الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا نَصٌّ فِي تَحْرِيمِ اسْتِحْلَالِ مَحَارِمِ اللَّهِ بِالِاحْتِيَالِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ أَدْنَى الْحِيَلِ، لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا مَثَلًا قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ، وَمِنْ أَسْهَلِ الْحِيَلِ عَلَيْنَا أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ السُّفَهَاءِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَسْتَعِيرَهُ لِيَنْزُوَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ مِنْ نِكَاحِ رَاغِبٍ، فَإِنَّ ذَاكَ يَصْعُبُ مَعَهُ عَوْدُهَا حَلَالًا؛ إذْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ لَا يُطَلِّقَ بَلْ أَنْ يَمُوتَ الْمُطَلِّقُ أَوَّلًا قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَمِنْ أَدْنَى الْحِيَلِ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا إلَّا دِرْهَمًا بِاسْمِ الْقَرْضِ، وَيَبِيعَهُ خِرْقَةً تُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ أَبْوَابِ الْحِيَلِ.
ثُمَّ إنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ، وَقَدْ كَانُوا احْتَالُوا فِي الِاصْطِيَادِ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُمْ حَفَرُوا خَنَادِقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَقَعُ الْحِيتَانُ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمُحْتَالِينَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الِاصْطِيَادِ لَمْ يُوجَدْ يَوْمَ السَّبْتِ، لَكِنْ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْكَفُّ عَمَّا يُنَالُ بِهِ الصَّيْدُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ، أَوْ الْمُبَاشَرَةِ.
وَمِنْ احْتِيَالِهِمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ الشُّحُومِ، تَأَوَّلُوا أَنَّ الْمُرَادَ نَفْسُ إدْخَالِهِ الْفَمَ، وَأَنَّ الشَّحْمَ هُوَ الْجَامِدُ دُونَ الْمُذَابِ فَجَمَلُوهُ فَبَاعُوهُ وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ، وَقَالُوا: مَا أَكَلْنَا الشَّحْمَ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا حَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ، أَوْ بِبَدَلِهِ إذْ الْبَدَلُ يَسُدُّ مَسَدَّهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَالِ جُمُودِهِ وَذَوْبِهِ فَلَوْ كَانَ ثَمَنُهُ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْرِيمِ كَبِيرُ أَمْرٍ وَهَذَا هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
[الْوَجْهُ التَّاسِعُ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا]
الْوَجْهُ التَّاسِعُ
وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا، قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: جَمَلُوهَا مَعْنَاهُ أَذَابُوهَا حَتَّى تَصِيرَ وَدَكًا، فَيَزُولَ
عَنْهَا اسْمُ الشَّحْمِ، يُقَالُ: جَمَلْت الشَّيْءَ وَأَجْمَلْتُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ جَمَّلْت الشَّحْمَ أُجَمِّلُهُ بِالضَّمِّ، وَالْجَمِيلُ الشَّحْمُ الْمُذَابُ، وَيُجَمِّلُ إذَا أَكَلَ الْجَمِيلَ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ اللَّه حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْأَصْنَامَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَأَصْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ، وَأَبِي الْحَارِثِ هَذِهِ الْحِيَلُ الَّتِي وَضَعَهَا هَؤُلَاءِ فُلَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَمَدُوا إلَى الشَّيْءِ فَاحْتَالُوا فِي نَقْضِهَا، وَالشَّيْءُ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ: إنَّهُ حَرَامٌ احْتَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى أَحَلُّوهُ، وَقَالَ: الرَّهْنُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ، ثُمَّ قَالُوا: نَحْتَالُ لَهُ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ، فَكَيْفَ يَحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَأَذَابُوهَا فَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» . فَإِنَّمَا أَذَابُوهَا حَتَّى أَزَالُوا عَنْهَا اسْمَ الشَّحْمِ، وَقَالَ:«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ بُطْلَانِ كُلِّ حِيلَةٍ يُحْتَالُ بِهَا لِلتَّوَصُّلِ إلَى الْمُحَرَّمِ وَأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ هَيْئَتِهِ وَتَبْدِيلِ اسْمِهِ.
