الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُؤْمِنِ، وَمَنْ عَلِمَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ كَيْفَ كَانَ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ هِيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِذَا حَلَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: إمَّا أَنْ تُوفِيَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَإِنْ لَمْ يُوفِهِ، وَإِلَّا زَادَهُ فِي الْمَالِ وَيَزِيدُهُ الْغَرِيمُ فِي الْأَجَلِ، وَلِهَذَا مَنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ الدَّيْنِ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَطَعَ بِالتَّحْرِيمِ فِيمَا كَانَ مَقْصُودُهُ هَذَا، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - عَنْ الرِّبَا الَّذِي هُوَ الرِّبَا نَفْسُهُ الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظٌ قَالَ: أَمَّا الْبَيِّنُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَك دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ فَتَزِيدَ عَلَى صَاحِبِهِ تَحْتَالُ فِي ذَلِكَ لَا تُرِيدُ إلَّا الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَالشَّيْءُ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ يَبِيعُهُ بِمِثْلِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبُو سَعِيدٍ:" أَوْ يَتِيمًا فَرْدًا " قَالَ: وَهُوَ فِي النَّسِيئَةِ أَبْيَنُ.
وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ تَأَمَّلَ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاهِيًا عَنْهُ مِمَّا سَيَكُونُ فِي الْأُمَّةِ مِنْ اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، بِأَنْ يَسْلُبُوا عَنْهَا الِاسْمَ الَّذِي حُرِّمَتْ بِهِ، وَمَا فَعَلَتْهُ الْيَهُودُ عَلِمَ أَنَّ هَذَيْنِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَصْدِيقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» وَعُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَكْثَرَ الْحِيَلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ» وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى الْحَقِّ.
[الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ]
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ
مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَا يُرْفَعُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. قَالَ: أَنْبَأَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ» وَهَذَانِ إسْنَادَانِ حَسَنَانِ، أَحَدُهُمَا يَشُدُّ الْآخَرَ وَيُقَوِّيهِ - فَأَمَّا رِجَالُ الْأَوَّلِ فَأَئِمَّةٌ مَشَاهِيرُ لَكِنْ نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَعْمَشُ سَمِعَهُ عَنْ عَطَاءٍ، فَإِنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَالْإِسْنَادُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَحَيْوَةَ بْنَ شُرَيْحٍ كَذَلِكَ وَأَفْضَلُ، وَأَمَّا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَشَيْخٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةُ الْمِصْرِيِّينَ مِثْلُ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ فِي حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ الْجُنَيْدِ سَابُورِيّ بِإِسْنَادٍ مَشْهُورٍ عَالِيهِ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا مِنَّا رَجُلٌ يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَبِدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ» .
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا عَنْ عَطَاءٍ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعِينَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ السَّلَفُ، وَالسَّلَفُ يَعُمُّ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ وَتَعْجِيلَ الْمُثَمَّنِ، وَهُوَ الْغَالِبُ هُنَا. يُقَالُ: اعْتَانَ الرَّجُلُ وَتَعَيَّنَ إذَا اشْتَرَى الشَّيْءَ بِنَسِيئَةٍ، كَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَيْنِ وَهُوَ الْمُعَجَّلُ، وَصِيغَتْ عَلَى فِعْلِهِ، لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَذْلَ الْعَيْنِ الْمُعَجَّلَةِ لِلرِّبْحِ، وَأَخْذَهَا لِلْحَاجَةِ كَمَا قَالُوا فِي نَحْوِ ذَلِكَ: التَّوَرُّقُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَرِقَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ: أَنَا أَظُنُّ أَنَّ الْعِينَةَ إنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ حَاجَةِ الرَّجُلِ إلَى الْعَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَيَشْتَرِي السِّلْعَةَ وَيَبِيعُهَا بِالْعَيْنِ الَّذِي احْتَاجَ إلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِهِ إلَى السِّلْعَةِ حَاجَةٌ وَتُطْلَقُ الْعِينَةُ عَلَى نَفْسِ السِّلْعَةِ الْمُعْتَانَةِ.
وَمِنْهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ فِي النَّسَبِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ،
أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ: اُغْدُ غَدًا إلَى السُّوقِ فَخُذْ لِي عِينَةً، قَالَ: فَغَدَا عَبْدُ اللَّهِ فَتَعَيَّنَ عِينَةً مِنْ السُّوقِ لِأَبِيهِ، ثُمَّ بَاعَهَا فَأَقَامَ أَيَّامًا مَا يَبِيعُ أَحَدٌ فِي السُّوقِ طَعَامًا وَلَا زَيْتًا غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْعِينَةِ، فَلَعَلَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ: كِسْرَةٌ وَمِنْحَةٌ لِلْمَكْسُورَةِ وَالْمَمْنُوحَةِ.
