المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الوجه السابع والسبعون حقيقة قول القائلين إن القرآن ليس كلام الله] - الفتاوى الكبرى لابن تيمية - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ] [

- ‌نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ حَرَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ]

- ‌[الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ بُطْلَانُ الْحِيَلِ وَأَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي لَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَخْبَرَ اللَّه عَنْ أَهْل الْجَنَّة الَّذِينَ بَلَاهُمْ فِي سُورَة نُون]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ قَالَ اللَّه وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْت]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ]

- ‌[الْوَجْه السَّادِسُ قَوْل النَّبِيّ مَنْ أَدَخَلَ فَرَسًا بَيْن فَرَسَيْنِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْبَيِّعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّامِنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ الْيَهُودُ]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَ خَمْرًا]

- ‌[الْوَجْهُ الْعَاشِرُ قَالَ صلى الله عليه وسلم لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا]

- ‌[الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قَالَ صلى الله عليه وسلم إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمَقَاصِدَ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْعَادَاتِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْحِيلَة تَصْدُرُ مِنْ رَجُلٍ كَرِهَ فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ لَيْسَ كُلُّ مَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حِيلَةً]

- ‌ أَقْسَامِ الْحِيَلِ

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ الْحِيَلَ مَعَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا أُحْدِثَتْ بِالرَّأْيِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ الْأَمَانَةُ]

- ‌[الْوَجْه الثَّامِن عَشْر أوجب اللَّه النَّصِيحَة وَالْبَيَان فِي الْمُعَامَلَات خَاصَّة]

- ‌[الْوَجْه التَّاسِع عَشْر اسْتَعْمَلَ الرَّسُول رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَة]

- ‌[الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى إلَيْهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ إذَا تَأَمَّلْت عَامَّةَ الْحِيَلِ وَجَدْتهَا رَفْعًا لِلتَّحْرِيمِ]

- ‌[الْوَجْه الرَّابِع وَالْعُشْرُونَ أَنْ اللَّه وَرَسُوله سَدّ الذَّرَائِع الْمُفْضِيَة إلَى الْمَحَارِم]

- ‌[الطَّرِيقُ الثَّانِي إبْطَالُ التَّحْلِيلِ فِي النِّكَاحِ] [

- ‌الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْوَاشِمَةَ وَالْمَوْشُومَةَ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِي سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ]

- ‌[الْمَسْلَك الثَّالِث التَّحْلِيل لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ النَّبِيّ يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ طلق ثَلَاثًا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ]

- ‌[الْمَسْلَك الْخَامِس قَالَ اللَّه بَعْد الطَّلَاق مَرَّتَانِ وَبَعْد الخلع فَإِن طلقها]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّادِسُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]

- ‌[الْمَسْلَكُ السَّابِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ]

- ‌[الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]

- ‌[الْمَسْلَكُ الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّ جَوَازَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ]

- ‌[كِتَابٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الطَّوَائِفِ الْمُلْحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ] [

- ‌خِطْبَة الْكتاب]

- ‌[أَوْجُهٍ الرد عَلَيَّ الْمعَارضين]

- ‌[الْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ وَاللَّفْظِ]

- ‌[فَصْلٌ قَالُوا وَلَا نَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ]

- ‌[الْأَصْلُ التَّاسِعُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا وَإِثْبَاتِ قِدَمِ كَلَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ إنَّ هَذَا يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ الَّذِي هُوَ الْقَلْبُ يُوصَفُ بِالنُّطْقِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ إنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي إثْبَاتِ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَلَامِ لِلَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَحْكُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ إنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالذَّاتِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إذَا جَاءَ أَنْ تَجْعَلُوا هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ حَقِيقَةً وَاحِدَةً]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ إنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا حُجَّتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَقَمْت دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ قَدِيمًا وَاحِدًا لَيْسَ بِمُتَغَايِرٍ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ أَنْ يُقَالَ الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ إمَّا قِدَمُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ إنَّ قَوْلَك عَلَى خِلَافِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ إنْ عَنَيْت بِهِ أَنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِ اللَّهِ لَيْسَتْ كَحَقِيقَةِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْكَلَامَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَسَائِرَ الصِّفَاتِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْمَخْلُوقَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ إنَّك اعْتَمَدَتْ فِي كَوْنِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا قَدِيمًا]

- ‌[الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ قِيَاسُك الْوَحْدَةَ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْكَلَامِ عَلَى الْوَحْدَةِ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْمُتَكَلِّمِ قِيَاسٌ لِلشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ أَنْ يُقَالَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ كَوْنَ الْقَدِيمِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ إنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ شَيْئًا وَاحِدًا لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ أَنْ يُقَالَ مَا تَعْنِي بِقَوْلِك كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ كَمَا يَعْقِلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ كَوْنَهُ ذَلِكَ قِدَمُهُ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتِينَ لِلْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ قَالُوا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ اجْتِمَاعَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالرُّؤْيَةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْقَوْل بِالتَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ فِي كَلَام اللَّه]

- ‌[الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ قَوْلُهُمْ كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ]

- ‌[الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي الْجَوَابِ عَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ إنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَاحِدًا]

- ‌[الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ كَانَ الْبَارِي عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ]

- ‌[الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ مَا شُكَّ فِيهِ يُقْطَعُ فِيهِ بِالِامْتِنَاعِ]

- ‌[الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا]

- ‌[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ]

- ‌[بَابٌ فِي ذِكْرِ كَلَامِ الْأَشْعَرِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَذْهَب الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَطَبَقَتِهِ]

الفصل: ‌[الوجه السابع والسبعون حقيقة قول القائلين إن القرآن ليس كلام الله]

يَقُولُوا صَوْتُنَا وَلَا قَالُوا قَدِيمٌ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ اشْتَدَّ نَكِيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَيْهِمْ، وَتَبْدِيعُهُ لَهُمْ، وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا جَمَعَ فِيهِ مَقَالَاتِ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ، مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ عَنْ أَصْحَابِهِ إنَّمَا هُمْ أَتْبَاعُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا تَصَرُّفُ الْقَاضِي وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ.

وَقَدْ كَانَ ابْنُ حَامِدٍ يَقُولُ: إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْهُ، وَالْقَاضِي، أَنْكَرَ هَذَا كَمَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ لَفَظْت بِالْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُلْفَظُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يُلْفَظُ إذْ اللَّفْظُ هُوَ الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ، وَلَكِنْ يُتْلَى أَوْ يُقْرَأُ. فَإِنَّ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا ذَكَرَ فِي مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَنْ يُقَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَانَ هُوَ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ خُصُوصًا، وَإِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ عُمُومًا فِي السُّنَّةِ، وَالْإِنْكَارُ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا اُشْتُهِرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَانِهِ وَافَقُوهُ عَلَى ذَلِكَ وَفَسَّرُوهُ بِكَرَاهَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَوَافَقَهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ الْقَاضِيَ وَأَتْبَاعَهُ يَقُولُونَ: أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ مَعَ دَعْوَى الطَّائِفَتَيْنِ اتِّبَاعَ أَحْمَدَ.

وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ فِي عَصْرِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الزَّاغُونِيّ الْفَقِيهِ وَفِي بَلَدِهِ، مُصَنَّفًا يَتَضَمَّنُ إنْكَارَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَسْمُوعَ صَوْتُ اللَّهِ، وَأَبْطَلَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَكَانَ مَا قَامَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ قِيَامًا لِغَرَضِ رَدِّ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَإِنْكَارِهَا، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِنْ أَعْلَمْ عُلَمَاءِ وَقْتِهِ بِالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ.

[الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِ الْقَائِلِينَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ]

الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ: إنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعَامَّتِهَا أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَهُوَ كَمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا بِحَالٍ. فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ نِصْفَ مُسَمَّى الْقُرْآنِ وَهُوَ

ص: 596

لَفْظُهُ وَنَظْمُهُ وَحُرُوفُهُ، لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا، فَلَا يَكُونُ كَلَامَهُ.

وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ إنَّهَا تُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إنْ أَقَرُّوا بِأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً مَعَ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً فِي غَيْرِهِ بَطَلَ أَصْلُهُمْ الَّذِي أَفْسَدُوا بِهِ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ: إنَّ الْكَلَامَ إذَا قَامَ بِمَحَلٍّ كَانَ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ، لَا لِمَنْ أَحْدَثَهُ.

وَأَمَّا الْمَعَانِي فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بُعْدُ تَصَوُّرِهِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَأَنْ تَكُونَ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ أَيْضًا، إذَا كَانَ هَذَا الَّذِي ادَّعَوْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ، أَوْ يَكُونَ كَلَامًا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ عِنْدَهُمْ بِالْقُرْآنِ لَا بِحُرُوفِهِ وَلَا بِمَعَانِيهِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ قَاطِعٌ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُمْ عَنْهُ، وَيَنْضَمُّ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ هُمْ يُصَرِّحُونَ أَيْضًا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ.

وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ الْمَحْضَةُ، كَالْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَأَكْثَرُهُمْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، لَكِنْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ يَعُودُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ، كَمَا يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ حُذَّاقُهُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ، أَوْ يَقُولُونَ: الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً.

فَهَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلَةُ لِتَكَلُّمِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، أَعْظَمُ مِنْ أُولَئِكَ، لَكِنْ تَظَاهُرُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، أَعْظَمُ مِنْ تَظَاهُرِ أُولَئِكَ؛ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ نَفْيَ الْكَلَامِ عَنْ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْكَدُ وَأَقْوَى، وَنَفْيُ كَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ هُوَ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ لَك عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَأُولَئِكَ أَيْضًا يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَهُمْ أَعْظَمُ إلْحَادًا فِي الْحَقِيقَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَأُولَئِكَ أَسْخَفُ قَوْلًا.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ: إنَّهُ مَا زَالَ أَئِمَّةُ الطَّوَائِفِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَأَهْلُ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ مِنْ أَنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ، وَأَنَّ الْحُرُوفَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَلَامِ، قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ، حَتَّى الَّذِينَ يُحِبُّونَ

ص: 597

الْأَشْعَرِيُّ وَيَمْدَحُونَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الْكِبَارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَيَذُبُّونَ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَذُمُّهُ وَيَلْعَنُهُ، وَيُنَاصِحُونَ عَنْهُ مِنْ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ إنَّا نُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ، إذْ لِكُلِّ عَالِمٍ خَطَأٌ مِنْ قَوْلِهِ يُتْرَكُ، أَوْ يُمْسِكُونَ عَنْ نَصِّ هَذَا الْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ.

وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ وَالِدُ أَبِي الْمَعَالِي فِي آخِرِ كِتَابٍ حَقَّقَهُ سَمَّاهُ " عَقِيدَةُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الْمُطَّلِبِيِّ الشَّافِعِيِّ وَكَافَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ نَقَلَ هَذَا مِنْهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِي، وَجَمَعَ فِيهِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ، وَأَدْخَلَ فِي ذَلِكَ أُمُورًا أُخْرَى يُقَوِّي بِهَا ذَلِكَ.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَاحِدٌ وَيَجِبُ التَّعْيِينُ فِي الْأُصُولِ، فَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ فَرُبَّمَا مَا يَتَأَتَّى التَّعْيِينُ، وَرُبَّمَا لَا يَتَأَتَّى، وَمَذْهَبُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ رحمه الله تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ، فِي الْفُرُوعِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، وَأَبُو الْحَسَنِ أَحَدُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، فَإِذَا خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ أَعْرَضْنَا عَنْهُ فِيهِ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ: لَا صِيغَةَ لِلْأَلْفَاظِ وَيَقِلُّ وَيَعِزُّ مُخَالِفَتُهُ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَنُصُوصَهُ، وَرُبَّمَا نَسَبَ الْمُبْتَدِعُونَ إلَيْهِ مَا هُوَ بَرِيءٌ عَنْهُ، كَمَا نَسَبُوا إلَيْهِ أَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ، وَلَا فِي الْقَبْرِ نَبِيٌّ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ، وَنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَزَلِ، وَتَكْفِيرُ الْعَوَامّ، وَإِيجَابُ عِلْمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ.

قَالَ: وَقَدْ تَصَفَّحْتُ مَا تَصَفَّحْتُ مِنْ كُتُبِهِ فَوَجَدْتُهَا كُلَّهَا خِلَافَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ، وَلَا عَجَبَ أَنْ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ وَافْتَرَضُوا فَإِنَّهُ رحمه الله فَاضِحُ الْقَدَرِيَّةِ وَعَامَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَكَاشِفُ عَوْرَاتِهِمْ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَعْرِفُ حَاسِدَهُ.

وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الَّذِي شَرَحَ فِيهِ رِسَالَةَ الشَّافِعِيّ وَسَمَّاهُ التَّعْلِيقَ ": مَسْأَلَةٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ لِصِيغَتِهِ أَوْ لِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ

ص: 598

بِهِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، أَوْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَذَهَبَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ، تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْقَرَائِنِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ:" افْعَلْ كَذَا وَكَذَا " وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ عَارِيًّا عَنْ الْقَرَائِنِ كَانَ أَمْرًا، وَلَا يَحْتَاجُ فِي كَوْنِهِ أَمْرًا إلَى قَرِينَةٍ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَجَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَلْخِيّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا، غَيْرَ الْبَلْخِيّ، إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ. إلَى أَنْ قَالَ: وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْآمِرِ لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ وَلَا يُغَايِرُهَا، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ سَائِرُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ مِنْ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ هَذَا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ الْآدَمِيِّينَ، إلَّا أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِكَوْنِهِ قَدِيمٌ، وَأَمْرُ الْآدَمِيِّ مُحْدَثٌ، وَهَذِهِ الْأَصْوَاتُ وَالْأَلْفَاظُ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا، وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ.

قَالَ: وَكَانَ ابْنُ كِلَابٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ يَقُولُ: هِيَ حِكَايَةٌ عَنْ الْأَمْرِ، وَخَالَفَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا حِكَايَةٌ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ، وَلَكِنْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَتَقَرَّرَ مَذْهَبُهُمْ عَلَى هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ مَذْهَبِهِمْ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ أَمْ لَا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ فَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُقَالُ إنَّ لَهُ صِيغَةً، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْكَرْخِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ، عَنْ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ، إلْزَامًا لِذَوِي الْبِدَعِ وَالْفُضُولِ " وَذَكَرَ اثْنَا عَشَرَ إمَامًا وَهُمْ: الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَ فِيهِ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْت الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ يَقُولُ: مَذْهَبِي

ص: 599

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلَ عليه السلام مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ نَحْنُ بِأَلْسِنَتِنَا، وَفِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، وَمَا فِي صُدُورِنَا مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَحْفُوظًا وَمَنْقُوشًا، وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ، كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَصْحَابِ الْكَلَامِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: وَلَمْ يَزَلْ الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةُ يَأْنَفُونَ وَيَسْتَنْكِفُونَ أَنْ يَنْسُبُوا إلَى الْأَشْعَرِيِّ، وَيَتَبَرَّءُونَ مِمَّا بَنَى الْأَشْعَرِيُّ مَذْهَبَهُ عَلَيْهِ، وَيَنْهَوْنَ أَصْحَابَهُمْ وَأَحْبَابَهُمْ عَنْ الْحَوْمِ حَوَالَيْهِ، عَلَى مَا سَمِعْت عِدَّةً مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ الْحَافِظُ الْمُؤْتَمِنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ السَّاجِيُّ، يَقُولُونَ: سَمِعْنَا جَمَاعَةً مِنْ الْمَشَايِخِ الثِّقَاتِ قَالُوا: كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ الْإسْفَرايِينِيّ إمَامُ الْأَئِمَّةِ الَّذِي طَبَّقَ الْأَرْضَ عِلْمًا وَأَصْحَابًا إذَا سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ قَطِيعَةِ الْكَرْخِ إلَى جَامِعِ الْمَنْصُورِ وَيَدْخُلُ الرِّيَاضَ الْمَعْرُوفَ بِالرَّوْزِي الْمُحَاذِي لِلْجَامِعِ وَيُقْبِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَ وَيَقُولُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، لَا كَمَا يَقُولُ الْبَاقِلَّانِيُّ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي جَمَاعَاتٍ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي النَّاسِ، وَفِي أَهْلِ الصَّلَاحِ وَيَشِيعَ الْخَبَرُ فِي الْبِلَادِ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ، يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ، وَبَرِيءٌ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الْغُرَبَاءِ يَدْخُلُونَ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ خُفْيَةً، فَيَقْرَءُونَ عَلَيْهِ فَيُفْتَنُونَ بِمَذْهَبِهِ فَإِذَا رَجَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ أَظْهَرُوا بِدْعَتَهُمْ لَا مَحَالَةَ، فَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهُمْ مِنِّي تَعَلَّمُوهُ، وَأَنَا قُلْته، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ مَذْهَبِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَعَقِيدَتِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَسَمِعْت شَيْخِي الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ الْفَقِيهَ الْأَصْبَهَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت شَيْخَنَا الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ الزَّاذَقَانِيَّ يَقُولُ: كُنْت فِي دَرْسِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ الْكَلَامِ وَعَنْ الدُّخُولِ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ خُفْيَةً لِقِرَاءَةِ الْكَلَامِ، فَظَنَّ أَنِّي مَعَهُمْ وَمِنْهُمْ، وَذَكَرَ قِصَّةً قَالَ فِي آخِرِهَا: إنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، بَلَغَنِي أَنَّك تَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يَعْنِي الْبَاقِلَّانِيَّ فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ فَإِنَّهُ مُبْتَدِعٌ يَدْعُو النَّاسَ إلَى الضَّلَالِ. وَإِلَّا فَلَا تَحْضُرْ

ص: 600

مَجْلِسِي، فَقُلْت: أَنَا عَائِذٌ بِاَللَّهِ مِمَّا قِيلَ، وَتَائِبٌ إلَيْهِ، وَاشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي لَا أَدْخُلُ إلَيْهِ. قَالَ: وَسَمِعْت الْفَقِيهَ الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ سَعْدَ بْنَ عَلِيٍّ الْعِجْلِيّ يَقُولُ: سَمِعْت عِدَّةً مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ بِبَغْدَادَ، أَظُنُّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ أَحَدَهُمْ، قَالُوا: كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ يَخْرُجُ إلَى الْحَمَّامِ مُتَبَرْقِعًا خَوْفًا مِنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ.

