الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيَصِيرَ مُخَادِعًا لِلَّهِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ خَادَعَ النَّاسَ وَمَقْصُودُهُ حُصُولُ الشَّيْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْحِيلَةُ وَسُقُوطُ الشَّيْءِ الَّذِي يُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْلَا تِلْكَ الْحِيلَةُ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَقْصُودُهُ إظْهَارُ دِينِ اللَّهِ وَدَفْعُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَتَأَوَّلَ الْحَالِفُ مِنْ يَمِينِهِ إذَا اسْتَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ، فَإِنَّ يَمِينَك عَلَى مَا يُصَدِّقُك بِهِ صَاحِبُك، وَالنِّيَّةُ لِلْمُسْتَحْلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ وِفَاقًا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، بَلْ الِاحْتِيَالُ فِي الْعُقُودِ أَقْبَحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُخَادَعَ فِيهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ خَادَعَ اللَّهَ فَإِنَّمَا خَدَعَ نَفْسَهُ وَمَا يَشْعُرُ، وَلِهَذَا لَا يُبَارَكُ لِأَحَدٍ فِي حِيلَةٍ اسْتَحَلَّ بِهَا شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَتَبَيَّنُ الْحَالُ بِذِكْرِ
أَقْسَامِ الْحِيَلِ
.
[أَقْسَامُ الْحِيَلِ]
ِ فَنَقُولُ هِيَ أَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: الطُّرُقُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا تَحِلُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ بِحَالٍ فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا حَرَامًا فِي نَفْسِهِ فَهِيَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَصَاحِبُهَا يُسَمَّى دَاهِيَةً وَمَكَّارًا وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ عَلَى هَلَاكِ النُّفُوسِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَحِيَلِ الشَّيْطَانِ عَلَى إغْوَاءِ بَنِي آدَمَ وَحِيَلِ الْمُخَادِعِينَ بِالْبَاطِلِ عَلَى إدْحَاضِ حَقٍّ، وَإِظْهَارِ بَاطِلٍ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالْخُصُومَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ فَالتَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِالطُّرُقِ الظَّاهِرَةِ مُحَرَّمٌ فَكَيْفَ بِالطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْحِيلَةِ مَا يُقْصَدُ بِهَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَحِيَلِ اللُّصُوصِ وَلَا مَدْخَلَ لِهَذَا فِي الْفِقْهِ.
وَمِنْهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ إظْهَارُ الْحِيَلِ فِي الظَّاهِرِ وَهَذِهِ الْحِيَلُ لَا يُظْهِرُ صَاحِبُهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ بِهَا شَرٌّ وَقَدْ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ غَالِبًا فَفِي مِثْلِ هَذَا قَدْ تُسَدُّ الذَّرَائِعُ إلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ الْخَبِيثَةِ وَمِثَالُ هَذَا إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَهُ، فَيَجْعَلُهُ حِيلَةً إلَى الْوَسِيلَةِ لَهُ وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَعْلِيمُهُ هَذَا الْإِقْرَارَ حَرَامٌ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَذِبِهِ حَرَامٌ وَالْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِبُطْلَانِهِ حَرَامٌ فَإِنَّ هَذَا كَاذِبٌ غَرَضُهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، فَالْحِيلَةُ نَفْسُهَا مُحَرَّمَةٌ وَالْمَقْصُودُ بِهَا
مُحَرَّمٌ، لَكِنْ لَمَّا أَمِنَ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ لِوَارِثٍ: هَلْ هُوَ بَاطِلٌ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَرَدًّا لِإِقْرَارِ الَّذِي صَادَفَ حَقَّ الْمُوَرَّثِ فِيمَا هُوَ مُتَّهَمٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُمْ فَتَرِدُ التُّهْمَةُ كَالشَّاهِدِ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ هُوَ مَقْبُولٌ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِالْمُقِرِّ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ.؟ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجِ مَعَ إمْسَاكِهِ بِالْمَعْرُوفِ بِإِنْكَارِهَا لِلْإِذْنِ لِلْوَلِيِّ، أَوْ بِإِسَاءَةِ عِشْرَتِهِ بِمَنْعِ بَعْضِ حُقُوقِهِ أَوْ فِعْلِ مَا يُؤْذِيهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَاحْتِيَالُ الْبَائِعِ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُوزًا عَلَيْهِ، أَوْ احْتِيَالُ الْمُشْتَرِي بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْمَبِيعَ، وَاحْتِيَالُ الْمَرْأَةِ عَلَى مُطَالَبَةِ الرَّجُلِ بِمَالٍ بِإِنْكَارِهَا الْإِنْفَاقَ أَوْ إعْطَاءَ الصَّدَاقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ فَهَذَا لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَمِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ خِنْزِيرٍ مَيِّتٍ حَرَامٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُحَرَّمَةٌ، لِأَنَّهَا كَذِبٌ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُرْسِلُ بِهَا إلَى إبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ، أَوْ إثْبَاتِ بَاطِلٍ.
وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا هُوَ مِنْ نَفْسِهِ مُبَاحٌ لَكِنْ بِقَصْدِ الْمُحَرَّمِ صَارَ حَرَامًا كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ مُشْتَمِلًا عَلَى قِسْمَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْصِدَ بِالْحِيلَةِ أَخْذَ حَقٍّ، أَوْ دَفْعَ بَاطِلٍ لَكِنْ يَكُونُ الطَّرِيقُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمًا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ مَجْحُودٌ فَيُقِيمَ شَاهِدَيْنِ لَا يَعْلَمَانِهِ فَيَشْهَدَانِ بِهِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ، لِأَنَّ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ شَهِدَا بِالزُّورِ حَيْثُ شَهِدَا بِمَا لَا يَعْلَمَانِهِ وَهُوَ حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ دَيْنٌ وَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَجَحَدَ الْوَدِيعَةَ وَحَلَفَ مَا أَوْدَعَنِي شَيْئًا، أَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ لَا بَيِّنَةَ بِهِ وَدَيْنٌ آخَرُ بِهِ بَيِّنَةٌ لَكِنْ قَدْ أَقْضَاهُ فَيَدَّعِي هَذَا الدَّيْنَ وَيُقِيمُ بِهِ الْبَيِّنَةَ وَيُنْكِرُ الِاقْتِضَاءَ وَيَتَأَوَّلُ: إنِّي إنَّمَا أَسْتَوْفِي ذَلِكَ الدَّيْنَ الْأَوَّلَ. فَهَذَا حَرَامٌ كُلُّهُ، لِأَنَّهَا إنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِكَذِبٍ مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إنْ حَلَفَ. وَالْكَذِبُ حَرَامٌ كُلُّهُ.
وَهَذَا قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ بَعْضُ مَنْ يُفْتِي بِالْحِيلَةِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْهُمْ لَا يُحِلُّونَهُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقْصِدَ حِلَّ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَقَدْ أَبَاحَهُ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ إذَا وَجَدَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ أَوْ سُقُوطَ مَا أَوْجَبَهُ وَقَدْ أَسْقَطَهُ عَلَى سَبِيلِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ
إذَا وَجَدَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ فَيُرِيدُ الْمُحْتَالُ أَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ السَّبَبَ قَاصِدًا بِهِ ذَلِكَ الْحِيلَةَ وَالسُّقُوطَ - وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَقْصُودَهُ حِلُّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الشَّارِعُ بِقَصْدِ اسْتِحْلَالِهِ، أَوْ سُقُوطُ مَا لَمْ يَأْذَنْ الشَّارِعُ بِقَصْدِ إسْقَاطِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الِاسْتِحْلَالَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَقْصُودًا يُجَامِعُ حَقِيقَتَهُ بَلْ قَصَدَ بِهِ مَقْصُودًا يُنَافِي حَقِيقَتَهُ وَمَقْصُودَهُ الْأَصْلِيَّ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مَقْصُودَهُ الْأَصْلِيَّ بَلْ قَصَدَ بِهِ غَيْرَهُ. فَلَا يَحِلُّ بِحَالٍ. وَلَا يَصِحُّ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُمْكِنُ إبْطَالُهُ.
وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُحْتَالِينَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْفَتْوَى وَهُوَ أَكْثَرُ مَا قَصَدْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فَإِنَّهُ قَدْ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْمُحْتَالِينَ فَقَالُوا: الرَّجُلُ إذَا قَصَدَ التَّحْلِيلَ مَثَلًا لَمْ يَقْصِدْ مُحَرَّمًا فَإِنَّ عَوْدَةَ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا بَعْدَ زَوَاجٍ حَلَالٍ.
وَالنِّكَاحُ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ حَلَالٌ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ - وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّ عَوْدَةَ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا إمَّا هُوَ حَلَالٌ إذَا وُجِدَ النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ النِّكَاحُ، وَالنِّكَاحُ إنَّمَا هُوَ مُبَاحٌ إذَا قَصَدَ بِهِ مَا يُقْصَدُ بِالنِّكَاحِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا قَصَدَ مَا هُوَ مَقْصُودُهُ، أَوْ قَصَدَ نَفْسَ وُجُودِهِ أَوْ وُجُودِ بَعْضِ لَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مَقْصُودُهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الطَّلَاقَ الْمُوجِبَ لِتَحْلِيلِ الْمُحَرَّمَةِ.
فَإِنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ النِّكَاحِ، وَإِزَالَتُهُ وَقَصْدُ إيجَادِ الشَّيْءِ لِإِعْدَامِهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ وُجُودِهِ مُحَالٌ فَالْحِلُّ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ، وَالطَّلَاقُ يَتْبَعُ النِّكَاحَ وَالنِّكَاحُ يَتْبَعُ حَقِيقَتَهُ الَّتِي شُرِعَ النِّكَاحُ وَجُعِلَ مِنْ أَجْلِهَا، فَإِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ هَكَذَا حَصَلَ الْحِلُّ، أَمَّا إذَا قَصَدَ بِالنِّكَاحِ التَّحْلِيلَ صَارَ النِّكَاحُ تَابِعًا لَهُ وَالشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْحِلَّ الْمُطْلَقَ تَابِعًا لِلطَّلَاقِ الثَّانِي بَعْدَ النِّكَاحِ فَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فَرْعًا لِلْآخَرِ وَتَبَعًا لَهُ فَيَصِيرُ الثَّانِي فَرْعَ نَفْسِهِ وَأَصْلَ أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ وَهَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إذَا كَانَ إنَّمَا يَحْصُلُ تَبَعًا لِلْآخَرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِذَا كَانَ إنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ لَا يُقْصَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَإِذَا لَمْ يُقْصَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَانَ وُجُودُ مَا وُجِدَ مِنْهُمَا عَبَثًا وَالشَّارِعُ لَا يَشْرَعُ الْعَبَثَ، ثُمَّ فِيهِ إرَادَةُ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ فَلَا يُرَادُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَيَصِيرُ الْعَقْدُ أَيْضًا عَبَثًا وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحْتَالِينَ أَنْ تَصِيرَ الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ عَبَثًا وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ فَلْيُتَفَطَّنْ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَقَاصِدُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ هِيَ عِلَلُهَا الَّتِي هِيَ غَايَاتُهَا وَنِهَايَاتُهَا
