارٌ يُسْتَدْرَكُ فِيهِ الْفَائِتُ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 269

وَهَذَا بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ بِالْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا الْعِبَارَاتُ مُبَيِّنَاتٌ لِمَا فِي الْقُلُوبِ، لَا سِيَّمَا إنْ قِيلَ هِيَ إخْبَارَاتٌ، وَبَيَانُهَا لِمَا فِي الْقَلْبِ لَا يَخْتَلِفُ بِجَمْعِ الْكَلَامِ فِي وَقْتٍ أَوْ يُفَرِّقُهُ فِي وَقْتَيْنِ، لَا سِيَّمَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ الَّذِي قَدْ يَتَعَذَّرُ ذِكْرُهُ فِي التَّعَاقُدِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي خِطَابِ جَمِيعِ الْخَلْقِ بَلْ فِي أَفْصَحِ الْخِطَابِ وَأَبْلَغِهِ، فَإِنَّ مَنْ مَهَّدَ قَاعِدَةً بَيَّنَ بِهَا مُرَادَهُ، فَإِنَّهُ يُطْلِقُ الْكَلَامَ وَيُرْسِلُهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ الْمُقَيَّدَ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَالْمُسْتَمِعُ يَفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَيْهِ، كَالْعَالِمِ يَقُولُ مَثَلًا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ الْمَجْنُونُ وَنَحْوُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ قَرَّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُولُ مَثَلًا وَأَنْكَحْت، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا تَشَارَطَا عَلَيْهِ قَبْلُ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ بِعْتُك الْبَيْعَ الَّذِي تَشَارَطْنَا وَأَنْكَحْتُك النِّكَاحَ الَّذِي تَرَاضَيْنَا بِهِ، فَمَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ مُطْلَقًا بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْمُشَارَطَةُ وَالْمُوَاطَأَةُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ خِطَابِ الْخَلْقِ وَكَلَامِهِمْ فِي جَمِيعِ إيجَابِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ فِيهِ.

وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ الْمَشْرُوطُ قَبْلَ الْعَقْدِ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ، وَلِهَذَا قَالُوا مَنْ دَفَعَ ثِيَابَهُ إلَى غَسَّالٍ يُعْرَفُ مِنْهُ الْغُسْلُ بِالْأُجْرَةِ لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفَ شَرْطٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ حَمَّامَ حَمَّامِيٍّ أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ رُبَّانٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهَا، انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَكَانَ هَذَا الْعُرْفُ مُقَيِّدًا لِلَّفْظِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ بِإِلْزَامِ مُسَمَّى الدِّرْهَمِ مِنْ أَيِّ نَقْدٍ أَوْ وَزْنٍ كَانَ، وَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ فِي الْأَيْمَانِ وَالْمُثَمَّنَاتِ وَنَحْوِهَا انْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَى السَّلِيمِ مِنْ الْعُيُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعُرْفُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعُرْفُ الْخَاصُّ فِي ذَلِكَ كَالْعَامِّ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُ التُّيُوسِ مَعْرُوفًا بِالتَّحْلِيلِ، وَجِيءَ بِالْمَرْأَةِ إلَيْهِ فَهُوَ اشْتِرَاطٌ مِنْهُمْ لِلتَّحْلِيلِ لَا يَعْقِلُ النَّاسُ إلَّا هَذَا، فَلَوْ لَمْ يَفِ بِمَا شَرَطُوهُ لَكَانَ عِنْدَهُمْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا وَنَكْثًا وَغَدْرًا، وَعَلَى هَذَا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ، وَمِنْ جِهَةِ اشْتِرَاطِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا وَعَقَدَ النِّكَاحَ بِنِيَّةٍ ثَانِيَةٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عَلَى

ص: 270

ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ مَا شَرَطُوهُ عَلَيْهِ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَمَا نَوَاهُ الزَّوْجُ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِهِ وَلَا وَلِيُّهَا فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْ جِهَتِهِمَا فَمَا رَضُوا بِهِ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ. وَمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لَمْ يَرْتَضُوا بِهِ، فَلَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.

وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى دَلَالَةِ الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ هِيَ مَا قَارَنَتْ الْعَقْدَ دُونَ مَا تَقَدَّمَتْهُ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا وِفَاقٍ وَلَا عِبْرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَالْقَوْلُ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا وَاحِدٌ، وَقَدْ سَلَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِثْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ، وَادَّعَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفَسَادِ هُوَ النِّيَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَقْدِ لَا الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَكَانَ مُؤَثِّرًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَلَّمَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْقَصْدَ بِالْعَقْدِ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ وَنَحْوِهِ. لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ، وَإِنْ مُنِعَ الْقَصْدُ بِالْعَقْدِ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ وَنِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَبْطَلَ الْعَقْدَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارَنَةِ مُطْلَقًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ دُونَ مَنْ نَوَاهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ، لِئَلَّا يُفْضِيَ الْقَوْلُ بِالْإِفْسَادِ إلَى إضْرَارِ الْمُعَاقِدِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَمَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ فَنَقُولُ هَذَا السُّؤَالُ مَنْ قَالَ بِمُوجَبِهِ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ أَكْثَرَ صُوَرِ التَّحْلِيلِ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْفَسَادِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ إنْ صَحَّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الزَّوْجَةَ مَتَى لَمْ تَعْلَمْ نِيَّةَ التَّحْلِيلِ لَمْ يَضُرَّهَا ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَعْتَقِدُهُ حَلَالًا فَلَا يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَالْوَطْءُ حَلَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا، حَرَامٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا يُعْطِيهَا إيَّاهُ مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يَحِلُّ لَهَا أَخْذُهُ، كَمَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالنُّكُولِ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُصَالِحَيْنِ إذَا عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا فِي حَقِّهِ خَاصَّةً فَيَكُونُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ أَوْ مَا يَهْضِمُهُ مِنْ حَقِّهِ حَرَامًا عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ الرَّجُلُ مِنْ أَبِيهِ رَقِيقًا قَدْ عَلِمَ رَجُلٌ أَنَّ الْأَبَ أَعْتَقَهُمْ، وَالِابْنُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهُمْ مِنْهُ مَنْ يَعْلَمُ بِعِتْقِهِمْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ، فَيَحِلُّ

ص: 271

لَهُ الثَّمَنُ وَكَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي بَاطِلًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِعْبَادُهُمْ، وَأَشْبَهُ مِنْهُ بِمَسْأَلَتِنَا لَوْ كَانَ بِيَدِ الرَّجُلِ مَالٌ يَمْلِكُهُ مِثْلُ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ فَبَاعَهُ لِرَجُلٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، وَهُوَ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَحِلُّ لَهُ الْمَبِيعُ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا الشُّهُودُ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى لَفْظِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَبِهِ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِنِيَّتِهِ لِلتَّحْلِيلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ، وَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ أَوْ عُرْفِيَّةٍ، كَانَ كَمَا لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الزَّوْجَ مُكْرَهٌ، فَتَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الشَّهَادَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ، كَمَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ الرِّبَا وَالنِّحَلِ الْجَائِرَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجَرَّدُ نِيَّةِ الزَّوْجِ فَهُنَاكَ لَا يَظْهَرُ التَّحْلِيلُ أَصْلًا فَلَا يَأْثَمُونَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مَا ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ، وَلِهَذَا لَمْ يُلْعَنُوا فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا صَحَّحْنَا الْعَقْدَ فِي الظَّاهِرِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْقَصْدِ، كَمَا صَحَّحْنَا إسْلَامَ الرَّجُلِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ تُعَبِّرُ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ، وَلَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَمَّا فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ، وَلَكِنْ نَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَنَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنْ هُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ مُؤَاخَذُونَ بِنِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ، وَهَذَا بَيِّنٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إذَا اشْتَرَى بِنِيَّتِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَ صَحَّ، وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، فَعُلِمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ كَالشَّرْطِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَنُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ نِيَّةٍ تُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ، وَنِيَّةٍ لَا تُنَافِيهِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ شَرْطٍ يُنَافِي الْعَقْدَ وَشَرْطٍ لَا يُنَافِيهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ تُنَافِي الْعَقْدَ شَرْطًا وَقَصْدًا أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ يُنَافِيهِ شَرْطًا وَقَصْدًا. كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَظْهَرَ الْمُحَلِّلُ فِيمَا بَعْدَ الْعَقْدِ بِنِيَّتِهِ فِي الْعَقْدِ فَمَا الْحُكْمُ؟ .

قُلْنَا: إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا ثَبَتَ هَذَا الْمُحْكَمُ فِي حَقِّ مَنْ صَدَّقَهُ فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا مُرَاجَعَتُهَا، ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا صَدَاقَ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مُصَدِّقَةً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ الْوَاجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُهُ الْمَرْأَةُ وَالْمُطَلِّقُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ التَّحْلِيلِ فِي حَقِّهَا، لَكِنْ إنْ كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَوَجَبَ نِصْفُ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعُهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعُودَ إلَى

ص: 272

الْأَوَّلِ، لِاعْتِرَافِهَا بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، هَذَا إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَهَا إقْرَارٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا وَحْدَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَلَزِمَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الزَّوْجِ الْمُحَلِّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ نِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ فِي الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا رَجُلٌ ثُمَّ يَعْتَرِفَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ فَسَادٌ انْفَرَدَ بِعَمَلِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ فِي غَرَائِبِ السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُطَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَلَا نَرَاهُ إلَّا يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَشْهَدَ عَلَى النِّكَاحِ. قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: وَمَهَرَ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: وَدَخَلَ. يَعْنِي الْجِمَاعَ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ذَهَبَ الْخِدَاعُ.» فَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ حَالَ الرَّجُلِ وَلَمْ يَقُلْ إنْ نَوَيْت كَذَا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَا نَرَاهُ يُرِيدُ إلَّا ذَلِكَ، وَالْبَحْثُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبٌ احْتِيَاطًا لِلْبُضْعِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ يَبْحَثْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ وَأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، قَالَ بَعْضُ الْمُنَازِعِينَ وَهَذَا مَقْطُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ. قُلْت: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُوسَى بْنِ مُطَيْنٍ مَتْرُوكٌ سَاقِطٌ يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ عَنْ الْمَشَاهِيرِ لَا يَحِلُّ الِاسْتِدْلَال بِشَيْءٍ مِنْ رِوَايَتِهِ، قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ كَذَّابٌ.

وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ تَرَكَ النَّاسُ حَدِيثَهُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُجَازِفِينَ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ مِنْ مُصَنِّفِي الْمُجَادِلِينَ. قَالَ مُوسَى هَذَا مِنْ الثِّقَاتِ الْعُدُولِ لِمَا قِيلَ إنَّهُ يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ عَنْ الْمَشَاهِيرِ. فَأَرَادَ الدَّفْعَ بِمَا اتَّفَقَ مِنْ غَيْرِ مُرَاقَبَةٍ مِنْهُ فِيمَا يَقُولُ.

ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَنَا تَكَلَّمُوا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا عَنْ التَّكَلُّفِ. فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَظْهَرُ عَلَيْهَا مِنْ التَّنَاقُضِ مَا لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَهَبَ الْخِدَاعُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِدَاعَ فِي الْعُقُودِ حَرَامٌ وَأَنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ خِدَاعًا لَمْ يَحِلَّ. وَإِلَّا لَمَا فَرَّقَ بَيْنَ ذَهَابِهِ وَثُبُوتِهِ.

ص: 273

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ الَّذِي يُعْقَدُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا إعْلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَرْدُودٌ. فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ وَلَا غَيْرُهُ حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ الْخِدَاعُ، وَإِنَّمَا يُخَادِعُ الْمُخَادِعُ بِأَنْ يُظْهِرَ مَا يَنْفُقُ فِي الظَّاهِرِ، فَإِذَا كَانَ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ فِي الظَّاهِرِ لَا خِدَاعَ وَمَعَ صِحَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ لَا خِدَاعَ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْخِدَاعِ مَوْضِعٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ أَوْ فَاسِدٌ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ حَلَالٌ حَرَامٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ، وَإِنَّمَا أَحْسِبُ الَّذِي وَضَعَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَدْ بَلَغَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَغَيْرِهِ، أَنَّ التَّحْلِيلَ خِدَاعٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ حَدِيثًا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا رُوعِيَتْ شُرُوطُهُ الظَّاهِرَةُ فَقَطْ ذَهَبَ خِدَاعُهُ فَيَكُونُ خِدَاعُهُ إذَا لَمْ يُرَاعِ وَذَلِكَ أَيْضًا لَا خِدَاعَ فِيهِ، إنَّمَا الْخِدَاعُ فِيمَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ، فَلِجَهْلِهِ بِمَعْنَى الْخِدَاعِ رَكَّبَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَكَانَ حُجَّةً؛ لِأَنَّ التَّحْلِيلَ مُحَرَّمٌ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَلَا نَرَاهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ إرَادَةَ التَّحْلِيلِ مِمَّا يُنْكَرُ عَلَى الرَّجُلِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّهُ أَرَادَ التَّحْلِيلَ بَلْ ظَنُّوهُ ظَنًّا، وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ مُؤَثِّرَةً فِي الْعَقْدِ لَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا أَرَادَ تَحْلِيلَهَا أَيْ إنْكَارَ فِي هَذَا كَمَا قَالُوا تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا، أَوْ يُرِيدُ أَنَّهَا أَعْجَبَتْهُ إنْ أَمْسَكَهَا وَإِنْ كَرِهَهَا فَارَقَهَا، أَوْ نَكَحَهَا يُرِيدُ أَنْ تُرَبِّيَ أَوْلَادَهُ كَمَا قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا تُحَبُّ فَإِنَّ جَوَابَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ وَإِذَا فَعَلَ هَذَا فَأَيُّ مُنْكَرٍ فِي هَذَا فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ عُلِمَ أَنَّ ذَاكَ مُؤَثِّرٌ، لَكِنْ إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَلَا نَرَاهُ إلَّا يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا قَالَ الْأَصْلُ فِي أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْمَالِهِمْ الصِّحَّةُ، فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ إلَّا لِإِمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ لَوْ ظَنَنَّا ذَلِكَ فَإِنَّا لَمْ نُؤَمَّرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُسْتَأْذَنُ فِي قَتْلِ بَعْضِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ النِّفَاقُ، يَقُولُ أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ أَلَيْسَ يُصَلِّي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ، كَذَلِكَ إذَا رَأَيْنَا عَقْدًا مَعْقُودًا بِشَرَائِطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ، لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنَّ نَقُولَ هَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَرَادَ كَذَا وَكَذَا.

لَكِنْ يُقَالُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ أَرَادَ التَّحْلِيلَ فَهُوَ مَلْعُونٌ وَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُنَازِعِ أَنَّهُ لَمْ يَبْحَثْ عَنْ نِيَّةِ الرَّجُلِ

ص: 274

فَنَقُولُ، قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لَعْنُهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَالنَّهْيَ عَنْ الْخِدَاعِ، وَفَهِمُوا مَقْصُودَهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَقُولَ لِكُلِّ مَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ، إنْ كُنْت نَوَيْت كَمَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ سُوءَ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كُلَّمَا أَسْلَمَ رَجُلٌ أَنْ يَقُولَ لَهُ هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ، وَصَاحِبُ الْعَقْدِ لَمْ يُظْهِرْ لَهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِحْلَالَ وَإِنَّمَا ظَنُّوهُ ظَنًّا، بَلْ لَمَّا فَهِمُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مُرِيدَ الْإِحْلَالِ مُخَادِعٌ.

وَظَنُّوا بِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنَّهُ أَرَادَهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، هَذَا إنْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْلٌ، ثُمَّ إنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخِدَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ وَمَا مَعَهُ وَلِأَنَّ الْمُحَلِّلَ يَأْخُذُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يُعْطِي، وَإِلَّا فَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَدَمُ الْخِدَاعِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا ذُكِرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى انْتِفَاءِ الْخِدَاعِ فَصَارَ سُوءُ الظَّنِّ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَهُوَ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى صِحَّتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُمَا ثَابِتَانِ، وَأَهْلِيَّةُ الْمُتَصَرِّفِ وَمَحَلِّيَّةُ الزَّوْجَيْنِ ثَابِتَةٌ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إبْطَالِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنَّمَا نَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالشَّرْعِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْمُشْتَرِي إخْرَاجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ مُقْتَضٍ لِتَأْبِيدِ الْمِلْكِ وَالنِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجَبَاتِ السَّبَبِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ النِّيَّةَ تُوجِبُ تَوْقِيتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ هِيَ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَلَوْ نَوَى هُوَ بِالْمَبِيعِ إتْلَافَهُ أَوْ إحْرَاقَهُ أَوْ إغْرَاقَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَنِيَّةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى، وَبِهَذَا اعْتَرَضُوا عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ قَصَدَ إزَالَةَ الْمِلْكِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ حُكْمَهُ؛ لِأَنَّهُ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَصِيرًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا أَوْ جَارِيَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ أَوْ يَجْعَلَهَا مُغَنِّيَةً قِنْيَةً أَوْ سِلَاحًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مَعْصُومًا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ السَّبَبِ، فَلَا يَخْرُجُ الْمُسَبَّبُ عَنْ اقْتِضَاءِ حُكْمِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَصْدِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِي الرِّضَا، وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ. فَإِنَّهَا تَقْدَحُ فِي

ص: 275

مَقْصُودِ الْعُقُودِ وَصَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ يَقُولُ هَبْ أَنَّهُ قَصَدَ مُحَرَّمًا لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا لِيُضَارّهَا أَوْ لِيُضَارّ زَوْجَةً لَهُ أُخْرَى.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْلَمُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ. مِثْلُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الِاشْتِرَاءِ لَهُ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ، وَإِذَا نَوَى أَحَدَهُمَا صَحَّ. وَاللَّفْظُ هُنَا صَرِيحٌ فِي الْمَقْصُودِ الصَّحِيحِ، وَالنِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النِّيَّةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوطِ أَوْ لَا تَكُونَ. فَإِنْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَزِمَ أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ لَا يَبِيعَ الْمُشْتَرَى وَلَا يَهَبَهُ وَلَا يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ نَوَى أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ نَوَى أَنْ لَا يُطَلِّقَ الزَّوْجَةَ أَوْ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ لَا يُسَافِرَ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا حِينَئِذٍ وَهَذَا عُمْدَةُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّا إنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ وَاَللَّهُ عز وجل يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَهَذِهِ خُلَاصَةُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَلَامٌ يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا فِقْهَ لَهُ حَقِيقَةً لَكَانَ الْإِضْرَابُ عَنْهُ أَوْلَى، فَإِنَّهُ كَلَامٌ مَبْنَاهُ عَلَى دَعَاوًى مَحْضَةٍ لَمْ يُعَضَّدْ بِحُجَّةٍ.

فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ وَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ إنْ عَنَى بِهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ فَيَجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ حُكْمُهُ، وَإِنْ صَدَرَ عَنْ مَعْتُوهٍ أَوْ مُكْرَهٍ أَوْ نَائِمٍ أَوْ أَعْجَمِيٍّ لَا يَفْقَهُهُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ اللَّفْظَ الْمَقْصُودَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ اللَّفْظَ أَيْضًا، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا بِمُجَرَّدِ تَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ وَلَا إيجَابٍ وَلَا قَبُولٍ، بَلْ اللَّفْظُ الْمُرَادُ بِهِ خِلَافُ مَعْنَاهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَتَدَلُّسٌ وَنِفَاقٌ. فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ فَالتَّكَلُّمُ بِهِ بِدُونِ مَعْنَاهُ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ وَمُخَادَعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنْ عَنَى بِالسَّبَبِ اللَّفْظَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ فِي الشَّرْعِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُقَرَّرًا أَوْ مُغَيَّرًا، أَوْ عَنَى بِهِ اللَّفْظَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَا يُخَالِفُ مَعْنَاهُ، أَوْ اللَّفْظَ الَّذِي قَصَدَ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَذَكَرْنَا هَذَيْنِ لِيَدْخُلَ فِيهِمَا الْهَازِلُ، فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ إذَا قَالَ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ وَهُوَ لَا يَقْصِدُ إلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا لِيُحِلَّهَا فَلَمْ يَقْصِدْ بِلَفْظِ التَّزَوُّجِ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرْعِ

ص: 276

وَلَا فِي الْعُرْفِ وَلَا فِي اللُّغَةِ لِمَنْ قَصْدُهُ رَدُّ الْمُطَلَّقَةِ إلَى زَوْجِهَا وَلَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ تَوَابِعِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا، فَإِنَّ النِّكَاحَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَالصِّلَةُ وَالْعِشْرَةُ وَالصُّحْبَةُ، بَلْ هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصُّحْبَةِ، فَمَنْ لَيْسَ قَصْدُهُ أَنْ يَصْحَبَ وَلَا يَسْتَمْتِعَ وَلَا أَنْ يُوَاصِلَ وَيُعَاشِرَ بَلْ أَنْ يُفَارِقَ لِتَعُودَ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ تَزَوَّجْت بِإِظْهَارِهِ خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ وَكَّلْتُك أَوْ شَارَكْتُك أَوْ ضَارَبْتُك أَوْ سَاقَيْتُك، وَهُوَ يَقْصِدُ رَفْعَ هَذَا الْعَقْدِ وَفَسْخَهُ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ الْعُقُودِ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ إخْبَارَاتٌ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْعُقُودِ، وَمَبْدَأُ الْكَلَامِ وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي بِهَا يَصِيرُ اللَّفْظُ قَوْلًا، ثُمَّ إنَّهَا إنَّمَا تَتِمُّ قَوْلًا وَكَلَامًا بِاللَّفْظِ الْمُقْتَرِنِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، فَتَصِيرُ الصِّيَغُ إنْشَاءَاتٍ لِلْعُقُودِ، وَالتَّصَرُّفَاتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا هِيَ الَّتِي أَثْبَتَتْ الْحُكْمَ وَبِهَا تَمَّ، وَهِيَ إخْبَارَاتٌ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ، فَهِيَ تُشْبِهُ فِي اللَّفْظِ أَحْبَبْت وَأَبْغَضْت وَأَرَدْت وَكَرِهْت، وَهِيَ تُشْبِهُ فِي الْمَعْنَى قُمْ وَاقْعُدْ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إنَّمَا تُفِيدُ الْأَحْكَامَ إذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَا جُعِلَتْ لَهُ، أَوْ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ، وَإِلَّا لَمَا تَمَّ تَصَرُّفٌ.

فَإِذَا قَالَ: بِعْتُ وَتَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إذَا هَزَلَ، وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَعْنَى اللَّفْظِ حَتَّى يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِالْإِشَارَةِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْعِبَارَةُ، وَيَنْعَقِدَ بِالْكِتَابَةِ أَيْضًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ لَمْ يَخْتَلِفْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ دَلَالَتُهُ وَصِفَتُهُ، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، لَا سِيَّمَا الْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ، أَعْنِي الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا أَحْكَامًا، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالْمُسْتَمِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي.

فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْمُسْتَمِعَ شَيْئًا وَكَانَ

ص: 277

مَعْذُورًا فِي حَمْلِهَا عَلَى مَعْنَاهَا الْمَعْرُوفِ، وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ آثِمًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إنَّمَا يُبْطِلُ الشَّارِعُ مَعَهُ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ لَاعِبًا أَبْطَلَ لَعِبَهُ وَجَعَلَهُ جَادًّا وَإِنْ كَانَ مُخَادِعًا أَبْطَلَ خِدَاعَهُ، فَلَمْ يَحْصُل لَهُ مُوجَبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ كَالْمُنَافِقِ الَّذِي قَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَلْبُهُ لَا يُطَابِقُ لِسَانَهُ.

وَتَحْرِيرُ هَذَا الْمَوْضِعِ يَقْطَعُ مَادَّةَ الشَّغَبِ فَإِنَّ لَفْظَ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مَوْضُوعُهُمَا وَمَفْهُومُهُمَا شَرْعًا وَعُرْفًا نِكَاحٌ وَانْضِمَامٌ وَازْدِوَاجٌ، مُوجَبُهُ التَّأْبِيدُ إلَّا لِمَانِعٍ وَحَقِيقَتُهُ نِكَاحٌ مُؤَبَّدٌ يَقْبَلُ الِانْقِطَاعَ أَوْ الْقَطْعَ، لَيْسَ مَفْهُومُهُمَا وَمَوْضُوعُهُمَا نِكَاحًا يُقْصَدُ بِهِ رَفْعُهُ وَوَصْلًا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ قَطْعُهُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ اتِّصَالٍ يَقْبَلُ الِانْقِطَاعَ وَاتِّصَالٍ يُقْصَدُ بِهِ الِانْقِطَاعُ وَكَمَا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَمَفْهُومَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَصْلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُتْعَةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَجَازًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِإِثْبَاتِ الشَّيْءِ وَنَفْيِهِ، عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يُحِيلُهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَاللَّفْظُ لَا يُوضَعُ لِإِرَادَةِ الْمُحَالِ.

وَالنِّكَاحُ هُوَ صِلَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَتَضَمَّنُ عِشْرَةً وَمَوَدَّةً وَرَحْمَةً وَسَكَنًا وَازْدِوَاجًا، وَهُوَ مِثْلُ الْأُخُوَّةِ وَالصُّحْبَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الصِّلَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي رَغْبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَوَاصِلَيْنِ فِي الْآخَرِ، بَلْ هُوَ مِنْ أَوْكَدُ الصِّلَاتِ فَإِنَّ صَلَاحَ الْخَلْقِ وَبَقَاءَهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَذِهِ الصِّلَةِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الصِّلَاتِ فَإِنَّهَا مُكَمِّلَاتٌ لِلْمَصَالِحِ، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الزَّوْجِ حِينَ عَقَدَهُ فَسْخَهُ وَرَفْعَهُ صَارَ قَوْلُهُ تَزَوَّجْت مَعْنَاهُ قَصَدْت أَنَّ أَصِلَ إلَى قَطْعٍ وَأُوَالِيَ لَا أُعَادِيَ وَأُحِبُّ لَا أُبْغِضُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الْقَطْعَ وَالْمُعَادَاةَ وَالْبُغْضَ لَمْ يَقْصِدْ الْوَصْلَ وَالْمُوَالَاةَ وَالْمَحَبَّةَ، فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْنَاهُ إلَّا عَلَى جِهَةِ التَّهَكُّمِ وَالتَّشَبُّهِ فِي الصُّورَةِ، بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ غَرَضَهُ وَصْلٌ إلَى حِينٍ وَهَذَا نَوْعُ وَصْلٍ مَقْصُودٌ فَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ، ثُمَّ إنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مُوجَبَ اللَّفْظِ هُوَ الْوَصْلَ الْمُؤَبَّدُ، وَمَنَعَ التَّوْقِيتَ لِمَا أَنَّهُ يَخِلّ بِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ، وَيُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَالسِّفَاحَ فَكَيْفَ بِالتَّحْلِيلِ. فَالْمَنْعُ مِنْ دَلَالَةِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْمُتْعَةِ شَرْعِيٌّ، وَلِهَذَا جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ

ص: 278

نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالْمَنْعُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّحْلِيلِ عَقْلِيٌّ، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ بَلْ لَعَنَ فَاعِلَهُ، فَهَذَا يُبَيِّنُ فِقْهَ الْمَسْأَلَةِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالْمُنَاقَضَةِ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنْ نَظَرٍ وَلَا أَثَرٍ أَصْلًا خِلَافُ مَا ظَنَّهُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُهُ، وَكَانَ هَذَا اعْتِقَادُ أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ عز وجل إنَّمَا يَرْتَبِطُ بِمُجَرَّدِ لَفْظٍ يَخْذُلُ بِهِ لِسَانُهُ، وَإِنْ قَصَدَ بِقَلْبِهِ خِلَافَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ بِلِسَانِهِ، وَهَذَا ظَنُّ مَنْ يَرَى النِّفَاقَ نَافِعًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَنَظِيرُ هَذَا مَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ بَلَغَهُ أَنَّهُ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَأَخْلَصَ فِي ظَنِّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ، فَلَمْ يَنَلْهَا فَشَكَا ذَلِكَ إلَى بَعْضِ حُكَمَاءِ الدِّينِ فَقَالَ إنَّك لَمْ تُخْلِصْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِنَّمَا أَخْلَصَتْ لِلْحِكْمَةِ يَعْنِي أَنَّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ سبحانه وتعالى إرَادَةُ وَجْهِهِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَتْ الْحِكْمَةُ تَبَعًا، فَإِذَا كَانَتْ الْحِكْمَةُ هِيَ الْمَقْصُودَ ابْتِدَاءً لَمْ يَقَعْ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ إخْلَاصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» فَلَوْ تَوَاضَعَ لِيَرْفَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاضِعًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقْصُودُهُ الرِّفْعَةَ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوَاضُعَ، وَهَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُطَلِّقَهَا كَانَ مَقْصُودُهُ هُوَ الطَّلَاقَ، فَلَمْ يَكُنْ مَا يَقْتَضِيهِ وَهُوَ النِّكَاحُ مَقْصُودًا فَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُطَابِقًا لِلْقَصْدِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ يَغْلِبُ فِي صِيَغِ الْأَخْبَارِ وَهَذِهِ صِيَغُ إنْشَاءٍ فَإِنَّ الصِّيَغَ الدَّالَّةَ عَلَى الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا طَالِبًا مُرِيدًا كَانَ عَابِثًا مُسْتَهْزِئًا أَوْ مَاكِرًا خَادِعًا، وَأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اسْقِنِي مَاءً وَهُوَ لَا يَطْلُبُهُ بِقَلْبِهِ وَلَا يُرِيدُهُ فَأَتَاهُ، فَقَالَ مَا طَلَبْتُ وَلَا أَرَدْتُ، كَانَ مُسْتَهْزِئًا بِهِ كَاذِبًا فِي إظْهَارِهِ خِلَافَ مَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ قَصَدَ أَنْ يُجِيبَهُ لِيَضْرِبَهُ كَانَ مَاكِرًا خَادِعًا، فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ تَزَوَّجْت وَنَكَحْت وَفِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مُرِيدًا لِلنِّكَاحِ وَلَا رَاغِبًا فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُرِيدٌ لِلْإِعَادَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ مُتَصَوِّرٌ بِصُورَةِ الْمُتَزَوِّجِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَصَوِّرٌ بِصُورَةِ الْآمِرِ، وَبِصُورَةِ الْمُؤْمِنِ، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إنَّ السَّبَبَ تَامٌّ، فَإِنَّهَا مُجَرَّدُ دَعْوَى بَاطِلَةٍ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمُقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هُنَا عَقْدًا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ صُورَةُ عَقْدٍ، أَمَّا إنْ كَانَا مُتَوَاطِئَيْنِ فَلَا

ص: 279

عَقْدَ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَازِمًا عَلَى التَّحْلِيلِ فَلَيْسَ بِعَاقِدٍ، بَلْ هَذَا الْقَصْدُ يَمْنَعُ الْعَقْدَ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْعَقْدِ، وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، قُلْنَا إنْ عَنَيْت بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ اللَّفْظَ الْمُجَرَّدَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالنِّيَّاتِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْأَلْفَاظِ، وَبُطْلَانُ هَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي صِفَاتِهِ اللَّفْظُ وَأَحْكَامُهُ، إنَّمَا هُوَ عِنَايَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَقَصْدُهُ وَإِلَّا فَاللَّفْظُ وَحْدَهُ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا، وَإِنْ عَنَيْت بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الْأَلْفَاظَ الدَّوَالَّ عَلَى مَعَانٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَصْدَ يُؤَثِّرُ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِهَا خِلَافَ تِلْكَ الْمَعَانِي كَانَ صَاحِبُهَا مُدَلِّسًا مُلْبِسًا، لَكِنَّ الْحُكْمَ فِي الظَّاهِرِ يَتْبَعُ الظَّاهِرَ وَلَيْسَ الْقَصْدُ إشَاعَةَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ظَاهِرًا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْحِلِّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلُهُ إنَّمَا نَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالْعَقْدِ فَهُوَ كَمَا لَوْ نَوَى إخْرَاجَ الْبَيْعِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِحْرَاقَهُ أَوْ إتْلَافَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

قُلْنَا: هَذَا مَنْشَأُ الْغَلَطِ فَإِنَّ قَصْدَ الطَّلَاقِ لَمْ يُنَافِ النِّكَاحَ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَصَدَ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَمْلُوكِ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا نَافَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَصْدَ النِّكَاحِ وَقَصْدَ الطَّلَاقِ لَا يَجْتَمِعَانِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ مَعْنَاهُ الِاجْتِمَاعُ وَالِانْضِمَامُ عَلَى سَبِيلِ انْتِفَاعِ كُلٍّ مِنْ الْمُجْتَمِعَيْنِ بِصَاحِبِهِ وَأُلْفِهِ بِهِ وَسُكُونِهِ إلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ إلَّا قَطْعَ هَذَا الْوَصْلِ وَفَرْقَ هَذَا الْجَمْعِ مَعَ عَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي الْمُؤَالَفَةِ.

وَانْتِفَاءُ الْغَرَضِ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ لَا يَصِحُّ، وَالطَّلَاقُ لَيْسَ هُوَ التَّصَرُّفَ الْمَقْصُودَ بِالْمِلْكِ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعُ سَبَبِ الْمِلْكِ، فَلَا يُقَاسُ بِتِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ وَإِنَّمَا لِيَرَهَا مِنْ النِّكَاحِ، أَنْ يَقْصِدَ بِالنِّكَاحِ بَعْضَ مَقَاصِدِهِ مِنْ النَّفْعِ بِهَا أَوْ نَفْعِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَظِيرُ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَعْقِدَ الْبَيْعَ إلَّا لَأَنْ يَفْسَخَهُ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ مَجْلِسٍ أَوْ عَيْبٍ أَوْ فَوَاتِ صِفَةٍ أَوْ إقَالَةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ بِالْبَيْعِ أَنْ يَفْسَخَ بَعْدَ عَقْدِهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ،

إذَا قَالَ: بِعْت أَوْ اشْتَرَيْت وَقَصْدُهُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ تَوَاطَآ عَلَى التَّقَابُلِ وَعَقَدَا فَهَلْ هُنَاكَ تَبَايُعٌ حَقِيقِيٌّ، وَنَظِيرُ التَّحْلِيلِ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ، ثُمَّ يَبِيعُهُ مِنْ رَجُلٍ بِنِيَّةِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي مُدَّةِ أَحَدِ الْخِيَارَاتِ، فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ أَنَّ هَذَا بَاعَ عَبْدَهُ قَطُّ، وَإِنَّمَا هَذَا تَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّ مَالَهُ وَوَهَبَهُ لِابْنِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَرْتَجِعَهُ، وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ:{وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20]، وَ {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254] لَوْ أَعْطَى ابْنَهُ مُظْهِرًا

ص: 280

أَنَّهُ مُقْرِضٌ مُنْفِقٌ وَمِنْ نِيَّتِهِ الِارْتِجَاعُ، فَهَلْ يَسْتَحْسِنُ مُؤْمِنٌ هَذَا أَنْ يَدْخُلَ هَذَا فِي اسْمِ الْمُقْرِضِ الْمُنْفِقِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَلَوْ آتَاهَا الْفَقِيرَ قَدْ وَاطَأَهُ عَلَى أَنْ يُعِيدَهَا إلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ عَقْدٍ أَمْكَنَهُ رَفْعٌ مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَظْهَرَ عَقْدَهُ وَمَقْصُودُهُ رَفْعُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ غَرَضُهُ الْعَقْدَ وَلَا شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِهِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ رَفْعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَهَذَا يُشْبِهُ التَّحْلِيلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْفَسْخُ إلَّا بِرِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَتَوَاطُؤُهُمَا عَلَى التَّفَاسُخِ قَبْلَ التَّعَاقُدِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ وَالْمُوَاطَأَةَ تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ مُقْتَضَاهُ وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ نَقِيضَ مُقْتَضَاهُ، وَإِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ إنْشَاءً أَوْ إخْبَارًا أَوْ أَمْرًا بِالْكَلَامِ نَقِيضَ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ، كَانَ الْكَلَامُ نَافِيًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَذَلِكَ الْقَصْدِ وَمُضَادًّا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ الطَّلَاقَ وَفَسْخَ الْعُقُودِ هُوَ تَصَرُّفُ نَفْسِ الْمِلْكِ، وَمُوجَبُ الْعَقْدِ بِرَفْعِهِ وَإِزَالَتِهِ لَيْسَ هُوَ تَصَرُّفًا فِي الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ بِإِتْلَافِهِ وَإِهْلَاكِهِ، بِخِلَافِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى وَإِحْرَاقِهِ وَإِغْرَاقِهِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ لَا بِإِتْلَافٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَ إزَالَةِ الْمِلْكِ مَعَ بَقَاءِ مَحَلِّ الْمِلْكِ وَمَوْرِدِهِ الَّذِي كَانَ مَمْلُوكًا، وَبَيْنَ إتْلَافِ نَفْسِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ وَمَوْرِدِهِ، الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ قَدْ يُسَمَّى مِلْكًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، فَأَيْنَ إتْلَافُ نَفْسِ التَّصَرُّفِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ إلَى إتْلَافِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ النِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجَبَ السَّبَبِ، وَكَيْفَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِمُوجَبِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُؤَيِّدِ لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَمُقْتَضَاهَا رَفْعُ هَذَا الْمُقْتَضَى لِيَتَبَيَّنَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّبَبِ وَالنِّيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَحِلِّ السَّبَبِ، وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِالْبَيْعِ إتْلَافَ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ هَذَا نِيَّةٌ لِإِتْلَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا نِيَّةٌ لِرَفْعِ الْعَقْدِ.

وَمِثْلُ هَذِهِ النِّيَّةِ لَا تَتَأَتَّى فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا يُمْكِنُهُ إتْلَافُ الْبُضْعِ وَلَا الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُهُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إلَّا بِنَفْسِهِ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ وَلَا إجَارَةٍ وَلَا إعَارَةٍ وَلَا نِكَاحٍ وَلَا إتْلَافٍ، وَإِذَا أَرَادَ إخْرَاجَهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ بِإِبْطَالِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلِإِخْرَاجِ الْمَبِيعِ عَنْ نَفْسِهِ طُرُقٌ، فَإِذَا

ص: 281

قَصَدَ أَنْ يُزِيلَ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ بِإِعْتَاقٍ أَوْ إحْرَاقٍ أَوْ إغْرَاقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَ مُبَاحًا مِثْلَ إيقَادِ الشَّمْعِ وَإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ لِيُخَفِّفَ السَّفِينَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا قَصَدَ بِالْعَقْدِ الِانْتِفَاعَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَالِ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالْأَعْيَانُ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِذَوَاتِهَا إذَا أُتْلِفَتْ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَبْذُلَ الْمَالَ لَيَحْصُلَ لَهُ الْمِلْكُ لِيُتْلِفَهُ هَذَا الْإِتْلَافَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الصَّدَاقَ لِيَعْقِدَ الْبَيْعَ لِيَفْسَخَ، فَإِنَّ هَذَا يَبْذُلُ الْعِوَضَ لِبَقَاءِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِدُونِ الْعِوَضِ وَلَمْ يَبْذُلْهُ لِشَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ الْمِلْكِ وَفَوَائِدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَالْعَقْدُ إنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَرَضٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ غَرَضٌ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا.

