الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صُوَرٌ كَثِيرَةٌ فَتَخْرُجُ مِنْهُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِنُصُوصٍ وَآثَارٍ وَقِيَاسٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، أَعْنِي صُورَةَ الِابْتِيَاعِ مِنْ الْمُشْتَرَى مِنْهُ.
فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السَّبْعَةُ الَّتِي قَسَّمْنَاهَا مَا تُسَمَّى حِيلَةً إلَيْهَا إذَا تَأَمَّلَهَا اللَّبِيبُ عَلِمَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَبَيْنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا التَّقْسِيمُ الدَّلَالَةَ عَلَى بُطْلَانِ الْخَمْسَةِ وَالْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخَرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ]
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ
أَنَّ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا مَنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعَ الرَّأْيِ فَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحِيَلَ فَإِنَّهَا رَأْيٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا لَهُ نَظِيرٌ مِنْ الْحِيَلِ ثَبَتَ بِأَصْلٍ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ. وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِأَصْلٍ وَلَا نَظِيرَ كَانَ رَأْيًا مَحْضًا بَاطِلًا.
يُحَقِّقُ هَذَا: أَنَّهَا إنَّمَا نَشَأَتْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ الْمُفْتِينَ قَدْ غَلَّبَ بِفِسْقِ الرَّأْيِ وَتَصْرِيفِهِ وَكَانَ تَلَقِّيهِمْ لِلْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةٍ أَغْلَبَ مِنْ تَلَقِّيهَا مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ، ثُمَّ هَذَا الرَّأْيُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ أَكْثَرُ مَا فِيهِ مِنْ فَسَادٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْحِيَلِ الَّتِي دَقَّقَتْ الدِّينَ وَجَرَّاهُ عَلَى اعْتِدَاءِ الْحُدُودِ وَاسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الرَّأْيِ أَيْضًا تَشْدِيدُ مَا سَهَّلَتْهُ السُّنَّةُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمَشْهُورَ: «فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ» إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِ حَدِيثٍ: يُرْوَى عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِئَةُ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» - وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ إمَامٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ
نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ شُبِّهَ فِيهِ عَلَى نُعَيْمٍ وَنُقِلَ هَذَا عَنْ غَيْرِ ابْنِ مَعِينٍ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: سَرَقُوهُ مِنْ نُعَيْمٍ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ عِيسَى أَيْضًا سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ وَكَانَ أَحْمَدُ يُثْنِي عَلَيْهِ وَكَذَا يُثْنِي لِوَالِدَيْهِ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَعِينٍ بِتَفَرُّدِهِ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ وَجَدُوا لَهُ أَصْلًا عِنْدَ غَيْرِهِ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ وَقَفْت سُوَيْدًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنِي بِهِ وَدَارَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَهَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ رَوَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ فَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِجُرْأَةٍ وَرَوَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يُقَالُ لَهُ الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَيُقَالُ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ سَرَقَهُ مِنْهُ قَوْمٌ ضُعَفَاءُ فَهَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذُكِرَ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ قَدْحًا فِي الْحَدِيثِ إذَا رَوَاهُ عِدَّةٌ مِنْ الثِّقَاتِ وَرَوَتْهُ طَائِفَةٌ عَنْ نُعَيْمٍ عَنْ عِيسَى وَطَائِفَةٌ عَنْهُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عِيسَى وَهَذَا الْقَدْرُ قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى الْحَدِيثَ مَحْفُوظًا وَقَدْ يُجِيبُ عَنْهُ مَنْ يَحْتَجُّ لَهُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ إتْقَانِ نُعَيْمٍ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ عِيسَى فَرَغْبَتُهُ فِي عُلُوِّ الْإِسْنَادِ بِتَحَمُّلِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ عِيسَى وَرَغْبَتُهُ فِي التَّحَمُّلِ بِابْنِ الْمُبَارَكِ تَحْمِلُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِسْنَادُهُ فِي الظَّاهِرِ جَيِّدٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ فِيهِ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ وَمَعْنَاهُ شَبِيهٌ بِالْوَاقِعِ.
فَإِنَّ فَتْوَى مِنْ مُفْتٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِرَأْيٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ أَضَرُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَدْ اشْتَهَرَتْ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرُدُّهَا وَاسْتَفَاضَتْ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مَقْمُوعُونَ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بِخِلَافِ الْفُتْيَا فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا مِنْ السُّنَّةِ قَدْ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا الْأَفْرَادُ وَلَا يُمَيِّزُ ضَعِيفَهَا فِي الْغَالِبِ إلَّا الْخَاصَّةُ، وَقَدْ يَنْتَصِبُ لِلْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ مِمَّنْ يُخَالِفُهَا كَثِيرٌ.
وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ مَعْنَاهُ مَحْفُوظًا مِنْ حَدِيثِ الْمُجَالِدِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَامٌ إلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ لَا أَقُولُ عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ وَلَكِنَّ ذَهَابَ خِيَارِكُمْ وَعُلَمَائِكُمْ ثُمَّ يَحْدُثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ وَيَنْثَلِمُ» ، وَهَذَا الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: «وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ
مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ» .
وَفِي ذَمِّ الرَّأْيِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ عَنْ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فِيهَا بَيَانُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالرَّأْيِ يُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الذَّامَّةَ لِلرَّأْيِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فِي حَادِثَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، وَفَقِهَ مَعَانِيَ الْأَحْكَامِ فَيَقِيسُ قِيَاسَ تَشْبِيهٍ وَتَمْثِيلٍ، أَوْ قِيَاسَ تَعْلِيلٍ وَتَأْصِيلٍ قِيَاسًا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ جَوَازِ هَذَا الْمُفْتِي لِغَيْرِهِ وَالْعَامِلِ لِنَفْسِهِ وَوُجُوبَهُ عَلَى الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ تَحْلِيلٌ لِمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. وَلَا تَحْرِيمٌ لِمَا حَلَّلَهُ اللَّهُ.
وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ وَالرَّأْيُ الَّذِي يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ وَيُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ مَا عَارَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، أَوْ مَعَانِي ذَلِكَ الْمُعْتَبَرَةُ، ثُمَّ مُخَالَفَتُهُ لِهَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ أَصْلًا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً بِدُونِ أَصْلٍ آخَرَ. فَهَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُفْتٍ إلَّا إذَا كَانَ الْأَصْلُ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ بَعْضُ السُّنَنِ فَخَالَفُوهَا خَطَأً.
وَأَمَّا الْأُصُولُ الْمَشْهُورَةُ فَلَا يُخَالِفُهَا مُسْلِمٌ خِلَافًا ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ بِأَصْلٍ آخَرَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخَالِفَهَا بَعْضُ الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا. الثَّانِي:
أَنْ يُخَالِفَ الْأَصْلَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَهُوَ فِيهِ مُخْطِئٌ. بِأَنْ يَضَعَ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ عَلَى بَعْضِ مَوْضِعِهِ. وَيُرَاعِيَ فِيهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ لِمَعْنًى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْحِيَلُ تَنْدَرِجُ فِي هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُرَادٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَشْيَاءُ، مِنْهَا أَنَّ تَحْلِيلَ
الشَّيْءِ إذَا كَانَ مَشْهُورًا فَحَرَّمَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ. أَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ مَشْهُورًا فَحَلَّلَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا وَعِنَادًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَتَّخِذُهُ الْأُمَّةُ رَأْسًا قَطُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ كَفَرَتْ، وَالْأُمَّةُ لَا تَكْفُرُ قَطُّ، وَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ.
وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ، أَوْ التَّحْلِيلُ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَخَالَفَهُ مُخَالِفٌ لَمْ يَبْلُغْهُ فَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مِنْ لَدُنْ زَمَنِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ فَلَا تَضِلُّ الْأُمَّةُ وَلَا يَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ، وَلَا يُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا: إنَّهُ مُحْدَثٌ عِنْدَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ وَذَهَابِ الْأَخْيَارِ وَالصَّالِحِينَ.
فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْحِيَلِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ السِّفَاحِ، وَالرِّبَا، وَالْمُعَلَّقِ طَلَاقُهَا الثَّلَاثَ - بِصِفَةٍ إذَا وُجِدَتْ -، وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْأُمَّةِ تَحْرِيمُهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا يَضِلُّ مَنْ يُفْتِي بِالرَّأْيِ وَيُضِلُّ، وَيُحِلُّ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَيَهْدِمُ الْإِسْلَامَ إذَا احْتَالَ عَلَى حِلِّهَا بِحِيَلٍ وَسَمَّاهَا نِكَاحًا وَبَيْعًا وَخُلْعًا وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى النِّكَاحِ الْمَقْصُودِ وَالْبَيْعِ الْمَقْصُودِ وَالْخُلْعِ الْمَقْصُودِ فَيَبْقَى مَعَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ صُورَةُ الْإِسْلَامِ وَأَسْمَاءُ آيَاتِهِ دُونَ مَعَانِيهِ وَحَقَائِقِهِ وَهَذَا هُوَ الضَّالُّ، لِأَنَّ الضَّالَّ الَّذِي يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ وَهُوَ عَلَى بَاطِلٍ كَالنَّصَارَى وَهُوَ هَدْمٌ لِلْإِسْلَامِ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ قِيَاسًا وَفِقْهًا أَهْلَ الْكُوفَةِ حَتَّى كَانَ يُقَالُ: فِقْهٌ كُوفِيٌّ وَعِبَادَةٌ بَصْرِيَّةٌ، وَكَانَ عِظَمُ عِلْمِهِمْ مَأْخُوذًا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابُ عُمَرَ وَأَصْحَابُ عَلِيٍّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ بِمَكَانِ الَّذِي لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَدْ كَانَ أَفْقَهُهُمْ فِي زَمَانِهِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ كَانَ فِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَقُولُ:" إنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ فَأَقِيسُ بِهِ مِائَةَ حَدِيثٍ " وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ أَعْلَمَ بِالْآثَارِ مِنْهُ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُمْ.