قَالَ: وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ كِتَابَةً مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو مَنْصُورٍ الْيَعْقُوبِيُّ عَنْ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ هُوَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ السُّلَمِيُّ، يَقُولُ: وَجَدْت أَبَا حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبَا الطَّيِّبِ الصُّعْلُوكِيَّ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبَا مَنْصُورٍ الْحَاكِمَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ. قَالَ: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ أَبِي رَافِعٍ وَخَلْقًا يَذْكُرُونَ شِدَّةَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: وَمَعْرُوفٌ شِدَّةُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ، حَتَّى مَيَّزَ أُصُولَ فِقْهِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَلَّقَهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الزَّاذَقَانِيُّ، وَهُوَ عِنْدِي، وَبِهِ اقْتَدَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابَيْهِ اللُّمَعُ " وَالتَّبْصِرَةُ " حَتَّى لَوْ وَافَقَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَجْهًا لِأَصْحَابِنَا مُيِّزَ، وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَبِهِ قَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ، وَلَمْ يَعُدَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اسْتَنْكَفُوا مِنْهُمْ وَمِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَضْلًا عَنْ أُصُولِ الدِّينِ. قُلْت: أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَشَيْخُهُ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ وَشَيْخُهُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ هُمْ أَهْلُ الطَّرِيقَةِ الْمَرْوَزِيَّةِ الْخُرَاسَانِيَّةِ، وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَتْبَاعُهُ كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَصَاحِبِهِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَئِمَّةُ الطَّرِيقَةِ الْعِرَاقِيَّةِ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ فِي مَنَاقِبِهِ، وَقَالَ: سَمِعْت خَالِي الْإِمَامَ أَبَا سَعِيدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْقُشَيْرِيَّ يَقُولُ: كَانَ أَئِمَّتُنَا فِي عَصْرِهِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْكَمَالَ وَالْفَضْلَ وَالْخِصَالَ الْحَمِيدَةَ، وَأَنَّهُ

ص: 601

لَوْ جَازَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي عَصْرِهِ لَمَا كَانَ إلَّا هُوَ، مِنْ حُسْنِ طَرِيقَتِهِ، وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَدِيَانَتِهِ، فِي كَمَالِ فَضْلِهِ.

وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَافِرِ أَنَّهُ كَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ، قَالَ: وَلَهُ فِي الْفِقْهِ تَصَانِيفُ كَثِيرَةُ الْفَوَائِدِ، مِثْلُ: التَّبْصِرَةُ وَالتَّذْكِرَةُ " وَمُخْتَصَرُ الْمُخْتَصَرِ " وَلَهُ التَّفْسِيرُ الْكَبِيرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ فِي كُلِّ آيَةٍ.

وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فَهُوَ الشَّافِعِيُّ الثَّالِثُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَلَا بَعْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، حَتَّى ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ إنَّهُ أَنْظَرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَتْ زِيَادَتُهُ لَكِنْ لَوْلَا بَرَاعَةُ أَبِي حَامِدٍ مَا قَالَ فِيهِ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ أَعْرَفَ الْأَصْحَابِ بِمَنَاصِيصِ الشَّافِعِيِّ، وَأَعْظَمَهُمْ بَرَكَةً فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مِنْ كَثَّرَ شَرْحَ الْمُزَنِيّ وَشَحَنَهُ بِالْمُخْتَلِفِ وَالْمُؤْتَلِفِ، وَنَصَرَ فِيهِ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ، وَجَعَلَهُ مَسَاغًا لِاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ.

وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً لَيْسُوا مِنْهُمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لَهُمْ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ، قَالَ: وَكَانَ يَظُنُّ بِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ فِي كِتَابِهِ فِي أَحْوَالِ الْفِقْهِ، وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ: إنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ.

قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا عِنْدَ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْأَشْعَرِيَّةَ وَاعْتَقَدَ تَبْدِيعَهُمْ، وَذَلِكَ أَوْفَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْفَتْوَى وَنُسْخَتَهَا: مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْحِلْيَةِ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَحْسَنَ اللَّهُ تَوْفِيقَهُمْ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْمٍ اجْتَمَعُوا عَلَى لَعْنِ فِرْقَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَتَكْفِيرِهِمْ، مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟ أَفْتُونَا فِي ذَلِكَ مُنَعَّمِينَ مُثَابِينَ.

الْجَوَابُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى لَعْنِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ ابْتَدَعَ وَارْتَكَبَ مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَعَلَى النَّاظِرِ فِي الْأُمُورِ أَعَزَّ اللَّهُ أَنْصَارَهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَتَأْدِيبُهُ بِمَا يَرْتَدِعُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَنْ ارْتِكَابِ مِثْلِهِ.

ص: 602

وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّامَغَانِيُّ: وَبَعْدَهُ الْجَوَابُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ أَعْيَانُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنْصَارُ الشَّرِيعَةِ انْتَصَبُوا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَمَنْ طَعَنَ فِيهِمْ فَقَدْ طَعَنَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِذَا رُفِعَ أَمْرُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَى النَّاظِرِ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَأْدِيبُهُ بِمَا يَرْتَدِعُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ.

وَكَتَبَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَيْرُوزَابَادِيّ بَعْدَهُ: جَوَابِي مِثْلُهُ.

وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّاشِيُّ قَالَ: فَهَذِهِ أَجْوِبَةُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِمْ عُلَمَاءَ الْأَئِمَّةِ، فَأَمَّا قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنَفِيُّ الدَّامَغَانِيُّ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ فِي عَصْرِهِ أَبُو حَنِيفَةَ الثَّانِي، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَدْ طَبَّقَ ذِكْرُ فَضْلِهِ الْآفَاقَ، وَأَمَّا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ فَلَا يَخْفَى مَحَلُّهُ عَلَى مُنْتَهٍ فِي الْعِلْمِ وَلَا نَاشِئٍ.

قُلْت: هَذِهِ الْفُتْيَا كُتِبَتْ هِيَ وَجَوَابُهَا فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ، فَإِنَّ مَلِكَ بَغْدَادَ مَحْمُودَ بْنَ سبكتكين كَانَ قَدْ أَمَرَ فِي مَمْلَكَتِهِ بِلَعْنِ أَهْلِ الْبِدَعِ عَلَى الْمَنَابِرِ فَلُعِنُوا، وَذُكِرَ فِيهِمْ الْأَشْعَرِيَّةَ، وَكَذَلِكَ جَرَى فِي أَوَّلِ مَمْلَكَةِ السَّلَاجِقَةِ التُّرْكِ، وَكَانَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي إدْخَالِهِمْ فِي اللَّعْنَةِ فِيهِمْ مِنْ سَكَّانِ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ طَوَائِفُ، وَجَوَابُ الدَّامَغَانِيِّ جَوَابٌ مُطْلَقٌ فِيهِ رِضَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُ أَجَابَ بِأَنَّهُ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى لَعْنَةِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ ابْتَدَعَ وَفَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ، إذْ الْمُكَفِّرُ لِشَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ لَا يَقُولُ إنَّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُكَفِّرُهُمْ، بَلْ يَقُولُ: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ.

قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ: ذَهَبَ أَئِمَّتُنَا إلَى أَنَّ الْيَدَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْوَجْهَ صِفَاتٌ ثَابِتَةٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى، وَالسَّبِيلُ إلَى إثْبَاتِهَا السَّمْعُ دُونَ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ. قَالَ: وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدَنَا حَمْلُ الْيَدَيْنِ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَحَمْلُ الْعَيْنَيْنِ عَلَى الْبَصَرِ، وَحَمْلُ الْوَجْهِ عَلَى الْوُجُودِ. قُلْت: فَاتَّضَحَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْكَلَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ يَثْبُتُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ خَالَفَ أَئِمَّتَهُ وَوَافَقَ الْمُعْتَزِلَةُ.

قَالَ شَارِحُ كَلَامِهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْأَنْصَارِيِّ: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ

ص: 603

أَنَّ الْيَدَيْنِ صِفَتَانِ ثَابِتَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَنَحْوَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ: وَمَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْهِدَايَةِ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ.

قُلْت: قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ كَالتَّمْهِيدِ وَالْإِبَانَةِ وَغَيْرِهِمَا.

قَالَ: وَفِي كَلَامِ أَبِي إِسْحَاقَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ فِي الْيَدَيْنِ تَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ لَا إلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ يَعْنِي أَبَا إِسْحَاقَ -: أَمَّا الْعَيْنَانِ فَعِبَارَةٌ عَنْ الْبَصَرِ، وَكَانَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الْوَجْهُ وَالْيَدُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقِ إلَيْهِمَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: قَدْ كَانَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ صِفَتَيْنِ: يَقَعُ بِإِحْدَاهُمَا الِاصْطِفَاءُ بِالْخَلْقِ، وَبِالْأُخْرَى الِاخْتِيَارُ بِالتَّقْرِيبِ فِي التَّكْلِيمِ وَالْإِفْهَامِ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ دَلِيلٌ عَلَى تَسْمِيَتِهِ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِبَيَانِهَا، فَثَمَّ الصِّفَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاصْطِفَاءُ بِالْخَلْقِ يَدًا، وَالصِّفَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّقْرِيبُ فِي التَّكَلُّمِ وَجْهًا، وَقَالُوا: لَمَّا صَحَّ فِي الْعَقْلِ التَّفْضِيلُ فِي الْخَلْقِ وَالْفِعْلِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْإِكْرَامُ، وَالتَّقْرِيبُ بِالْإِقْبَالِ وَجَبَ إثْبَاتُ صِفَةٍ لَهُ يَصِحُّ بِهَا مَا قُلْنَاهُ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا مُجَافَاةٍ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِتَسْمِيَةِ إحْدَاهُمَا يَدًا وَالْأُخْرَى وَجْهًا.

وَمَنْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ جَوَازُ وُرُودِ السَّمْعِ، وَأَكْثَرُ مِنْهُ، وَمَا جَهَرَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ فَطَرِيقَةُ الْآحَادِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ وَلَا يَجُوزُ بِمِثْلِهَا إثْبَاتُ صِفَةٍ لِلْقَدِيمِ، وَإِنْ ثَبَتَ مِنْهَا شَيْءٌ بِطَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ كَانَ مُتَأَوِّلًا عَلَى الْفِعْلِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: طَرِيقُ إثْبَاتِهَا السَّمْعُ الْمَحْضُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعُقُولِ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: لَوْ جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ صِفَاتٍ لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى صِفَاتٍ لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى صِفَاتٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَا، وَلَا صَارَتْ مَعْلُومَةً.

وَوَجَبَ عَلَى الْقَائِلِ بِذَلِكَ جَوَازُ وُرُودِ السَّمْعِ بِصِفَاتِ الْإِنْسَانِ أَجْمَعَ لِلَّهِ تَعَالَى، إذَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا شَبِيهَةً بِصِفَتِهِ؛ كَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَاتِهِ وَحَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِكَمَالِهِ عِنْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ أُخْرَى لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهَا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا مُسْتَحِقَّ الْمَدْحِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِاَللَّهِ، يَعْنِي وَبِصِفَاتِهِ أَجْمَعَ، فَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا وَرَدَ مِنْ الشَّرْعِ

ص: 604

ثَبَتَ أَنْ لَا صِفَةَ أَكْثَرُ مِمَّا بَيَّنَ الطَّرِيقَ إلَيْهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ فِيهِ الْكَشْفَ عَنْ الْمَعْنَى.

قُلْت: الْجَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ اللَّهِ، لَكِنْ هَلْ كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ بِالْعَقْلِ، أَوْ مِنْهَا مَا عُلِمَ بِالسَّمْعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ؟ وَمُحَقِّقُو الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَقُولُوا: إنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّا عَلِمْنَا اللَّهَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، أَوْ بِأَنَّهُ لَا صِفَةَ لَهُ وَرَاءَ مَا عَلِمْنَاهُ.

قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: فَمَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةَ وَصَارَ إلَى أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَاتُ الْمَعْقُولِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، قَالُوا: وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْقُدْرَةِ، إذْ جُمْلَةُ الْمُخْتَرَعَاتِ مَخْلُوقَةٌ بِالْقُدْرَةِ فَفِي الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ إبْطَالُ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ.

قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْعُقُولَ قَضَتْ بِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْقُدْرَةِ، أَوْ يَكُونُ الْقَادِرُ قَادِرًا، فَلَا وَجْهَ لِاعْتِقَادِ خَلْقِ آدَمِيٍّ بِغَيْرِ الْقُدْرَةِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ يَدَيْنِ صِفَتَيْنِ وَالْقُدْرَةُ وَاحِدَةٌ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الْقُدْرَةِ.

قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: التَّثْنِيَةُ رَاجِعَةٌ إلَى اللَّفْظِ لَا إلَى الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْقَلَانِسِيِّ، وَعَنْ الْأُسْتَاذِ، عَلَى أَنَّهُ كَمَا يُعَبَّرُ بِالْيَدِ عَنْ الِاقْتِدَارِ، فَكَذَلِكَ يُعَبَّرُ بِالْيَدَيْنِ عَنْ الِاقْتِدَارِ، فَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ:" مَالِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدٌ " يَعْنُونَ: مَالِي بِهِ قُدْرَةٌ، قَالَ عز وجل:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] قَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَالْقَاضِي: الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُدْرَةُ. قُلْت: هَذَا النَّقْلُ فِيهِ نَظَرٌ، فَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ، بَلْ هُوَ نَصٌّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ.

قَالَ: وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ، بِالْأَيْدِي فِي قَوْلِهِ:

ص: 605

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] الْقُدْرَةُ.

قَالَ: وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ شَيْخُنَا وَالْقَاضِي لَيْسَ يُوَصِّلُ إلَى الْقَطْعِ بِإِثْبَاتِ صِفَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ، عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ، وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نُنْكِرْ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ صِفَةً سَمْعِيَّةً لَا يَدُلُّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا سَمْعًا، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَقْطُوعًا بِهِ، وَلَيْسَ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَصْحَابُ قَطْعٌ؛ وَالظَّوَاهِرُ الْمُحْتَمَلَةُ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِ تَقْدِيرِ صِفَةٍ مُجْتَهَدٍ فِيهَا لِلَّهِ عز وجل، لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْقَطْعِ فِيهَا بِعَقْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْيَدَيْنِ - عَلَى مَا قَالَهُ شَيْخُنَا رحمه الله نَظَرٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَلَا إجْمَاعٌ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ تَنْزِيلُ ذَلِكَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.

قَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْيَدَيْنِ حَمْلُهَا عَلَى جَارِحَتَيْنِ فَإِنْ اسْتَحَالَ حَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْقُدْرَةِ أَوْ النِّعْمَةِ أَوْ الْمُلْكِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مَحْصُولَتَانِ عَلَى صِفَتَيْنِ قَدِيمَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى زَائِدَتَيْنِ عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ.