وَإِنَّمَا هُوَ صُورَةُ عَقْدٍ لَا حَقِيقَةٌ. وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ هُوَ قَصْدُ رَدِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَى مَالِكِهِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُسُوخِ. وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي يُنَافِي قَصْدَ الْعَقْدِ، أَمَّا قَصْدَ إخْرَاجِهِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي النِّكَاحِ وَهُوَ فِي الْبَيْعِ لَا يُنَافِي الْعَقْدَ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي فَنَقُولُ: قَوْلُهُ الْقَصْدُ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ حُكْمُهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ سَبَبٌ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَقْدَحُ فِيهِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ لَفْظٌ قَصَدَهُ الْمُتَكَلِّمُ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَقْصِدُ بِهِ مَا يُنَافِي حُكْمَهُ، أَوْ لَفْظٌ قَصَدَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَقَدْ قَدَّمْت فِي الْوَجْهِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ إبْطَالِ الْحِيَلِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ قَصْدَ مَا يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ فِي الشَّرْعِ يَمْنَعُ حِلَّهُ وَصِحَّتَهُ، فَإِنَّ عَدَمَ قَصْدِ الْعَقْدِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ عُذِرَ الْإِنْسَانُ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ وَاللَّعِبِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ لَمْ يَلْتَفِتْ الشَّرْعُ إلَى هَزْلِهِ وَلَعِبِهِ، وَأَفْسَدَ هَذَا الْوَصْفَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَأَلْزَمَهُ الْحُكْمَ عُقُوبَةً لَهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي الْعَقْدَ وَإِنَّمَا تَرَكَ قَصْدَ الْعَقْدِ فِي كَلَامٍ لَا يَصْلُحُ تَجْرِيدُهُ عَنْ حُكْمِهِ، وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُحْتَالِ مِثْلَ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْنَ الْهَازِلِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا لَوْ لَفَظَ بِمَا نَوَاهُ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ، وَهَذَا لَوْ لَفَظَ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَارِيًّا عَنْ نِيَّةٍ لِمُوجَبِهِ أَوْ بِخِلَافِ مُوجَبِهِمَا، وَهَذَا قَيَّدَ اللَّفْظَ بِنِيَّةٍ تُخَالِفُ مُوجَبَهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْأَوَّلُ لَاعِبًا وَهَازِلًا لِكَوْنِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُطْلَقَ وَيَعْرَى عَنْ قَصْدِ مَعْنًى، حَتَّى يَصِيرَ كَالرَّجُلِ الْهَزِيلِ، بَلْ يُوعِي مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ

ص: 282

حَقًّا وَجِدًّا، وَسُمِّيَ الثَّانِي مُخَادِعًا مُدَالِسًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَوْعَى اللَّفْظَ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَاهُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا أَطْلَقَ اللَّفْظَ وَهُوَ لَفْظٌ لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَعْرَاهُ عَنْ مَعْنًى جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ.

وَالثَّانِي: لَمَّا أَثْبَتَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، فَبَطَلَ حُكْمُهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ نِكَاحِ الْهَازِلِ حُجَّةٌ فِي إبْطَالِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزْوًا، وَعَنْ التَّلَاعُبِ بِحُدُودِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَطَلَ هَذَا التَّلَاعُبُ، وَبُطْلَانُ التَّلَاعُبِ فِي حَقِّ الْهَازِلِ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُوجَبَ تَلَاعُبِهِ فَسَادُهُ، وَبُطْلَانُ التَّلَاعُبِ فِي حَقِّ الْمُحَلِّلِ إفْسَادُ الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُوجَبَ تَلَاعُبِهِ صِحَّتُهُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْهَازِلَ نَقَصَ الْعَقْدَ فَكَمَّلَهُ الشَّارِعُ تَحْقِيقًا لِلْعَقْدِ وَتَحْصِيلًا لِفَائِدَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا التَّكْمِيلَ مُزِيلٌ لِذَلِكَ الْهَزْلِ وَجَاعِلُهُ جِدًّا، وَأَنَّ الْمُحَلِّلَ زَادَ فِي الْعَقْدِ مَا أَوْجَبَ نَفْيَ أَصْلِهِ وَلَوْ أَبْطَلَ الشَّارِعُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَمْ يَفْدِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَالْقَصْدُ لَمْ يَرْتَفِعْ كَمَا أَمْكَنَ رَفْعُ الْهَزْلِ بِجَعْلِ الْأَمْرِ جِدًّا، وَهَذِهِ فُرُوقٌ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا هُنَا. وَإِنْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ كِفَايَةٌ عَنْ هَذَا. وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا مِثْلُ شِرَاءِ الْعَصِيرِ فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُنَاكَ قَصَدَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْعَقْدَ، وَهُنَا قَصَدَ رَفْعَ الْعَقْدِ وَهَذَا يُنَافِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَصْدَهُ لِاِتِّخَاذِ الْعَصِيرِ خَمْرًا لَا يُفَارِقُ قَصْدَهُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلًّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ وَمُوجَبَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُفَارِقُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَهَذَا فَرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَا بِالْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ، وَنَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّ الطَّلَاقَ مُحَرَّمٌ وَأَنَّهُ أَبْطَلَ الْعَقْدَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا نَافَاهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَصْدَهُ بِالْعَقْدِ إزَالَتُهُ وَإِعْدَامُهُ يُنَاقِضُ الْعَقْدَ حَتَّى يَصِيرَ صُورَةَ عَقْدٍ لَا حَقِيقَةَ عَقْدٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ اشْتِرَاءَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ حَرَامٌ بَاطِلٌ، ثُمَّ إنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا بَاطِلًا فِي حَقِّهِ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَذَكَرْنَا «لَعْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاصِرَ الْخَمْرِ» ، وَحَدِيثًا آخَرَ وَرَدَ فِيمَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ، لِيَبِيعَهُ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا الْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم جَعَلُوا بَيْعَ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُخَمِّرُهُ بَيْعًا لِلْخَمْرِ، وَهُوَ نَهْيٌ يَتَعَلَّقُ بِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَنَهْيِ

ص: 283

الْمُسْلِمِ عَنْ هِبَةِ الْمُصْحَفِ لِكَافِرٍ، وَبَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِيَ عَشَرَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْبَائِعُ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ حَلَالًا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي حَرَامًا، لَكِنْ هُنَا فُرُوعٌ يُخَالِفُ حُكْمُهَا حُكْمَ غَيْرِهَا، مِثْلَ أَنْ يَتُوبَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمُشْتَرَى بِدُونِ تَجْدِيدِ عَقْدٍ مَعَ إمْكَانِهِ وَهُوَ نَظِيرُ إسْلَامِ الْكَافِرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي الْمُصْحَفِ الْمَوْهُوبِ، وَنَظِيرُ إسْلَامِ سَيِّدِ الْعَبْدِ فَإِنَّا إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ ثُبُوتِ يَدِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُصْحَفِ وَالْمُسْلِمِ لِمُقَارَنَتِهِ اعْتِقَادَ الْكُفْرِ لَهُ، كَمَا أَنَّا مَنَعْنَا مِنْ ثُبُوتِ يَدِ الْمُصِرِّ عَلَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِمُقَارَنَةِ اعْتِقَادِ الْمَعْصِيَةِ لَهُ.

وَلَيْسَ غَرَضُنَا هُنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ مَنْعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَنَظِيرُهُ مِنْ النِّكَاحِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيَطَأَهَا فِي الدُّبُرِ أَوْ لِيُكْرِيَهَا لِزِنًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُ اشْتِرَاءِ الْعَصِيرِ لِيَتَّخِذَهُ خَمْرًا وَبَيْعِ الْأَمَةِ لِيُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا قَصْدُهُ، وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ حَتَّى قَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا وَمِنْهُمْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا جَيِّدٌ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ، فَمَتَى تَوَافَقَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ أَوْ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُ إلَّا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا تَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ هَذَا الْمُنْكَرِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَدَلِ الْمُصَنِّفِينَ فِي خِلَافِ الْفُقَهَاءِ لِمَا ذُكِرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا. قَالَ: لَا أَظُنَّهُ يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَقْوَى وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ مِمَّنْ يَتَلَوَّطُ، وَلَا بَيْعُ الْأَمَةِ وَلَا تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ مِمَّنْ يَطَأهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ قَالَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْأَخْشَابِ لِمَنْ يَعْمَلُ آلَاتِ الْمَلَاهِي، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْمُجَادِلُ كُلُّهُ جَهْلٌ وَغَلَطٌ وَتَخْلِيطٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَمْرَدِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِهِ، وَلَا بَيْعُ الْمُغَنِّيَةِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا لَا يَحِلُّ، وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآنِيَةِ مِنْ الْأَقْدَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ فِيهَا الْمُسْكِرَ، وَلَا بَيْعُ الْمَشْمُومَاتِ مِنْ الرَّيَاحِينِ، وَنَحْوِهَا مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِي بَيْعِ الْخَشَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهَا آلَاتِ اللَّهْوِ وَسَائِرُ هَذَا الْبَابِ جَارٍ عِنْدَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، حَتَّى أَنَّهُ قَدْ نَصَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا

ص: 284

يَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ وَالدَّادِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ يَسْتَعِينُ عَلَى النَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِينَ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَانُ لَا يَعْتَقِدُهَا مَعْصِيَةً، كَإِعَانَةِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَجَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم.

هَذَا إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا إذَا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا لِيُضَارَّهُ بِمَطْلِ الثَّمَنِ، فَإِنْ عَلِمْت هِيَ بِذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا. وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ لَمْ يُمْكِنْ إبْطَالُ الْعَقْدِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْعَقْدِ إذَا كَانَ لِإِضْرَارِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْحَرَامِ لَمْ يَقَعْ بَاطِلًا كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ. وَتَلَقٍّ الرُّكْبَانِ وَبَيْعِ الْمَعِيبِ الْمُدَلَّسِ عَيْبُهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ هُنَا إنَّمَا هُوَ أَحَدُهُمَا لَا كِلَاهُمَا، فَلَوْ أَبْطَلْنَا الْعَقْدَ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا لَكَانَ فِيهِ إبْطَالٌ لِعَقْدِ مَنْ لَمْ يَنْهَ، وَلَكَانَ فِيهِ إضْرَارٌ لِمَنْ أَبْطَلَ الْعَقْدَ لِرَفْعِ ضَرَرِهِ، وَهَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى الْوَصْفِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ رَفْعِ ضَرَرِهِ قَدْ جُعِلَ مُوجِبًا لِضَرَرِهِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَضَارِّ دُونَ الْآخَرِ، كَمَا يُقَالُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِثْلَ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ظَالِمًا، وَشِرَاءُ الْمُعْتَقِ الْمَجْحُودِ عِتْقُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي، وَمِثْلُ دَفْعِ الرِّشْوَةِ إلَى ظَالِمٍ لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ، وَمِثْلُ إعْطَاءِ بَعْضِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، فَيَكُونُ نِكَاحُ الزَّوْجِ بَاطِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّ اسْتِمْتَاعَهُ بِهَا حَرَامٌ، وَبَيْعُ الْمُدَلِّسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ بَاطِلٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الثَّمَنُ، فَهَذَا قَدْ يُقَالُ مِثْلُهُ.

وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّهَا غَيْرُ وَارِدَةٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّ بِهَا امْرَأَةً أُخْرَى؛ أَوْ لِيَتَعَاوَنَا عَلَى سِحْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمَا النِّكَاحَ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ، فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ صِحَّةَ هَذَا النِّكَاحِ؟ . فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ بَيْعَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقَ لِلشُّرْبِ وَالزِّنَا بَاطِلٌ، وَبَيْعَ الْأَقْدَاحِ لِمَنْ يَشْرَبُ فِيهَا الْمُسْكِرَ بَاطِلٌ، وَبَيْعَ السِّلَاحِ مِمَّنْ يَقْتُلُ بِهِ مَعْصُومًا بَاطِلٌ، كَيْفَ لَا يَقُولُ إنَّ تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ لِمَنْ يَضُرُّ بِهَا امْرَأَةً مُسْلِمَةً ضَرَرًا مُحَرَّمًا مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهَا بَاطِلٌ، وَإِنْ أَوْرَدَ مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا وَإِنَّمَا قَصَدَ مُجَرَّدَ إيذَاءِ الزَّوْجَةِ الْأُولَى بِالْغَيْرَةِ فَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَى لَيْسَ بِمُحَرَّمِ الْجِنْسِ فَلَمْ

ص: 285

يَتَزَوَّجْهَا لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ هُوَ لَا يُمْكِنُ إلَّا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ، فَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ بَعْضَ تَوَابِعِهِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا مَعَ وُجُودِهِ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَحِلُّ قَصْدُهُ وَإِنْ جَازَ وُجُودُهُ شَرْعًا بِطَرِيقِ الضِّمْنِ، فَهُنَا الْمُحَرَّمُ مُجَرَّدُ الْقَصْدِ فَلَا يُشْبِهُ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ رَفْعُ النِّكَاحِ وَهُنَا بَقَاؤُهُ، لَكِنْ يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ فِعْلٌ هُوَ مُحَرَّمٌ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مُبَاحٌ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، وَكَذَلِكَ هُنَا الْمَقْصُودُ غَيْرَةُ الزَّوْجَةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مُبَاحٌ بِطَرِيقِ التَّبَعِ.

وَصِحَّةُ هَذَا النِّكَاحِ فِيهَا نَظَرٌ، فَإِنَّ مَا كَانَ التَّحْرِيمُ فِيهِ لِحَقِّ آدَمِيٍّ يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي فَسَادِهِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَفِي فَسَادِ الْعُقُودِ الَّتِي تَحْرُمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بِحَقِّ آدَمِيٍّ مِثْلَ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَسَوْمِهِ عَلَى سَوْمِهِ، وَنِكَاحِهِ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا مَعْرُوفًا، وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ اعْتَذَرَ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْعَقْدِ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَا لِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَإِنْ سَلَّمَ صِحَّةَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهَا وَلَا نَقَضُ دَلِيلِنَا بِهَا.

وَإِنْ لَمْ نُسَلِّمْ صِحَّةُ الْفَرْقِ سَوَّيْنَا بَيْنَ جَمِيعِ الصُّوَرِ فِي الْبُطْلَانِ، فَيُمْنَعُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَكَذَلِكَ كُلَّمَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَإِنَّ الْجَوَابَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقٌ صَحِيح أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَصِحَّ النَّقْضُ وَلَا الْقِيَاسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَالْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ سَوَاءٌ، نَعَمْ لَوْ أَوْرَدْت صُوَرٌ قَدْ ثَبَتَتْ الصِّحَّةُ فِيهَا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، لَكَانَ ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا وَلَيْسَ إلَى هَذَا سَبِيلٌ، وَلَا تَعْبَأُ بِمَا يُفْرَضُ مِنْ الْمَسَائِلِ وَيَدَّعِي الصِّحَّةَ فِيهَا بِمُجَرَّدِ التَّهْوِيلِ، أَوْ بِدَعْوَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَقَائِلُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهَا بِالصِّحَّةِ فَضْلًا عَنْ نَفْيِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا مِنْ الْجَلِيَّاتِ الَّتِي لَا يُعْذَرُ الْمُخَالِفُ فِيهَا.

وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ، مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ، فَإِنَّمَا هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ يُرِيدُونَ أَنْ يُبْطِلُوا السُّنَنَ بِذَلِكَ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إذَا نَاظَرْتَهُمْ بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ قَالُوا هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَا يَحْفَظُونَهُ إلَّا عَنْ فُقَهَاءِ

ص: 286

الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ مَثَلًا، فَيَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِأَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى رَدِّ السُّنَنِ بِالْآرَاءِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ تُرَدُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْآثَارِ، فَلَا يَجِدُ مُعْتَصَمًا إلَّا أَنْ يَقُولَ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا وَأَصْحَابَهُمَا لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ لَرَأَى مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعَيْهِمْ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا؛ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ.

وَإِلَّا فَمَنْ تَتَبَّعَ وَجَدَ فِي مُنَاظَرَاتِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرًا، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ فُقَهَاءَ الْحَدِيثِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا تَرِدُ بِهِ السُّنَنُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ وَجَدَهَا أُصُولًا قَدْ تُلُقِّيَتْ بِحُسْنِ الظَّنِّ مِنْ الْمَتْبُوعِينَ، وَبُنِيَتْ عَلَى قَوَاعِدَ مَغْرُوضَةٍ إمَّا مَمْنُوعَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةٍ مَعَ نَوْعِ فَرْقٍ، وَلَمْ يَعْتَصِمْ الْمُثْبِتُ لَهَا فِي إثْبَاتِهِ بِكَثِيرِ حُجَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ نَوْعِ رَأْيٍ أَوْ أَثَرٍ ضَعِيفٍ.

فَيَصِيرُ مُثْبِتًا لِلْفَرْعِ بِالْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ إلَى أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ أَثَرٍ وَهَذَا عَامٌّ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ. وَيَجْعَلُ هَذِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى الْمُسْتَمْسِكِ بِهَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إلَّا التَّعَجُّبُ مِمَّنْ يُخَالِفُهَا. وَهُوَ لَا يَعْلَمُ لِمَنْ يَقُولُ بِهَا مِنْ الْحُجَّةِ أَكْثَرَ مِنْ مُرُونَةٍ عَلَيْهَا مَعَ حَظِّ مَنْ رَأَى.

وَمَسْأَلَةُ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مِنْ بَابِهِ الَّذِي زَعَمَ هَذَا الْمَجَادِلُ أَنْ لَا خِلَافَ فِي بَعْضِهَا: وَعَامَّةُ السَّلَفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ بِالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ كَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الْفِتْنَةِ. وَالْكَرَاهَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي لِسَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَكَادُ يُرَادُ بِهَا إلَّا التَّحْرِيمُ.

وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلَافٌ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْعَصِيرَ. وَهَذِهِ حِكَايَةُ حَالٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَلًّا أَوْ رِبًا أَوْ يَشْرَبُهُ عَصِيرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ مَنَعَ بَيْعَ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَهُوَ قَوْلُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ

ص: 287

وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيَّ وَغَيْرِهِمْ.

وَمَنَعَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ بَيْعِ الْكُفَّارِ مَا يَتَقَوُّونَ بِهِ مِنْ كُرَاعٍ وَسُرُوجٍ وَحَرْثِي وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، ذَكَرَهُمَا فِي الْحَاوِي، وَجَرَى التَّصْرِيحُ عَنْ السَّلَفِ بِتَحْرِيمِ هَذَا الْبَيْعِ وَبِفَسَادِهِ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ تَبَعًا لِلسَّلَفِ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ لِي كُرُومًا فَأَعْصِرُهَا خَمْرًا فَأَعْتِقُ مِنْ ثَمَنِهَا الرِّقَابَ، وَأَحْمِلُ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِسْقٌ إنْ أَنْفَقَتْ وَفِسْقٌ إنْ تَرَكَتْ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَعَقَرَ كُلَّ شَجَرَةِ عِنَبٍ كَانَ يَمْلِكُهَا وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ بُكَيْر أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ بَيْعِ الْعَصِيرِ فَقَالَ: لَا يَصْلُحُ. فَقَالَ: إنْ عَصَرْته ثُمَّ شَرِبْته مَكَانِي قَالَ: فَلَا بَأْسَ. قَالَ: فَمَا بَالُ بَيْعِهِ حَرَامٌ وَشُرْبُهُ حَلَالٌ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ. مَا أَدْرِي أَجِئْتَ تَسْتَفْتِينِي أَمْ جِئْتَ تُمَارِينِي. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: نُهِيَ عَنْ بَيْعِهِ؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَمْرِ إلَّا أَنْ يَكُون يَسِيرًا. وَبِكَوْنِ مُبْتَاعِهِ مَأْمُونًا يُعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِيَشْرَبَهُ عَصِيرًا كَمَا هُوَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.

وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْكَرْمِ إذَا خِيفَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيهِ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِعَصْرِهِ خَمْرًا فَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُشْتَرِيهِ مُسْلِمًا يُخَالِفُ أَنْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا فَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ مِنْهُ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ شَأْنَهُمْ عَصِيرُ الْخَمْرِ وَبَيْعُهَا، قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَضَرَبَ الْأَوْزَاعِيُّ، لِذَلِكَ مَثَلًا كَمَنْ بَاعَ سِلَاحًا مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ مُسْلِمًا. قَالَ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الْعَسَلَ أَوْ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ أَوْ الْقَمْحَ مِمَّنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ شَرَابًا مُسْكِرًا وَكَرِهَ طَعَامَ عَاصِرِ الْخَمْرِ وَبَائِعِهَا وَكَرِهَ مُبَايَعَتَهُ وَمُخَالَطَتَهُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ مُسْلِمًا وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ لِبَيْتِهِ أَوْ حَانُوتِهِ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ نَصْرَانِيًّا.

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَقَدْ نَهَى ابْنُ عُمَرَ أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ أَوْ حَانُوتَهُ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ. حَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَمَنْ فَعَلَ مَا نَهَى عَنْهُ بِأَنْ بَاعَ كَرْمَهُ مِمَّنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا أَوْ أَكْرَى دَارِهِ أَوْ حَانُوتَهُ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.

ص: 288

وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُبَيِّنُ أَنَّ إمْسَاكَ هَذَا الثَّمَنِ فُسُوقٌ، وَأَنَّ إنْفَاقَهُ فِسْقٌ، وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَا يَكُونُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ الثَّمَنُ حَلَالًا فَإِنَّا لَا نَعْنِي بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الثَّمَنَ الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ، كَمَا يَتَصَدَّقُ بِكُلِّ مَالٍ حَرَامٍ لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ.

وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَعَلَيْهِ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ حَرَامٌ وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ الرُّخْصَةَ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُخَمِّرْهُ عَمَّنْ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِثْلَ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ وَهَذَا مُطْلَقٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْمُشْتَرِي وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ الْخِلَافِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ؟ . وَلَوْ قِيلَ لِقَائِلِ ذَلِكَ انْقُلْ لَنَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ لَا بَأْسَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الْهُدَى وَالسَّدَادَ بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَبَيْنَ هَذَا أَنَّ الرِّضَا مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ فَنَقُولُ وَهَلْ الرِّضَا الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الرَّاضِي نَفْسِهِ إلَّا نَوْعٌ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، أَوْ صِفَةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ، فَإِذَا كَانَ النَّوْعُ أَوْ الْمَلْزُومُ شَرْطًا فَالْجِنْسُ وَاللَّازِمُ شَرْطٌ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ وُجُودَ النَّوْعِ بِدُونِ الْجِنْسِ أَوْ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْفَرْقُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْجَمْعِ؟ نَعَمْ قَدْ يَقُولُ الْمُنَازِعُ إنَّمَا اُشْتُرِطَ هَذَا لِلْقَدْرِ مِنْ الْقَصْدِ فَقَطْ، فَنَقُولُ إنَّمَا اشْتَرَطَهُ لِعَدَمِ قَصْدِ الْإِنْسَانِ فِي الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ إلْزَامُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ فَقَطْ لِقَصْدٍ آخَرَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ ضَرَرًا لَا يَجُوزُ. فَنَقُولُ هَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمُحَلِّلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْتَالِينَ، فَإِنَّ تَصْحِيحَ عَقْدٍ لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ فَقَطْ لِقَصْدٍ آخَرَ يَسْتَحِلُّ بِهِ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ. وَقَدْ بَيَّنَّا اعْتِبَارَ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ فِيمَا مَضَى، وَأَمَّا ذِكْرُ الشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ فِي الْعَقْدِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنْ إنَّمَا تُورَدُ فِيمَا إذَا تَوَافَقَا عَلَى التَّحْلِيلِ قَبْلَ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ وَاقِعٌ كَثِيرًا، فَإِنَّ هَذَا أَقْبَحُ مِنْ مُجَرَّدِ الْقَصْدِ، وَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُقْتَرِنِ وَالْمُتَقَدِّمِ فِيمَا مَضَى.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَنَقُولُ النِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِمَعْنَيَيْنِ

ص: 289

صَحِيحَيْنِ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا صَحِيحًا، فَإِنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ مُجَرَّدِ حِكَايَةِ الْمَذْهَبِ، وَحَسْبُهُ مِنْ الْجَوَابِ لَا تُسَلِّمُ فَإِنَّ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةَ يَكْفِيهَا الْمَنْعُ الْمُجَرَّدُ، ثُمَّ نَقُولُ أَتَقُولُ إنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ ظَاهِرًا، أَمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا؟ . الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ، فَإِنَّا لَمْ نَدَّعِ أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ تُبْطِلُ حُكْمَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا الْعَقْدُ فِي الْبَاطِنِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمُحَلِّلِ. وَإِنْ كَانَ حَلَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالتَّحْلِيلِ فَيَأْثَمُ بِوَطْئِهَا وَبِإِعَادَتِهَا إلَى الْأَوَّلِ.

وَهِيَ لَا تَأْثَمُ بِتَمْكِينِهِ كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَإِنْ قَالَ إنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ بِحَالٍ، فَيَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِصَرَائِحِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، إذَا صَرَفَهَا بِنِيَّتِهِ إلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ، فَكَذَلِكَ لَفْظُ نَكَحْتُ يَحْتَمِلُ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ وَقَدْ نَوَاهُ فَيَنْصَرِفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا أَوْ مُتَوَاطِئًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ ظَاهِرًا وَالْآخَرُ بَاطِنًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَتُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِيهِ كَمَا فِي الْكِنَايَاتِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَوَاطِئُ كَقَوْلِهِ اشْتَرَيْت فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ تُقَيِّدُهُ النِّيَّةُ لَهُ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ، وَأَمَّا النَّصُّ فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ فِي خِلَافِ مَعْنَاهُ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي أَنَّ النِّيَّةَ تُؤَثِّرُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاللَّفْظُ الصَّرِيحُ يَشْتَمِلُ النَّصَّ وَالظَّاهِرَ، فَقَوْلُهُ إنَّ اللَّفْظَ هُنَا صَرِيحٌ فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ فِيهِ مَنْقُوضٌ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصُّوَرِ، بَلْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ لَفْظَ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ظَاهِرٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ مِثْلَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنِكَاحِ الشِّغَارِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا قَالَ نَكَحْت وَنَوَى نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ فَقَدْ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يَحْتَمِلُهُ. ثُمَّ مَنْ نَوَى مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ إنْ كَانَ الْمَنْوِيُّ لَهُ دِينَ فِي الْبَاطِنِ إذَا أَمْكَنَ وَفِي قَبُولِهِ فِي الْحُكْمِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. إذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ قَرِيبًا مِنْ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي نَوَاهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قُمْت، ثُمَّ قَالَ سَبَقَ لِسَانِي بِالشَّرْطِ وَلَمْ أُرِدْهُ. أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَنْكِحُ فُلَانَةَ وَنَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا.

وَقَالَ نَوَيْت الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ. فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ نَوَى التَّحْلِيلَ عُلِمَتْ نِيَّتُهُ فِي الْبَاطِنِ فِي جَانِبِهِ خَاصَّةً. فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ قُبِلَ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ إفْسَادِ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثُمَّ هَذَا قِيَاسٌ بِجَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ

ص: 290

الْمُفْرَدَةِ وَالْمُقْتَرِنَةِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ. فَكَيْفَ يُقَالُ بَعْدَ هَذَا إنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُك بِنْتِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، لَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي نَقْدِ الْبَلَدِ الْغَالِبِ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ نَوَيْت النَّقْدَ الْفُلَانِيَّ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ دُونَهُ قُبِلَ مِنْهُ إنْ صَدَّقَ الْآخَرُ عَلَيْهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا السُّؤَالُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ نَوَى بِاللَّفْظِ مَعْنًى مُحْتَمَلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَا نَوَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، كَمَا لَوْ نَوَى ذَلِكَ بِسَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ، أَوْ يَقُولُ كَمَا لَوْ نَوَى ذَلِكَ بِأَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ طَلَاقِ الْهَازِلِ وَالطَّلَاقِ الَّذِي نَوَى بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا هَزَلَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا وَقَعَ، وَلَوْ نَوَى بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَرَدُّدٍ وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ بِلَا تَرَدُّدٍ أَيْضًا، فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا هَزَلَ بِهِ وَقَعَ، وَإِذَا نَوَى بِالْعَقْدِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ عَمِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَرَدُّدٍ وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ بِلَا تَرَدُّدٍ أَيْضًا، فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا هَزَلَ بِهِ وَقَعَ، وَإِذَا نَوَى بِالْعَقْدِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ عَمِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا نَوَى وَقُبِلَ مَا نَوَاهُ فِي الْحُكْمِ فِي جِهَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِفَسَادِ النِّكَاحِ مَقْبُولٌ مِنْهُ فِيمَا يَخُصُّهُ، وَمِنْ النُّقُوضِ الْمُوَجَّهَةِ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ النِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، أَنَّ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ مُقْتَضَاهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ إذَا نَوَى مَا يُخَالِفُهَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مُقْتَضَاهَا، فِي الْبَاطِنِ وَمِنْ ذَلِكَ عُقُودُ الْهَازِلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا أَوْ عَامَّتَهَا عِنْدَ الْمُخَالِفِ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ قَصْدِهَا، فَقَدْ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ.

وَلَنَا أَنْ نَنْقُضَ عَلَيْهِ بِصُوَرٍ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْتَقِدُهَا فَإِنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّك إذَا لَمْ تَعْتَقِدْ صِحَّةَ دَلِيلِك فَكَيْفَ تُلْزِمُهُ غَيْرَك إذَا كَانَ هُوَ أَيْضًا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، وَلِهَذَا قَالُوا لَيْسَ لِلْمُنَاظِرِ أَنْ يُلْزِمَ صَاحِبَهُ مَا لَا يَعْتَقِدُهُ هُوَ إلَّا النَّقْضَ؛ لِأَنَّ مَا سِوَى النَّقْضِ اسْتِدْلَالٌ، وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، وَالنَّقْضُ لَيْسَ اسْتِدْلَالًا، لَكِنْ إذَا انْقَضَتْ الْعِلَّةُ عَلَى أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى فَسَادِهَا، أَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَبِصُورَةِ النَّقْضِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَمَحَلُّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ، فَالْمُسْتَدِلُّ يَقُولُ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ، وَالْآخَرُ يَقُولُ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ

ص: 291

عَنْهَا فِي الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ مَحْمَلُ النِّزَاعِ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَخَلِّفًا عَنْهَا وِفَاقًا كَانَتْ مُنْتَقِضَةً وِفَاقًا.

وَتَخْلِيصُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ إلَّا بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا اسْتَدَلَّ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ مُنَاظِرِهِ دُونَهُ كَانَ حَاصِلُهُ إظْهَارَ مُنَاقَضَةِ الْمُنَاظِرِ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ، وَهَذَا لَيْسَ اسْتِدْلَالًا وَإِنَّمَا هُوَ اعْتِرَاضٌ فِي الْمَعْنَى، فَأَمَّا الْمُعْتَرِضُ فَاعْتِرَاضُهُ إنْ كَانَ مَنْعًا فَلَيْسَ هُوَ إلْزَامًا، وَإِنْ كَانَ مُعَارَضَةً فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ وَلَيْسَ دَلِيلًا عِنْدَهُ إذَا كَانَ هُوَ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي النَّقْضِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَيْضًا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، وَقَدْ عَارَضَهُ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ دُونَهُ فَحَاصِلُهُ يَرْفَعُ إلَى مُنَاقَضَةِ الْمُسْتَدِلِّ، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَكِلَاهُمَا مَخْصُومٌ، أَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَاسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ مُعْتَرَضٍ عَنْ مُرَجَّحٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَرَضُ فَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارَضِ الْمُقَاوَمِ. وَمِنْ ذَلِكَ صُوَرُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَيْت مُقْتَضَاهُ الِاشْتِرَاءُ لَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ إلَى نِيَّةٍ، ثُمَّ إذَا نَوَى الشِّرَاءَ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ لِشَرِيكِهِ صَحَّ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَاهُ لِغَيْرِ مُوَكِّلِهِ عَلَى خِلَافٍ مَشْهُورٍ، وَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ إنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَيْت مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الِاشْتِرَاءِ لَهُ وَلِمُوَكِّلِهِ غَلَطٌ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الشِّرَاءِ لَهُ مُحْتَمِلٌ لِلشِّرَاءِ لِمُوَكِّلِهِ، وَرُبَّمَا قَدْ يُنَازِعُنَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِظُهُورِ الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَنَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى شِرَاءِ الْوَلِيِّ مِثْلَ وَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَشِرَاءِ الِابْنِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مُطْلَقَ هَذَا الْعَقْدِ يَقْتَضِي الشِّرَاءَ لِنَفْسِ الْمُشْتَرِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالنِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ تَعْمَلُ فِي مُقْتَضَى هَذَا السَّبَبِ الظَّاهِرِ، وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَلِّيهِ، بَلْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ هُنَا الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ النِّكَاحِ هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ، ثُمَّ هُنَا إذَا نَوَى الشِّرَى لِمُوَلِّيهِ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ فِي مُقْتَضَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ، فَكَذَلِكَ هُنَاكَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْمَنْوِيَّ هُنَاكَ جَائِزٌ وَهُنَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ نَوَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ وَهُنَا نَوَى أَنْ يَكُونَ مُحَلِّلًا وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ النِّيَّةِ تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مُؤْثَرَةٌ بِحَسَبِهَا إنْ خَيْرًا فَخَيْرًا وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا، وَهَذَا الْفَرْقُ لَمْ يَجُزْ إلَّا مِنْ خُصُوصِ الْمَنْوِيِّ، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِنَّ النِّيَّاتِ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهَا نِيَّةً فَلَا بُدَّ أَنْ تَفْتَرِقَ فِي مُتَعَلَّقَاتِهَا.

ص: 292

إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَقَوْلُهُ النِّيَّةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ إنْ عَنَى بِهِ الِاحْتِمَالَ الْمُسَاوِيَ لِصَاحِبِهِ، فَلَيْسَ احْتِمَالُ لَفْظِ الْعَقْدِ لِلْمُوَلِّي وَالْمُوَكِّلِ مُسَاوِيًا، فَلَا يَصِحُّ كَلَامُهُ، وَإِنْ عَنَى بِهِ مُطْلَقَ الِاحْتِمَالِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ.

وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ؛ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِي كُلِّ لَفْظٍ مُحْتَمَلٍ. وَنَفْيُ عَمَلِهَا فِي الظَّوَاهِرِ وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ وَهُوَ كَلَامٌ مُتَهَافِتٌ. وَإِنْ عَنَى بِالصَّرِيحِ النَّصَّ فَهُوَ خِلَافُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ. فَإِنَّ صَرَائِحَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ظَوَاهِرُ فِيهِ تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَيْسَتْ نُصُوصًا ثُمَّ مَعَ هَذَا لَا يَنْفَعُهُ هَذَا الْكَلَامُ. فَإِنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ، وَلِهَذَا يُقَالُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ. وَيُقَالُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ.

وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ مَجَازٌ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ أَنْ يَكُونَ نَصًّا إلَى أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا وَهُوَ مَدْخَلٌ لِلَّفْظِ النِّكَاحِ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْرِيرِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ دَاخِلًا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَعْنِي الصَّرِيحَ بَلْ فِي الْأَوَّلِ؛ صَارَ الْكَلَامُ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ. وَكَذَلِكَ هُوَ فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ رَدَّ بِهَا كَلَامَ مَنْ احْتَجَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْعُقُودِ كَعَقْدِ التَّوْكِيلِ وَنَحْوِهِ. فَزَعَمَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُحْتَمَلِ دُونَ الصَّرِيحِ. وَأَنَّ الْوَكَالَةَ مِنْ الْمُحْتَمَلِ وَالنِّكَاحَ مِنْ الصَّرِيحِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَأَيُّ تَفْسِيرٍ فَسَّرَ الْمُحْتَمَلَ وَالصَّرِيحَ دَخَلَ فِيهِ الْقِسْمَانِ جَمِيعًا. وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعِ فَجَوَابُهُ: أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ النِّيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ تَنْقَسِمُ إلَى مُؤَثِّرٍ فِي الْعَقْدِ إلَى غَيْرِ مُؤَثِّرٍ. كَمَا أَنَّ الشُّرُوطَ تَنْقَسِمُ إلَى مُؤَثِّرٍ وَغَيْرِ مُؤَثِّرٍ فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الصَّدَاقِ كَانَ بَاطِلًا. وَإِذَا لَمْ يُنَافِهِ كَاشْتِرَاطِ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ أَوْ الْعَاقِدِ لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا، وَكَذَلِكَ النِّيَّةُ إذَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الْعَقْدِ أَوْ لِمُقْتَضَى الشَّرْعِ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُنَافِيَةً لَمْ تُؤَثِّرْ فَمَنْ نَوَى بِالشِّرَى الْقُنْيَةَ أَوْ التِّجَارَةَ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ عَنْ مُقْتَضَى الْبَيْعِ. بِخِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ أَمَّا مَنْ قَصَدَ أَنْ يَعْقِدَ لِيَفْسَخَ لَا لِغَرَضٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ قَصَدَ مَنْفَعَةً مُحَرَّمَةً بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهَذَا قَصَدَ مَا يُنَافِي الْعَقْدَ وَالشَّرْعَ. فَكَذَلِكَ أَثَّرَ فِي الْعَقْدِ وَقَدْ تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ حَيْثُ لَا

ص: 293

يُؤَثِّرُ الشَّرْطُ، فَإِنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّدْلِيسَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ الْمُسْتَنْكِحِ أَوْ الْمَنْكُوحَةِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا مُثْبِتًا لِخِيَارِ الْفَسْخِ أَوْ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ. وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا لَازِمًا. فَظَهَرَ أَنَّ الْقَصْدَ يُؤَثِّرُ حَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ الشَّرْطُ. كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ يُؤَثِّرُ حَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ الْقَصْدُ. وَقَدْ يُؤَثِّرَانِ جَمِيعًا إذَا كُلٌّ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِلْآخَرِ فِي وَحْدِهِ وَحَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا غَلِطَ هُنَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الشَّرْطُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فَقَدْ اعْتَرَفَ الْمُعْتَرِضُ بِفَسَادِهِ وَقَالَ نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْحَدِيثِ فَنَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، فَلَا نَحْكُمُ فِي عَقْدٍ أَنَّهُ عَقْدُ تَحْلِيلٍ، حَتَّى يَثْبُتَ ذَلِكَ إمَّا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى تَوَاطُئِهَا قَبْلَ الْعَقْدِ، أَوْ تَشْهَدُ بِعُرْفٍ جَارٍ بِصُورَةِ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّ الْعُرْفَ الْمُطَّرِدَ عَلَى حَالٍ جَارٍ مَجْرَى الشَّرْطِ بِالْمَقَالِ، لَكِنَّا وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ إلَّا بِالظَّاهِرِ فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعَامِلَ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا بِالْبَيِّنَاتِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَنْوِيَ بِالشَّيْءِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَنْهَى النَّاسَ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم

مِنْ النِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ، وَإِنْ لَمْ نَعْتَقِدْ أَنَّهَا فِيهِمْ، كَمَا نَنْهَاهُمْ عَنْ سَائِرِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ لَا نَكْتُمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدَ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي تَضَمَّنَ طَاعَةَ الرَّسُولِ. صلى الله عليه وسلم

وَاتِّبَاعَ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ لَا نُعِينَ أَحَدًا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعَانَةِ عَلَى عَقِبٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ تَحْلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِأَنَّهُ تَحْلِيلٌ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نُعِينَ أَحَدًا عَلَى عَمَلٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ أَوْ وَطْءِ مُحَرَّمٍ، وَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا يُخَافُ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلًا وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْقَلْبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ وَفَسَادُ عَقْدِ الْمُحَلِّلِ فِي الْبَاطِنِ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَصْلٌ وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْطَانُ لِلتَّحْلِيلِ حِيلَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُزَوِّجَهَا الرَّجُلُ الْمُطَلِّقُ مِنْ عَبْدِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهَا أَوْ يَهَبَهُ لَهَا، فَإِذَا وَطِئَهَا الْعَبْدُ بَاعَهَا ذَلِكَ الْعَبْدُ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ وَهَبَهَا

ص: 294

ذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ إذَا مَلَكَتْ زَوْجَهَا أَوْ شِقْصًا مِنْهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَالْمُخَادِعُونَ يُؤْثِرُونَ هَذِهِ الْحِيلَةَ لِشَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَا تَكُونُ بِيَدِ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ أَوْ الزَّوْجَةِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْفُرْقَةِ، بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ الطَّلَاقِ، فَيُمْكِنُهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ.

الثَّانِي: زَعَمُوا أَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُمَا مِنْ إدْخَالِ أَجْنَبِيٍّ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ إيطَاءَ عَبْدِهِ لَيْسَ كَإِيطَاءِ مَنْ يُسَامِيهِ فِي الْحُرِّيَّةِ، ثُمَّ ذَهَبَ بَعْدَ الشُّذُوذِ إلَى أَنَّ وَطْءَ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلَهُ يُحِلُّهَا، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ صَارَ بِيَدِ الْمُطَلِّقِ الْعَقْدُ وَالْفَسْخُ مِنْ غَيْرِ مَا يُعَارِضُهُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَمِنْهُمْ مَنْ يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ فَيَصِيرُ بِيَدِ السَّيِّدِ الْعَقْدُ وَالْفَسْخُ أَيْضًا، وَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَعْنِي فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ الْكَبِيرِ احْتِمَالًا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَنْوِ التَّحْلِيلَ وَإِنَّمَا نَوَاهُ غَيْرُهُ، وَالْعِبْرَةُ فِي التَّحْلِيلِ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ لَا بِنِيَّةِ غَيْرِهِ.