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعِينَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا لَمَا أَدْخَلَهَا فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْعُقُوبَةَ. وَكَذَلِكَ فِي الْأَخْذِ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ، وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ الدُّخُولُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِ بَدَلًا عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ» . يَعْنِي الْعِينَةَ. فَهَذَا شَاهِدٌ عَاضِدٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا» . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ فَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» . رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِمُطَيْنٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَالصَّحَابَةُ إذَا قَالَ حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَنَحْوَ هَذَا، فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا لَوْ رَوَى لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّالَّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ وَالْقَضَاءِ. لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ. لِأَنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى جَائِزَةٌ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَمَرَ، أَوْ نَهَى، أَوْ حَرَّمَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَثِقَ بِذَلِكَ، وَاحْتِمَالُ الْوَهْمِ مَرْجُوحٌ كَاحْتِمَالِ غَلَطِ السَّمْعِ. وَنِسْيَانِ الْقَلْبِ.
وَقَدْ رَوَى مُطَيْنٌ أَيْضًا، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَةَ، لَا بَيْعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ حَرِيرَةً بِمِائَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ، سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةٍ دَخَلَتْ بَيْنَهَا حَرِيرَةٌ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ النَّجَشِيُّ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ
فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ.
وَالْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ، أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ، وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدٍ: إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلَامًا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً وَاشْتَرَيْته بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ: أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا شَرَيْتِ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثِنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي حَدِيثِ إسْرَائِيلَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ جَدَّتِهِ الْعَالِيَةِ يَعْنِي جَدَّةَ إسْرَائِيلَ، قَالَتْ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ فَقَالَتْ: حَاجَتُكُنَّ؟ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَهَا أُمَّ مَحَبَّةَ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَإِنِّي بِعْته جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتهَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا. فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى. فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَأُفْحِمَتْ صَاحِبَتُنَا فَلَمْ تُكَلِّمْ طَوِيلًا، ثُمَّ أَنَّهُ سَهُلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] .
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ تُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ هَذَا.
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظُ الْعِينَةِ - وَقَدْ فُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ بِأَنَّهَا مِنْ الرِّبَا، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا أَنْ يَبِيعَ حَرِيرَةً مَثَلًا بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَبْتَاعَهَا بِدُونِ ذَلِكَ نَقْدًا. وَقَالُوا هُوَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: " هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ".
وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ الَّذِي لَهُ مَا يُوَافِقُهُ، أَوْ الَّذِي عَمِلَ بِهِ السَّلَفُ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ:" أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَطْعٌ بِالتَّحْرِيمِ وَتَغْلِيظٌ لَهُ، وَلَوْلَا أَنَّ عِنْدَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمًا مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَسْتَرِيبُ فِيهِ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لَمْ تَسْتَجْرِئْ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِالِاجْتِهَادِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَمَلَ يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ، وَاسْتِحْلَالَ مِثْلِ هَذَا كُفْرٌ، لِأَنَّهُ مِنْ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالُ الرِّبَا كُفْرٌ، لَكِنَّ عُذْرَ زَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَلِهَذَا أَمَرَتْ بِإِبْلَاغِهِ فَمَنْ بَلَغَهُ التَّحْرِيمُ وَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَصَرَّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ هَذَا الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصَدَتْ هَذَا، فَإِنَّهَا قَصَدَتْ أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُقَاوِمُ إثْمُهَا ثَوَابَ الْجِهَادِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً وَسَيِّئَةً بِقَدْرِهَا فَمَا كَأَنَّهُ عَمِلَ شَيْئًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ، فَلَمَّا قَطَعَتْ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَمَرَتْ بِإِبْلَاغِهِ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ هَذَا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَمَا ذَاكَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ، وَإِلَّا فَالِاجْتِهَادُ لَا يُحَرِّمُ الِاجْتِهَادَ، وَأَيْضًا فَكَوْنُ الْعَمَلِ يُبْطِلُ الْجِهَادَ لَا يُعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ.
ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ حُجَّةٌ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ مِثْلَ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ أَفْتَوْا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَغَلَّظُوا فِيهِ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَلْ عَامَّةُ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَيَكُونُ حُجَّةً بَلْ إجْمَاعًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَدْ فَعَلَ هَذَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنَّ هَذَا حَلَالٌ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِيهِ، وَلَا نَظَرٍ وَلَا اعْتِقَادٍ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَضْعَفُ الْعِلْمِ الرِّوَايَةُ، يَعْنِي أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا، وَلَعَلَّهُ قَدْ فَعَلَهُ سَاهِيًا وَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: لَا تَنْظُرْ إلَى عَمَلِ الْفَقِيهِ وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ.
وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ أَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ إنْكَارِ عَائِشَةَ وَكَثِيرًا مَا قَدْ يَفْعَلُ الرَّجُلُ النَّبِيلُ الشَّيْءَ مَعَ ذُهُولِهِ عَمَّا فِي ضِمْنِهِ مِنْ مَفْسَدَةٍ، فَإِذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُحْتَمِلًا لِهَذَا، وَلِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْسَبَ لِأَجْلِهِ اعْتِقَادُ حِلِّ هَذَا إلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه لَا سِيَّمَا وَأُمُّ وَلَدِهِ إنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ تَسْتَفْتِيهَا وَقَدْ رَجَعَتْ عَنْ هَذَا الْعَقْدِ إلَى رَأْسِ مَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا.
وَقَوْلُ السَّائِلَةِ لِعَائِشَةَ أَرَأَيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلَّا رَأْسَ مَالِي ثُمَّ تِلَاوَةُ عَائِشَةَ عَلَيْهَا
{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] دَلِيلٌ بَيِّنٌ أَنَّ التَّغْلِيظَ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ رِبًا، لَا لِأَجْلِ جَهَالَةِ الْأَجَلِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي التَّأْنِيبِ مِنْ الرِّبَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ إذَا قَصَدَ التَّوَسُّلَ بِهِ إلَى الثَّانِي وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَغَيْرِهِ.
وَمَا يَشْهَدُ لِمَعْنَى الْعِينَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ أَوْ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَبْسُوطًا قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]صلى الله عليه وسلم وَيَنْهَدُ الْأَشْرَارُ وَيُسْتَذَلُّ الْأَخْيَارُ وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُطْعَمَ» ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي رَاوِيهِ جَهَالَةٌ فَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ رَوَاهُ سَعِيدٌ. قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: بَلَغَنِي، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ حَدَّثَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانًا عَضُوضًا يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ» . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]
وَيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ أَلَا إنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ إنْ كَانَ عِنْدَك خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيك وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إلَى هَلَاكِهِ.
وَهَذَا الْإِسْنَادُ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ بِهِ حُجَّةٌ فَهُوَ يُعَضِّدُ الْأَوَّلَ مَعَ أَنَّهُ خَبَرُ صِدْقٍ بَلْ هُوَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْعِينَةِ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ مُضْطَرٍّ إلَى نَفَقَةٍ يَضَنُّ عَلَيْهِ الْمُوسِرُ بِالْقَرْضِ، لَا أَنْ يَرْبَحُوا فِي الْمِائَةِ مَا أَحَبُّوا فَيَبِيعُونَهُ ثَمَنَ الْمِائَةِ بِضِعْفِهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ
وَلِهَذَا كَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ بَيْعِ الرَّجُلِ أَوْ عَامَّتُهُ نَسِيئَةً لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي اسْمِ الْعِينَةِ وَبَيْعِ الْمُضْطَرِّ، فَإِنْ أَعَادَ السِّلْعَةَ إلَى الْبَائِعِ، أَوْ إلَى آخَرَ يُعِيدُهَا إلَى الْبَائِعِ عَنْ احْتِيَالٍ مُهِمٍّ وَتَوَاطُؤٍ لَفْظِيٍّ، أَوْ عُرْفِيٍّ، فَهُوَ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِي تَحْرِيمِهِ.
وَأَمَّا إنْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ بَيْعًا ثَابِتًا وَلَمْ تَعُدْ إلَى الْأَوَّلِ بِحَالٍ، فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي كَرَاهَتِهِ وَيُسَمُّونَهُ التَّوَرُّقَ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْوَرِقُ.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَكْرَهُهُ وَقَالَ: التَّوَرُّقُ أَخْبَثُ الرِّبَا، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يُرَخِّصُ فِيهِ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَأَشَارَ فِي رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ إلَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، إنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ إلَى هَذَا أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ يَدْخُلُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ بِخِلَافِ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ نَادِرٌ لَا يَكَادُ يُفْعَلُ إلَّا عِنْدَ صِفَةِ الْمَالَيْنِ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ وَلَا سَيْفَ إلَّا ذُو الْفَقَارِ يَعْنِي أَنَّهُ هُوَ الْكَامِلُ فِي بَابِهِ وَكَذَلِكَ النَّسِيئَةُ هِيَ أَعْظَمُ الرِّبَا وَكُبْرُهُ.
يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدٍ فَبِعْت بِنَقْدٍ، فَلَا بَأْسَ، وَإِذَا اسْتَقَمْت بِنَقْدٍ فَبِعْته بِنَسِيئَةٍ فَلَا خَيْرَ فِيهِ تِلْكَ وَرِقٌ بِوَرِقٍ - رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ - يَعْنِي إذَا قَوَّمْتهَا بِنَقْدٍ ثُمَّ بِعْتهَا نَسِيئًا كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي اشْتِرَاءَ دَرَاهِمَ مُعَجَّلَةٍ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ وَهَذَا شَأْنُ الْمُوَرِّقِينَ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ فَيَقُولُ أُرِيدُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَيُخْرِجُ لَهُ سِلْعَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَذَا هُوَ الِاسْتِقَامَةُ - يَقُولُ أَقَمْت السِّلْعَةَ وَقَوَّمْتهَا وَاسْتَقَمْتهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهِيَ لُغَةٌ مَكِّيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَعْنَى التَّقْوِيمِ - فَإِذَا قَوَّمْتهَا بِأَلْفٍ قَالَ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُوَافِقُ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِنَقْدٍ فَلْيُسَاوِمْهُ بِنَقْدٍ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِنَسْأٍ فَلْيُسَاوِمْهُ بِنَسْإٍ كَرِهُوا أَنْ يُسَاوِمَهُ بِنَقْدٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ بِنَسْإٍ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ دَلِيلٍ عَلَى كَرَاهَتِهِمْ، لِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا قَدْ حُفِظَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا بَيْعَ " ده بدوازده "؛ لِأَنَّ
لَفْظَهُ: أَبِيعُك الْعَشَرَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ، فَكَرِهُوا هَذَا الْكَلَامَ لِمُشَابَهَتِهِ الرِّبَا، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ ذَلِكَ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِ الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ تَفْسِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ هُوَ لَك بِنَقْدٍ بِكَذَا وَبِنَسِيئَةٍ بِكَذَا، كَمَا رَوَاهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ» قَالَ سِمَاكٌ: الرَّجُلُ يَبِيعُ الْبَيْعَ فَيَقُولُ هُوَ بِنَسْإٍ بِكَذَا وَبِنَقْدٍ بِكَذَا وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَعَلَى هَذَا فَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِأَحَدِهِمَا مُبْهَمًا وَيَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا تَفْسِيرُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرِّبَا هُنَا وَلَا صَفْقَتَيْنِ هُنَا، وَإِنَّمَا هِيَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِثَمَنٍ مُبْهَمٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ هِيَ بِنَقْدٍ بِكَذَا أَبِيعُكَهَا بِنَسِيئَةٍ كَذَا كَالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ صَفْقَتَيْ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ النَّقْدَ مِعْيَارًا لِلنَّسِيئَةِ وَهَذَا مُطَابِقٌ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا» . فَإِنَّ مَقْصُودَهُ حِينَئِذٍ، هُوَ بَيْعُ دَرَاهِمَ عَاجِلَةٍ بِآجِلَةٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ، وَهُوَ أَوْكَسُ الصَّفْقَتَيْنِ وَهُوَ مِقْدَارُ الْقِيمَةِ الْعَاجِلَةِ فَإِنْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ فَهُوَ مُرْبٍ.
التَّفْسِيرُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ الشَّيْءَ بِثَمَنٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ذَلِكَ الثَّمَنَ، وَأَوْلَى مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ السِّلْعَةَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا أَوْلَى بِلَفْظِ الْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَإِنَّهُ بَاعَ السِّلْعَةَ وَابْتَاعَهَا، أَوْ بَاعَ بِالثَّمَنِ وَبَاعَهُ، وَهَذَا صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْعِينَةُ الْمُحَرَّمَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ نَسْئًا، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا، أَوْ يَبِيعَهُ نَقْدًا، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ نَسْئًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَعُودُ حَاصِلُ هَاتَيْنِ الصَّفْقَتَيْنِ إلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ وَيَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْهَا وَسِلْعَتُهُ عَادَتْ إلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لَهُ إلَّا
أَوْكَسُ الصَّفْقَتَيْنِ، وَهُوَ النَّقْدُ، فَإِنْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْحَدِيثِ هَذَا، وَنَحْوُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَعَنْ سَلَفٍ وَبَيْعٍ» - رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَكِلَا هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ يُؤَوَّلَانِ إلَى الرِّبَا، وَفِي النَّهْيِ عَنْ هَذَا كُلِّهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَنْ النَّهْيِ عَنْ الْحِيَلِ الَّتِي هِيَ فِي الظَّاهِرِ بَيْعٌ وَفِي الْحَقِيقَةِ رِبًا.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ، أَنَّهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ:«لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» قَالَ: «مَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ» .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّبَا وَالزِّنَا قَرِينَانِ فِي الِاحْتِيَالِ عَلَيْهِمَا وَفِي أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى، وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ: الْجَدُّ وَالْكَلَالَةُ. وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ.
فَإِنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَصَدَ بَيَانَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِيهَا إجْمَالٌ وَرَأَى أَنَّ مِنْهَا الْخَمْرَ وَالرِّبَا فَإِنَّ مِنْهُمَا مَا لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي تَسْمِيَتِهِ رِبًا وَخَمْرًا وَمِنْهُمَا مَا قَدْ يَقَعُ فِيهِ الشُّبْهَةُ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَعُمُّ كُلَّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ، وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يَكُنْ يَحْفَظُ فِيهِ لَفْظًا جَامِعًا فَقَالَ فِيمَا لَمْ يَتَبَيَّنْهُ:" وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ". فَعُلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَحْسَبُهُ النَّاسُ بَيْعًا هُوَ رِبًا فَإِنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، فَلَمْ يَعْرِفْ جَمِيعَ أَبْوَابِ الرِّبَا كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلِهَذَا قَامَ عُمَرُ رضي الله عنه خَطِيبًا فِي النَّاسِ فَقَالَ:" أَلَا إنَّ آخِرَ الْقُرْآنِ كَانَ تَنْزِيلًا آيَةُ الرِّبَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا - وَفِي لَفْظٍ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا - فَدَعُوا مَا يَرِيبُكُمْ إلَى مَا لَا يَرِيبُكُمْ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ ". وَهَذَا مَشْهُورٌ
مَحْفُوظٌ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ - أَيْ اتَّقُوا: مَا تَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرِّبَا وَمَا تَسْتَرِيبُونَ فِيهِ وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ رضي الله عنه، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.
فَمَا اسْتُيْقِنَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْبَيْعِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الرِّبَا، أَوْ الرِّبَا دُونَ الْبَيْعِ فَلَا رَيْبَ فِيهِ، وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ وَهُوَ الرِّيبَةُ.
فَلَيْسَ هُنَا أَصْلٌ مُتَيَقَّنٌ حَتَّى يُرَدَّ إلَيْهِ الْمُشْتَبَهُ لِأَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ، وَهُوَ اسْمٌ مُجْمَلٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ بَيْعًا، وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْمَعْلُومِ يُوجِبُ الْجَهَالَةَ فِي الْمُسْتَثْنَى، إلَّا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا حَدِيثٌ - لَا أَحْفَظُ الْآنَ إسْنَادَهُ - " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهِمْ إلَّا مَنْ أَكَلَ الرِّبَا فَمَنْ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» . ثُمَّ وَجَدْت إسْنَادَهُ رَوَيْنَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حَبْرَةَ، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ مُنْذُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسِينَ سَنَةً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا» قَالَ: قِيلَ لَهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ»
، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِظُهُورِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تُسْتَبَاحُ بِاسْمِ الْبَيْعِ، أَوْ الْهِبَةِ، أَوْ الْقَرْضِ، أَوْ الْإِجَارَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَعْنَاهَا مَعْنَى الرِّبَا.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَاتُ الْأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَلَاهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ وَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ» ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ عَقِيبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمُنَاسَبَتِهِ بَيْنَ الْمُنَزَّلِ وَالْمُحَرَّمِ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -، لِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ قَدْ حُرِّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَتَأَوَّلُ النَّاسُ فِيهَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ عَيْنُهَا لَا ثَمَنُهَا، كَمَا تَأَوَّلَتْ الْيَهُودُ فِي الشُّحُومِ.
وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْمَحَارِمَ بِنَوْعٍ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالرِّبَا، كَذَلِكَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَأَوَّلُ فِي اسْتِحْلَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ أَنَّهَا بَيْعٌ لَيْسَتْ رِبًا، مَعَ أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى الرِّبَا، فَكَانَ تَحْرِيمُهُ لِلتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ؛ إذْ ذَاكَ حَسْمًا لِمَادَّةِ التَّأْوِيلِ