فَوَجَدَ الدَّلَالَةَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الشُّحُومَ أَرَادُوا الِاحْتِيَالَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَالُ فِي الظَّاهِرِ إنَّهُمْ انْتَفَعُوا بِالشَّحْمِ فَجَمَلُوهُ، وَقَصَدُوا بِذَلِكَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الشَّحْمِ، ثُمَّ انْتَفَعُوا بِثَمَنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَحْصُلَ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ مَعَ أَنَّهُمْ احْتَالُوا حِيلَةً خَرَجُوا بِهَا فِي زَعْمِهِمْ مِنْ ظَاهِرِ التَّحْرِيمِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا الِاسْتِحْلَالِ، نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ، فَإِنَّ مَا حُكْمُهُ التَّحْرِيمُ لَا يَخْتَلِفُ سَوَاءٌ كَانَ
جَامِدًا، أَوْ مَائِعًا، وَبَدَلُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، فَإِذَا حَرَّمَ اللَّهُ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ حَرَّمَ الِاعْتِيَاضَ عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا مَا أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَنْفَعَةِ الظَّهْرِ الْمُبَاحَةِ لَا لِمَنْفَعَةِ اللَّحْمِ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:«لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» .
فَإِنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ الْمُقَابِلَ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى وَكَانَ الثَّمَنُ فِي مُقَابِلِهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا.
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ مُعَلَّقًا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَبِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ دُونَ رِعَايَةٍ لِمَقْصُودِ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ، وَمَعْنَاهُ وَحَقِيقَتِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْيَهُودُ اللَّعْنَةَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّحْمَ خَرَجَ بِتَجْمِيلِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَحْمًا وَصَارَ وَدَكًا، كَمَا يَخْرُجُ الرِّبَا بِالِاحْتِيَالِ فِيهِ عَنْ لَفْظِ الرِّبَا إلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْعًا عِنْدَ مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ فَأَعْطَاهُ حَرِيرَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ حَالَّةٍ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى مَنْ أَعْطَى أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَقْصُودُ إلَّا مَا بَيْنَ الشَّحْمِ وَالْوَدَكِ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعَيْنِ الشَّحْمِ، وَإِنَّمَا انْتَفَعُوا بِالثَّمَنِ، فَيَلْزَمُ مَنْ رَاعَى مُجَرَّدَ الْأَلْفَاظِ وَالظَّوَاهِرِ دُونَ الْمَقَاصِدِ وَالْحَقَائِقِ أَنْ لَا يُحَرِّمَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سبحانه وتعالى حَرَّمَ الثَّمَنَ تَحْرِيمًا غَيْرَ تَحْرِيمِ الشَّحْمِ، فَلَمَّا لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودَ عَلَى اسْتِحْلَالِهِمْ الْأَثْمَانَ مَعَ تَحْرِيمِ الْمُثَمَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ لَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الثَّمَنِ، عُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ النَّظَرُ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ تَحْرِيمٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يُقْصَدَ الِانْتِفَاعُ بِهَا أَصْلًا، وَفِي أَخْذِ بَدَلِهَا أَكْثَرُ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَإِثْبَاتٌ لِخَاصَّةِ الْمَالِ، وَمَقْصُودِهِ فِيهَا، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّحْرِيمِ وَصَارَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِرَجُلٍ: لَا تَقْرَبْ مَالَ الْيَتِيمِ، فَيَبِيعُ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ وَيَقُولُ: لَمْ أَقْرَبْ مَالَ الْيَتِيمِ، أَوْ كَرَجُلٍ قِيلَ لَهُ: لَا تَضْرِبْ زَيْدًا وَلَا تَمَسَّهُ بِأَذًى، فَجَعَلَ يَضْرِبُ عَلَى فَرْوَتِهِ الَّتِي قَدْ لَبِسَهَا، وَيَقُولُ: لَمْ أَضْرِبْهُ وَلَمْ أَمَسَّهُ، وَإِنَّمَا ضَرَبْت ثَوْبَهُ.