وَهَذِهِ الصُّورَةُ أَبْلَغُ فِي الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ تبارك وتعالى وَالِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالتَّلَاعُبِ بِحُدُودِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ هُنَاكَ كَانَ الْمُحَلِّلُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الْفُرْقَةُ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ، وَهُنَا جُعِلَتْ الْفُرْقَةُ بِيَدِ الْمُطَلِّقِ وَالْمَرْأَةِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ تَحْتَ حَجْرِ الزَّوْجِ بِأَنْ يَكُونَ وَصِيًّا لَهَا، فَيَرَى أَنْ يَهَبَهَا الْعَبْدَ وَيَقْبَلَهُ هُوَ أَوْ يَبِيعَهَا إيَّاهُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ الْوَصِيَّ لِلْيَتِيمِ، فَإِنَّ مَنْ فَتَحَ بَابَ الْمُخَادَعَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدٍّ يَتَعَدَّى مَا أَمْكَنَهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَيَنْتَهِكُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَبْقَى الْمُطَلِّقُ مُسْتَقِلًّا بِفَسْخِ النِّكَاحِ، ثُمَّ إنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لَهُ فِي النِّكَاحِ وَمِنْ نِيَّةِ هَذَا السَّيِّدِ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَهُ كَانَ الزَّوْجُ أَيْضًا مَخْدُوعًا مَمْكُورًا بِهِ، حَيْثُ أَذِنَ لَهُ فِي نِكَاحٍ بَاشَرَهُ وَلَيْسَ الْقَصْدُ بِهِ نِكَاحًا، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ سِفَاحٌ، فَهُنَاكَ إنَّمَا وَقَعَتْ الْمُخَادَعَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ فَقَطْ. وَهُنَا وَقَعَتْ الْمُخَادَعَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ آدَمِيٍّ وَهَذَا هُوَ الزَّوْجُ، وَاللَّعْنَةُ الَّتِي وَجَبَتْ هُنَاكَ عَلَى الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ يَصِيرُ كِلْتَاهُمَا هُنَا عَلَى الْمُطَلِّقِ وَهُوَ الْمُحَلَّلُ لَهُ وَعَلَى الزَّوْجَةِ فَيَقْتَسِمَانِ لَعْنَةَ الْمُحَلِّلِ، وَيَنْفَرِدُ الْمُطَلِّقُ بِلَعْنَةِ الْمُحَلَّلِ لَهُ أَوْ تُشْرِكُهُ الْمَرْأَةُ فِيهَا.

ص: 295

وَمِنْ أَسْرَارِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَعُمُّ هَذَا لَفْظًا كَمَا يَعُمُّهُ مَعْنًى، فَإِنَّ الْعَطْفَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّغَايُرِ فِي الصِّفَات كَمَا يَكُونُ لِلتَّغَايُرِ فِي الذَّوَاتِ، فَيُقَالُ لِهَذَا لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَإِنْ كَانَا وَصْفَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا قُلْنَا هَذَا أَغْلَظُ فِي التَّحْرِيمِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ لَعْنَتَانِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ قَدْ وَاطَأَهُمْ أَخَذَ بِنَصِيبِهِ مِنْ اللَّعْنَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ نَصِيبِ السَّيِّدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ عَقْدَ التَّحْلِيلِ إنَّمَا تَمَّ بِرِضَاهُ وَرِضَا السَّيِّدِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُحَلِّلُ عَبْدًا لِغَيْرِ الْمُطَلِّقِ، فَإِنَّهُ إذَا حَلَّلَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ حَقَّتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمَا، وَيَزِيدُهُ قُبْحًا أَنَّ الزَّوْجَ هُنَا عَبْدٌ لَيْسَ بِكُفْءٍ وَنِكَاحُهُ إمَّا مَنْقُوصٌ أَوْ بَاطِلٌ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَمَنْ يُصَحِّحُهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ رِضَا جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ بِالْعَبْدِ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمُطَلِّقِ بَلْ مِنْ صَدِيقٍ لَهُ يُزَوِّجُهَا بِعَبْدِهِ، وَيُوَاطِئُهَا عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهَا إيَّاهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ بِذَلِكَ فَهُوَ كَمَا لَوْ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ التَّحْلِيلَ هُنَاكَ وَعَلِمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْمُطَلِّقِ، وَإِنْ عَلِمَ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ هُنَاكَ، وَكَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى التَّحْلِيلِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ هُنَا، فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ» ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الزَّوْجَ فَالسَّيِّدُ هُنَا بِمَنْزِلَتِهِ وَاللَّفْظُ يَشْمَلُهُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْصِدْهُ بِلَفْظِ الْمُحَلِّلِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَأَوْلَى وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُزَوِّجَهَا رَجُلٌ بِعَبْدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ، بِقَصْدِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَى عَبْدِهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ أَوْ الْمَجْنُونَيْنِ، أَوْ بِنِيَّةِ أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْهُ، بِأَنْ يُوَاطِئَهَا أَوْ يُوَاطِئَ غَيْرَهَا عَلَى الْخُلْعِ، فَإِنَّ جَوَازَ الْخُلْعِ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَقْوَى مِنْ جَوَازِ الطَّلَاقِ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَعْقِدَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَهُ عُقُودَ حِيَلٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ قَرْضٍ.

فَإِنَّ الْحِيَلَ الَّتِي يَحْتَالُهَا الْوَلِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَحْتَالُهُ الْمَرْءُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ إذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي مُعَامَلَاتٍ مِنْ الْحِيَلِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُعَامِلَ السَّيِّدُ نَفْسَهُ تِلْكَ الْمُعَامَلَةَ، حَيْثُ حَصَلَ غَرَضُهُ بِفِعْلِ عَبْدِهِ، كَحُصُولِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ، وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي جُعِلَ فِي مَذْهَبِنَا غَيْرُ مُحْتَمَلٍ أَصْلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّحْلِيلِ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ كَلَامٌ غَيْرُ سَدِيدٍ فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ ذَلِكَ، أَوْ مَا الَّذِي دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الْمُعْتَبَرُ نِيَّةُ مَنْ يَمْلِكُ فُرْقَةً بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَإِنَّ التَّحْلِيلَ دَائِرٌ مَعَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ الَّذِي يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ مَلْعُونًا، فَاَلَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يُحَلِّلَ بِالزَّوْجِ وَيَفْسَخَ نِكَاحَهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَلْعُونًا،

ص: 296

فَإِنَّهُ يُخَادِعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ، وَهُوَ نَظِيرُ الرَّجُلِ يُقَدِّمُ إلَى الْعَطْشَاءِ الْمَاءَ فَإِذَا شَرِبَ مِنْهُ قَطْرَةً انْتَزَعَهُ مِنْ فِيهِ، وَلَوْ أَنَّ السَّيِّدَ أَنْكَحَ عَبْدَهُ نِكَاحًا يَقْصِدُ بِهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيلٍ لَكَانَ خَادِعًا لَهُ مَاكِرًا بِهِ مَلْعُونًا، فَكَيْفَ إذَا قَصَدَ مَعَ ذَلِكَ التَّحْلِيلَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ هُنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَتَوَاطَأَ السَّيِّدُ الْمُطَلِّقُ أَوْ غَيْرُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَهَا الزَّوْجَ، أَوْ يَعْلَمُ أَنَّ حَالَ الْمَرْأَةِ تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عَرَضَ عَلَيْهَا مِلْكَ الزَّوْجِ لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ مَلَكَتْهُ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُرْفَ فِي الشُّرُوطِ كَاللَّفْظِ، فَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْمُطَلِّقِ، وَلَا هِيَ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِلْكُهَا لِلْعَبْدِ إذَا عَرَضَ عَلَيْهَا فَهُنَا نِيَّةُ السَّيِّدِ وَحْدَهُ نِيَّةُ مَنْ لَا فُرْقَةَ بِيَدِهِ.

ثُمَّ الْعَبْدُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ، يَكُونُ كَالْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ التَّحْلِيلَ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَلِمَ وَوَافَقَ فَهُوَ آثِمٌ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ إذْنَ السَّيِّدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَالسَّيِّدُ إنَّمَا أَذِنَ فِي نِكَاحِ تَحْلِيلٍ لَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ الَّذِي أَجَازَهُ الشَّرْعُ وَقَصَدَهُ الْعَبْدُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ السَّيِّدُ، وَاَلَّذِي أَذِنَ فِيهِ السَّيِّدُ لَمْ يُجِزْهُ الشَّرْعُ ثُمَّ إنْ أُخْبِرَ الْعَبْدُ فِيمَا بَعْدُ بِمَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْمُقَامُ عَلَى هَذَا النِّكَاحِ لَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ السَّيِّدِ وَحْدَهُ فِي إبْطَالِ نِكَاحِهِ، وَسَائِرِ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نِيَّةِ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ تَجِيءُ فِي نِيَّةِ الزَّوْجَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ فَأَمَّا إنْ نَوَى التَّحْلِيلَ مَنْ لَا فُرْقَةَ بِيَدِهِ مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْفُرْقَةَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا أَوْ تَنْوِيَهَا الْمَرْأَةُ فَقَطْ أَعَنَى إذَا نَوَتْ أَنَّ الزَّوْجَ يُطَلِّقُهَا، فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ التَّحْلِيلِ إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: كَانَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالتَّابِعُونَ يُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ أَحْمَدُ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ» . يَقُولُ أَحْمَدُ إنَّهَا كَانَتْ هَمَّتْ بِالتَّحْلِيلِ وَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. إنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَلَيْسَ نِيَّةُ الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ فَقَدْ نَصَّ

ص: 297

الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَا تُؤَثِّرُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا عَلِمَتْ هِيَ أَوَ زَوْجَهَا الْأَوَّلَ أَوْ لَمْ يَعْلَمَا، وَإِنْ اعْتَقَدَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَسَأَلَتْهُ لَمَّا دَخَلَ الطَّلَاقَ أَوْ خَالَعَتْهُ بِمَالٍ جَازَ.

قَالَ مَالِكٌ: لَا يَضُرُّ الزَّوْجَ مَا نَوَتْ الزَّوْجَةُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ دُونَهَا قَالَ أَصْحَابُهُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ مُخْتَصٌّ بِهِ الزَّوْجُ الثَّانِي، سَوَاءٌ فِيهِ وَاطَأَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ وَنَوَى الْإِحْلَالَ وَالطَّلَاقَ أَخَذَ عَلَيْهِ أَجْرًا أَمْ لَمْ يَأْخُذْ، فَإِذَا لَمْ يُوَاطِئْ الزَّوْجُ الثَّانِي وَلَا نَوَى فَهُوَ نِكَاحُ رَغْبَةٍ وَيُحِلُّهَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ أَوْ دَسَّا إلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوْ بَذَلَا لَهُ مَالًا كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا.

وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ نِكَاحُ مُحَلِّلٍ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَلَفْظُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إذَا كَانَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَوْ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ فَنِكَاحُ هَذَا الْأَخِيرِ بَاطِلٌ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا نَكَحَتْ الرَّجُلَ وَلَيْسَتْ هِيَ رَاغِبَةٌ فِيهِ فَلَيْسَتْ هِيَ نَاكِحَةً كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ هِيَ مُسْتَهْزِئَةٌ بِآيَاتِ اللَّهِ مُتَلَاعِبَةٌ بِحُدُودِ اللَّهِ، وَهِيَ خَادِعَةٌ لِلرَّجُلِ مَاكِرَةٌ بِهِ، وَهِيَ إنْ لَمْ تَمْلِكْ الِانْفِرَادَ بِالْفُرْقَةِ فَإِنَّهَا تَنْوِي التَّسَبُّبَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ بِهِ غَالِبًا بِأَنْ تَنْوِيَ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ وَإِظْهَارَ الزُّهْدِ فِيهِ وَكَرَاهَتَهُ وَبُغْضَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَبْعَثُهُ عَلَى خُلْعِهَا أَوْ طَلَاقِهَا، وَيَقْتَضِيهِ فِي الْغَالِبِ، ثُمَّ إنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنْ تَنْوِيَ النُّشُوزَ عَنْهُ، وَفِعْلَ مَا يُكْرَهُ لَهَا، وَتَرْكَ مَا يَنْبَغِي لَهَا، فَهَذَا أَمْرٌ مُحَرَّمٌ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ فِي الْعَادَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَتْ مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ شَرْعًا، وَإِنْ لَمْ تَنْوِ فِعْلَ مُحَرَّمٍ وَلَا تَرْكَ وَاجِبٍ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُرِيدَةً لَهُ، وَمِثْلُ هَذِهِ فِي مَظِنَّةِ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ، وَلَا يَلْتَئِمُ مَقْصُودُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا، فَيُفْضِي إلَى الْفُرْقَةِ غَالِبًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يُوجِبُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالرَّحْمَةَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَقْصُودُهُ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ، وَمَتَى كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ تَكْرَهُ الْمُقَامَ مَعَهُ وَتَوَدُّ فُرْقَتَهُ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مَعْقُودًا عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] فَلَمْ يُبِحْ إلَّا نِكَاحًا يُظَنُّ فِيهِ أَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَا تَظُنُّ أَنْ تُقِيمَ

ص: 298

حُدُودَ اللَّهِ؛ لِأَنَّ كَرَاهِيَتَهَا لَهُ تَمْنَعُ هَذَا الظَّنَّ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَوْفِي مَنَافِعَ الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ كَمَا يَسْتَوْفِي الرَّجُلُ مَنَافِعَهَا، وَإِذَا كَانَتْ إنَّمَا تَزَوَّجَتْ لِتُفَارِقَهُ وَتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ لَا لِتُقِيمَ مَعَهُ لَمْ تَكُنْ قَاصِدَةً لِلنِّكَاحِ وَلَا مُرِيدَةً لَهُ، فَلَا يَصْلُحُ هَذَا النِّكَاحُ عَلَى قَاعِدَةِ إبْطَالِ الْحِيَلِ، وَأَمَّا نِيَّةُ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ التَّابِعُونَ إنَّمَا قَالُوا إنَّهُ يَكُونُ النِّكَاحُ بِهَا تَحْلِيلًا، إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي النِّكَاحِ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ تَخْتَلِعَ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجِهَا، فَإِنَّ هَذَا حَرَامٌ لِمَا أَنَّهُ خَدَعَ رَجُلًا مُسْلِمًا، وَهُوَ قَدْ سَعَى فِي عَقْدٍ يُرِيدُ إفْسَادَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، أَوْ يُشْبِهُ مَا لَوْ كَانَ قَدْ زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ، يُرِيدُ أَنْ يُمَلِّكَهَا إيَّاهُ، وَهِيَ لَمْ تَشْعُرْ بِذَلِكَ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ بِمِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْجِيلَ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ فَيُعَاقَبُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَقَدْ يُشْبِهُ هَذَا مَا لَوْ تَسَبَّبَ رَجُلٌ فِي الْفُرْقَةِ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ لِيُطَلِّقَهَا، إمَّا بِأَنْ يُخَبِّبَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَبْغُضَهُ وَتَخْتَلِعَ مِنْهُ، أَوْ يَشِينَهَا عِنْدَهُ بِبُهْتَانٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، أَوْ أَنْ يَقْتُلَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

فَيُقَالُ: إنَّ الْفُرْقَةَ وَاقِعَةٌ وَلَا تَحِلُّ لِذَلِكَ الْمُفَرِّقِ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، أَوْ فَعَلَ الْوَارِثُ بِامْرَأَةٍ مَوْرُوثَةٍ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهُ، وَلَيْسَ لَهُ زَوْجَةٌ غَيْرُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مِنْ الْمِيرَاثِ، وَلَا يُبِيحُ لِلْوَرَثَةِ أَخْذَهُ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ ابْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَنَّ عَقْدَهُ بَاطِلٌ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يُبْطِلُ عَقْدَ مَنْ زَاحَمَ غَيْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ فَلَأَنْ يَبْطُلَ عَقْدُ مَنْ تَسَبَّبَ فِي فَسْخِ عَقْدِ الْأَوَّلِ أَوْلَى.

وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا، مَتَى نَوَى التَّحْلِيلَ، أَوْ سَعَى فِيهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ، وَهَذَا قَالُوا إذَا كَانَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ، فَنِكَاحُ هَذَا الْأَخِيرِ بَاطِلٌ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِيمَنْ لَهُ فِعْلٌ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي، أَمَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ فِعْلٌ أَصْلًا وَقَدْ تَنَاكَحَ الزَّوْجَانِ نِكَاحَ رَغْبَةٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَالْأَوَّلُ يَجِبُ أَنْ يُطَلِّقَهَا هَذَا فَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَهَذَا أَقْصَى مَا يُقَالُ إنَّهُ مُتَمَنٍّ مُحِبٌّ وَلَيْسَ بِنَاوٍ فَإِنَّ نِيَّةَ الْمَرْءِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ. وَمَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ أُمْنِيَّةٌ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ الْأَوَّلَ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ وَالتَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ. وَذَلِكَ بَعْدَ عِدَّتِهَا مِنْهُ أَشَدُّ وَأَشَدُّ فَيَكُونُونَ قَدْ حَرَّمُوهَا عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ خَطَبَهَا أَوْ

ص: 299

تَشَوَّقَ إلَيْهَا فِي وَقْتٍ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَهَذَا يُوجِبُهُ قَوْلُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجَانِ حَلَّتْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يَحْصُلُ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ تَارَةً وَبِنِيَّةِ الزَّوْجَةِ أُخْرَى لَلَعَنَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا، وَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ لَعْنَةِ أَكْلِ الرِّبَا، وَمُوَكِّلِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهَا فِي اللَّعْنَةِ عُلِمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ الَّذِي يَكُونَ بِالنِّيَّةِ إنَّمَا يُلْعَنُ فِيهِ الزَّوْجُ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَفْظُ الْمُحَلِّلِ يَعُمُّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، فَإِنَّهَا حَلَّلَتْ نَفْسَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَقَالَ هُوَ الْمُحَلِّلُ» ، وَهَذِهِ صِفَةُ الرَّجُلِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَوْ عَمَّهُمَا اللَّفْظُ فَإِنَّمَا ذَاكَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ لِاجْتِمَاعِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلُ الرَّجُلِ مَوْجُودًا حَتَّى تَدْخُلَ مَعَهُ الْمَرْأَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، أَمَّا إذَا نَوَتْ هِيَ وَهُوَ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَيْسَ هُوَ بِمُحَلِّلٍ أَصْلًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا فِي لَفْظِ الْمُذَكَّرِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ قَدْ اجْتَمَعَا فِي إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي عَيْنِ هَذَا النِّكَاحِ، فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُفْتَرِقَيْنِ أَتَى بِلَفْظِ الْمُذَكَّرِ أَيْضًا، فَهَذَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيْضًا فَالْمُحَلِّلُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ، وَهِيَ لَيْسَتْ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا صِفَةُ مَنْ يُمْكِنُهُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ رضي الله عنه أَيْضًا بِحَدِيثِ تَمِيمَةَ بِنْتِ وَهْبٍ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَ «جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي، وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، وَإِنِّي تَزَوَّجْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَمَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ أَشَارَتْ لِهُدْبَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّبَسُّمِ» .

فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أَنَّهَا مَعَ إرَادَتِهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَا يَحِلُّ

ص: 300

لَهُ حَتَّى يُجَامِعَهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَتْ إرَادَتُهَا تَحْلِيلًا مُفْسِدًا لِلنِّكَاحِ أَوْ مُحَرِّمًا لِلْعَوْدِ إلَى الْأَوَّلِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ، سَوَاءٌ جَامَعَهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا، فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّهَا إنَّمَا أَرَادَتْ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ حَلِّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا مُرْتَغِبًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِتُرَاجِعَ الْأَوَّلَ، كَمَا أَرَادَ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ إنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، تُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جِمَاعِهَا فَأَحَبَّتْ طَلَاقَهُ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَرَادَتْ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ الْإِرَادَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ قُلْنَا الْجَوَابُ أَوْجُهٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَوَّزَ لَهَا مُرَاجَعَةَ الْأَوَّلِ إذَا جَامَعَهَا الثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ رَغْبَتُهَا فِي الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَفْعَلْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِرَادَةُ حَدَثَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ، فَإِنْ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالَ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ، حَتَّى لَوْ كَانَ احْتِمَالُ تَجَدُّدِ الْإِرَادَةِ هُوَ الرَّاجِحُ لَكَانَ الْإِطْلَاقُ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ إذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ ظَاهِرًا، وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَلِفَتْ زَوْجًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَدْ يَبْقَى فِي نَفْسِهَا مِنْهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْوَالِ، وَالنِّسَاءُ فِي الْغَالِبِ يَبْغُضْنَ الطَّلَاقَ وَيُحْبِبْنَ الْعَوْدَ إلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْبِبْنَ مُعَاشَرَةَ غَيْرِهِ.

الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ رَاغِبَةً فِي زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِخُصُوصِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا رَغْبَةٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ، فَفِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا، وَكَانَ مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَلَمْ تَصِلْ مَعَهُ إلَى أَيِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي وَإِنِّي تَزَوَّجْت زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ، فَلَمْ يَقْرَبْنِي إلَّا هَنَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنْهُ إلَيَّ شَيْءٌ، فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِك الْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَك وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ

ص: 301

عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ» ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا، فَنَكَحَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَغْشَاهَا فَفَارَقَهَا، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَهُوَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا. وَقَالَ لَا يَحِلُّ لَك حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ» .

وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْحَدِيثَ. وَزَادَ «فَقَعَدَتْ ثُمَّ جَاءَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنْ قَدْ مَسَّهَا فَمَنَعَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ إنَّمَا بِهَا أَنْ يَجْعَلَهَا لِرِفَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ لَهَا نِكَاحُهُ مَرَّةً أُخْرَى» ، ثُمَّ أَتَتْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فِي خِلَافَتِهِمَا فَمَنَعَاهَا، فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا رِفَاعَةُ، لَا طَلَبًا لِفُرْقَتِهِ بَلْ طَلَبًا لِمُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ، وَأَخْبَرَتْ بِصِفَةِ إفْضَائِهِ لِيُفْتِيَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ أَمْ لَا فَلَمَّا أَفْتَاهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ قَعَدَتْ ثُمَّ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ مَسَّهَا فَعَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَاذِبَةٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى الْكَذِبِ أَنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْ أَوَّلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ لَمْ تَحِلَّ، فَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ قَدْ مَسَّهَا فَمَنَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَوَّلًا بِأَنَّهُ لَمْ يُوَاقِعْهَا ثُمَّ أَخْبَرَتْ بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ رُجُوعَهَا عَنْ الْإِقْرَارِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مَا بِهَا إلَّا أَنْ تَجْعَلَهَا لِرِفَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ لَهَا نِكَاحُهُ مَرَّةً أُخْرَى دُعَاءً عَلَيْهَا عُقُوبَةً عَلَى كَذِبِهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا لِئَلَّا يَتَسَرَّعَ النَّاسُ فِي الْكَذِبِ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ بِهِ الْحَرَامَ. ثُمَّ إنَّهَا أَتَتْ فِي خِلَافَةِ الشَّيْخَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ أَبْيَنُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا كَانَتْ رَغْبَتُهَا فِي رِفَاعَةَ لَا فِي غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَفِي الْأَزْوَاجِ كَثْرَةٌ فَهَذَا الْإِلْحَاحُ فِي نِكَاحِهِ وَتَأَيُّمُهَا عَلَيْهِ عَسَى أَنْ تُمَكَّنُ مِنْ نِكَاحِهِ وَمُرَاجَعَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَالدُّخُولُ فِي التَّزْوِيرِ مَعَ أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِهِ مُمْكِنٌ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مَحَبَّتِهِ مِنْهَا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ وَالرَّغْبَةُ لَمْ تَتَّحِدْ بِإِعْرَاضِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهَا، فَإِنَّ إعْرَاضَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهَا أَكْثَرُ مَا يُوجِبُ إرَادَتَهَا لِلنِّكَاحِ مِمَّنْ كَانَ، أَمَّا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِسَبَبٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَهَذَا لَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ النِّكَاحِ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ مِنْهَا لَهُ إنَّمَا سَبَبُهَا مَعْرِفَتُهَا بِهِ حَالَ النِّكَاحِ، وَإِلَّا فَبَعْدَ الطَّلَاقِ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ، نَعَمْ قَدْ يَهِيجُ الشَّوْقُ عِنْدَ الْمَنْعِ مِنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى مَحَبَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وَلَا يُقَالُ تَزَوَّجْت بِغَيْرِهِ لَعَلَّهَا تَسْلُو

ص: 302

فَلَمَّا لَمْ يَعُفَّهَا، هَاجَ الْحُبُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَآخَرَ لَعَلَّهُ يَعُفُّهَا وَتُسَلَّى بِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَتَزَوَّجْ إلَّا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، عُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مُرِيدَةً لَأَنْ يُحْلِلَهَا لِلْأَوَّلِ، عَسَى أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ بِغَيْرِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُمْسِكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ سَبَبٌ تَطْلُبُ بِهِ فِرَاقَهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا قَبْلَ الطَّلَاقِ،

فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَتَتْ عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ، فَشَكَتْ إلَيْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا، قَالَتْ عَائِشَةُ مَا رَأَيْت مَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا، قَالَ وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ مِنْ غَيْرِهَا، فَقَالَتْ وَاَللَّهِ مَا لِي إلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا أَنَّ مَا بِهِ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا، فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ تَحِلِّينَ لَهُ، وَلَمْ تَصْلُحِينَ لَهُ، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك، قَالَ وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ، فَقَالَ أَبَنُوك هَؤُلَاءِ، قَالَ نَعَمْ، قَالَ: هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ فَوَاَللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ: هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُرْسَلًا عَنْ بِنْدَارٍ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَوَهْبٌ عَنْ أَيُّوبَ مُرْسَلًا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ فَقَالَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ «قَالَ جَاءَتْ الْغُمَيْصَاءُ أَوْ الرُّمَيْصَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو زَوْجَهَا، وَتَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهَا، فَمَا كَانَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا فَزَعَمَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَك ذَلِكَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك رَجُلٌ غَيْرَهُ»

فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخِيهِ «أَنَّهَا شَكَتْ زَوْجَهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَزَعَمَتْ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا وَطَلَبَتْ فُرْقَتَهُ لِذَلِكَ، فَكَذَّبَهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا بِهَا مُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِ وَأَنَّهَا نَاشِزٌ غَيْرُ مُطِيعَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحِلِّينَ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك، يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنِّي قَادِرٌ عَلَى وَطْئِهَا وَجِمَاعِهَا وَأَنْ أَنْفُضَهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ لَكِنَّهَا نَاشِزٌ لَا تُمَكِّنُنِي، فَإِنَّهَا تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَحِلِّينَ لَهُ حَتَّى تَذُوقِي

ص: 303

عُسَيْلَتَهُ، فَطَلَّقَهَا وَلَمْ تَذُقْ الْعُسَيْلَةَ»

أَوْ أَنَّهَا لَمَّا ادَّعَتْ عَدَمَ الْوَطْءِ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ فَلَمْ تُجْعَلْ حَلَالًا بِدَعْوَى الزَّوْجِ أَنَّهُ وَطِئَهَا إذَا كَانَتْ هِيَ مُعْتَرِفَةً بِمَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، لَكِنَّ حَدِيثَ مَالِكٍ عَنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُعْرِضًا عَنْهَا.

وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْتَضِي دَعْوَاهُ إمَّا التَّمْكِينَ مِنْ وَطْئِهَا أَوْ فِعْلَ الْوَطْءِ فَعَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكُونُ قَدْ جَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ جَاءَتْهُ بَعْدَهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ إمَّا أَنَّهُ كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْهَا كَمَا أَخْبَرَتْ أَوْ كَانَتْ نَاشِزًا عَنْهُ كَمَا أَخْبَرَ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ التَّامَّةِ فِي مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا تَكُونُ قَدْ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ جَاءَتْ الْخَلِيفَتَيْنِ وَمَنْ يَصْدُرُ عَنْهَا مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حِرْصُهَا عَلَى مُرَاجَعَتِهَا حِينَ الْعَقْدِ.

فَأَقَلُّ مَا قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَوْ كَانَ مُؤَثِّرًا أَنْ يُقَالَ لَهَا إنْ كُنْت وَقْتَ الْعَقْدِ كُنْت مُرِيدَةً لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَرْجِعِي إلَيْهِ بِحَالٍ، فَلَمَّا لَمْ يُفَصِّلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ ظُهُورِ هَذَا الْقَرَارِ عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحِبُّ مُرَاجَعَةَ الْأَوَّلِ، فَالْمَرْءُ لَا يُلَامُ عَلَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي زَوْجِهَا وَتُحْسِنَ مُعَاشَرَتَهُ وَتَبْذُلَ حَقَّهُ غَيْرَ مُتَبَرِّمَةٍ وَلَا كَارِهَةٍ، فَإِذَا نَوَتْ هَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ فَقَدْ نَوَتْ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا. فَإِذَا نَوَتْ فِعْلَ مَا لَا يَحِلُّ مِمَّا لَا يُوجِبُ طَلَاقَهَا فَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذَا، وَأَمَّا اخْتِلَاعُ الْمَرْأَةِ وَانْتِزَاعُهَا مِنْ بَعْلِهَا فَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا نِيَّةُ الْمَرْأَةِ أَوْ الْمُطَلِّقِ لَا تُؤَثِّرُ: فَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ مِنْ إفْسَادِ حَالِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ إلَّا إذَا كَانَتْ تَظُنُّ أَنْ تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَهُ. وَتَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ. وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَلِّقْ أَطَاعَتْهُ وَلَمْ تَنْشُزْ عَنْهُ.

وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُظْهِرُ بَيَانَ حَالِ الْمَرْأَةِ فِي النِّيَّةِ، وَهِيَ مَرَاتِبُ: الْأُولَى: أَنْ تَنْوِيَ أَنَّ هَذَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ إنْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ فَارَقَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ تَزَوَّجَتْ بِالْأَوَّلِ، أَوْ يَنْوِيَ الْمُطَلِّقُ ذَلِكَ أَيْضًا فَيَنْوِيَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ إنْ طَلَّقَهَا أَوْ فَارَقَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ تَزَوَّجَهَا، فَهَذَا قَصْدٌ مَحْضٌ لِمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَذَا الْقَصْدِ فِعْلٌ مِنْهَا فِي الْفُرْقَةِ، وَإِنَّمَا نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ إذَا أَبَاحَهُ اللَّهُ فَقَدْ قَصَدَتْ فِعْلًا لَهَا مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الْفُرْقَةِ، وَصَارَ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا إنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا تَزَوَّجَهَا، أَوْ تَنْوِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تَطْلُقْ أَنَّهَا إنْ فَارَقَهَا هَذَا الزَّوْجُ تَزَوَّجَتْ بِفُلَانٍ، أَوْ

ص: 304

يَبِيعَ الرَّجُلَ سِلْعَتَهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا وَيَنْوِيَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ بَاعَهَا فِيمَا بَعْدُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِهَا. أَوْ يَنْوِيَ أَنَّهُ إنْ أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ تَزَوَّجَ بِهَا، فَهَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَذَا الْعَقْدِ وَلَا بِفَسْخِهِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِفِعْلٍ لَهَا إنْ رُفِعَ الْعَقْدُ أَوْ قَصَدَ صَاحِبُهُ رَفْعَهُ.

فَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، فَإِنَّهَا إذَا مَلَّكَتْ نَفْسَهَا لِلزَّوْجِ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ كَانَتْ رَاغِبَةً أَوْ غَيْرَ رَاغِبَةٍ إذَا لَمْ تُسَبِّبْ فِي الْفُرْقَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهَا فُرْقَةٌ، لَكِنْ لَهَا فِي هَذَا الْعَقْدِ مَعَ نِيَّةِ مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ ثَلَاثُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهَا لِلْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ الثَّانِي أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّتِهَا لِلْمُقَامِ مَعَ الْأَوَّلِ، لَكِنْ تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَبَّ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ هَذَا فَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهَا لِنِكَاحِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ لَا يَكُونَ لَهَا مَحَبَّةٌ لِنِكَاحٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكِنْ تَرَى أَنَّهُمَا أَصْلَحُ لَهَا مِنْ غَيْرِهِمَا، فَإِذَا فَارَقَهَا أَحَدُهُمَا آثَرَتْ الْآخَرَ فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ.

الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهَا لِلْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِنْ الثَّانِي. فَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلِّقِ الَّذِي يُحِبُّ عَوْدَهَا إلَيْهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي كَرِهَهَا بَعْضُ التَّابِعِينَ، وَهِيَ حَالُ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، وَلِذَلِكَ رَخَّصَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِيهَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ وَالْمُطَلِّقُ لَا يُلَامَانِ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ، كَمَا لَا يُلَامُ الزَّوْجُ عَلَى مَحَبَّةِ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الْأُخْرَى إذَا عَدَلَ بَيْنَهُمَا، فِيمَا يَمْلِكُهُ، ثُمَّ إنْ كَرِهَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ مِنْ نَفْسِهَا لِكَوْنِهَا مُتَطَلِّعَةً إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُطَلِّقُ إنْ كَرِهَ مِنْ نَفْسِهِ تَطَلُّعَهُ إلَى زَوْجَةِ الْغَيْرِ كَانَتْ هَذِهِ الْكَرَاهَةُ عَمَلًا صَالِحًا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكْرَهْ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ وَلَمْ تَرْضَ بِهَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنْ رَضِيَ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ بِحَيْثُ يَتَمَنَّى بِقَلْبِهِ مَعَ طَبْعِهِ حُصُولَ مُوجِبِهَا وَيَوَدُّ أَنْ يَحْصُلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فُرْقَةٌ لِيَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ، وَتَتَمَنَّى الْمَرْأَةُ أَنْ لَوْ طَلَّقَهَا هَذَا الزَّوْجُ أَوْ فَارَقَهَا لِتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ، وَعَقْلُهَا مُوَافِقٌ لِطَبْعِهَا عَلَى هَذِهِ الْأُمْنِيَّةِ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَمَنِّي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ بَغِيضٌ إلَى اللَّهِ، وَقَدْ تَتَضَمَّنُ تَمَنِّي ضَرَرِ الزَّوْجِ وَهُوَ مَظِنَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ مَعَ مَنْ بَغَضَتْ الْمُقَامَ مَعَهُ، لَكِنَّهَا لَوْ أَحَبَّتْ أَنْ يَقْذِفَ اللَّهُ فِي قَلْبِ الزَّوْجِ الزُّهْدَ فِيهَا بِحَيْثُ

ص: 305

يُفَارِقُهَا بِلَا ضَرَرٍ عَلَيْهِ، فَهَذَا أَخَفُّ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ فِعْلٌ مِنْهَا فِي الْفُرْقَةِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ تَسَبَّبَ إلَى أَنْ يُفَارِقَهَا مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ غَيْرِ الِاخْتِلَاعِ، وَلَا خَدِيعَةٍ تُوجِبُ فِرَاقَهَا مِثْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ أَنْ يَخْلَعَهَا، وَتَبْذُلَ لَهُ مَالًا عَلَى الْفُرْقَةِ أَوْ تُظْهِرَ لَهُ مَحَبَّتَهَا لِلْأَوَّلِ أَوْ بُغْضَهَا الْمُقَامَ مَعَهُ حَتَّى يُفَارِقَهَا، فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الِانْتِزَاعِ وَالِاخْتِلَاعِ مِنْ الرَّجُلِ، فَنَقُولُ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَخَافُ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ جَازَ لَهَا الِاخْتِلَاعُ، وَإِلَّا نُهِيَتْ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَنْوِ هَذَا الْفِعْلَ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ فَهِيَ كَسَائِرِ الْمُخْتَلِعَاتِ يَصِحُّ الْخُلْعُ وَيُبَاحُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، هَذَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهَا مُجَرَّدَ فُرْقَتِهِ. وَهُنَا مَقْصُودُهَا التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِ فَتَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَخْتَلِعُ مِنْ زَوْجِهَا لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَهَذَا أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَتْ حِينَ الْعَقْدِ تَنْوِي أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى الْفُرْقَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ فَهَذِهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الَّتِي حَدَثَ لَهَا إرَادَةُ الِاخْتِلَاعِ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ «الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ» .

فَاَلَّتِي تَخْتَلِعُ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، لَا لِكَرَاهَتِهِ أَشَدُّ وَأَشَدُّ، وَمَنْ كَانَتْ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ تُرِيدُ أَنْ تَخْتَلِعَ وَتَنْتَزِعَ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، فَهِيَ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ غَارَّةٌ لِلرَّجُلِ مُدَلِّسَةٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَتَسَبَّبَ فِي فُرْقَتِهِ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا، فَكَيْفَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَرَضَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي حَدَثَ لَهَا الِانْتِزَاعُ، فَإِنَّهَا لَمْ تَخْدَعُهُ وَلَمْ تَغُرَّهُ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخِلَابَةِ بَلْ هُوَ أَقْبَحُ الْخِلَابَةِ، وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ.

وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا يَجِبُ إدْخَالُهَا فِي كَلَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه، فَإِنَّهُ إنَّمَا رَخَّصَ فِي مُطْلَقِ نِيَّةِ الْمَرْأَةِ وَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَنْوِيَ اخْتِلَاعًا مِنْ الثَّانِي لِتَتَزَوَّجَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ هَذَا نِيَّةُ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ فِي نَفْسِهِ لَوْ حَدَثَ وَغَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ نِيَّةٌ مَكْرُوهَةٌ تَسْوِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاخْتِلَاعِ الْمُطْلَقِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا قَارَنَ الْعَقْدَ فَتَحْرِيمُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ رَغْبَتَهَا فِي النِّكَاحِ وَقَصْدَهَا لَهُ، وَالزَّوْجَةُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا قَصَدَتْ بِالْعَقْدِ أَنْ تَسْعَى فِي فَسْخِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ مَقْصُودًا، بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا انْفَسَخَ تَزَوَّجَتْ الْأَوَّلَ، وَتَحْرِيمُ هَذَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ نِيَّةِ الرَّجُلِ مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ التَّحْرِيمُ أَشَدُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ، فَقَدْ نَوَى شَيْئًا يَمْلِكُهُ، وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ نَوَتْ

ص: 306

الِاخْتِلَاعَ وَالِانْتِزَاعَ لِتَعُودَ إلَى غَيْرِهِ، وَكَرَاهَةُ الِاخْتِلَاعِ أَشَدُّ مِنْ كَرَاهَةِ طَلَاقِ الرَّجُلِ ابْتِدَاءً، وَالِاخْتِلَاعُ لِتَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ أَشَدُّ مِنْ مُطْلَقِ الِاخْتِلَاعِ، وَإِرَادَةُ الرَّجُلِ الطَّلَاقَ لَا يُوقِعُهُ فِي مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَيَفْعَلُهُ، وَإِرَادَةُ الْمَرْأَةِ الِاخْتِلَاعَ قَدْ يُوقِعُهَا فِي مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَخْتَلِعْ رُبَّمَا تَعَدَّتْ حُدُودَ اللَّهِ.

وَنِيَّةُ التَّحْلِيلِ لَيْسَ فِيهَا مِنْ خَدِيعَةِ الْمَرْأَةِ مَا فِي نِيَّةِ الْمَرْأَةِ مِنْ خَدِيعَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ تِلْكَ النِّيَّةُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ اسْتِبَاحَةَ الْبُضْعِ إلَّا بِمِلْكٍ بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، وَالْعَقْدُ الَّذِي يَقْصِدُ رَفْعَهُ لَيْسَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ، وَهَذَا حَالُ الْمَرْأَةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِمَنْ تُرِيدُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَحَالِهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِمَنْ بَدَا لَهُ طَلَاقُهَا فِيمَا بَعْدَ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ قَطَعَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا، وَهَذَا جَائِزٌ لَهُ وَلَيْسَ تَعَلُّقُ حَقِّهَا بِعَيْنِهِ كَتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا وَلَا حَرَامَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ لِتِلْكَ وَاسْتِمْتَاعُهُ بِهَا أَكْثَرَ إذَا عَدَلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ، وَالْمَرْأَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ قَاصِدَةً لِلتَّسَبُّبِ فِي الْفُرْقَةِ فَهَذَا التَّحْرِيمُ لِحَقِّ الزَّوْجِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِلَابَةِ وَالْخَدِيعَةِ لَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ يَمْلِكُهَا بِهَذَا الْعَقْدِ وَيَمْلِكُ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا بِحَالٍ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَتْ نِيَّةُ التَّحْلِيلِ أَشَدَّ، فَإِنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ تَمْنَعُ كَوْنَ الْعَقْدِ ثَابِتًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَهُنَا الْعَقْدُ ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، بِأَنَّهُ نَكَحَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفُرْقَةَ، فَصَارَ الَّذِي يَمْلِكُ الْفُرْقَةَ لَمْ يَقْصِدْهَا، وَاَلَّذِي قَصَدَهَا لَمْ يَمْلِكْهَا.

لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ نِيَّةِ الْمَرْأَةِ التَّسَبُّبُ إلَى الْفُرْقَةِ، صَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الَّذِي حُرِّمَ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِإِضْرَارِهِ بِالْآخَرِ، مِثْلُ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَبَيْعِ الْمُدَلَّسِ مِنْ الْمَعِيبِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ صَحِيحٌ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِتَصْحِيحِ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَلَمْ نَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَ مَعِيبًا بِعَيْبٍ مُشْتَرَكٍ كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ أَوْ مُخْتَصٍّ كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ أَوْ الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخَرُ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ تَدْلِيسَ هَذَا الْعَيْبِ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْمُدَلِّسَ، حَتَّى قُلْنَا عَلَى الصَّحِيحِ إنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ، فَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ الزَّوْجَةِ سَقَطَ الْمَهْرُ، مَعَ أَنَّ الْعَقْدَ حَرَامٌ عَلَى الْمُدَلِّسِ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَلَكِنَّ التَّدْلِيسَ هُنَاكَ وَقَعَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُنَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ.

وَالْخَلَلُ فِي الْعَقْدِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِهِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ حِلِّهِ، فَأَمَّا الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ إذَا طَلَب مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَخْلَعَهَا أَوْ دَسَّ إلَيْهِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ

ص: 307

فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَدَثَ إرَادَةُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، فَنُقِلَ هَهُنَا عَنْهُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِلرَّجُلِ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَلْفَ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا لَا يَحِلُّ هَذَا، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَعَهَا لِيَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا لِيَتَخَلَّصَ مِنْ النِّكَاحِ، لَكِنْ إذَا سَمَّى فِي عَقْدِ الْخُلْعِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِهَا فَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ، وَالصُّورَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا كَلَامُ أَحْمَدَ، فَالْمَرْأَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ لَأَنْ تَتَزَوَّجَ أَشَدُّ فَإِنَّ الْأَذَى بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَذَى بِطَلَبِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَوْ حَدَثَ الْقَصْدُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَفُعِلَ بَعْدَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا رَغْبَةً فِي نِكَاحِ غَيْرِهِ، وَلَا الْعَقْدُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَلَا يَحِلُّ أَمْرُهَا بِذَلِكَ وَلَا تَعْلِيمُهَا إيَّاهُ، وَلَكِنْ لَوْ فَعَلْته لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِمَا تَقَدَّمَ، فَلَوْ رَجَعَتْ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ جَازَ لَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ، فَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَفَارَقَهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ.

وَأَمَّا الْعَقْدُ الثَّانِي فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الرَّجُلِ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَبَيْعِهِ إذَا ابْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ قَوْلَانِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ، فَنَقُولُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَعَنْ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، أَوْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِطَلَاقِ أُخْتِهَا، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ «نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا أَوْ إنَائِهَا، فَإِنَّمَا رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ» .

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «نَهَى عَنْ التَّلَقِّي، وَعَنْ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَأَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَنَهَى عَنْ النَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ:«لَا يَبْتَاعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ

ص: 308

لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ حَتَّى يَذَرَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ، وَفِي لَفْظٍ:«لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَهُ» ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،

وَهَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ» كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَأْدِيبٍ لَا تَحْرِيمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَرَامٌ فَهَلْ الْعَقْدُ الثَّانِي صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ؟ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَحْكِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخِلَافِ وَرَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَيْضًا.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَحِيحٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، هَذَا لِلْمُسْلِمِينَ. قِيلَ لَهُ فَإِنْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ فَتَزَوَّجَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: لَا.

وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ، لَكِنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ تَأْدِيبٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ خَرَّجَ الْقَاضِي جَوَابَ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ إلَى مَسْأَلَةِ الْخِطْبَةِ فَجَعَلَهُمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ، وَيَتَوَجَّهُ إقْرَارُ النَّصَّيْنِ مَكَانَهُمَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ بِفَسَادِهِ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَحُكِيَ عَنْهُ الصِّحَّةُ، وَدَلِيلُ هَذَا النَّهْيُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ عَلَى قَاعِدَةِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَرَّرَةِ فِي مَوْضِعِهَا كَسَائِرِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ وَالْبِيَاعَاتِ أَوْ لِلْأَوَّلِينَ طُرُقٌ: أَحَدُهَا: حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّأْدِيبِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَفْصٍ، وَأَوْمَأَ إلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ، إذَا كَثُرَ مَا فِيهِ أَنَّ لِلْخَاطِبِ رَغْبَةً فِي الْمَرْأَةِ، وَهَذَا لَا يُحَرِّمُهَا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَغْبَةً وَلَمْ يُتِمَّ وَلَمْ يَخْطُبْ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الرَّسُولِ.

الطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَمْ يُقَارِنْ النِّكَاحَ الثَّانِيَ وَالْبَيْعَ الثَّانِيَ. وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ إنَّمَا هُوَ مَنْعٌ لِلْأَوَّلِ مِنْ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ. وَهَذَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى بَيْعِ الثَّانِي وَنِكَاحِهِ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ، وَهُوَ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ كَعُقُودِ الرِّبَا وَبَيْعِ

ص: 309

الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لَا أَتَزَوَّجُك حَتَّى أَرَاك مُجَرَّدًا لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَهَبَ عَلَى الْجُمُعَةِ عَلَى دَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ، وَلِهَذَا فَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، قَالُوا وَلَوْ خَطَبَهَا فِي الْعِدَّةِ وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ.

الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَبُيُوعِ الْغَرَرِ وَالرِّبَا، وَالْمَعْنَى لِحَقِّ الْآدَمِيِّ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَوْ رَضِيَ بِالْعَقْدِ لَصَحَّ كَالْخَاطِبِ الْأَوَّلِ هُنَا، فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لِلثَّانِي جَازَ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ إذَا كَانَ لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ أَمْكَنَ أَنْ يَزُولَ بِرِضَاهُ، وَلَوْ فِيمَا بَعْدُ، فَلَمْ يَكُنْ التَّحْرِيمُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ فِي مَوَاضِعَ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ بِحَقِّ اللَّهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، لَا سَبِيلَ إلَى حِلِّهَا بِحَالٍ، فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ فِي الْعَقْدِ.

وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَبَيْنَ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ أَيْضًا.

الطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْعَاقِدِ، وَلَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ بَيْعِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ، وَبَيْعِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْهُمَا، وَهُوَ الضَّرَرُ الَّذِي لَحِقَ الْخَاطِبَ وَالْمُسْتَامَ أَوَّلًا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَيُصَحِّحُ الصَّلَاةَ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا، وَمَنْ يَنْصُرُ الْأَوَّلَ يَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ مُقَارَنًا لِلْعَقْدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَعَنْ أَنْ يَبْتَاعَ أَيْضًا» ، وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ، «وَنَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» .

مُنَبِّهًا بِذَلِكَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ بِالنَّهْيِ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا «نَهَى عَنْ قُرْبَانِ مَالِ الْيَتِيمِ» كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَخْذِهِ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ عَيْنِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ التَّصْرِيحِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْعَقْدَ، وَلَا الْخِطْبَةَ، وَكَذَلِكَ فِي رُؤْيَتِهِ مُتَجَرِّدًا قَبْلَ النِّكَاحِ، أَوْ الْمَشْيِ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى حِمَارٍ مَغْصُوبٍ فَإِنَّ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ انْتَقَضَتْ أَسْبَابُهَا، وَهَذَا سَبَبُ التَّحْرِيمِ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، فَإِنَّ عَوْدَهَا إلَيْهِ مُمْكِنٌ.

ص: 310

ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ فَلِمَ قِيلَ إنَّ الْفَرْقَ مُؤَثِّرٌ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ فَاسِدَةٌ لَا تُفَرِّقُ، وَالْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً، فَتَصْحِيحُهُ يَقْتَضِي إيقَاعَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَمَعْصِيَةُ اللَّهِ فَسَادٌ لَا صَلَاحَ فِيهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنْهَى عَنْ الصَّلَاحِ، وَهَذَا الْعَقْدُ هُنَا مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْمَفْسَدَةِ، وَهُوَ إضْرَارُ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِرُكُوبٍ وَلَا مَشْيٍ، وَنَقُولُ أَيْضًا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حُرِّمَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لِحَقِّ عِبَادِهِ، إذْ الْأَدِلَّةُ لَا تُفَرِّقُ وَنَقُولُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَالنَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْأَوَّلِ بِالْعَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ تَقَدُّمَ خُطْبَتِهِ وَبَيْعِهِ حَقًّا لَهُ مَانِعًا مِنْ مُزَاحِمَةِ الثَّانِي لَهُ؛ كَمَنْ سَبَقَ إلَى مُبَاحٍ فَجَاءَ آخَرُ يُزَاحِمُهُ؛ وَصَارَ هَذَا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِهِ؛ وَإِذَا كَانَ سَبَبُ النَّهْيِ تَعَلُّقَ حَقٍّ لِلْأَوَّلِ بِهَذِهِ الْعَيْنِ فَإِذَا أُزِيلَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا فِي الْحِلِّ الْمُزِيلِ، فَإِنَّهُ كَالْقَاتِلِ لِمَوْرُوثِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَزَالَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْمَوْرُوثِ بِالْمَالِ بِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمِ، لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الزَّوَالُ فِي الْحِلِّ لَهُ وَلِهَذَا لَا يُبَارَكُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ قَطَعَ حَقَّ غَيْرِهِ عَنْهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ، ثُمَّ اقْتَطَعَهُ لِنَفْسِهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ تَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا النَّوْعِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَيَسْتَامَ عَلَى سَوْمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِهِ أَوْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِهِ، فَإِنَّ الْخَاطِبَ وَالْمُسْتَامَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا حَقٌّ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُمَا رَغْبَةٌ وَوَعْدٌ بِخِلَافِ الَّذِي قَدْ بَاعَ أَوْ ابْتَاعَ فَإِنَّ حَقَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَلَى السِّلْعَةِ أَوْ الثَّمَنِ، فَإِذَا تَسَبَّبَ الثَّانِي فِي فَسْخِ هَذَا الْعَقْدِ كَانَ قَدْ زَالَ حَقَّهُ الَّذِي انْعَقَدَ، وَهَذَا يُؤَثِّرُ مَا لَا يُؤَثِّرُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ مَتَى اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ حَقِّ غَيْرِهِ بَطَلَ كَرُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مُرْتَهِنٍ أَوْ مُشْتَرٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ رُجُوعُ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ ذِي جِنَايَةٍ أَوْ مُرْتَهِنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ تَعَلُّقِ رَغْبَةِ الْغُرَمَاءِ بِالسِّلْعَةِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ رُجُوعَ الْبَائِعِ وَفِي رُجُوعِ الْوَاهِبِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا أَنَا أَبِيعُك مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِدُونِ هَذَا الثَّمَنِ، وَأَبِيعُك خَيْرًا مِنْهَا بِمِثْلِ هَذَا الثَّمَنِ، فَيَفْسَخَ الْمُشْتَرِي بَيْعَ الْأَوَّلِ وَيَبْتَاعَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ ابْتِيَاعُهُ عَلَى ابْتِيَاعِ أَخِيهِ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ بَاعَ رَجُلًا شَيْئًا أَنَا اشْتَرِيهِ مِنْك بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ، وَقَدْ اشْتَرَطَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ

ص: 311

الشَّرْطِ لِيَتَمَكَّنَ الْآخَرُ مِنْ الْفَسْخِ، وَإِلَّا فَبَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لَا يُؤَثِّرُ هَذَا الْقَوْلُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْجَامِعِ، وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَصْحَابِنَا فَأَطْلَقُوا الْبَيْعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِهَذَا الْخِيَارِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأَبُو الْخَطَّابِ فَسَخَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِهَذَا الْخِيَارِ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ أَيْضًا مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَهَذَا أَجْوَدُ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ مِثْلِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ وَالْغَبْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَا يُرِيدُ الْفَسْخَ فَإِذَا جَاءَ الْبَائِعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَرَغْبَتُهُ فِي أَنْ يَفْسَخَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ، كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي زَمَنِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَحَدَهُمَا فَسْخُهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَجِيءُ إلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ قَايِلْ هَذَا الْبَيْعَ وَأَنَا أَبِيعُك؛ فَيَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقَالَةِ الْأَوَّلِ، وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِ فِي الْمُقَايَلَةِ فَيُجِيبُهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ كَثِيرًا إنْ لَمْ يَخْدَعْهُ خَدِيعَةً تُوجِبُ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَشَدَّ تَحْرِيمًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْغَنِيِّ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ، وَمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ الْمُسْتَقَالُ غَيْرَ رَاضٍ فَلَا يُبَارَكُ لِلْمُسْتَقِيلِ، كَاَلَّذِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْيَاءَ فَيُعْطِيهِمْ إيَّاهَا، فَيَخْرُجُ بِهَا أَحَدُهُمْ يَتَأَبَّطُهَا نَارًا وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ، فَيَكُونُ الْمُعْطِي مُثَابًا وَالسَّائِلُ مُعَاقَبًا وَهَذَا بَيْعٌ حَقِيقَةً عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَهُوَ وَاقِعٌ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْحَدِيثِ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جُمْلَةِ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا، لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا» ، فَمَسْأَلَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُقِيلَهُ الْبَيْعَ لِيَبِيعَهَا الْبَائِعُ لِغَيْرِهِ كَذَلِكَ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ الْبَائِعِ اسْتَقِلْ الْمُشْتَرِي هَذَا الْبَيْعَ لِتَبِيعَهُ لِهَذَا.

كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ سَلِي هَذَا الْخَاطِبَ أَنْ يُطَلِّقَ تِلْكَ لِيَتَزَوَّجَك، إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَتَقُولُ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَرَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَأَنْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُزَاحَمَةِ الْمُخْرِجَةِ لَهُ عَمَّا قَدْ وَعَدَ بِهِ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ نَكَحَ عَلَى نِكَاحِ أَخِيهِ، بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَرْأَةِ طَلِّقِي هَذَا الرَّجُلَ وَأَنَا أَتَزَوَّجُك؛ أَوْ أُزَوِّجُك فُلَانًا، إنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِأَمْرٍ

ص: 312

يُمْكِنُهَا فِعْلُهُ، فَهَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَإِلَّا فَاخْتِلَاعُهَا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِقَالَةِ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَدْ تُسِيءُ عِشْرَتَهُ إسَاءَةً تَحْمِلُهُ عَلَى طَلَاقِهَا؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَنْقَضِي بِالتَّقَابُضِ مِنْهُمَا فَكُلُّ مَنْ قَالَ إنَّ ابْتِيَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ بَاطِلٌ قَالَ هُنَا إنَّ نِكَاحَ الثَّانِي بَاطِلٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ هُنَاكَ فَقَدْ يَقُولُ هُنَا بِالْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ خُدِعَ حِينَ الْعَقْدِ وَتُسُبِّبَ فِي إزَالَةِ نِكَاحِهِ، وَزَوَالُ النِّكَاحِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ الْإِقَالَةِ فِي بَيْعٍ أَوْ فَسْخِهِ، وَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ طَلَبَ مِنْ الرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً لَجَازَ؛ وَلَوْ طَلَب أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَهَا لَكَانَ مِنْ الْقَبِيحِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الثَّانِي وَلَا نِكَاحُ الثَّانِي لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ تَعُودُ السِّلْعَةُ إلَى صَاحِبِهَا، وَالْمَرْأَةُ إلَى يَدِ نَفْسِهَا.

وَيُعَاقَبُ الثَّانِي بِأَنْ يَبْطُلَ عَقْدُهُ مُنَاقَضَةً لِقَصْدِهِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَنْعِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ، وَنَظِيرُ تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ، فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ وَالْمَالِ زَالَ حَقِيقَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمُطَلِّقِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي انْتِقَالِ الْمَالِ إلَى الْقَاتِلِ، وَمَنْعِ مِيرَاثِ الْمُطَلِّقَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَثْنَاءِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ، مِثْلَ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ وَبَيَّنَّا وَجْهَ تَحْرِيمِهَا عَلَى هَذَا الْقَاتِلِ مَعَ حِلِّهَا لِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ كَذَلِكَ هُنَا يَحْرُمُ شِرَاءُ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَسْخِ عَلَى هَذَا الْمُتَسَبِّبِ فِي ذَلِكَ مَعَ حِلِّهِ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ يَضُرُّ هَذَا بِاَلَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ، لَكِنَّ هَذَا جَزَاءُ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ لَهُ الْفَسْخُ ابْتِدَاءً، لَكِنْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعِينَ هَذَا عَلَى مَا طَلَبَهُ فَإِنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقَالَةُ فَكَيْفَ الْمَرْأَةُ الْمَنْهِيَّةُ عَنْ الِانْتِزَاعِ وَالِاخْتِلَاعِ.

وَمِمَّا هُوَ كَالْبَيْعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إجَارَتُهُ عَلَى إجَارَةِ أَخِيهِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْتَقِلًّا فِي دَارِهِ حَانُوتٌ أَوْ مُزْدَرَعٌ، وَأَهْلُهُ قَدْ رَكَنُوا إلَى أَنْ يُؤَجِّرُوهُ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَسْتَأْجِرُ عَلَى إجَارَتِهِ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ بِذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْبَيْعِ غَالِبًا، وَأَقْبَحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّيًا وِلَايَةً أَوْ مَنْزِلًا فِي مَكَان يَأْوِي إلَيْهِ أَوْ يَرْتَزِقُ مِنْهُ، فَيَطْلُبُ آخَرُ مَكَانَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ مِثْلَ أَنْ تُبَالِغَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ لَسْت أَعْنِي أَنَّهَا تَتْرُكُ وَاجِبًا تَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ، أَوْ تَفْعَلُ مُحَرَّمًا تَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، لَكِنْ غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ بِالصَّدَاقِ جَمِيعِهِ، لِيَفْسَخَ أَوْ يَحْبِسَ أَوْ

ص: 313

لِتَمْتَنِعَ مِنْهُ، أَوْ تَبْذُلَ لَهُ فِي خُصُومَتِهَا، وَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهَا مِثْلُ أَنْ تُطَالِبَهُ بِفَرْضِ النَّفَقَةِ، أَوْ إفْرَادِهَا بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِهَا وَخَادِمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ، أَوْ تَمْنَعَ مِنْ إعَانَتِهِ فِي الْمَنْزِلِ بِطَبْخٍ أَوْ فَرْشٍ أَوْ لُبْسٍ أَوْ غَسْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ لِيُفَارِقَهَا فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْهَا مَا قَدْ يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِهِ، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ فَتَقْدِيرُهُ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَدْخُلُهُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، وَلَا يَكَادُ يَنْقُلُ غَالِبًا مَنْ عَاشَرَتْ زَوْجَهَا بِمِثْلِ هَذَا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ خُلُوِّهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ فَنَقُولُ: إذَا فَعَلْت الْمُبَاحَ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَمَّا إذَا قَصَدْت بِهِ ضَرَرًا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ، مِثْلُ مَنْ يَقْصِدُ حِرْمَانَ وَرَثَتِهِ بِالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ فِي مَرَضِهِ، فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تُرِيدُ اسْتِيفَاءَ الصَّدَاقِ وَلَا فَرْضَ النَّفَقَةِ وَهِيَ طَيِّبَةُ النَّفْسِ بِالْخِدْمَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَإِنَّمَا تَجَشَّمَ ذَلِكَ لِتُضَيِّقَ عَلَى الزَّوْجِ لِيُطَلِّقَهَا، فَإِلْجَاؤُهُ إلَى الطَّلَاقِ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ إلْجَاءٌ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ وَهُوَ يَضُرُّهُ، وَهِيَ آثِمَةٌ بِهَذَا الْفِعْلِ إذَا كَانَ مُمْسِكًا لَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْعِ الْمُطَالَبَةُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، أَمَّا إذَا قَصَدَتْ التَّسْرِيحَ فَقَطْ، وَإِنَّمَا تُطَالِبُهُ بِمُوجَبَاتِ الْعَقْدِ لِتَضْطَرَّهُ بِعُسْرِهَا عَلَيْهِ إلَى التَّسْرِيحِ، فَهَذِهِ لَيْسَتْ طَالِبَةً أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ طَالِبَةٌ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، وَهِيَ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ شَرْعًا، فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَلْحَقُ بِاَلَّتِي بَعْدَهَا كَمَا قَدَّمْنَا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ، لَكِنَّ هَذَا الْفِعْلَ إنَّمَا حُرِّمَ بِالْقَصْدِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِجِنْسِ الْفِعْلِ أَوْ لِقَصْدٍ يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ فَقَدْ يُبَاحُ لَهَا الِاخْتِلَاعُ إذَا كَانَتْ تَخَافُ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ.