قُلْت: ثُمَّ ذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْ صِحَّةِ أَئِمَّتِهِ بِمَا لَيْسَ، هَذَا مَوْضِعَهُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَنَفْيِهَا، إذْ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى تَغْيِيرِ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ. وَأَبُو الْمَعَالِي اعْتَمَدَ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمْعِ مَا يَقْطَعُ بِثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ، لَا نَصًّ وَلَا إجْمَاعَ وَالثَّانِيَةُ: الْمَنْعُ بِأَنْ يُتَكَلَّمَ فِي الصِّفَاتِ بِغَيْرِ قَطْعٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ: إذَا لَمْ يَقُمْ الْقَاطِعُ بِالثُّبُوتِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِانْتِفَاءِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ مَعْرُوفٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فِي الدُّنْيَا إمَّا بِالْعَقْلِ عَلَى قَوْلِ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَإِمَّا بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خِلَافُ إجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَخِلَافُ قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ، فَإِنَّ الْقَطْعَ بِالنَّفْيِ بِلَا عِلْمٍ يُوجِبُ النَّفْيَ كَالْقَطْعِ بِالْإِثْبَاتِ بِلَا عِلْمٍ، وَالْوَاجِبُ أَنْ تُعْطَى الْأَدِلَّةُ حَقَّهَا، فَمَا كَانَ قَطْعِيًّا قُطِعَ بِهِ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا مُحْتَمِلًا قِيلَ

ص: 606

إنَّهُ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ، وَمَا كَانَ مُجْمَلًا قِيلَ إنَّهُ مُجْمَلٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا أَنَّ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ فَانْفُوهُ، بَلْ قَالُوا امْسِكُوا عَنْ التَّكَلُّمِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ مَا وَرَدَ، وَفَرْقٌ بَيْنَ السُّكُوتِ عَمَّا لَمْ يَرِدْ وَبَيْنَ النَّفْيِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ النَّفْيُ لِمَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي الْوَارِدِ؟ ، وَأَبُو الْمَعَالِي يَتَكَلَّمُ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ بَارِعًا فِي فَنِّ الْكَلَامِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ أَصْحَابُهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ هُمْ الْأَصْلَ فِيهِ لِكَثْرَةِ مُطَالَعَتِهِ لِكُتُبِ أَبِي هَاشِمٍ الْجُبَّائِيُّ، فَأَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَقَوْلُ أَئِمَّتِهَا فَكَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا جِدًّا، وَكَلَامُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَجِدُهُ فِي عَامَّةِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ إذَا اعْتَمَدَ عَلَى قَاطِعٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ قِيَاسٍ عَقْلِيٍّ أَوْ إجْمَاعٍ سَمْعِيٍّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ، فَأَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فَهُوَ قَلِيلُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَالْخِبْرَةِ بِهَا، وَاعْتَبِرْهُ بِمَا ذُكِرَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْآجُرِّيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي أَبْوَابِ السُّنَّةِ، وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَقَدْ رَدُّوا عَلَيْهِمْ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ.

فَإِنَّهُ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ نَابَذُوا الْمُعْتَزِلَةَ وَخَالَفُوهُمْ، وَاتَّبَعُوا السَّمْعَ وَالشَّرْعَ وَأَثْبَتُوا الرُّؤْيَةَ وَالنَّظَرَ، وَأَثْبَتُوا الصِّرَاطَ وَالْمِيزَانَ، وَعَذَابَ الْقَبْرِ، وَمَسْأَلَةَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَالْمِعْرَاجَ وَالْحَوْضَ، وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى إنْكَارِ مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَالْمُسْتَفِيضِ مِنْ الْآثَارِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالْعَقَائِدِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ وَالْإِيجَابِ، وَالْحَذَرَ لَا يُدْرَكُ عَقْلًا، وَالْمَرْجِعُ فِي جَمِيعِهَا إلَى مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَقَضَايَا السَّمْعِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارٌ مُتَشَابِهَةٌ وَأَلْفَاظٌ مُشْكِلَةٌ لَمْ يَسْتَبْعِدُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَخْبَارِ: الْبَيِّنُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْمُجْمَلُ، وَالْمُشْكِلُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ أَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهَا، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِهَا.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَأَحْبَارَ الْأُمَّةِ بَعْدَ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُمْ، لَمْ يُودِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ كِتَابَهُ الْأَخْبَارَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَمْ يُورِدْ مَالِكٌ رضي الله عنه فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَوْرَدَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَمْثَالُهُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ، وَلَمْ يُفْتُوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ.

ص: 607

وَنَبَغَتْ نَاشِئَةٌ ضَرُّوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ وَتَدْوِينِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَبْوِيبِ أَبْوَابٍ وَرَسْمِ تَرَاجِمَ عَلَى تَرْتِيبِ فِطْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَرَسَمُوا بَابًا فِي ضَحِكِ الْبَارِي، وَبَابًا فِي نُزُولِهِ وَانْتِقَالِهِ وَعُرُوجِهِ وَدُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْأَضْرَاسِ، وَبَابًا فِي خَلْقِ اللَّهِ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْقَدَمِ وَالشَّعْرِ الْقَطَطِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الزَّائِغِينَ.

قَالَ: وَلَيْسَ يَعْتَمِدُ جَمْعَ هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَتَمْهِيدَ هَذِهِ الْأَنْسَابِ إلَّا مُشَبِّهٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، أَوْ مُتَلَاعِبٌ زِنْدِيقٌ.

قَالَ الْمُعَظَّمُ لِأَبِي الْمَعَالِي النَّاقِلُ لِكَلَامِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ: فِي قَوْلِ أَبِي الْمَعَالِي هَذَا بَعْضُ التَّحَامُلِ.

وَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعْنَى شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَإِنَّهُ ذَكَرَ الصِّفَاتِ فِي آخِرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَثَبَتَ نَقْلُهُ وَمَوْرِدُهُ، وَأَضْرَبْنَا عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا، فَلْيُوقَفْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْهَا لِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ لَهَا، وَحَدِيثُ النُّزُولِ ثَابِتٌ فِي الْأُمَّهَاتِ أَخْرَجَهُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ. قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ مَا يَجِبُ رَدُّهُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ عَمَّنْ سَمَّاهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ دَائِمًا يَقُولُ: قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا يَعْنِي أَصْحَابَهُ، وَهَذِهِ دَعْوَى يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ مِثْلَهَا، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ الَّذِينَ لَا رَيْبَ فِيهِمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَأَمَّا أَنْ يُفْرِدَ الْإِنْسَانُ طَائِفَةً مُنْتَسِبَةً إلَى مَتْبُوعٍ مِنْ الْأُمَّةِ وَيُسَمِّيَهَا أَهْلَ الْحَقِّ، وَيُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَهَا فِي شَيْءٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، فَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ.

وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَصِفُونَ طَائِفَةً بِأَنَّهَا صَاحِبَةَ الْحَقِّ مُطْلَقًا إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 3] . وَهَذَا نِهَايَةُ الْحَقِّ، وَالْكَلَامُ الَّذِي لَا رَيْبَ أَنَّهُ حَقٌّ قَوْلُ اللَّهِ وَقَوْلُ رَسُولِهِ الَّذِي هُوَ

ص: 608

حَقٌّ وَآتٍ بِالْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: 4]، وَقَالَ تَعَالَى:{قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام: 73] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اُكْتُبْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمَا إلَّا حَقًّا» . فَأَهْلُ الْحَقِّ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ، فَلَيْسَ الْحَقُّ لَازِمًا لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ دَائِرًا مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، لَا يُفَارِقُهُ قَطُّ إلَّا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم إذْ لَا مَعْصُومَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ غَيْرُهُ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.

وَلَيْسَ الْحَقُّ أَيْضًا لَازِمًا لِطَائِفَةٍ دُونَ غَيْرِهَا إلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْحَقَّ يَلْزَمُهُمْ إذْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ مَعَ الشَّخْصِ أَوْ الطَّائِفَةِ فِي أَمْرٍ دُونَ الْأَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُخْتَلِفَانِ كِلَاهُمَا عَلَى بَاطِلٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ طَائِفَةً مَنْسُوبَةً إلَى اتِّبَاعِ شَخْصٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ، إذْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ مَتْبُوعُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ إجْمَاعُ هَؤُلَاءِ حُجَّةً إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْحَقِّ.

ثُمَّ هُوَ يَذْكُرُ أَئِمَّتَهُ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ، ثُمَّ هُوَ يُخَالِفُهُمْ كَمَا صَنَعَ فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ فِيهَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْهُ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يُخَالِفُوا مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِبَعْضِ أَئِمَّةِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْمَعْصُومِ، رَأَيْت لَهُ فَتَاوَى يَدَّعِي فِيهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُحِقَّةَ هُمْ أَتْبَاعُ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ، وَيَحْتَجُّ بِإِجْمَاعِ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ أَحْمَدُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ بِخَبَرٍ وَلَا وَقَعَ لَهُ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ، حَتَّى أَنَّهُ قَالَ: إذَا تَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ دُونَ الْآخَرِ، فَالْقَوْلُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ فِي أَهْلِهِ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ.

ثُمَّ رَأَيْته يُخَالِفُ أَصْحَابَهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ، فَأَيْنَ مُخَالَفَتُهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَى أَنَّهُمْ الطَّائِفَةُ الْمُحِقَّةُ، الَّذِينَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى بَاطِلٍ؟ وَكَذَلِكَ دَعَاوَى كَثِيرٍ مِنْ

ص: 609

أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالضَّلَالِ أَنَّهُمْ الْمُحِقُّونَ، أَوْ أَنَّهُمْ أَهْلُ اللَّهِ أَوْ أَهْلُ التَّحْقِيقِ أَوْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ حَتَّى تُوقَفَ هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيَكُونُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ أَقْرَبَ، وَإِلَى الْإِبْطَالِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ إلَى التَّحْقِيقِ بِكَثِيرٍ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَوْلِهِ:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] . وقَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] .

الثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا السَّمْعَ وَالشَّرْعَ، وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ فِي أَحْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا صَارُوا أَهْلَ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لِلَّهِ صِفَةً بِالسَّمْعِ، بَلْ إنَّمَا تَثْبُتُ صِفَاتُهُ بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، وَأَنَّ الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ بِالْعَقْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ بِالسَّمْعِ، وَرَدَّ هُوَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَأَيُّ اتِّبَاعٍ لِلسَّمْعِ وَالشَّرْعِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ بِالشَّرْعِ؟ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَنَفَوْهُ مِنْ الصِّفَاتِ، فَأَئِمَّتُهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ، أَوْ بِالسَّمْعِ وَيَجْعَلُونَ الْعَقْلَ مُؤَكِّدًا فِي الْفَهْمِ فِي ذَلِكَ، فَأَيْنَ اتِّبَاعُهُمْ لِلسَّمْعِ وَالشَّرْعِ وَقَدْ عَزَلُوهُ عَنْ الْحُكْمِ بِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ.

وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ: يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى إنْكَارِ مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَالْمُسْتَفِيضِ مِنْ الْآثَارِ، فَيُقَالُ لَهُ: إذَا لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهَا ثُبُوتُ مَعْنَاهَا فَأَيُّ إنْكَارٍ لَهَا أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ قَدْ ذَكَرْت إعْرَاضَهُمْ عَنْهَا وَقُلْت فِيهَا مِنْ الْفِرْيَةِ مَا سَنَذْكُرُ بَعْضَهُ، فَهَلْ الْإِنْكَارُ لِمَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَمُسْتَفِيضِهَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْكَلَامِ.

الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا يُثْبِتُونَهُ عَلَى

ص: 610

وَجْهِ الْجُمْلَةِ إثْبَاتًا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ آحَادُ الْعَوَامّ وَلَا يَعْلَمُونَ مِنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ مَا يُجَابُ بِهِ أَدْنَى السَّائِلِينَ وَلَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ عِلْمًا بِهَا أَوْ تَجِدُهُمْ مُرْتَابِينَ فِيهَا أَوْ مُكَذِّبِينَ فَأَيُّ تَعْظِيمٍ بِمِثْلِ هَذَا، وَأَيُّ مَزِيَّةٍ بِهَذَا عَلَى أَوْسَاطِ الْعَوَامّ أَوْ أَدْنَاهُمْ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْمِنُ بِتَفَاصِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَعْلَمُ مِنْهَا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ مَا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي أُصُولِ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا الْفَضِيلَةُ عَلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ أَوْ الطَّائِفَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يُوجَدُ عِنْدَ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ ذَلِكَ.

الْخَامِسُ: الْحُجَّةُ أَنَّهُمْ نَفَوْا التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّ وَجَعَلُوا أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِذَلِكَ تَعْظِيمَهُمْ لِلشَّرْعِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُ.

وَأَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ تَسَنُّنُهُمْ، وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنُ فِعْلٍ وَلَا قُبْحُهُ، بَلْ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ حَادِثٌ فِي حُدُوثِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ مِنْهَا فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا وَهِيَ مُتَنَازِعَةٌ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ تُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَصْلَ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيَّنَّا مَا مَعَ هَؤُلَاءِ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ وَمَا مَعَ هَؤُلَاءِ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ، ثُمَّ يُقَالُ: وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَيْسَ لَك وَلَا لِأَصْحَابِك فِيهَا حُجَّةٌ نَافِيَةٌ، بَلْ عُمْدَتُك وَعُمْدَةُ الْقَاضِي وَنَحْوِكُمَا عَلَى مُطَالَبَةِ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ وَالْقَدْحُ فِيمَا بِيَدَيْهِ، وَالْقَدْحُ فِي دَلِيلِ الْمُنَازِعِ إنْ صَحَّ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِانْتِفَاءِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلٌ وَعُمْدَةُ إمَام الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ الْخَطِيبِ الِاسْتِدْلَال عَلَى ذَلِكَ بِالْجَبْرِ وَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْحُجَجِ، فَإِنَّ الْجَبْرَ سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا كَمَا لَا يُبْطِلَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ أَحْكَامٍ مَعْلُومَةٍ بِالْعَقْلِ كَمَا لَا يَنْفِي الْأَحْكَامَ الَّتِي يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ.

وَعُمْدَةُ الْآمِدِيِّ بَعْدَهُ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِالْعَرَضِ، وَهَذَا مِنْ الْمَغَالِيطِ الَّتِي لَا يَسْتَدِلُّ بِهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُغَالِطٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا يُقَالُ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الْأَعْرَاضِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا قَائِمًا بِمَحَلِّ الْعَرْضِ وَنَفْيِ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ مِمَّا عَدَّهُ مِنْ بِدَعِ الْأَشْعَرِيِّ الَّتِي أَحْدَثَهَا فِي الْإِسْلَامِ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ كَأَبِي نَصْرٍ السِّجْزِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ سَعْدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيِّ، دَعْ مَنْ سِوَاهُمْ.

ص: 611

السَّادِسُ: تَسْمِيَتُهُ الْأَخْبَارَ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ أَخْبَارًا مُتَشَابِهَةً كَمَا يُسَمُّونَ آيَاتِ الصِّفَاتِ مُتَشَابِهَةً وَهَذَا كَمَا يُسَمِّي الْمُعْتَزِلَةُ الْأَخْبَارَ الْمُثْبِتَةَ لِلْقَدَرِ مُتَشَابِهَةً.

وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَ مَا وَافَقَ آرَاءَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُحْكَمًا وَمَا خَالَفَ آرَاءَهُمْ مُتَشَابِهًا، وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] .

السَّابِعُ: قِيَاسُهُ لَمَّا سَمَّاهُ الْمُتَشَابِهَ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى الْمُتَشَابِهِ فِي آيِ الْكِتَابِ لِيُلْحِقَهُ بِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِهِ وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمِ التَّشَاغُلِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَعْرَضُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِذِكْرِ أَسْمَاء اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَمَا مِنْهَا آيَةٌ إلَّا وَقَدْ رَوَى الصَّحَابَةُ فِيمَا يُوَافِقُ مَعْنَاهَا وَيُفَسِّرُوهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى مَزِيدٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] . فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ حَرَّفَ فَقَالَ: قَبَضْته قُدْرَتُهُ، وَبِيَمِينِهِ بِقُوَّتِهِ أَوْ بِقَسَمِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي رَوَاهَا خِيَارُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاؤُهُمْ، وَخِيَارُ التَّابِعِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ بِمَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَيُفَصِّلُ الْمَعْنَى كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرِ

ص: 612

ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ.