وَهَذِهِ الْعِلَلُ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرَكِ وَالْعِلَلُ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ وَالْعَوَاقِبُ، وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا بِفِعْلِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ وُجُودِهَا وَسَبَبُ كَوْنِهَا فَبِتَصَوُّرِهَا وَقَصْدِهَا صَارَ الْفَاعِلُ فَاعِلًا فَهِيَ الْمُحَقِّقَةُ لِكَوْنِ الْفَاعِلِ فَاعِلًا وَالْمُقَوِّمَةُ لِفِعْلِهِ وَهِيَ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْفِعْلُ عِلَّةٌ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْوُجُودِ كَالنِّكَاحِ مَثَلًا فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِحِلِّ الْمُتْعَةِ، وَحِلُّ الْمُتْعَةِ عِلَّةٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَقْصِدَهَا فَإِنَّمَا حَصَلَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ النِّكَاحُ بِقَصْدِ النَّاكِحِ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ فَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ حَقِيقَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَصْدِ أَعْنِي أَنَّهُ بِحَيْثُ يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُ، وَالْقَصْدُ مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ وَالْفِعْلُ مُوجِبٌ لِوُجُودِ الْحِلِّ فَصَارَتْ الْعَاقِبَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْلُومَةٌ مَقْصُودَةٌ عِلَّةً وَمِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ مَعْلُولَةً، وَشَرِكَهَا فِي أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مَعْلُولٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَفِي الْآخَرِ عِلَّةٌ فِي نَفْسِ الْوُجُودِ.
وَمِثَالُ الْأَوَّلِ " لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ " الَّتِي تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي قَعَدَ عَنْ الْحَرْبِ جُبْنًا وَمَنَعَ الْمَالَ بُخْلًا وَسَائِرُ الْعِلَلِ الْفَاعِلَةِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ حِلُّ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا عِلَّةٌ لِلنِّكَاحِ وَمَعْلُولٌ لَهُ، وَهُوَ تَابِعٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَتْبُوعٌ مِنْ آخَرَ فَكَذَلِكَ حِلُّ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا قَدْ يَكُونُ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَحِلُّهَا تَابِعٌ لِوُجُودِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، وَمَعْلُولٌ لَهُ وُجُودًا وَهُوَ مَتْبُوعٌ، وَعِلَّةٌ لَهُ قَصْدًا، وَإِرَادَةً قَدْ يَفْعَلُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ لَا لِمَقَاصِدِهِ الْأَصْلِيَّةِ، بَلْ الْمَقَاصِدُ تَابِعَةٌ لَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَسَنًا كَمَنْ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ لِمُصَاهَرَةِ أَهْلِهَا كَفِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ عَلِيٍّ رضي الله عنهم أَوْ لَأَنْ تَخْدُمَهُ فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ لِتَقُومَ عَلَى بَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ لَهُ كَفِعْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا عَدَلَ عَنْ نِكَاحِ الْبِكْرِ إلَى الثَّيِّبِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّوَابِعُ مِنْ اللَّوَازِمِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ مِنْ اللَّوَازِمِ الْعُرْفِيَّةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ حَسَنًا كَانَ الْفِعْلُ حَسَنًا وَحُصُولُ الْفُرْقَةِ الْمُحَرَّمَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَكُونُ فِيهَا فَسَادٌ لِحَالَيْهِمَا وَرُبَّمَا تَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى أَوْلَادِهِمَا أَوْ أَقَارِبِهِمَا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ هَلَاكُ الْمَرْأَةِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ طَالَتْ صُحْبَتُهَا وَحُمِدَتْ عِشْرَتُهَا، وَقَوِيَتْ مَوَدَّتُهَا وَبَيْنَهُمَا أَطْفَالٌ يَضِيعُونَ بِالطَّلَاقِ، وَبِهَا مِنْ الْوَجْدِ وَالصَّبَابَةِ مِثْلُ مَا بِهِ، فَإِنَّ قَصْدَ تَرَاجُعِهِمَا وَالتَّسَبُّبَ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ، فَإِذَا قَصَدَهُ الْمُحَلِّلُ وَلَمْ يُشْعِرْهُمَا لَمْ يَقْصِدْ إلَّا خَيْرًا، وَرُبَّمَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ شُبْهَةُ مَنْ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ.