وَقَدْ يُوجَدُ لِقُدَمَاءِ الْكُوفِيِّينَ أَقَاوِيلُ مُتَعَدِّدَةٌ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِسُنَّةٍ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ مَطْعُونًا فِيهِمْ، وَلَا كَانُوا مَذْمُومِينَ بَلْ لَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ مَكَانٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ عَلِمَ سِيرَةَ السَّلَفِ، وَذَلِكَ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ وُجِدَ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ
الْإِحَاطَةَ بِالسُّنَّةِ كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَى الْوَاحِدِ، أَوْ النَّفَرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ خَالَفَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ هَذَا يَقُولُونَ بِالْحِيَلِ وَلَا يُفْتُونَ بِهَا بَلْ الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ رَدُّهَا وَالْإِنْكَارُ لَهَا، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ فِي لَعْنِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ الْحَرَمَيْنِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ فَإِنَّ أَشْهَرَ حَدِيثٍ فِيهَا مُخَرِّجُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ، وَفَقِيهُ الْقَوْمِ إبْرَاهِيمُ قَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إذَا نَوَى أَحَدُ الثَّلَاثَةِ التَّحْلِيلَ فَهُوَ نِكَاحٌ فَاسِدُ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَشَدُّ مِنْ قَوْلِ الْمَدَنِيِّينَ فَمَنْ يَكُونُ هَذَا قَوْلَهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ صِحَّةَ الْحِيَلِ وَجَوَازَهَا، وَكَذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فِي الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ رَدِّ الْقَوْمِ لِلْحِيَلِ، فَإِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ مُخَرِّجُهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَقَوْلُهُمْ فِيهَا مَعْرُوفٌ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ فِي الرَّجُلِ يُقْرِضُ الرَّجُلَ دَرَاهِمَ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَجْوَدَ مِنْ دَرَاهِمِهِ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ، أَوْ نِيَّةٌ، وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ إذَا خُرِّجَ عَطَاؤُهُ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ فَقَالَ: اذْهَبْ فَبِعْهُ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ بِعْ الدَّنَانِيرَ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَلَا تَبِعْهَا مِنْ الَّذِي اشْتَرَيْت مِنْهُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ إذَا بِعْت الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرَ مُخَادَعَةٍ وَلَا مُدَالَسَةٍ فَإِنْ شِئْت اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ.
فَهَؤُلَاءِ سُرُجُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَئِمَّتُهُمْ، وَهَذِهِ أَقْوَالُهُمْ، وَلَقَدْ تَتَبَّعْنَا هَذَا الْبَابَ فَلَمْ نَظْفَرْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ بَلْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي مَسَائِلِ الْحِيَلِ إلَّا النَّهْيَ عَنْهَا وَالتَّغْلِيظَ فِيهَا، فَلَمَّا حَدَثَ مِنْ بَعْضِ مُفْتِيهِمْ الْقَوْلُ بِالْحِيَلِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا انْطَلَقَتْ الْأَلْسِنَةُ بِالذَّمِّ لِمَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ وَظَهَرَ تَأْوِيلُ الْآثَارِ فِي هَذَا الضَّرْبِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا: مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَجْرِي النَّاسُ عَلَيْهَا فَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً» قَالَ إِسْحَاقُ قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ وَنُظَرَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ لَفِتْنَةٌ يَعْنِي أَهْلَ هَذَا الرَّأْيِ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى فِتْنَةٌ جَرَى النَّاسُ عَلَيْهَا فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً حَتَّى رَبَا الصَّغِيرُ وَهَرِمَ الْكَبِيرُ إلَّا فِتْنَةَ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ عَلَامَتُهُمْ إذَا كَثُرَ الْقُرَّاءُ وَقَلَّ الْعُلَمَاءُ وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَقَوْلُهُ:«أَحَلُّوا الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا الْحَلَالَ» مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ الِاحْتِيَالَ عَلَى إسْقَاطِ الْحُقُوقِ مِثْلِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَحَقِّ الرَّجُلِ فِي امْرَأَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا اُحْتِيلَ عَلَيْهَا حَرَّمَتْ عَلَى الرَّجُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، وَكَثِيرٌ مِنْ الرَّأْيِ