الثَّامِنُ: قَوْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَأَخْيَارَ الْأُمَّةِ بَعْدَ صَحْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُودِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ كِتَابَهُ الْأَخْبَارَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَمْ يُورِدْ مَالِكٌ رضي الله عنه فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا كَمَا أَوْرَدَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَمْثَالُهُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ، وَلَمْ يَعْتَنُوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَمَا نَقَلُوهُ وَصَنَّفُوهُ، وَقَوْلُهُ: رَجْمٌ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ فَإِنَّ نَقْلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِمَّا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى نَصِيبٌ مِنْ مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ أُخِذَتْ، وَهُمْ الَّذِينَ أَدَّوْهَا إلَى الْأُمَّةِ، وَالْكَذِبُ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ، لَكِنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ وَلَكِنَّهُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ هَؤُلَاءِ وَظَنَّ أَنَّ نَقْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْجَاهِلُ الَّذِينَ يُسَمِّيهِمْ الْمُشَبِّهَةَ أَوْ الزَّنَادِقَةَ وَهَؤُلَاءِ بُرَآءُ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكَّبَ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْحَقِّ وَمِنْ هَذَا الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْفِرْيَةِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى الرِّجَالِ.

التَّاسِعُ: قَوْلُهُ لَمْ يُورِدْ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَدْ ذَكَرَ أَحَادِيثَ النُّزُولِ وَأَحَادِيثَ الضَّحِكِ فِيمَا أَنْكَرَهُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَدِيثَ النُّزُولِ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ رَوَاهُ عَنْ أَجَلِّ شُيُوخِهِ ابْنِ شِهَابٍ عَمَّنْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ شُيُوخِهِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَعَزِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِبْ لَهُ، مَنْ يَسْأَلْنِي فَأُعْطِيهِ، مَنْ يَسْتَغْفِرْنِي فَأَغْفِرْ لَهُ» وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَأَحَادِيثُ النُّزُولِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَوَاهَا أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنْ الصَّحَابَةِ بِمَحْضَرِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَالْمُسْتَمِعُ لَهَا مِنْهُمْ يُصَدِّقُ الْمُحَدِّثَ بِهَا وَيُقِرُّهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَرَوَاهُ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَعَامَّةُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ، رَوَوْا ذَلِكَ وَأَوْدَعُوهُ كُتُبَهُمْ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ. قَالَ شَارِحُ الْمُوَطَّإِ الشَّرْحُ الَّذِي لَمْ يَشْرَحْ أَحَدٌ مِثْلَهُ، الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

ص: 613

هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ، فَمِنْ جِهَةِ النَّقْلِ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ. قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ مَنْقُولٌ مِنْ طُرُقٍ سِوَى هَذِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْعُدُولِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَان وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الضَّحِكِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ وَقَدْ رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا حَدِيثَهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَضْحَكُ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَسْتَشْهِدُ» وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْإِمَامُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَحَدَّثَ بِهِ.

وَقَدْ رَوَى صَاحِبُ الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا قِطْعَةً مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الطَّوِيلِ الْمَشْهُورَ وَفِيهِ: «فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَإِذَا ضَحِكَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ» وَرَوَاهُ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرُ سَعِيدٍ أَيْضًا، وَرَوَاهُ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَعَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ:«فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْك، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، وَفِيهِ أَلْفَاظٌ عَظِيمَةٌ أَبْلَغُ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ:«فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ» ، وَقَوْلُهُ فِيهِ:«فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ» وَقَوْلُهُ: «فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ يُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتَحَشُوا» .

ص: 614

وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» وَقَدْ أَخَرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ وَطَرِيقِ غَيْرِهِ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرَضِينَ وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ» رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مَالِكٍ.

وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ «عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18] الْآيَةُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ» .

وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ إسْنَادَهُ مُنْقَطِعٌ وَإِنَّ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مَعَ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ:«ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً. . . ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً» .

وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْآجُرِّيَّ يَرْوِي فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالطَّبِيعِيَّ

ص: 615

وَاللَّيْثِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَوْ تَأَمَّلَ أَبُو الْمَعَالِي وَذَوِيهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ لَوَجَدُوا فِيهِ مَا يَخْصِمُهُمْ، وَلَكِنْ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ فِي فَنِّهِ كَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُطَالِعْ عِلَّاتِهَا بِحَالٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِالصَّحِيحَيْنِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَأَمْثَال هَذِهِ السُّنَنِ عِلْمٌ أَصْلًا فَكَيْفَ بِالْمُوَطَّإِ وَنَحْوه وَكَانَ مَعَ حِرْصه عَلَى الِاحْتِجَاج فِي مَسَائِل الْخِلَاف فِي الْفِقْهِ إنَّمَا عُمْدَتُهُ سُنَنُ أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبُو الْحَسَنِ مَعَ إتْمَامِ إمَامَتِهِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ إنَّمَا صَنَّفَ هَذِهِ السُّنَنَ كَيْ يَذْكُرَ فِيهَا الْأَحَادِيثَ الْمُسْتَغْرَبَةَ فِي الْفِقْهِ وَيَجْمَعَ طُرُقَهَا، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى مِثْلِهِ، فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَكَانَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا فِي ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ الِاكْتِفَاءِ بِكِتَابِهِ فِي هَذَا الْبَابِ يُورِثُ جَهْلًا عَظِيمًا بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَنَّ كِتَابَ أَبِي الْمَعَالِي، الَّذِي هُوَ نُخْبَةُ عُمْرِهِ نِهَايَةُ الْمَطْلَبِ فِي دِرَايَةِ الْمَذْهَبِ " لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَعْزُوٌّ إلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي الْبَسْمَلَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ.

وَلِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَعِلْمِ أَمْثَالِهِ بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ اتَّفَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِذَا لَمْ يُسَوِّغْ أَصْحَابُهُ أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا؟ وَإِذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ إمَامًا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَكَيْفَ يُتَّخَذُ إمَامًا فِي أُصُولِ الدِّينِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ إنَّمَا نِيلَ قَدْرُهُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بِتَبَحُّرِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، لِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مُؤَسَّسٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ غَايَتُهُ فِيهِ أَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ نَقْلٌ جَمَعَهُ أَوْ بَحْثٌ تَفَطَّنَ لَهُ فَلَا يُجْعَلُ إمَامًا فِيهِ كَالْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ وُجُوهٌ، فَكَيْفَ بِالْكَلَامِ الَّذِي نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ ذَنْبٌ أَعْظَمُ مِنْهُ؟ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا جَعَلَهُ أَصْلَ دِينِهِ فِي الْإِرْشَادِ وَالشَّامِلِ وَغَيْرِهِمَا هُوَ بِعَيْنِهِ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي نَصَّتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ، وَلِهَذَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ طَاهِرٍ أَنَّهُ قَالَ وَقْتَ الْمَوْتِ: لَقَدْ خُضْتُ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ، وَالْآنَ إنْ لَمْ يُدْرِكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الْجُوَيْنِيِّ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي أَوْ عَقَائِدِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ.

ص: 616

قَالَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرُّسْتُمِيُّ: حَكَى لَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ الْفَقِيهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى الْإِمَامِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ نَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِنَيْسَابُورَ، فَأُقْعِدَ، فَقَالَ لَنَا: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي رَجَعْت عَنْ كُلِّ مَقَالَةٍ قُلْتهَا أُخَالِفُ فِيهَا مَا قَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عليهم السلام، وَأَنِّي أَمُوتُ عَلَى مَا يَمُوتُ عَلَيْهِ عَجَائِزُ نَيْسَابُورَ.

وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ سَلَكُوا خَلْفَهُ مِنْ تَلَامِذَتِهِ وَتَلَامِذَةِ تَلَامِذَتِهِ وَتَلَامِذَةِ تَلَامِذَةِ تَلَامِذَتِهِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

وَلِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَظُنُّ أَنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ حُكْمُهَا بِالْقِيَاسِ، كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِالنُّصُوصِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَأَمْثَالِهِ: إنَّ النُّصُوصَ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ، أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا قَدْ يُسَمَّى قِيَاسًا جَلِيًّا، وَقَدْ يُجْعَلُ مِنْ دَلَالَةِ مِثْلِ فَحْوَى الْخِطَابِ وَالْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِثْلِ الْجُمُودِ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ الضَّعِيفِ، وَمِثْلِ الْإِعْرَاضِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَئِمَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَا هُوَ مَعِيبٌ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْقَدْحُ فِي أَعْرَاضِ الْأَئِمَّةِ، لَكِنْ الْغَرَضُ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فِي اسْتِيعَابِ النُّصُوصِ لِلْحَوَادِثِ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ دِينَهُمْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنْ لِلنَّاسِ حُكْمَ أَكْثَرِ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ، بَلْ وَكَّلَهُمْ فِيهَا إلَى الظُّنُونِ الْمُتَقَابِلَةِ وَالْآرَاءِ الْمُتَعَارِضَةِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ ضَعْفُ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لِأَبِي الْمَعَالِي وَأَمْثَالِهِ بِذَلِكَ عِلْمٌ رَاسِخٌ، وَكَانُوا قَدْ عَضُّوا عَلَيْهِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ لَكَانُوا مُلْحَقِينَ بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِأَسْبَابِ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنْ اتَّبَعَ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ وَالرَّأْيِ الضَّعِيفِ لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ، الَّذِي يَنْقُضُ صَاحِبَهُ إلَى حَيْثُ جَعَلَهُ اللَّهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي تِلْكَ الطَّرِيقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، فَلَيْسَ الْفَضْلُ بِكَثْرَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنْ بِالْهُدَى وَالسَّدَادِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ:«مَا ازْدَادَ مُبْتَدِعٌ اجْتِهَادًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا» وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَوَارِجِ: يَحْقِرُ

ص: 617

أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» .

وَيُوجَدُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِكَثِيرٍ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ مَا لَا يُوجَدُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، لَكِنْ إنَّمَا يُرَادُ الْحَسَنُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فَقَدْ رَوَى الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِ كِتَابِهِ مِثْلَ حَدِيثِ النُّزُولِ، وَحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ الَّذِي فِيهِ «قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْجَارِيَةِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، بَلْ رَوَى فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ الَّذِي اخْتَصَرَ مِنْهُ مُسْنَدَهُ مِنْ الْحَدِيثِ مَا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَرَوَاهُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَزْهَرِ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «أَتَى جِبْرِيلُ بِمِرْآةٍ بَيْضَاءَ فِيهَا نُكْتَةٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ فُضِّلْت بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُك، فَالنَّاسُ لَكُمْ فِيهَا تَبَعٌ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَلَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ وَفِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ، وَهُوَ عِنْدَنَا يَوْمُ الْمَزِيدِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا جِبْرِيلُ وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدِ؟ قَالَ: إنَّ رَبَّك اتَّخَذَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَادِيًا أَفْيَحَ فِيهِ كُثُبُ مِسْكٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل مَا شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ عَلَيْهَا مَقَاعِدُ لِلنَّبِيِّينَ وَحُفَّتْ تِلْكَ الْمَنَابِرُ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ

ص: 618

بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ عَلَيْهَا الشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَيَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْكُثُبِ فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل لَهُمْ أَنَا رَبُّكُمْ قَدْ صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي فَاسْأَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا نَسْأَلُك رِضْوَانَك، فَيَقُولُ: قَدْ رَضِيت عَنْكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَدَيَّ مَزِيدٌ، فَهُمْ يُحِبُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ مِنْ خَيْرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَوَى رَبُّكُمْ عَلَى الْعَرْشِ فِيهِ، وَفِيهِ خُلِقَ آدَم، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ» .

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَنَحْوُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَلَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، بَلْ هَؤُلَاءِ مَدَارُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ جِهَتِهِمْ أُخِذَتْ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الَّذِي قَالَ إنَّ مَالِكًا احْتَذَى مُوَطَّأَهُ عَلَى كِتَابِهِ هُوَ قَدْ جَمَعَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ لَمَّا أَظْهَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنْكَارَهَا حَتَّى إنَّ حَدِيثَ خَلْقِ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ أَوْ صُورَةِ الرَّحْمَنِ قَدْ رَوَاهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، وَلَفْظُهُ:«خُلِقَ آدَم عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» مَعَ أَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَاهُ مُسْنَدًا.

فَإِذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يَرْوُونَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالَهُ مُرْسَلًا فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُمْ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ عَنْ رِوَايَتِهَا، وَالْحَدِيثُ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: سَأَلْت مَالِكًا عَنْ مَنْ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ، وَالْحَدِيثَ «إنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «وَأَنَّهُ يُدْخِلُ فِي النَّارِ يَدَهُ حَتَّى يُخْرِجَ مَنْ أَرَادَ» ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَنَهَى أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ أَحَدٌ. قُلْت: هَذَانِ الْحَدِيثَانِ كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يُحَدِّثُ بِهِمَا، فَالْأَوَّلُ حَدِيثُ الصُّورَةِ حَدَّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، وَالثَّانِي هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الطَّوِيلِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَالْأَوَّلُ قَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ

، وَابْنُ الْقَاسِمِ إنَّمَا سَأَلَ مَالِكًا لِأَجْلِ تَحْدِيثِ اللَّيْثِ بِذَلِكَ، فَيُقَالُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ مُخَالِفًا لِمَا فَعَلَهُ اللَّيْثُ وَنَحْوُهُ أَوْ لَيْسَ

ص: 619

بِمُخَالِفٍ بَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ أَنْ يَفْتِنَهُ ذَلِكَ وَلَا يَحْمِلَهُ عَقْلُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَتْرُكُ رِوَايَةَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ لِكَوْنِهِ لَا يَأْخُذُ بِهَا وَلَمْ يَتْرُكْهَا غَيْرُهُ فَلَهُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبٌ، فَغَايَةُ مَا يُعْتَذَرُ لِمَالِكٍ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ كَرِهَ التَّحَدُّثَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا فَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ قَالَهُ فَقَدْ حَدَّثَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثَ مَنْ هُمْ أَجَلُّ مِنْ مَالِكٍ عِنْدَ نَفْسِهِ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَدْ حَدَّثَ بِهَا نُظَرَاؤُهُ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالثَّوْرِيُّ أَعْلَمُ مِنْ مَالِكٍ بِالْحَدِيثِ وَأَحْفَظُهُ لَهُ، وَهُوَ أَقَلُّ غَلَطًا فِيهِ مِنْ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يُنَقِّي مَنْ يُحَدِّثُ عَنْهُ، وَأَمَّا اللَّيْثُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ: كَانَ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ ضَيَّعُوهُ.

فَفِي الْجُمْلَةِ: هَذَا كَلَامٌ فِي حَدِيثٍ مَخْصُوصٍ، أَمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَئِمَّةَ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُطْلَقًا فَهَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.

الْعَاشِرُ: إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَانُوا كُلُّهُمْ مُثْبِتِينَ لِمُوجِبِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ مُطْبِقِينَ عَلَى ذَمِّ الْكَلَامِ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي أُصُولَ دِينِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَهُوَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِقِيَامِ الْأَعْرَاضِ بِهَا حَتَّى إنَّ شَيْخَهُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ ذَكَرَ اتِّفَاقَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَهُمْ وَسَلَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي ذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهَا أَصْلُ الْإِيمَانِ وَبِهَا وَبِنَحْوِهَا عَارَضَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، وَقَدْ كَتَبْنَا كَلَامَ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ تَلْبِيسُ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ ". لَمَّا اسْتَدَلَّ الرَّازِيّ بِالْحَرَكَةِ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ فِي إثْبَاتِ حُجَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ عِلْمُهُ بِحَالِهِمْ كَعِلْمِهِ بِمَذْهَبِهِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ إمْرَارُ حُرُوفِهَا مَعَ نَفْيِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ، فَهَذَا الضَّلَالُ فِي مَعْرِفَةِ رَأْيِهِمْ، كَذَلِكَ الضَّلَالُ فِي مَعْرِفَةِ رِوَايَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي شَيْئَيْنِ: فِي الْكَلَامِ الَّذِي كَانَ يَنْتَحِلُهُ، وَفِي النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ عَنْ الرَّسُولِ فَقَدْ حَرَّفُوا مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ كَمَا حَرَّفُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

الْحَادِي عَشَرَ: إنَّ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ جَمْعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَتَبْوِيبَهَا مَا أَحْدَثَتْ

ص: 620

الْجَهْمِيَّةُ مِنْ التَّكْذِيبِ بِمُوجِبِهَا وَتَعْطِيلِ صِفَاتِ الرَّبِّ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِتَعْطِيلِ ذَاتِهِ وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَا صَنَّفُوهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ وَبَوَّبُوهُ أَبْوَابًا مُبْتَدَعَةً يَرُدُّونَ بِهَا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَيُخَالِفُونَ بِهَا صَرَائِحَ الْمَعْقُولِ وَصَحَائِحَ الْمَنْقُولِ.

وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى تَبْلِيغَ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَمَرَ بِبَيَانِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْمُخَاطَبَةِ تَارَةً وَبِالْمُكَاتَبَةِ أُخْرَى، لِمَاذَا كَانَ الْمُبْتَدِعُونَ قَدْ وَضَعُوا الْإِلْحَادَ فِي كُتُبٍ فَإِنْ لَمْ يُكْتَبْ الْعِلْمُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُتُبٍ لَمْ يَظْهَرْ إلْحَادُ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْصُلْ تَمَامُ الْبَيَانِ وَالتَّبْلِيغِ وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الْمُخَالِفِ لِأَقْوَالِ الْمُلْحِدِينَ الْمُحَرِّفِينَ وَكَانَ جَمْعُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ أَهَمَّ مِنْ جَمْعِ غَيْرِهِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: إنَّ أَبَا الْمَعَالِي وَأَمْثَالَهُ يَضَعُونَ كُتُبَ الْكَلَامِ الَّذِي تَلَقَّوْا أُصُولَهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَيُبَوِّبُونَ أَبْوَابًا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُصَنِّفُ وَيُؤَلِّفُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ؟ وَالْأُصُولُ الَّتِي يُقَرِّرُهَا هِيَ أُصُولُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي أَتْبَاعِهِ كَالْمُدَّعِي الْمَغْرِبِيِّ فِي مُرْشِدَتِهِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ يَقُولُونَ بِقَوْلِ جَهْمٍ أَيْ يَمِيلُونَ إلَى الْجَبْرِ، وَفِي الْإِرْجَاءِ بِقَوْلِ جَهْمٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَهُمْ يُخَالِفُونَ جَهْمًا وَالْمُعْتَزِلَةَ، فَهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ جَهْمٌ وَالْمُعْتَزِلَةُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَقِدُوهُ، وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إثْبَاتُ صِفَاتٍ بِلَا ذَاتٍ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ وَيَقْصِدُوهُ، وَلِهَذَا هُمْ مُتَنَاقِضُونَ لَكِنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا إذَا حُقِّقَ قَوْلُهُمْ لِأَهْلِ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ فَيَكُونُ اللَّهُ شَبَحًا وَشَبَحُهُ خَيَالُ الْجِسْمِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْ ظِلِّهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَذَلِكَ هُوَ عَرَضٌ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ الرَّبَّ بِهَذِهِ الْأُسْلُوبِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَنَحْوِهِ، فَلَا يَكُونُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا بَلْ يَكُونُ كَالْخَيَالِ الَّذِي يَشْبَحُهُ الذِّهْنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيَالُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ الرَّبَّ بِنَفْيِ

ص: 621

الْجِسْمِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذَا النَّفْيِ إذَا نَفَوْا الْجِسْمَ وَمَلَازِيمَهُ، وَقَالُوا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ فَيَعْلَمُ أَهْلُ الْعُقُولِ أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا، بَلْ يُقَالُ هَذَا الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ شَبَحٌ أَيْ خَيَالٌ كَالْخَيَالِ الَّذِي هُوَ ظِلُّ الْأَشْخَاصِ، وَكَالْخِيَالِ الَّذِي فِي الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ.

ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْخَيَالَ وَالْمِثَالَ وَالشَّبَحَ يَسْتَلْزِمُ حَقِيقَةً مَوْجُودَةً قَائِمَةً بِالنَّفْسِ فَإِنَّ خَيَالَ الشَّخْصِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ مُدَبِّرٍ خَالِقٍ لِلْعَالَمِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، وَيَصِفُونَهُ مِنْ السَّلْبِ بِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ خَيَالًا فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِهِ وَلِعَدَمِهِ مَعًا فَإِذَا تَكَلَّمُوا بِالسَّلْبِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْخَيَالُ، وَيَصِفُونَ ذَلِكَ الْخَيَالَ بِالثُّبُوتِ فَيَكُونُ الْخَيَالُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْمَوْجُودِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ.

الثَّالِثَ عَشَرَ: إنَّ مَعْرِفَةَ أَبِي الْمَعَالِي وَذَوِيهِ بِحَالِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى إمَامَتِهِمْ لَا يَكُونُ أَعْظَمَ عَنْ مَعْرِفَتِهِمْ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، بِنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ رَأَيْت أَبَا الْمَعَالِي فِي ضِمْنِ كَلَامِهِ يَذْكُرُ مَا ظَاهِرُهُ الِاعْتِذَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَبَاطِنُهُ جَهْلٌ بِحَالِهِمْ مُسْتَلْزِمٌ إذَا اطَّرَدَ الزَّنْدَقَةَ وَالنِّفَاقَ، فَإِنَّهُ أَخَذَ يَعْتَذِرُ عَنْ كَوْنِ الصَّحَابَةِ لَمْ يُمَهِّدُوا أُصُولَ الدِّينِ وَلَمْ يُقَرِّرُوا قَوَاعِدَهُ فَقَالَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالْجِهَادِ وَالْقِتَالِ عَنْ ذَلِكَ.

هَذَا مِمَّا فِي كَلَامِهِ، وَهَذَا إنَّمَا قَالُوهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ وَالْقَوَاعِدَ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا أُصُولُ الدِّينِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَقُولُوهَا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا أُصُولٌ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ الدِّينَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا، وَلِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَيْضًا مِنْ الْعَظَمَةِ فِي الْقُلُوبِ مَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُهُ حَتَّى يَصِيرُوا بِمَنْزِلَةِ الرَّافِضَةِ الْقَادِحِينَ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ أَخَذُوا مِنْ الرَّفْضِ شُعْبَةً كَمَا أَخَذُوا مِنْ التَّجَهُّمِ شُعْبَةً، وَذَلِكَ دُونَ مَا أَخَذَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ الرَّفْضِ وَالتَّجَهُّمِ حِينَ غَلَبَ عَلَى الرَّافِضَةِ التَّجَهُّمُ وَانْتَقَلَتْ عَنْ التَّجْسِيمِ إلَى التَّعْطِيلِ وَالتَّجَهُّمِ إذْ كَانَ هَؤُلَاءِ نَسَجُوا عَلَى مِنْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ لَكِنْ كَانُوا أَصْلَحَ مِنْهُمْ وَأَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي أُصُولِ الْكَلَامِ.

وَلِهَذَا كَانَ الْمَغَارِبَةُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ابْنَ التُّومَرْتِ الْمُتَّبِعَ لِأَبِي الْمَعَالِي أَمْثَلَ وَأَقْرَبَ

ص: 622

إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَغَارِبَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْقَرَامِطَةَ وَغَلَوْا فِي الرَّفْضِ وَالتَّجَهُّمِ حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ الْإِسْلَامِ فَظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ الَّتِي وَضَعُوهَا هِيَ أُصُولَ الدِّينِ الَّذِي لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهَا، وَجَعَلُوا الصَّحَابَةَ حِينَ تَرَكُوا أُصُولَ الدِّينِ كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهُ بِالْجِهَادِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ كَثِيرٍ مِنْ جُنْدِهِمْ وَمُقَاتِلَتِهِمْ الَّذِينَ قَدْ وَضَعُوا قَوَاعِدَ وَسِيَاسَةً لِلْمُلْكِ وَالْقِتَالِ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَلَمْ نَجِدْ تِلْكَ السِّيرَةَ تُشْبِهُ سِيرَةَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ الْقَدَحُ فِيهِمْ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ عَنْ هَذِهِ السِّيرَةِ وَأُبَّهَةِ الْمُلْكِ الَّذِي وَضَعْنَاهُ.

وَكُلُّ هَذَا قَوْلُ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِسِيرَةِ الصَّحَابَةِ، وَعِلْمِهِمْ، وَدِينِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَحْوَالِهِمْ فَلْيَنْظُرْ إلَى آثَارِهِمْ، فَإِنَّ الْأَثَرَ يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. هَلْ انْتَشَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا انْتَشَرَ وَظَهَرَ عَنْهُمْ؟ أَمْ هَلْ فَتَحَتْ أُمَّةٌ الْبِلَادَ وَقَهَرَتْ الْعِبَادَ، كَمَا فَعَلَتْهُ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.

وَلَكِنْ كَانَتْ عُلُومُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ حَقًّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَكَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِمُوَافَقَةِ قَوْلِهِمْ لِقَوْلِ اللَّهِ وَفِعْلِهِمْ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ لَمْ يَرَ مَا فَعَلُوهُ فَيُزَيَّنُ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ حَتَّى يَرَاهُ حَسَنًا وَيَظُنُّ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعُلُومِ النَّافِقَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا قَصَّرُوا عَنْهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ.

وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي رَوَاهَا عَبْدُوسٌ مَالِكٌ الْعَطَّارُ: أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى تَفْضِيلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الثَّانِي أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أُمَّ الْفَضَائِلِ الْعِلْمُ وَالدِّينُ وَالْجِهَادُ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ حَقَّقَ مِنْ الْعِلْمِ بِأُصُولِ الدِّينِ أَوْ مِنْ الْجِهَادِ مَا لَمْ يُحَقِّقُوهُ، كَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدَّعِي مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ أَنَّهُمْ حَقَّقُوا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْمَعَارِفِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ مَا لَمْ يُحَقِّقْهُ الصَّحَابَةُ، وَقَدْ يَبْلُغُ الْغُلُوُّ بِهَذِهِ الطَّوَائِفِ إلَى أَنْ يُفَضِّلُوا نُفُوسَهُمْ وَطُرُقَهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَطُرُقِهِمْ وَنَجِدُهُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ وَأَفْسَقِهِمْ وَأَعْجَزِهِمْ.

ص: 623

الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ لَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْتَهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ وَجَعَلْتَهُمْ قَامُوا مِنْ تَحْقِيقِ أُصُولِ الدِّينِ بِمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ الصَّحَابَةُ هُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، أَمَّا الشَّرْعِيَّاتُ فَإِنَّهُمْ تَارَةً يَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَارَةً يُبْطِلُونَ التَّأْوِيلَ فَإِذَا نَاظَرُوا الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةَ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا رَدُّوا عَلَيْهِمْ وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ.

وَإِذَا نَاظَرُوا مَنْ يُثْبِتُ صِفَاتٍ أُخْرَى دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَاءِ وَالْغَضَبِ وَالْمَقْتِ وَالْفَرَحِ وَالضَّحِكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَأَوَّلُوهَا وَلَيْسَ لَهُمْ فَرْقٌ مَضْبُوطٌ بَيْنَ مَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَا يُتَأَوَّلُ. بَلْ مِنْهُمْ مَا يُحِيلُ عَلَى الْعَقْلِ، وَمِنْهُ مَا يُحِيلُ عَلَى الْكَشْفِ؛ فَأَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ يَقُولُونَ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالْعَقْلِ لَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِالْعَقْلِ يُتَأَوَّلُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالْكَشْفِ وَالنُّورِ الْإِلَهِيِّ لَا يُتَأَوَّلُ وَمَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِذَلِكَ يُتَأَوَّلُ وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ ضَلَالٌ وَخَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ عَدَمُ الدَّلِيلِ لَيْسَ دَلِيلَ الْعَدَمِ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ يُعْقَلُ أَوْ كَشْفٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَوْ الظَّوَاهِرُ وَلَمْ تَعْلَمُوا انْتِفَاءَهُ أَنَّهُ مُنْتَفٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؟

الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ عَزْلٌ لِلرَّسُولِ وَاسْتِغْنَاءٌ عَنْهُ وَجَعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ الصُّوفِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَعَ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُتَصَوِّفَ مَعَ الْمُتَصَوِّفِ يُوَافِقُهُ فِيمَا عَلِمَهُ بِنَظَرِهِ أَوْ كَشَفَهُ دُونَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ بِنَظَرِهِ أَوْ كَشْفِهِ، بَلْ مَا ذَكَرُوهُ فِيهِ تَنْقِيصٌ لِلرَّسُولِ عَنْ دَرَجَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُتَصَوِّفِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ وَالْمُتَصَوِّفَ إذَا قَالَ نَظِيرَهُ شَيْئًا وَلَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَهُ وَلَا انْتِفَاءَهُ لَا نُثْبِتُهُ وَلَا نَنْفِيهِ.

وَهَؤُلَاءِ يَنْفُونَ مَعَانِيَ النُّصُوصِ وَيَتَأَوَّلُونَهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا انْتِفَاءَ مُقْتَضَاهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الرَّسُولَ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ كَانَ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ هَؤُلَاءِ؟ وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا لَازِمُ قَوْلِهِمْ فَنَحْنُ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُمْ لِنُبَيِّنَ فَسَادَ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ، وَإِلَّا فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُنْزِلُ الرَّسُولَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ.

ص: 624

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ مَا نَفَيْتُمُوهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَتَأَوَّلْتُمُوهُ مَنْ يُقَالُ فِي ثُبُوتِهِ مِنْ الْعَقْلِ وَالْكَشْفِ نَظِيرُ مَا قُلْتُمُوهُ فِيمَا أَثْبَتُّمُوهُ وَزِيَادَةٌ وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنْتُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ سَمْعًا وَعَقْلًا عَلَى ثُبُوتِ رَحْمَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ لَيْسَتْ بِأَضْعَفَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى إرَادَتِهِ، بَلْ لَعَلَّهَا أَقْوَى مِنْهَا فَمَنْ تَأَوَّلَ نُصُوصَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالرَّحْمَةِ وَأَقَرَّ نُصُوصَ الْإِرَادَةِ كَانَ مُتَنَاقِضًا.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ هُوَ نَظِيرُ قَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ تَأَوَّلْنَا مَا تَأَوَّلْنَاهُ لِدَلَالَةِ أَدِلَّةِ الْعُقُولِ عَلَى نَفْيِ مُقْتَضَاهُ وَكُلُّ مَا يُجِيبُونَهُمْ بِهِ يُجِيبُكُمْ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بِهِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: إنَّ أَهْلَ الْإِثْبَاتِ لَهُمْ مِنْ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْكَشْفِ الصَّحِيحِ مَا يُوَافِقُ مَا جَاءَ بِهِ النُّصُوصُ، فَهُمْ مَعَ مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ يُعَارِضُونَ بِعَقْلِهِمْ عَقْلَ النُّفَاةِ وَبِكَشْفِهِمْ كَشْفَ النُّفَاةِ لَكِنْ عَقْلُهُمْ وَكَشْفُهُمْ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ ثَابِتِينَ فِيهِ وَهُمْ فِي مَزِيدِ عِلْمٍ وَهُدًى كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] وَأُولَئِكَ تَجِدُهُمْ فِي مَزِيدِ حَيْرَةٍ وَضَلَالٍ، وَآخِرُ أَمْرِهِمْ يَنْتَهِي إلَى الْحَيْرَةِ وَيُعَظِّمُونَ الْحَيْرَةَ، فَإِنَّ آخِرَ مَعْقُولِهِمْ الَّذِي جَعَلُوهُ مِيزَانًا يَزْنُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يُوجِبُ الْحَيْرَةَ حَتَّى يَجْعَلُوا الرَّبَّ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، ثَابِتًا مَنْفِيًّا، فَيَصِفُونَهُ بِصِفَةِ الْإِثْبَاتِ وَبِصِفَةِ الْعَدَمِ، وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَهُمْ جَانِبُ النَّفْيِ، بِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِ الْمَعْدُومِ وَالْمَوَاتِ، وَآخِرُ كَشْفِهِمْ وَذَوْقِهِمْ وَشُهُودِهِمْ الْحِيرَةُ، وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إثْبَاتٍ فَيَجْعَلُونَهُ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ، أَوْ يَجْعَلُونَ وُجُودَهُ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَآخِرُ نَظَرِ الْجَهْمِيَّةِ وَعَقْلِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا، وَآخِرُ كَشْفِهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَضَلُّ الْبَشَرِ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا الْكَشْفِ مِيزَانًا يَزِنُ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمَّا أَهْلُ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالْكَشْفِ الصَّحِيحِ فَهُمْ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ مَشَايِخِ الْفِقْهِ وَالْعِبَادَةِ الَّذِينَ لَهُمْ مِنْ الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ وَكُلُّ مَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ عَامٌّ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ فَإِنَّهُمْ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا عَلَى النَّفْيِ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَأَمَّا تَنَاقُضُهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَلَا يُحْصَى مِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْبَارِيَ لَا تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَلَكِنْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ، وَالصِّفَاتُ وَالْأَعْرَاضُ فِي الْمَخْلُوقِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ

ص: 625

فَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الْمَخْلُوقِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ عَرَضٌ.