قُلْنَا: لَا نُنْكِرُ أَنَّ عَوَاقِبَ الْأَفْعَالِ تَكُونُ تَابِعَةً مَتْبُوعَةً مِنْ وَجْهَيْنِ، وَلَكِنَّ إدْخَالَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَلَطٌ مُنْكَرٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ نَبَّهْنَا عَلَيْهِمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ إنَّمَا أُرِيدَ لِأَجْلِ الْآخَرِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُرَادٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ مُرَادًا لِأَجْلِهِ فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا فَيَصِيرُ عَبَثًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ إرَادَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ ضِدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ إرَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْجُودَةً فَيَصِيرُ الْفِعْلُ أَيْضًا عَبَثًا.
بَيَانُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ:
أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا، أَوْ أَمَرَ بِشَيْءٍ لِأَجْلِ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَقْصُودًا لَهُ بِحَيْثُ يُرِيدُ وُجُودَهُ لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ وَلَا يُرِيدُ عَدَمَهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ طَرِيقًا إلَى حُصُولِهِ أَرَادَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُصُولُهُ إلَّا بِتِلْكَ الطَّرِيقِ جَعَلَهَا مَقْصُودَةً لِأَجْلِهِ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَعْدَمَ الشَّيْءَ وَأَزَالَهُ لَمْ يَجْعَلْ إلَى وُجُودِهِ طَرِيقًا مَحْضًا بِحَيْثُ تَكُونُ مُفْضِيَةً إلَيْهِ يُمْكِنُ الْقَاصِدَ لِوُجُودِهِ سُلُوكُهَا بَلْ عَلَّقَ وُجُودَهُ بِوُجُودِ أَمْرٍ آخَرَ لَهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةٌ وَمَقْصُودُهُ غَيْرُ وُجُودِ ذَلِكَ الْمُعَلَّقِ بِهِ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لِوُجُودِ الشَّيْءِ الْمُعَلَّقِ فِي نَفْسِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ يَكُونُ قَاصِدًا لَهُ بِالْقَصْدِ الثَّانِي كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ قَاصِدًا لِلْوَسِيلَةِ، فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْغَايَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ لِلْأَوَّلِ دُونَ الْوَسِيلَةِ، وَفِي الثَّانِي لَيْسَتْ الْغَايَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ عَدَمُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ عَدَمُهَا إلَى أَنْ تُوجَدَ الْوَسِيلَةُ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَنَصَبَ لَهَا طَرِيقًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهَا تُفْضِي إلَيْهَا غَالِبًا.
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّارِعُ لَمَّا حَرَّمَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ثُمَّ يُفَارِقَهَا، لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الْحِلِّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ شَيْئًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا حَيْثُ عَلَّقَ وُجُودَ الْحِلِّ بِأَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، ثُمَّ يُفَارِقَهَا؛ وَهَذِهِ الْغَايَةُ الَّتِي هِيَ النِّكَاحُ يُوجَدُ الطَّلَاقُ مَعَهَا تَارَةً، وَتَارَاتٍ كَثِيرَةً لَا يُوجَدُ وَهِيَ نَفْسُهَا تُوجَدُ تَارَةً وَتَارَاتٍ لَا تُوجَدُ فَيُعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ نَفَى الْحِلَّ إمَّا عُقُوبَةً عَلَى الطَّلَاقِ، أَوْ امْتِحَانًا لِلْعِبَادِ، أَوْ لِمَا شَاءَ سُبْحَانَهُ، وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ شَيْئًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْمِلْكِ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْمِلْكِ إذَا أَرَادَهُ الْمُكَلَّفُ نَصَبَ لَهُ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ حِلَّ الْبُضْعِ لَمَّا أَرَادَهُ الْعَبْدُ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ الْبَائِنَتَيْنِ، أَوْ بِدُونِ الطَّلَاقِ جَعَلَ لَهُ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ وَهُوَ تَنَاكُحُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّهُمَا إذَا أَرَادَا ذَلِكَ فَعَلَاهُ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وَبَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] .