فَكَذَلِكَ يُبَاحُ لَهَا الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْحُقُوقِ حَتَّى تُفَارِقَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الِاخْتِلَاعُ يَتَضَمَّنُ تَعْوِيضَهُ عَنْ الطَّلَاقِ بِرَدِّ الصَّدَاقِ إلَيْهِ، أَوْ رَدِّ مَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، وَهَذِهِ تَلْجِئَةٌ إلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِعَةِ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَفِي ذَلِكَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَإِذَا قَصَدَتْ إيقَاعَ هَذَا الضَّرَرِ بِهِ بِفِعْلٍ هُوَ مُبَاحٌ، أَوْ خَلَا عَنْ هَذَا الْقَصْدِ دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِحُقُوقِ النِّكَاحِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَصَدَ إضْرَارَ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ.

ص: 314

بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَهِيَ لَا تَقْصِدُ إضْرَارَهُ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ نَفْعَ نَفْسِهَا بِالْخَلَاصِ مِنْهُ، فَيُقَالُ الشَّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِيَدِهَا، وَلَوْ كَانَ انْتِفَاعُهَا بِالْأَخَصِّ حَقًّا لَهَا لَمَلَّكَهَا الشَّارِعُ ذَلِكَ وَحَيْثُ احْتَاجَتْ إلَيْهِ أَمَرَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ مُضَارَّةً سَيِّدِهِ لِيَعْتِقَهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ السَّيِّدُ مُتَسَبِّبًا إلَيْهِ، ثُمَّ، إنْ كَانَتْ نَوَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى مَا تُضَارُّهُ بِهِ مَعَ غِنَاهَا عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَوَصَّلَ إلَى بَعْضِ أَغْرَاضِهَا الَّتِي لَا تَجِبُ لَهَا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهَا، فَكَيْفَ إذَا قَصَدَتْ أَنْ تَحِلَّ لِنَفْسِهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِأَضْرَارِ الْغَيْرِ، فَهَذَا الضَّرْبُ قَرِيبٌ مِمَّا ذُكِرَ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ:

أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ أَوْ تُسِيءَ الْعَشَرَةَ بِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ فِي بَذْلِ حُقُوقِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلَ مُحَرَّمٍ، مِثْلَ طُولِ اللِّسَانِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ النُّشُوزِ وَعَلَى وُجُوبِ حُقُوقِ الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا؛ وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ؛ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِهِ أَنْ تُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِفِعْلٍ هُوَ فِيهِ مُكْرَهٌ إذَا طَلَّقَ أَوْ خَلَعَ مُفَادِيًا مِنْ شَرِّهَا؛ وَالِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي إبْطَالِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُهُ وَلَمْ يَجِبْ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ؛ وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ بِحَالٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَقْصُودَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ لَا مُجَرَّدُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تُظْهِرَ مَعْصِيَةً تُنَفِّرُهُ عَنْهَا لِيُطَلِّقَهَا، مِثْلَ أَنْ تُرِيَهُ أَنَّهَا تَتَبَرَّجُ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ؛ وَيَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ ذَوِي مَحَارِمِهَا فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ؛ إذْ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُرِيَ زَوْجَهَا أَنَّهَا فَاجِرَةٌ؛ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَفْجُرَ؛ فَإِنَّ هَذَا أَشَدُّ إيذَاءً لَهُ مِنْ نُشُوزِهَا عَنْهُ؛ فَهَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَأَظْهَرُ إبْطَالًا لِلْعَقْدِ الثَّانِي مِنْ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ.

وَهَذَا نَظِيرُ أَنْ يُخَبِّبَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّ السَّعْيَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ بَلْ هُوَ فِعْلُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَفِعْلُ الشَّيْطَانِ الْمَحْظِيِّ عِنْدَ إبْلِيسَ؛ كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.

وَلَا رَيْب أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوَّجَهَا؛ ثُمَّ بُطْلَانُ عَقْدِ الثَّانِي هُنَا أَقْوَى مِنْ بُطْلَانِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَأَقْوَى مِنْ بُطْلَانِ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَشِرَائِهِ عَلَى شِرَائِهِ.

ص: 315

فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا حَصَلَ بِفِعْلِ مُبَاحٍ فِي الْأَوَّلِ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ قَصْدِ مُزَاحِمَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُنَا فِيهِ قَصْدُ الْمُزَاحِمَةِ، وَإِنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ صَحَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ، وَإِنَّمَا صَارَ فِي صِحَّةِ مِثْلِ هَذَا خِلَافٌ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ. وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي، وَالِاعْتِقَادُ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَا لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي وَلَكِنْ لِشَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهُ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا؛ لَكِنْ إنْ تَزَوَّجَتْ بِنِيَّةِ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِأَنْ تَنْوِيَ أَنَّهَا تَخْلَعُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَطْلُقْ وَإِلَّا نَشَزَتْ عَنْهُ، وَأَنْ تَحْتَالَ عَلَيْهِ لِتَطْلُقَ " فَهَذَا الْعَقْدُ الْأَوَّلُ أَيْضًا حَرَامٌ؛ وَإِذَا كَانَ مَنْ تَزَوَّجَ بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ زَانِيًا أَوْ مَنْ أَدَّانِ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ سَارِقًا فَمَنْ تَزَوَّجَتْ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُقُوقَ الزَّوْجِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ عَاصِيَةً، فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا قَصَدَتْ أَنْ لَا تَفِيَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ قَدْ قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ لِتَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ، فَصَارَتْ قَاصِدَةً لِعَدَمِ هَذَا الْعَقْدِ وَلِوُجُودِ غَيْرِهِ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَتَحْرِيمُ هَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] وَهَذِهِ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ الَّتِي لَا تَظُنُّ إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ، وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً وَبِنِيَّتِهِ أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي أَوْ يُؤَجِّرَ دَارًا بِنِيَّةِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ سُكْنَاهَا، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِمَنْعِ الْحُقُوقِ حَمْلَهُ عَلَى الْفُرْقَةِ، فَتَقْصِدُ مَنْعَ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَإِزَالَةَ الْمِلْكِ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَقْدِ يُطْلِقُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ الْآخَرَ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا، فَفِي الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَالْإِبْطَالُ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ فَلَا يُزَالُ عَنْهُ ضَرَرٌ قَلِيلٌ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ، وَلَيْسَ الْعَقْدُ حَرَامًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَحْكُمَ بِفَسَادِهِ، وَمَتَى حُكِمَ بِالصِّحَّةِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حُكِمَ بِحِلِّ مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ ذَلِكَ السُّوءُ فَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ عِوَضِهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ آكِلًا لَهُ بِالْبَاطِلِ، وَمَتَى قِيلَ بِوُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْآخَرِ الْخَادِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَصَدَ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعِوَضَ الْأَوَّلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَزِمَ مِنْ هَذَا اسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ الْمَالِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ.

فَصِحَّةُ الْعَقْدِ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَحَدُّ الِانْتِقَاعِ مَشْرُوطٌ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فَإِنْ مَنَعَتْ الْمَرْأَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّجْشِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَالْمُتَوَجِّهُ

ص: 316

أَنْ يُقَالَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِمَا حَصَلَ لَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَعَ حِلِّ الِانْتِفَاعِ لِلْآخَرِ، كَمَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَالِهِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَالِكُ الْمَالِ حَلَالًا مَعَ أَنَّ الْحَائِلَ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي حَالَ بَيْنَ مَالِكِهِ وَبَيْنَهُ، فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا فَاسِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ، وَمَعْنَى التَّصْحِيحِ مَا حَصَلَ الْعِوَضُ الْمَقْصُودُ بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ تَنْوِيعُهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تَخْدَعَهُ بِأَنْ تَسْتَحْلِفَهُ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ. ثُمَّ تَحُثُّهُ فِيهَا بِأَنْ تَقُولَ أَقَارِبِي يُرِيدُونَ أَنْ أَذْهَبَ إلَيْهِمْ وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ، فَاحْلِفْ عَلَى أَنْ لَا أَخْرُجَ إلَيْهِمْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَيَحْلِفُ ثُمَّ تَذْهَبُ إلَيْهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا أَيْضًا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنَّ هَذِهِ عَصَتْهُ بِأَنْ فَعَلَتْ مَا نَهَاهَا عَنْهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَنَحْوِهِ، وَخَدَعَتْهُ بِأَنْ احْتَالَتْ عَلَى أَنْ طَلَّقَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِيلَةُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذِهِ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا.

الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تَفْعَلَ هِيَ مَا يُوجِبُ فُرْقَتَهَا مِثْلَ أَنْ تَرْتَدَّ أَوْ تُرْضِعَ امْرَأَةً صَغِيرَةً حَتَّى تَصِيرَ مِنْ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، أَوْ تُبَاشِرَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُرْتَدَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْفَسِخَ نِكَاحُهَا، فَأَمَّا الْإِرْضَاعُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَيَنْفَسِخُ بِهِمَا النِّكَاحُ فَهَذَا أَيْضًا تَحْرِيمُهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَهَذَا قَدْ أُزِيلَ نِكَاحُهُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ، كَمَا صُرِفَ الْخَاطِبُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ، ثُمَّ إزَالَةُ النِّكَاحِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَيْسَ مِثْلَ مَنْعِ الْمُنْتَظِرِ، فَإِذَا كَانَتْ قَدْ قَصَدَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْمُحَرَّمَاتُ، وَفَسَادُ الْعَقْدِ الثَّانِي هَذَا أَظْهَرُ مِنْ فَسَادِ عَقْدِ الْخَاطِبِ الثَّانِي بِكَثِيرٍ، وَفَسَادُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا مُحْتَمَلٌ، فَإِنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَلِّلِ حَيْثُ نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، كَمَا نَوَى الرَّجُلُ الْفُرْقَةَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نِيَّةِ الْفُرْقَةِ وَنِيَّةِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ، فَإِنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ وَالْمُطَلِّقِ بَيْعُ الزَّوْجِ الْعَبْدَ لَهَا لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ الْفُرْقَةَ، لَكِنْ يُقَالُ إنَّهَا قَدْ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِرْضَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ، كَتَمَكُّنِ الزَّوْجِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَتَمَكُّنِ الْمُطَلِّقِ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَنْوِيَّ هُنَا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ، فَقَدْ لَا يَفْعَلُهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ إلَيْهَا هَذَا الْفَسْخَ مُبَاشَرَةً وَلَا سَبَبًا، فَنِيَّتُهَا أَنْ تَفْعَلَهُ مِثْلُ مُخَادَعَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ بِخِلَافِ نِيَّةِ الزَّوْجِ لِلْفَسْخِ فَإِنَّ الشَّارِعَ مَلَّكَهُ إيَّاهُ فَإِذَا نَوَاهُ خَرَجَ الْعَقْدُ عَنْ أَنْ

ص: 317

يَكُونَ مَقْصُودًا، وَكَذَلِكَ إذَا نَوَاهُ السَّيِّدُ وَالزَّوْجَةُ، فَإِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْفُرْقَةَ شَرْعًا بِنَقْلِ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجِ، فَإِذَا قَصَدَ ذَلِكَ خَرَجَ الْعَقْدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِمَّنْ يَمْلِكُ رَفْعَهُ شَرْعًا، لَا سِيَّمَا وَالسَّيِّدُ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ، وَالسَّيِّدُ وَالْعَبْدُ فِي النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ الْحُرِّ، فَهُوَ يَمْلِكُ الْعَقْدَ بِمُوَاطَأَةِ الْمَرْأَةِ، فَنِيَّتُهُ لِلْفَسْخِ كَنِيَّةِ الزَّوْجِ، إذْ النِّكَاحُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِلزَّوْجِ إذْنُ رَغْبَةٍ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى رَغْبَتِهَا إذَا رَضِيَتْ بِالْعَقْدِ، كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهَا إذَا مَلَّكَتْ اسْتَوَى الْحَالُ فِي رَغْبَتِهَا وَعَدَمِ رَغْبَتِهَا.

وَبِالْحَمَلَةِ فَهَذِهِ قَصَدَتْ الْفَسْخَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَلْحَقَ بِاَلَّتِي قَبْلَهَا، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ يُوجِبُ الْفَسْخَ مُبَاشَرَةً أَوْ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ الْمُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، أَوْ السَّبَبِ الْمُغَلَّبِ بِالْمُبَاشَرَةِ.

الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ تَقْصِدَ وَقْتَ الْعَقْدِ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ تَمْلِكُهُ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ، وَمِثْلُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِفَقِيرٍ تَنْوِي طَلَبَ فُرْقَتِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا، فَإِنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهَا إذَا رَضِيَتْ بِمُعْسِرٍ ثُمَّ سَخِطَتْهُ فَفِي ثُبُوتِ الْفَسْخِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ، فَهَذِهِ إلَى الْمُحَلِّلِ أَقْرَبُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا، إذْ السَّبَبُ هُنَا مَمْلُوكٌ لَهَا شَرْعًا، كَطَلَاقِ الْمُحَلِّلِ وَبَيْعِ الزَّوْجِ الْعَبْدَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، أَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ نَاقِصٌ عَنِّي لَيْسَ بِكُفْءٍ، أَوْ لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِنَّ هَذَا يُثْبِتُ لَهَا الْفَسْخَ. لَكِنْ إذَا نَوَتْ ذَلِكَ فَقَدْ نَوَتْ الْكَذِبَ فَتَصِيرُ مِنْ جِنْسِ الَّتِي قَبْلَهَا إذَا نَوَتْ الْإِرْضَاعَ أَوْ الْمُبَاشَرَةَ، وَهَذَا أَقْوَى مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا الْكَذِبَ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُحَلِّلُ فِي جَوَازِ التَّوْبَةِ.

وَمَسْأَلَةُ الْمُعْسِرِ مُحْتَمَلٌ فِيهَا تَجَرُّدُ الْيَسَارِ فَلَيْسَ الْمَنْوِيُّ هُنَا مَقْطُوعًا بِإِمْكَانِهِ كَنِيَّةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبِيعَهَا الْعَبْدَ أَيْضًا بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ عِتْقٌ أَوْ يَمُوتَ الْمُطَلِّقُ أَوْ يَرْجِعَ السَّيِّدُ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ.

وَمَسْأَلَةُ التَّزْوِيجِ بِمُعْسِرٍ وَنَحْوِهِ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَةِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ نَوَاهَا مَنْ يَمْلِكُهَا، وَمَتَى نَوَاهَا مَنْ يَمْلِكُهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجُ أَوْ السَّيِّدُ أَوْ الزَّوْجَةُ وَحْدَهَا أَوْ الزَّوْجَةُ وَأَجْنَبِيٌّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَمَةً فَاتَّفَقَتْ هِيَ وَسَيِّدُهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِعَبْدٍ ثُمَّ يَعْتِقَهَا، فَإِنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا عَلَى فُرْقَةٍ لَا يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ، مِثْلَ مَسْأَلَةِ بَيْعِهَا الزَّوْجَ الْعَبْدَ، وَسَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَصَدَتْ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ مِثْلِ دَعْوَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعُسْرَةِ،

ص: 318

أَوْ النَّقْصِ أَوْ الْعَيْبِ أَيْضًا قَرِيبَةٌ مِنْ هَذَا، وَمَتَى تَزَوَّجَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَفَارَقَتْ فَهِيَ كَالرَّجُلِ الْمُحَلِّلِ وَأَسْوَأَ، فَلَا يَحِلُّ لَكِنْ لَوْ أَقَامَتْ عِنْدَ الزَّوْجِ فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ كَمَا فِي الرَّجُلِ الْمُحَلِّلِ، وَلَوْ عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ نِيَّتِهَا وَهِيَ مُقِيمَةٌ عَلَيْهِ، فَهَلْ يَسَعُهُ الْمُقَامُ مَعَهَا هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ فِي النِّكَاحِ مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجُ هُوَ الْمَالِكُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَاقِدًا وَمَعْقُودًا عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ مَالِكٌ وَالْغَالِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ.

وَنِيَّةُ الْإِنْسَانِ قَدْ لَا تُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ مِلْكِ غَيْرِهِ، كَمَا يُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ، فَالرَّجُلُ إذَا نَوَى التَّحْلِيلَ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَافِي الْمِلْكَ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ فَانْتَفَتْ سَائِرُ الْأَحْكَامِ تَبَعًا، وَإِذَا نَوَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَأْتِيَ بِالْفُرْقَةِ فَقَدْ نَوَى هُوَ لِلْمِلْكِ وَهِيَ قَدْ مَلَّكَتْهُ نَفْسَهَا فِي الظَّاهِرِ، وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ لَهُ إذَا قَصَدَهُ حَقِيقَةً مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ ظَاهِرًا، لَكِنَّ نِيَّتَهَا تُؤَثِّرُ فِي جَانِبِهَا خَاصَّةً فَلَا يَحْصُلُ لَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ حِلُّهَا لِلْأَوَّلِ حَيْثُ لَمْ تَقْصِدْ أَنْ تَنْكِحَ، وَإِنَّمَا قَصَدَتْ أَنْ تُنْكَحَ، وَالْقُرْآنُ قَدْ عَلَّقَ الْحِلُّ بِأَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نِكَاحٌ حَقِيقَةً مِنْ جِهَتِهَا لِزَوْجٍ هُوَ زَوْجٌ حَقِيقَةً، فَإِذَا كَانَ مُحَلِّلًا لَمْ يَكُنْ زَوْجًا بَلْ تَيْسًا مُسْتَعَارًا، وَإِذَا كَانَتْ قَدْ نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ لَمْ تَكُنْ نَاكِحَةً حَقِيقَةً، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْأَحْكَامِ دَقِيقَةُ الْمَسْلَكِ وَتَحْرِيرُهَا يُسْتَمَدُّ مِنْ تَحْقِيقِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ. وَالْفَسَادُ وَإِمْكَانُ فَسَادِ الْعَقْدِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي هَذَا لَا يَخُصُّ مَسْأَلَةَ التَّحْلِيلِ لَمْ يَحْسُنْ بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نِيَّةِ الْمَرْأَةِ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا.

وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَعُمُّ مَا إذَا نَوَتْ أَنْ تُفَارِقَ بِطَرِيقِ تَمَلُّكِهِ، فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفُرْقَةَ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، ثُمَّ إنَّهُمْ قَالُوا إنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ، فَأَمَّا إذَا نَوَتْ وَعَمِلَتْ مَا نَوَتْ فَلَمْ يَنْفُوا تَأْثِيرَ الْعَمَلِ مَعَ النِّيَّةِ، عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَمْلِكُهُ النَّاوِي، فَعَلِمَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالنِّيَّةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْأَوَّلِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا إذَا نَوَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْأَوَّلِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ شَيْئًا كَمَا تَقَرَّرَ فَإِنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنِكَاحِ الثَّانِي، وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ

ص: 319

يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْعُرْفَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ نِيَّةُ مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ إذَا أَمْكَنَتْ، فَأَمَّا إذَا نَوَتْ فِعْلًا مُحَرَّمًا أَوْ خَدِيعَةً أَوْ مَكْرًا وَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ، وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَظْهَرُ حَقِيقَةُ الْحَالِ فِي هَذَا الْبَابِ.

وَيَظْهَرُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَانِبِ مَنْ اعْتَبَرَ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا، وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي تَيَسَّرَ الْآنَ، وَهُوَ آخَرُ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، وَهِيَ كَانَتْ الْمَقْصُودَةَ أَوَّلًا بِالْكَلَامِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِيهَا مَبْنِيًّا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ، وَالْتَمَسَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ مَزِيدَ بَيَانٍ فِيهَا ذَكَرْنَا فِيهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ.

وَإِلَّا فَالْحِيَلُ يَحْتَاجُ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ فِيهَا إلَى أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِنَظَرٍ خَاصٍّ، وَيَذْكُرَ حُكْمَ الْحِيلَةِ فِيهَا، وَطُرُقَ إبْطَالِهَا إذَا وَقَعَتْ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَسْفَارٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى يَجْعَلُ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ وَمُوَافِقًا لِمَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ آمِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

ص: 320