ثُمَّ قَالُوا فِي الْحَيَاةِ وَنَحْوِهَا: هِيَ فِي حَقِّ الْخَالِقِ صِفَاتٌ وَلَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ إذْ الْعَرَضُ هُوَ مَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَالصِّفَةُ الْقَدِيمَةُ بَاقِيَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ الْعَرَضُ مَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ هُوَ فَرْقٌ بِدَعْوَى وَتَحَكُّمٍ، فَإِنَّ الصِّفَاتِ فِي الْمَخْلُوقِ لَا تَبْقَى أَيْضًا زَمَانَيْنِ عِنْدَهُمْ فَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ صِفَةً أَوْ عَرَضًا لَا يُوجِبُ الْفَرْقَ، لَكِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَةَ الْخَالِقِ تَبْقَى فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا الْعَرَضُ الْقَائِمُ بِالْمَخْلُوقِ لَا يَبْقَى وَالْقَائِمُ بِالْخَالِقِ بَاقٍ. هَذَا إنْ صَحَّ فَقَوْلُهُمْ إنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاضُ لَا تَبْقَى فَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ يُرَى كَمَا تُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنْ غَيْرِ مُوَاجَهَةٍ وَلَا مُعَايَنَةٍ وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يُرَى حَتَّى الطَّعْمَ وَاللَّوْنَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ الْقَائِمَ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ يَكُونُ أَمْرًا بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهْيًا عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ وَخَبَرًا بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ الْقُرْآنُ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَهُوَ الْإِنْجِيلُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُسْمَعُ بِالْأُذُنِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ السَّمْعَ عِنْدَهُ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ.

وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّهُ لَا يُسْمَعُ بِالْأُذُنِ لَكِنْ بِلَطِيفَةٍ جُعِلَتْ فِي قَلْبِهِ فَجَعَلُوا السَّمْعَ مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِيحَاءِ إلَى غَيْرِ مُوسَى وَبَيْنَ تَكْلِيمِ مُوسَى، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ لَا تَقُومُ إلَّا بِتَحَيُّزٍ.

وَقَالُوا: إنَّ الْقُدْرَةَ وَالْحَيَاةَ وَنَحْوَهُمَا يَقُومُ بِقَدِيمٍ غَيْرِ مُتَحَيِّزٍ، وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَكَذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ قِيَامَ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ الصِّفَاتُ بِالْمَحِلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهَا.

ثُمَّ قَالُوا: إنَّ الصِّفَاتِ قَائِمَةٌ بِالرَّبِّ وَلَا تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ وَكَذَلِكَ فِي احْتِجَاجِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ عُمْدَتَهُمْ فِيهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ. مَخْلُوقًا لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَخْلُقَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الصِّفَةِ بِنَفْسِهَا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْحَوَادِثِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهُ فِي مَحَلٍّ لَعَادَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَكَانَ يَكُونُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ، فَإِنَّ الصِّفَةَ إذَا

ص: 626

قَامَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى غَيْرِهِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ.

وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ حَيْثُ مَنَعُوا أَنْ تَقُومَ بِهِ الْأَفْعَالُ مَعَ اتِّصَافِهِ بِهَا فَيُوصَفُ بِأَنَّهُ خَالِقٌ وَعَادِلٌ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ خَلْقٌ وَلَا عَدْلٌ.

ثُمَّ كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ الَّذِي أَنْكَرَهُ النَّاسُ، إخْرَاجُ الْحُرُوفِ عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ، وَجَعْلُ دَلَالَةِ لَفْظِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا مَجَازٌ، فَأَحَبَّ أَبُو الْمَعَالِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالرَّازِيِّ أَنْ يَخْلُصُوا مِنْ هَذِهِ الشَّنَاعَةِ، فَقَالُوا: اسْمُ الْكَلَامِ يُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَعَلَى الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَفْسَدُوا بِهِ أَصْلَ دَلِيلِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ أَنَّ مَا قَامَ بِغَيْرِ اللَّهِ يَكُونُ كَلَامًا لَهُ حَقِيقَةً بَطَلَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْكَلَامَ إذَا قَامَ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، وَجَازَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْكَلَامَ مَخْلُوقٌ، خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ كَلَامُهُ حَقِيقَةً وَلَزِمَهُمْ مِنْ الشَّنَاعَةِ مَا لَزِمَ الْمُعْتَزِلَةَ حَيْثُ أَلْزَمَهُمْ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] مَعَ أَنَّ أَدِلَّتَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ امْتِنَاعِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ لَمَّا تَبَيَّنَ لِلرَّازِيِّ وَنَحْوِهِ ضَعْفُهَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، بَلْ احْتَجَّ بِحُجَّةٍ سَمْعِيَّةٍ هِيَ مِنْ أَضْعَفِ الْحُجَجِ، حَيْثُ أَثْبَتَ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ بِالطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ قَدِيمٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَالَ هَذَا، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ. هَكَذَا قَرَّرَهُ فِي نِهَايَةِ الْعُقُولِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَنَاقُضَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ وَجْهٍ عَقْلِيٍّ فِي هَذَا الْكِتَابِ.

وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ قَالَ لِلْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ: كَيْفَ يُعْقَلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ: مَا هَذَا بِأَوَّلِ إشْكَالٍ وَرَدَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَيْضًا فَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ يُسَوُّونَ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَتَأَوَّلُونَ قَوْله تَعَالَى:{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] أَيْ بِمَعْنَى لَا يُرِيدُهُ لَهُمْ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ رَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَاَللَّهُ يَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَقَعْ مِنْ طَاعَةٍ وَبِرٍّ وَإِيمَانٍ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ.

ص: 627

ثُمَّ إنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا مَعَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بَيَّنُوا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ، سَوَاءٌ قَدَّرَهُ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ.

الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا أُصُولَ دِينِكُمْ وَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ بِهَا صِرْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَقَدَّمْتُمْ بِهَا عَلَى سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَبِهَا دَفَعْتُمْ أَهْلَ الْإِلْحَادِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِ هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَهْدِمُ أُصُولَ دِينِكُمْ وَتُسَلِّطُ عَلَيْكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَتُوجِبُ تَكْذِيبَ نَبِيِّكُمْ، وَالطَّعْنَ فِي خَيْرِ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَهَذَا أَيْضًا فِيمَا فَعَلْتُمُوهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، أَمَّا الشَّرْعِيَّاتُ فَإِنَّكُمْ لَمَّا تَأَوَّلْتُمْ مَا تَأَوَّلْتُمْ مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، تَأَوَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مَا قَرَّرْتُمُوهُ أَنْتُمْ، وَاحْتَجُّوا بِمِثْلِ حُجَّتِكُمْ، ثُمَّ زَادَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَتَأَوَّلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَالَتْ الْمُتَفَلْسِفَةُ مِثْلَ مَا قُلْتُمْ لِإِخْوَانِكُمْ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْمُتَفَلْسِفَةِ، فَإِنَّكُمْ إذَا احْتَجَجْتُمْ بِالنُّصُوصِ تَأَوَّلُوهَا، وَلِهَذَا كَانَ غَايَتُكُمْ فِي مُنَاظَرَةِ هَؤُلَاءِ أَنْ تَقُولُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِمَعَادِ الْأَبْدَانِ، وَأَخْبَرَ بِالْفَرَائِضِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْبَرِيَّةِ، وَالْأُمُورُ الضَّرُورِيَّةُ لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهَا.

فَإِنْ قَالَ لَكُمْ الْمُتَفَلْسِفَةُ: هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ كَانَ جَوَابُكُمْ أَنْ تَقُولُوا: هَذَا جَهْلٌ مِنْكُمْ، أَوْ تَقُولُوا: إنَّ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا عَنْ النَّفْسِ، وَنَحْنُ نَجِدُ الْعِلْمَ بِهَذَا أَمْرًا ضَرُورِيًّا فِي أَنْفُسِنَا.

وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ مِنْكُمْ، لَكِنْ فِي هَذَا نَقُولُ لَكُمْ الْمُثْبِتَةُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ الْمَنْقُولِ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَبِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا أَثْبَتُ الصِّفَاتِ، وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا ضَرُورِيٌّ عِنْدَهُمْ كَمَا ذَكَرْتُمْ أَنْتُمْ فِي مَعَادِ الْأَبْدَانِ وَالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ، بَلْ لَعَلَّ الْعِلْمَ بِهَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْعِلْمِ بِبَعْضِ مَا تُنَازِعُكُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ مِنْ أُمُورِ الْمَعَادِ كَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ، وَمَسْأَلَةِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ.

وَأَيْضًا فَالْعِلْمُ بِعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُعْلَمُ بِضَرُورِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ

ص: 628

يَقِينِيَّةٍ لَا يُعْلَمُ بِمِثْلِهَا مَعَادُ الْأَبْدَانِ، فَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى مَا نَفَيْتُمُوهُ مِنْ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَمُبَايَنَتِهِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا خَالَفَكُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ، بَلْ وَالْفَلَاسِفَةُ وَلِهَذَا يُوجَدُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ مُوَافَقَةُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي بَعْضِ مَا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ كَمَا يُوجَدُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إنْكَارُ سَمَاعِ الَّذِي فِي الْقَبْرِ لِلْأَصْوَاتِ، وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إنْكَارُ الْمِعْرَاجِ بِالْبَدَنِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَلَا يُوجَدُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُوَافَقَتُكُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، بَلْ وَلَا عَلَى مَا نَفَيْتُمُوهُ مِنْ الْجِسْمِ وَمُلَازِمِهِ.

وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ كَانُوا ضَالِّينَ فِي مَسْأَلَةِ إنْكَارِ الرُّؤْيَةِ فَمَعَهُمْ فِيهَا مِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي تَأَوَّلُوهَا وَالْمَقَايِيسِ الَّتِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا أَعْظَمُ مِمَّا مَعَكُمْ فِي إنْكَارِ مُبَايَنَةِ اللَّهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ.

وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ تَقُولُونَ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ تَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ، فَتُنْكِرُونَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَتَقُولُونَ بِمَا تَنَازَعُوا فِيهِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.

فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي جَعْلِهِمْ الْمِعْرَاجَ مَنَامًا أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْكُمْ حَيْثُ قُلْتُمْ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَقُلْتُمْ مَعَ هَذَا إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ يُعْرَجُ إلَيْهِ، فَهَذَا النَّفْيُ أَنْتُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَهُمْ امْتَازُوا بِقَوْلِهِمْ الْمِعْرَاجُ مَنَامًا، وَهُوَ قَوْلٌ مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَنْتُمْ امْتَزْتُمْ بِقَوْلِكُمْ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ. ثُمَّ إنَّكُمْ أَظْهَرْتُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مُخَالَفَةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْقُرْآنِ، وَوَافَقْتُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ عَلَى إظْهَارِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْبِدَعِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا الْجَهْمِيَّةُ الْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ فِي عَصْرِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى امْتَحَنُوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَغَيْرَهُ بِذَلِكَ.

ص: 629

وَوَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى نَفْيِهِمْ وَتَعْطِيلِهِمْ الَّذِي مَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى إظْهَارِهِ فِي زَمَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ، فَإِنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الشَّنْعَاءَ وَالْمَقَالَةَ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمْ يَكُنْ يُظْهِرُهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ لِلْعَامَّةِ، وَلَا يَدْعُو عُمُومَ النَّاسِ إلَيْهَا وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ ذَلِكَ بِمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ مَقَالَاتِهِمْ فَمُوَافَقَتُكُمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى مَا أَسَرُّوهُ مِنْ التَّعْطِيلِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِمَّا خَالَفْتُمُوهُ فِيهِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ أَعْظَمُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُرَى، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ تُوهِمُ الْمُسْتَمِعَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَفِيهِ مَا يُوهِمُ بَعْضَ النَّاسِ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ وَلَكِنْ يُعَارِضُونَ آيَاتِ الْعُلُوِّ الْكَثِيرَةَ الصَّرِيحَةَ بِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا، فَلَمْ يَكُنْ مَعَكُمْ عَلَى هَذَا النَّفْيِ آيَةٌ تُشْعِرُ بِمَذْهَبِكُمْ، فَضْلًا مِنْ أَنْ تَدُلَّ عَلَيْهِ نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا، وَلَا حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ وَلَا تَابِعٍ وَلَا إمَامٍ، وَإِنَّمَا غَايَتُكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِأَثَرٍ مَكْذُوبٍ كَمَا تَذْكُرُونَهُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي أَيَّنَ الْأَيْنَ لَا يُقَالُ لَهُ أَيْنَ، وَهَذَا مِنْ الْكَذِبِ عَلَى عَلِيٍّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا إسْنَادَ لَهُ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْمَلَائِكَةِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا حُجَّةَ فِيهِ لَكُمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ مَا لَيْسَ فِي نَفْسِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِهَذَا كَانَ فِي فِطَرِ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْإِقْرَارُ بِعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ.

وَأَمَّا كَوْنُهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى أَوْ يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَتَكَلَّمُ، فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي الظُّهُورِ بِمَنْزِلَةِ ذَاكَ، فَوَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةَ وَغَيْرَهُمْ عَلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِمَّا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ اتِّفَاقُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا عَلَى تَضْلِيلِ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ قَدْ كَفَّرُوهُمْ وَقَالُوا فِيهِمْ مَا لَمْ يَقُولُوهُ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، أَخْرَجُوهُمْ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَقَالُوا: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ.

فَكُنْتُمْ فِيمَا وَافَقْتُمْ فِيهِ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَا خَالَفْتُمُوهُمْ فِيهِ كَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ هُوَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْإِيمَانِ، وَأَوْجَبَ ذَلِكَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ:

ص: 630

أَحَدُهُمَا: تَسَلُّطُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَمَّا وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ إثْبَاتُكُمْ لِلرُّؤْيَةِ وَلِكَوْنِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ قَوْلًا بَاطِلًا فِي الْعَقْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ، وَانْفَرَدْتُمْ مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ بِمَا ابْتَدَعْتُمُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ، وَقَوِيَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ رَدَدْتُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى قِيلَ: إنَّ الْأَشْعَرِيَّ حَجَرَهُمْ فِي قِمَعِ السِّمْسِمَةِ فَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ بِمَا أَبْدَاهُ مِنْ تَنَاقُضِ أُصُولِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ خَبِيرًا بِمَذَاهِبِهِمْ، إذْ كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ أُصُولَ الْمُعْتَزِلَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا انْتَقِلْ إلَى طَرِيقَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بْنِ كِلَابٍ وَهِيَ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوَّ وَمُبَايِنَةَ اللَّهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَيَجْعَلُ الْعُلُوَّ يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، فَكَانَ الْأَشْعَرِيُّ لِخِبْرَتِهِ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ أَظْهَرَ مِنْ تَنَاقُضِهَا وَفَسَادِهَا مَا قَمَعَ بِهِ الْمُعْتَزِلَةَ، وَبِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ تَنَاقُضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ، صَارَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالْقَدْرِ مَا صَارَ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ قَصُرَ عَنْ طَرِيقَةِ ابْنِ كِلَابٍ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ ابْنَ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيَّ فَنَفَيْتُمْ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ، وَنَفَيْتُمْ الْعُلُوَّ وَخِيَارُكُمْ يَجْعَلُهُ مِنْ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةِ، مَعَ أَنَّ ابْنَ كِلَابٍ كَانَ مُبْتَدِعًا عِنْدَ السَّلَفِ بِمَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ؟ وَفِي إنْكَارِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ.

ثُمَّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ انْقَمَعُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُمْ طَمِعُوا وَقَوُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِمُوَافَقَتِكُمْ لَهُمْ عَلَى أُصُولِ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَعْزِيًّا لِفُضَلَائِهِمْ بِلُزُومِ مَذْهَبِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَهِمَ مَذْهَبَكُمْ الَّذِي خَالَفْتُمْ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ قَوْلٌ فَاسِدٌ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَاسِدًا وَنَشَأَ الْفَسَادُ.

الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْفُضَلَاءَ إذَا تَدَبَّرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِكُمْ الَّذِي أَظْهَرْتُمْ فِيهِ خِلَافَ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَدُوكُمْ قَرِيبِينَ مِنْهُمْ أَوْ مُوَافِقِينَ لَهُمْ فِي الْمَعْنَى كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّكُمْ تَتَظَاهَرُونَ بِإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ تُفَسِّرُونَهَا بِمَا لَا يُنَازِعُ الْمُعْتَزِلَةَ فِي بَيَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فِي الْأَشْعَرِيِّ: إنَّ قَوْلَهُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ التَّصْرِيحِ إلَى التَّمْوِيهِ.

ص: 631

وَكَذَلِكَ قَوْلُكُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَمَّا اشْتَهَرَ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ حَتَّى كَفَّرُوهُمْ، وَصَبَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى امْتِحَانِ الْجَهْمِيَّةِ مُدَّةَ اسْتِيلَائِهِمْ حَتَّى نَصَرَ اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَطْفَأَ الْفِتْنَةَ فَتَظَاهَرْتُمْ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَانْتَسَبْتُمْ إلَى أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ.

وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ: فَأَنْتُمْ مُوَافِقُونَ لِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَمُخَالِفُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أَنْتُمْ وَهُمْ، فَأَنْتُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُمْ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ مِنْ وَجْهٍ، وَقَوْلُهُمْ أَفْسَدُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ وَجْهٍ، وَقَوْلُكُمْ أَفْسَدُ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِنْ وَجْهٍ.

ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ، وَالْمُتَكَلِّمُ مَنْ فِعْلِ الْكَلَامَ وَقَالُوا: إنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ، وَالْقُرْآنُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَالُوا: الْكَلَامُ يَنْقَسِمُ إلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ وَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْكَلَامِ لَا صِفَاتُهُ، وَالْقُرْآنُ غَيْرُ التَّوْرَاةِ، وَالتَّوْرَاةُ غَيْرُ الْإِنْجِيلِ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ.

وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: إنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَهَذِهِ صِفَاتُ الْكَلَامِ لَا أَنْوَاعُهُ، فَإِنْ عُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إنْجِيلًا، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَالْحُرُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْكَلَامِ، وَلَا هِيَ كَلَامٌ، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كِلَابٍ، أَوْ عِبَارَةُ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّكُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ جَعَلْتُمْ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحَيَاةُ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهِ، وَلَا قَادِرًا بِهَا، وَلَا حَيًّا بِهَا، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ لَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ، فَكَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.

ص: 632

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي مَحَلٍّ كَلَامًا لَهُ فَيَكُونُ إنْطَاقُهُ لِلْجُلُودِ كَلَامًا لَهُ بَلْ يَكُونُ إنْطَاقُهُ لِكُلِّ نَاطِقٍ كَلَامًا لَهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنَظْمُهُ.

لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ أَجْوَدُ مِنْكُمْ حَيْثُ سَمَّوْا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ كَلَامَ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُهُ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ كَلَامًا مَجَازًا؛ وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْكُمْ حَقِيقَةً وَجَعَلَ الْكَلَامَ مُشْتَرَكًا كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ اُنْتُقِضَتْ قَاعِدَتُهُ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْكَلَامِ مَنْ قَامَ بِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا؛ فَالرَّجُلُ إذَا بَلَّغَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» كَانَ قَدْ بَلَّغَ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ؛ وَكَذَلِكَ إذَا أَنْشَدَ شَعْرَ شَاعِرٍ كَامْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِذَا قَالَ:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ

كَانَ هَذَا الشَّعْرُ شَعْرَ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُبْتَدِئًا آمِرًا بِأَمْرِهِ وَمُخْبِرًا بِخَبَرِهِ وَمُؤَلِّفًا حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ، وَغَيْرُهُ إذَا بَلَّغَهُ عَنْهُ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ لِلْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا لِلْمُبَلِّغِ.

وَهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَالْمُبَلَّغُ عَنْهُ، وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْأَوَّلِ وَسَمَاعِهِ مِنْ الثَّانِي؛ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمُسْتَقِرِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْقَارِئَ يَقْرَؤُهُ بِصَوْتِهِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ؛ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ الثَّانِي حِكَايَةً لِكَلَامِ الْأَوَّلِ.

ص: 633

وَيُنَازِعُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْحِكَايَةِ: هَلْ هِيَ الْمَحْكِيُّ كَمَا يَقُولُ الْجُبَّائِيُّ، أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يَقُولُ ابْنُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْحَاكِيَ لِكَلَامِ غَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ الْمُبَلِّغَ لَهُ، فَإِنَّ الْحَاكِيَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَمَثِّلِ بِهِ الَّذِي يَقُولُهُ لِنَفْسِهِ مُوَافِقًا لِقَائِلِهِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الْمُبَلِّغِ لَهُ الَّذِي يَقْصِدُ أَنْ يُبَلِّغَ كَلَامَ الْغَيْرِ.

وَلِلنِّيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّ مَنْ قَالَ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْجَنَابَةِ بِخِلَافِ مَنْ قَالَهَا بِقَصْدِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَهَذَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا مَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَنَظْمَهُ لَيْسَ هُوَ عِنْدَكُمْ كَلَامَ اللَّهِ، بَلْ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ مَخْلُوقٌ: إمَّا فِي الْهَوَاءِ وَإِمَّا فِي نَفْسِ، جِبْرِيلَ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَاتَّفَقْتُمْ أَنْتُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَنَظْمَهُ مَخْلُوقٌ، لَكِنْ قَالُوا هُمْ: ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ؛ وَمَنْ قَالَ مِنْكُمْ إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَصَارَتْ الْمُعْتَزِلَةُ خَيْرًا مِنْكُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ وَهَذِهِ الْحُرُوفُ وَالنَّظْمُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّاسُ هُوَ حِكَايَةُ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَالنَّظْمِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَكُمْ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ.

وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ كِلَابٍ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ، فَخَالَفَهُ الْأَشْعَرِيُّ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ تُشْبِهُ الْمَحْكِيَّ، وَهَذَا حُرُوفٌ، وَذَلِكَ مَعْنًى.

وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: بَلْ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعِبَارَةَ لَا تُشْبِهُ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ.

وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ. فَإِنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي نَقْرَؤُهُ فِيهِ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ، وَفِيهِ مَعَانٍ؛ فَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالْحُرُوفِ بِأَلْسِنَتِنَا، وَنَعْقِلُ الْمَعَانِي بِقُلُوبِنَا، وَنِسْبَةُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقُلُوبِنَا إلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَنِسْبَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي نَنْطِقُ بِهَا إلَى الْحُرُوفِ الْمَخْلُوقَةِ عِنْدَكُمْ.

فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى مُجَرَّدٌ عِنْدَكُمْ وَهَذَا فِيهِ حُرُوفٌ وَمَعَانٍ.

ص: 634

وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ عِبَارَةٌ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ هِيَ اللَّفْظُ الَّذِي يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى، وَهُنَا حُرُوفٌ وَمَعَانٍ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ عِنْدَكُمْ.

وَإِنْ قُلْتُمْ: هَذِهِ الْحُرُوفُ وَحْدَهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى بَقِيَتْ الْمَعَانِي الْقَائِمَةُ بِقُلُوبِنَا، وَبَقِيَتْ الْحُرُوفُ الَّتِي عَبَّرَ بِهَا أَوَّلًا عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ الَّتِي هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ نَظِيرُهَا عِنْدَكُمْ، لَمْ تُدْخِلُوهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ فِي قَوْلِهَا بِالْحِكَايَةِ أَسْعَدُ مِنْكُمْ فِي قَوْلِكُمْ بِالْحِكَايَةِ وَبِالْعِبَارَةِ.

وَأَصْلُ هَذَا الْخَطَإِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ، بَلْ كُلُّ كَلَامٍ، هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ؛ وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعَانِي.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْأُمَمِ أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَلِلْمَعَانِي، وَلِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا؛ كَمَا أَنَّ اسْمَ الْإِنْسَانِ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَإِنْ سُمِّيَ الْمَعْنَى وَحْدَهُ حَدِيثًا أَوْ كَلَامًا، أَوْ الْحُرُوفُ وَحْدَهَا حُرُوفًا أَوْ كَلَامًا فَعِنْدَ التَّقْيِيدِ وَالْقَرِينَةِ.

وَهَذَا مِمَّا اسْتَطَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَيْكُمْ بِهِ حَيْثُ أَخْرَجْتُمْ الْحُرُوفَ الْمُؤَلَّفَةَ عَنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» قَالَ لَهُ مُعَاذٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ:«ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» ؟ وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ.

ثُمَّ إنَّكُمْ جَعَلْتُمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ مَعْنًى وَاحِدًا مُفْرَدًا وَهُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ؛ وَهَذَا مِمَّا اشْتَدَّ إنْكَارُ الْعُقَلَاءِ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَالُوا إنَّ هَذَا مِنْ السَّفْسَطَةِ الْمُخَالِفَةِ لِصَرَائِحِ الْمَعْقُولِ.

وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا قُلْتُمُوهُ أَبْعَدُ عَنْ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مِنْ هَذَا؛ وَإِنْ كَانَ الْعُقَلَاءُ قَدْ أَنْكَرُوا هَذَا أَيْضًا، لَكِنْ قَوْلُكُمْ أَشَدُّ نُكْرَةً؛ بَلْ قَوْلُكُمْ أَبْعَدُ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ.

ثُمَّ أَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ هُوَ الْقُرْآنَ، وَبِالْعِبْرِيَّةِ

ص: 635

كَانَ هُوَ التَّوْرَاةَ، وَبِالسِّرْيَانِيَّ ة كَانَ هُوَ الْإِنْجِيلَ؛ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ مَعَانِيهَا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مَعَانِيهِ مَعَانِي التَّوْرَاةِ.

ثُمَّ إنَّ مِنْكُمْ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُسْمَعُ؛ وَمِنْكُمْ مَنْ قَالَ لَا يُسْمَعُ. وَجَعَلْتُمْ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى مِنْ جِنْسِ الْإِلْهَامِ الَّذِي يُلْهِمُ غَيْرَهُ حَيْثُ قُلْتُمْ: خَلَقَ فِي نَفْسِهِ لَطِيفَةً أَدْرَكَ بِهَا الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِالذَّاتِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا - وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163 - 164] فَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى غَيْرِ مُوسَى، وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] فَفَرَّقَ بَيْنَ إيحَائِهِ - سُبْحَانَهُ - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.

وَالْأَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَخْصِيصِ مُوسَى بِتَكْلِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ دُونَ إبْرَاهِيمَ وَعِيسَى وَنَحْوِهِمَا؛ وَعَلَى قَوْلِكُمْ: لَا فَرْقَ، بَلْ قَدْ زَعَمَ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ. فَمَنْ حَصَلَ لَهُ إلْهَامٌ فِي قَلْبِهِ جَعَلْتُمُوهُ قَدْ كَلَّمَهُ اللَّهُ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَمْ يَصِلُوا فِي الْإِلْحَادِ إلَى هَذَا الْحَدِّ، بَلْ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَصَّ مُوسَى بِأَنْ خَلَقَ كَلَامًا فِي الْهَوَاءِ سَمِعَهُ، كَانَ أَقَلَّ بِدْعَةً مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ إلَّا بِأَنْ أَفْهَمَهُ مَعْنًى أَرَادَهُ. بَلْ هَذَا قَرِيبٌ إلَى قَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَا فِي النُّفُوسِ، وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ، لَكِنْ يُفَارِقُونَهَا بِإِثْبَاتِ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْضًا.

ص: 636

فَجَعَلْتُمْ ثُبُوتَ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ اللَّهِ فِيهَا، وَقُلْتُمْ: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي التَّوْرَاةِ هُوَ اسْمُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَكْتُبُ فِي الْمُصْحَفِ اسْمَهُ فَأَسْمَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ، لَا أَنَّ ذَاتَهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِهِ.

وَالشَّيْءُ لِوُجُودِهِ أَرْبَعَةٌ مَرَاتِبَ: وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ، وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ، وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ، وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ، فَالْأَعْيَانُ لَهَا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى، ثُمَّ يُعْلَمُ بِالْقُلُوبِ، ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ ثُمَّ يُكْتَبُ اللَّفْظُ؛ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَهُ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَهُوَ الَّذِي يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ.

فَأَيْنَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ الْكَلَامَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي الْكِتَابِ، وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرْقِ ثُمَّ إنَّ مِنْكُمْ مَنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] ، وَجَعَلَ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْعِبَارَةَ، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَهُوَ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أُضِيفَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ، فَقَدْ أَضَافَهُ فِي مَوْضِعٍ إلَى رَسُولٍ هُوَ جِبْرِيلُ، وَفِي مَوْضِعٍ إلَى رَسُولٍ هُوَ مُحَمَّدٌ، قَالَ فِي مَوْضِعٍ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِبَارَتَهَا إنْ أَحْدَثَهَا جِبْرِيلُ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ أَحْدَثَهَا، وَإِنْ أَحْدَثَهَا مُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ جِبْرِيلُ أَحْدَثَهَا؛ فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ وَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَابْتَدَأَهُ، وَلِهَذَا قَالَ لَقَوْلُ رَسُولٍ، وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ،

ص: 637

فَذَكَرَ اسْمَ الرَّسُولِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] .

«وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ، وَيَقُولُ: أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا تَقُولُ إنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ أَحْدَثَهُ لَا جِبْرِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّ تِلَاوَتَهُمَا لَهُ كَتِلَاوَتِنَا لَهُ؛ وَإِنْ قُلْتُمْ أَضَافَهُ إلَى أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ تَلَاهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَطَاهِرٍ وَجُنُبٍ، حَتَّى إذَا قَرَأَهُ الْكَافِرُ يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلًا لَهُ عَلَى قَوْلِكُمْ؛ فَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] كَلَامٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إذْ هُوَ عَلَى أَصْلِكُمْ قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَقَوْلُ فَاجِرٍ لَئِيمٍ.

وَكَذَلِكَ احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] وَقَالُوا إنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ فِي الْهَوَاءِ، فَاحْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ مِنْكُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مُحْدَثٌ، وَلَكِنْ زَادَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ بِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَهُ إمَّا جِبْرِيلُ وَإِمَّا مُحَمَّدٌ.

وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ مُحْدَثٌ فِي الْهَوَاءِ صِرْتُمْ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَضْتُمْ اسْتِدْلَالَكُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]، وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ اسْتَدَلَّ مِنْ أَئِمَّتِكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْلِهِ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]، وَقَوْلِهِ:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهُ بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] ، فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَهُ بَطَلَ بِإِضَافَتِهِ إلَى الرَّسُولِ الْآخَرِ، وَكُنْتُمْ شَرًّا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قَالُوا: أَحْدَثَهُ اللَّهُ، وَإِنْ قُلْتُمْ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَلَاهُ فَقَدْ أَحْدَثَهُ فَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ قَوْلًا لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ النَّاسِ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، وَكَانَ مَا يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَسْمَعُونَهُ كَلَامَ النَّاسِ عِنْدَكُمْ لَا كَلَامَ اللَّهِ.

ص: 638

ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 101 - 102] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاءٍ وَلَا مِنْ لَوْحٍ، وَقَالَ:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]، وَقَالَ:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2] ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةُ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكُمْ مُنَزَّلًا مِنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمْ يَكُنْ الْقُرْآنُ مُنَزَّلًا مِنْهُ بَلْ مِنْ الْهَوَاءِ.

وَأَيْضًا فَأَنْتُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ قَابَلْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ تَقَابُلَ التَّضَادِّ حَتَّى رَدَدْتُمْ بِدْعَتَهُمْ بِبِدَعٍ تَكَادُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا، بَلْ هِيَ مِنْ وَجْهٍ مِنْهَا وَمِنْ وَجْهٍ دُونَهَا، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ جَعَلُوا الْإِيمَانَ اسْمًا مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ.

وَقَالُوا: إنَّ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ لَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا، وَقَالُوا: إنَّ الْفُسَّاقَ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، فَخِلَافُهُمْ فِي الْحُكْمِ لِلسَّلَفِ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمْ الْجَهْمِيَّةَ فِي الْإِرْجَاءِ وَالْجَبْرِ فَقُلْتُمْ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَهَذَا عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّة شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ. ثُمَّ إنَّكُمْ قُلْتُمْ: إنَّا لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ النَّارَ أَوْ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ فَوَقَفْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ جُمْلَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَهَا مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَأُولَئِكَ قَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَهَا كُلُّ فَاسِقٍ، وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ: لَا نَعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُهَا فَاسِقٌ أَمْ لَا، فَتَقَابَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَقَوْلُكُمْ أَعْظَمُ بِدْعَةً مِنْ قَوْلِهِمْ، وَأَعْظَمُ مُخَالَفَةً لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ.