فَإِنَّهُ لَمَّا قَصَدَ وُجُودَ الْحِلِّ لِلْعَبْدِ إذَا أَرَادَهُ عَلَّقَهُ بِالتَّطَهُّرِ الَّذِي يَتَيَسَّرُ غَالِبًا وَجَعَلَ التَّطَهُّرَ طَرِيقًا مُوصِلًا إلَى حُصُولِ الْحِلِّ بِحَيْثُ يُفْعَلُ لِأَجْلِهِ فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَقْصِدُ وُجُودَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ وُجُودِ غَيْرِهِ وَبَيْنَ مَا يَقْصِدُ عَدَمَهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُهُ.
فَالْأَوَّلُ كَرَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يُكْرِمَ غَيْرَهُ لَكِنْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ إلَّا إذَا ابْتَدَأَهُ بِذَلِكَ. وَالثَّانِي كَرَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ لَا يُكْرِمَ رَجُلًا لَكِنْ أَكْرَمَهُ فَاضْطُرَّ إلَى مُكَافَأَتِهِ فَالْأَوَّلُ يَكُونُ مَصْلَحَةً لَكِنَّ وُجُودَهَا إنَّمَا يَتِمُّ بِأَسْبَابٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وَالثَّانِي يَكُونُ مَفْسَدَةً لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابٍ تَصِيرُ مَصْلَحَةً فَمِنْ الْأَوَّلِ يُتَلَقَّى فِقْهُ أَسْبَابِ الْحُكْمِ وَشُرُوطِهِ فَإِنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ وَمُكَمِّلَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ وَمِنْ الثَّانِي يُتَلَقَّى حُكْمُ الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارَضَاتِ الَّتِي يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا.
وَمِثَالُ الْأَوَّلِ أَسْبَابُ حِلِّ الْمَالِ وَالْوَطْءِ وَاللَّحْمِ فَإِنَّ الْمَالَ وَالْبُضْعَ وَاللَّحْمَ حَرَامٌ حَتَّى تُوجَدَ هَذِهِ الْأَسْبَابُ وَهِيَ مَقْصُودَةُ الْوُجُودِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَصْلَحَةِ الْخَلْقِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي أَسْبَابُ حِلِّ الْعُقُوبَاتِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجَلْدِ وَالْقَطْعِ فَإِنَّ الدِّمَاءَ وَالْمُبَاشَرَةَ حَرَامٌ حَتَّى تُوجَدَ الْجِنَايَاتُ وَهِيَ مَقْصُودَةُ الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ عَدَمُهَا.
وَمِنْ الثَّانِي تَحْرِيمُ الْخَبَائِثِ حَتَّى تُوجَدَ الضَّرُورَةُ وَتَحْرِيمُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ اقْتِطَاعًا مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ أُمُورٌ تَقْتَضِي عَدَمَهَا إلَّا إذَا عَارَضَهَا مَا هُوَ أَقْوَى فِي اقْتِضَاءِ الْوُجُودِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ حِلَّ الْعُقُوبَاتِ وَحِلَّ الْمَيْتَةِ وَوَطْءِ الْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: أَنَا أُقِيمُ بِمَكَانٍ لَا طَعَامَ فِيهِ لِتُبَاحَ لِي الْمَيْتَةُ، أَوْ أُخْرِجُ مَالِي وَأَتَنَاوَلُ مَا يُثِيرُ شَهْوَتِي لِيَحِلَّ لِي نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ عَاصِيًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ قَالَ: أَنَا
أَتَزَوَّجُ لِيَحِلَّ لِي الْوَطْءُ، أَوْ أَذْبَحُ الشَّاةَ لِيَحِلَّ لِي اللَّحْمُ لَكَانَ قَدْ فَعَلَ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ حَرَامًا إلَّا عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ.
وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: أُسَافِرُ لِأَقْصُرَ وَأُفْطِرَ، أَوْ أَعْدَمُ الْمَاءَ لِأَتَيَمَّمَ.
وَمِنْ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: أُرِيدُ الْإِسْرَاعَ بِالْعُمْرَةِ لِأَتَحَلَّلَ مِنْهَا لِتَحِلَّ لِي مَحْظُورَاتُ الْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ التَّحَلُّلَ وَسِيلَةً إلَى فِعْلِهِ صَارَ مَقْصُودُهُ الْوُجُودَ إذَا أَرَادَهُ.
وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ لَيْسَ هُوَ مَنْصُوبًا لِحُصُولِ هَذَا الْحِلِّ أَعْنِي حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ بَلْ لِحُصُولِ مَا يُنَافِيهِ بَلْ فِي نِكَاحِ الْأَوَّلِ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مَفْسَدَةٌ اقْتَضَتْ الْحُرْمَةَ فَإِذَا نَكَحَهَا زَوْجٌ ثَانٍ زَالَتْ الْمَفْسَدَةُ فَيَعُودُ الْحِلُّ وَالشَّارِعُ لَمْ يَشْرَعْ نِكَاحَ الثَّانِي لِأَجْلِ أَنْ تَزُولَ الْمَفْسَدَةُ فَلَا يَكُونُ قَاصِدًا لِزَوَالِهَا فَلَا يَكُونُ حِلُّهَا لِلْأَوَّلِ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ إذَا أَرَادَهُ الْمُطَلِّقُ وَلَا إذَا لَمْ يُرِدْهُ لَكِنَّ نِكَاحَ الثَّانِي يَقْتَضِي زَوَالَ الْمَفْسَدَةِ.
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَإِذَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا لَمْ يَقْصِدْ النِّكَاحَ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَثَرَ زَوَالِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ هَذَا مَقْصُودَهُ وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَمْ يَقْصِدْهُ الشَّارِعُ ابْتِدَاءً إنَّمَا أَثْبَتَهُ عِنْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ الثَّانِي كَمَا تَقَرَّرَ فَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ مَقْصُودًا لَهُ بَلْ الْحِلُّ لِلْمُطَلِّقِ هُوَ مَقْصُودُهُ وَلَيْسَ هَذَا الْحِلُّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلنِّكَاحِ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ بِطَلَاقٍ فَلَا تَتَّفِقُ إرَادَةُ الشَّارِعِ وَالْمُحَلِّلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. أَوْ نِكَاحُهُ إنَّمَا أَرَادَهُ لِأَجْلِ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ وَالشَّارِعُ إنَّمَا أَرَادَ ثُبُوتَ الْحِلِّ مِنْ أَجْلِ النِّكَاحِ الْمُتَعَقَّبِ بِالطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مُرَادًا لَهُمَا فَيَكُونُ عَبَثًا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ وَالْعَاقِدِ، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ الَّتِي لَا تُطَابِقُ مَقْصُودَ الشَّارِعِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
وَهَكَذَا الْخُلْعُ لِحِلِّ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْخُلْعَ إنَّمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُوجِبًا لِلْبَيْنُونَةِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْمَرْأَةِ مِنْ الِافْتِدَاءِ مِنْ زَوْجِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْصُودَهَا إذَا قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَإِذَا حَصَلَ هَذَا، ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَقَعَ وَلَيْسَتْ هِيَ زَوْجَةً فَلَا يَحْنَثُ فَكَانَ هَذَا تَبَعًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لِقَصْدِ الْبَيْنُونَةِ فَإِذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ لِيَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمَا الْبَيْنُونَةَ بَلْ حِلَّ الْيَمِينِ، وَحِلُّ الْيَمِينِ إنَّمَا جَاءَ تَبَعًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ لَا مَقْصُودًا بِهِ فَتَصِيرُ الْبَيْنُونَةُ لِأَجْلِ حِلِّ الْيَمِينِ وَحِلُّ الْيَمِينِ لِأَجْلِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَقْصُودًا فَلَا يُشْرَعُ عَقْدٌ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي
نَفْسِهِ وَلَا مَقْصُودًا لِمَا هُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ الشَّارِعِ وَالْعَاقِدِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ عَبَثٌ وَتَفَاصِيلُ هَذَا الْكَلَامِ فِيهَا طُولٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ.