ص: 639

وَعَلَى قَوْلِكُمْ: لَا نَعْلَمُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ يَدْخُلُهَا أَمْ لَا، وَقَوْلُكُمْ إلَى إفْسَادِ الشَّرِيعَةِ أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، أَوْ مُرِيدًا لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، بَلْ الْإِرَادَةُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا، وَهُوَ لَا يُحِبُّ وَيَرْضَى إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يُرِيدُ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ، وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الضَّلَالَ، فَصِرْتُمْ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ، وَقُلْتُمْ: إنَّ الْإِرَادَةَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا كَمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ، لَكِنْ قُلْتُمْ وَهُوَ أَرَادَ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا رَاضِيًا لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ حَتَّى الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.

وَتَأَوَّلْتُمْ قَوْلَهُ: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَعَلَى قَوْلِكُمْ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْإِيمَانَ يَعْنِي الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، إذْ عِنْدَكُمْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا فَقَدْ رَضِيَهُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَا يَرْضَاهُ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيَ عِنْدَكُمْ مِنْ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَنَحْوِهِمَا كُفْرَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ الْإِيمَانَ.

وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ: {لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] أَيْ لَا يُحِبُّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْكُمْ لَا يُحِبُّهُ دِينًا أَوْ لَا يَرْضَاهُ دِينًا، فَهَذَا أَقْرَبُ لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكُمْ لَا يُرِيدُهُ دِينًا وَلَا يَشَاؤُهُ دِينًا فَيَجُوزُ عِنْدَكُمْ أَنْ يُقَالَ يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيَرْضَاهُ، أَيْ يُحِبُّهُ فَسَادًا وَيَرْضَاهُ فَسَادًا كَمَا أَرَادَهُ فَسَادًا.

وَأَنْكَرْتُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مَا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْكُفَّارِ غَيْرَ مَا فَعَلَ بِهِمْ مِنْ اللُّطْفِ.

وَأَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ، ثُمَّ قُلْتُمْ: إنَّ الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا عُلِمَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ فَاعِلًا فَقَطْ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ أَصْلًا فَخَالَفْتُمْ قَوْله تَعَالَى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]

ص: 640

وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَلَزِمَكُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ طَاعَةَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا لَهَا فَإِنْ ضَمَّ ضَامٌّ هَذَا إلَى قَوْله تَعَالَى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» تَرَكَّبَ مِنْ هَذَيْنِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ وَفَاجِرٍ، فَإِنَّهُ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ، وَأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِيمَا أُمِرَ بِهِ بِمَا اسْتَطَاعَ إذْ لَمْ يَسْتَطِعْ غَيْرَ مَا فَعَلَ، وَأَنْتُمْ لَا تَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ فَهُوَ لَازِمُ قَوْلِكُمْ إذَا لَمْ تَجْعَلُوا الِاسْتِطَاعَةَ نَوْعَيْنِ.

وَقَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ اسْتِطَاعَةَ الْعَبْدِ صَالِحَةً لِلنَّوْعَيْنِ وَلَا يُثْبِتُونَ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ مِنْ قَوْلِكُمْ أَنَّهُ لَا اسْتِطَاعَةَ إلَّا لِلْفَاعِلِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا، فَلَا اسْتِطَاعَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَنْ تَدَبَّرَ الْقَوْلَيْنِ بِغَيْرِ هَوًى عَلِمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ خِلَافِ السُّنَّةِ مَا فِيهِ، فَقَوْلُكُمْ أَكْثَرُ خِلَافًا لِلسُّنَّةِ.

وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَلْ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ أَفْعَالَهُ فَضَلُّوا بِقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ إنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ أَفْعَالَهُ بَلْ هِيَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ هِيَ كَسْبٌ لِلْعَبْدِ، وَلَمْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْفِعْلِ بِفَرْقٍ مَعْقُولٍ وَادَّعَيْتُمْ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا أَمْرٌ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَاجِبٍ، وَهَذَا حَقٌّ أَصَبْتُمْ فِيهِ دُونَ الْمُعْتَزِلَةِ. لَكِنْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ ادَّعَى الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ أَفْعَالَهُ وَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ أَصَابُوا فِيهِ دُونَكُمْ، وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِأَفْعَالِهِ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ خَلَقَ الْفَاعِلَ فَاعِلًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19]{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20]{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] وَلَيْسَ كَوْنُهُ قَادِرًا مُرِيدًا فَاعِلًا بِأَلْزَمَ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ طَوِيلًا قَصِيرًا وَاَللَّهُ خَلَقَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَ يَفْعَلُونَ وَيَصْنَعُونَ بِمُنَافٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.

وَكَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا لِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْقُدْرَةِ هُوَ كَسَائِرِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ بِقُوَّةٍ فِيهِ

ص: 641

وَقُدْرَتُهُ سَبَبٌ فِي حُصُولِ مَقْدُورِهِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ وَالْأَسْبَابُ لَا يُنْكَرُ وُجُودُهَا وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا وَخَلَقَ الْمُسَبَّبَ بِهَا.

فَمَنْ قَالَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْمَقْدُورِ كَتَأْثِيرِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا لَمْ يُنْكَرْ قَوْلُهُ.

وَمَنْ قَالَ لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً أَيْ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً وَلَيْسَ مُبْتَدَعَةً، كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْأَسْبَابِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لَمْ يُنْكَرْ قَوْلُهُ، فَإِنَّ السَّبَبَ لَيْسَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً بِمُسَبَّبِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ وَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الْمَوَانِعِ وَاَللَّهُ خَالِقُ مَجْمُوعِ الْأَسْبَابِ وَصَارِفُ جَمِيعِ الْمَوَانِعِ.

وَهَذَا هُوَ الْخَلْقُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِمَّا يُجْعَلُ سَبَبًا وَمُؤَثِّرًا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مُسَبَّبٌ فَلَا يُنْفَى هَذَا الْجُزْءُ وَلَا يُعْطَى مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ كَوْنِهِ مُبْدِعًا خَالِقًا وَمِنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ لَهُ، فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَأَنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمْ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ فِي مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ، وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَدَرِ مَا تَأَوَّلْتُمُوهُ.

فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ إذَا خَالَفُوا مِنْ ذَلِكَ مَا تَأَوَّلُوهُ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ وَإِذَا قَدَحْتُمْ فِي الْمُعْتَزِلَةِ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَخَالَفُوهُ فِي السُّنَنِ وَالْآثَارِ، قَدَحُوا فِيكُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَإِذَا نَسَبْتُمُوهُمْ إلَى الْقَدْحِ فِي السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ نَسَبُوكُمْ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِيمَا تَذُمُّونَهُمْ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ يَذُمُّونَكُمْ بِنَظِيرِهِ، وَلَا مَحِيصَ لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِتَرْكِ مَا ابْتَدَعْتُمُوهُ، وَمَا وَافَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَمَا ابْتَدَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا سَلِيمًا مِنْ التَّنَاقُضِ وَالتَّعَارُضِ مَحْفُوظًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

وَبِالْجُمْلَةِ فَعَامَّةُ مَا ذَمَّهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَعَابُوهُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ لَكُمْ مِنْهُ أَوْفَرُ نَصِيبٍ، بَلْ تَارَةً تَكُونُونَ أَشَدَّ مُخَالَفَةً لِذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَدْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي أُصُولِ ضَلَالِهِمْ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا، وَنَبَذُوا بِهَا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُنَزِّهُونَهُ مِنْ شَيْءٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ فَيَرْجِعُونَ إلَى مُجَرَّدِ رَأْيِهِمْ فِي ذَلِكَ.

ص: 642

وَإِذَا اسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِقَادِ وَالِاسْتِشْهَادِ، لَا عَلَى وَجْهِ الِاعْتِمَادِ وَالِاعْتِقَادِ، وَمَا خَالَفَ قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ تَأَوَّلُوهُ عَلَى مُقْتَضَى آرَائِهِمْ، وَاسْتَخَفُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسَمَّوْهُمَا ظَوَاهِرَ.

وَإِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وَقَوْلِهِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، أَوْ قَوْلِهِ:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ تَكُنْ هَذِهِ النُّصُوصُ هِيَ عُمْدَتَهُمْ وَلَكِنْ يَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَلَا حُرْمَةَ لَهَا عِنْدَهُمْ، بَلْ تَارَةً يَرُدُّونَهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَهَا، ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا وَضَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ قَوَاطِعُ عَقْلِيَّةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الْقَوَاطِعَ الْعَقْلِيَّةَ تُرَدُّ لِأَجْلِهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إمَّا بِالتَّأْوِيلِ، وَإِمَّا بِالتَّفْوِيضِ، وَإِمَّا بِالتَّكْذِيبِ.

وَأَنْتُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ كُلِّهَا، وَمِنْهُمْ أَخَذْتُمُوهَا. وَأَنْتُمْ فُرُوخُهُمْ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: الْأَشْعَرِيَّةُ مَخَانِيثُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ، لَكِنْ لَمَّا شَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَسَادُ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَنَفَرَتْ الْقُلُوبُ عَنْهُمْ، صِرْتُمْ تُظْهِرُونَ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَعَ مُقَارَبَتِكُمْ أَوْ مُوَافَقَتِكُمْ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ.

وَهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ التَّوْحِيدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَأَنْتُمْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى تَسْمِيَةِ أَنْفُسِكُمْ أَهْلَ التَّوْحِيدِ، وَجَعَلْتُمْ نَفْيَ بَعْضِ الصِّفَاتِ مِنْ التَّوْحِيدِ.

وَسَمَّوْا مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْكَلَامِ الْفَاسِدِ إمَّا فِي الْحُكْمِ وَإِمَّا فِي الدَّلِيلِ أُصُولَ الدِّينِ، وَأَنْتُمْ شَارَكْتُمُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ ذَمَّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِهَذَا الْكَلَامِ، بَلْ عَلِمَ مَنْ يَعْرِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِكُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ.

وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا دَلَالَةَ السَّمْعِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ الْخَبَرِ كَمَا تَظُنُّونَهُ أَنْتُمْ وَهُمْ حَتَّى جَعَلْتُمْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السَّمْعُ إمَّا هُوَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ الْمَوْقُوفِ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ، ثُمَّ جَعَلْتُمْ تَصْدِيقَ الْمُخْبِرِ وَهُوَ الرَّسُولُ مَوْقُوفًا عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَهُمْ

ص: 643

الْعَقْلِيَّاتِ، وَجَعَلُوا مِنْهَا نَفْسَ الصِّفَاتِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَوَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْهَا نَفْيَ كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ، وَأَنْتُمْ لَمْ تُثْبِتُوا الْقَدَرَ حَتَّى أَبْطَلْتُمْ مَا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ. بَلْ مَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمُنَاسَبَاتِ.

وَزَعَمْتُمْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِنَفْيِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ مُطْلَقًا، وَأَنْ تُجْعَلَ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا سَوَاءً فِي أَنْفُسِهَا، لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزِّنَا إلَّا مِنْ جِهَةِ حُكْمِ الشَّارِعِ بِإِيجَابِ أَحَدِهِمَا وَتَحْرِيمِ الْآخَرِ فَصَارَ قَوْلُكُمْ مَدْرَجَةً إلَى فَسَادِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقُرْآنَ ضَرَبَ اللَّهُ فِيهِ الْأَمْثَالَ، وَهِيَ الْمَقَايِيسُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يُثْبِتُ بِهَا مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: كَالتَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَإِمْكَانِ الْمَعَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ وَإِنَّ عَامَّةَ مَا يُثْبِتُهُ النُّظَّارُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَأْتِي الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهِ وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا لِعِظَمِ التَّفَاوُتِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطْبٌ جَسِيمٌ، فَإِنَّكُمْ وَالْمُعْتَزِلَةُ تُثْبِتُونَ كَثِيرًا مِمَّا يُثْبِتُونَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بِطُرُقٍ ضَعِيفَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ، مَعَ مَا يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ مِنْ التَّكْذِيبِ بِكَثِيرٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ.

وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ الَّذِي وَافَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ فِي بَعْضِ مَا أَخْبَرَ بِهِ إلَّا بِتَكْذِيبِهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، بَلْ يُكْفَرُ بِبَعْضِهِ وَيُؤْمَنُ بِبَعْضِهِ فَيُهْدَمُ مِنْ الدِّينِ جَانِبٌ وَيُبْنَى مِنْهُ جَانِبٌ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ ثَابِتٍ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَسَعُ ذَلِكَ لَفَصَّلْنَاهُ، فَإِنَّا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ، مِثْلُ مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِقْرَارُ بِالصَّانِعِ إلَّا بِنَفْيِ صِفَاتِهِ أَوْ بَعْضِهَا الَّتِي يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهَا تَعْطِيلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيَبْقَى الْإِنْسَانُ مُثْبِتًا لَهُ نَافِيًا لَهُ، مُقِرًّا بِوُجُودِهِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَشْعُرُ بِالتَّنَاقُضِ.

وَأَمَّا الْعَقْلِيَّاتُ فَإِنَّكُمْ وَافَقْتُمْ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْفَلَاسِفَةَ عَلَى أُصُولٍ يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا فَسَادُ مَا بَيَّنْتُمُوهُ، فَإِنَّكُمْ لَمَّا سَلَّمْتُمْ لَهُمْ أَنَّ الْأَعْرَاضَ وَهِيَ صِفَاتٌ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ أَوْ تَدُلُّ عَلَى إمْكَانِهِ كَانُوا مُسْتَدِلِّينَ بِهَذَا عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْ الرَّبِّ سبحانه وتعالى فَتَنْقَطِعُونَ مَعَهُمْ.

ص: 644

ثُمَّ أَنْتُمْ إنَّمَا اسْتَدْلَلْتُمْ عَلَى الْمُتَفَلْسِفَةِ بِأَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقَدِيمَ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ، وَلَمَّا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ أَلْزَمُوكُمْ أَوَّلَ الْحَوَادِثِ فَقَالُوا ذَلِكَ الْحَادِثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِهِ سَبَبٌ، فَإِنْ كَانَ لِحُدُوثِهِ سَبَبٌ لَزِمَ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ دَلِيلَكُمْ عَلَيْهِمْ إذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَسَلْسُلِ الْحَوَادِثِ، وَامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحُدُوثِهَا سَبَبٌ جَازَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهَذَا يُبْطِلُ جَمِيعَ أُصُولِكُمْ وَأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَيُبْطِلُ إثْبَاتَكُمْ بِوُجُودِ الصَّانِعِ. فَأَنْتُمْ مَعَ الْفَلَاسِفَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ تُجَوِّزُوا حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فَيَبْطُلُ دَلِيلُكُمْ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَثْبَتُّمْ بِهِ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَهُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ عِنْدَكُمْ.

وَإِمَّا أَنْ لَا تُجَوِّزُوا ذَلِكَ فَيَبْطُلَ أَيْضًا دَلِيلُكُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ دَلِيلُكُمْ الَّذِي هُوَ أَصْلُ أُصُولِكُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بَاطِلٌ.

وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يُوَافِقُونَكُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، لَكِنْ خِطَابُ الْفَلَاسِفَةِ لَهُمْ كَخِطَابِ الْفَلَاسِفَةِ لَكُمْ؛ وَأَمَّا خِطَابُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَكُمْ: إذَا مَا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْقُولِ بَيْنَ قِيَامِ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ، وَإِذَا كَانَ مَا قَامَ بِهِ الْأَعْرَاضُ لَا يَكُونُ إلَّا جِسْمًا، وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ الْأَعْرَاضُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا، وَالْجِسْمُ حَادِثٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا.

وَيَقُولُ لَكُمْ الْمُعْتَزِلِيُّ: إنَّ قِيَامَ الْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِمَحَلٍّ لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ وَدَعْوَى أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ أَعْرَاضًا أَمْرٌ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ.

وَكَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ قُلْتُمْ لَهُمْ: كَمَا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ، وَلَيْسَتْ أَعْرَاضًا وَتَقُومُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ جِسْمًا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ بِعِلْمِيٍّ، وَلَا يُحْمَلُ بِهِ انْقِطَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، إذْ يُقَالُ لَكُمْ: الْمُعْتَزِلَةُ مُخْطِئُونَ إمَّا فِي قَوْلِكُمْ إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَثْبُتُ لِغَيْرِ

ص: 645