وَأَمَّا بَيَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ إنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يَنْكِحَهَا لِيُطَلِّقَهَا وَكَذَلِكَ الْمُخْتَلِعَةُ إنَّمَا تَخْتَلِعُ، لِأَنَّ تَرَاجُعَ الْعَقْدِ لَا يُقْصَدُ بِهِ ضِدُّهُ وَنَقِيضُهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ مِمَّا يُقْصَدُ فِي النِّكَاحِ أَبَدًا كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يُعْقَدُ لِلْفَسْخِ قَطُّ وَالْهِبَةُ لَا تُعْقَدُ لِلرُّجُوعِ فِيهَا قَطُّ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحْرِمَ مُنْفَرِدًا، أَوْ قَارِنًا لِقَصْدِ فَسْخِ الْحَجِّ وَالتَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَإِنَّ الْفَسْخَ إعْدَامُ الْعَقْدِ وَرَفْعُهُ فَإِذَا عَقَدَ الْعَقْدَ لَأَنْ يَفْسَخَهُ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ عَدَمَ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ عَدَمَهُ لَمْ يَقْصِدْ وُجُودَهُ فَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ مَقْصُودًا أَصْلًا فَيَكُونُ عَبَثًا إذْ الْعُقُودُ إنَّمَا تُعْقَدُ لِفَوَائِدِهَا وَثَمَرَاتِهَا وَالْفُسُوخُ رَفْعٌ لِلثَّمَرَاتِ وَالْفَوَائِدِ فَلَا يَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، فَعُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِصُورَةِ الْعَقْدِ وَالْفَسْخِ وَلَمْ يَقْصِدْ حُكْمَ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْآثَارِ تَسْمِيَتُهُ مُخَادِعًا وَمُدَلِّسًا. وَلَا يُقَالُ: مَقْصُودُهُ مَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْفَسْخِ مِنْ الْحِلِّ لِلْمُطَلِّقِ لِأَنَّ الْحِلَّ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ثَبَتَ الْعَقْدُ ثُمَّ انْفَسَخَ وَمَقْصُودُ الْعَقْدِ حُصُولُ مُوجَبِهِ وَمَقْصُودُ الْفَسْخِ زَوَالُ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَا عَقْدَ فَلَا فَسْخَ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَابِعُهُ وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَلِهَذَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا مُتَلَاعِبًا مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ الْمَقَاصِدِ الْفَرْعِيَّةِ فِي النِّكَاحِ مِثْلِ مُصَاهَرَةِ الْأَوَّلِ وَتَرْبِيَةِ الْأَخَوَاتِ فَإِنَّ تِلْكَ الْمَقَاصِدَ لَا تُنَافِي النِّكَاحَ بَلْ تَسْتَدْعِي بَقَاءَهُ وَدَوَامَهُ فَهِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِحُصُولِ مُوجَبِ الْعَقْدِ وَهَكَذَا كُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الشَّيْءَ يُفْعَلُ لِأَغْلَبِ فَوَائِدِهِ وَلَا تُزَالُ فَوَائِدُهُ بِحَيْثُ لَا تَكُونُ تِلْكَ الْمَقَاصِدُ مُبَيِّنَةً لِحَقِيقَتِهِ بَلْ مُجَامِعَةً لَهَا مُسْتَلْزِمَةً إيَّاهَا أَمَّا أَنْ تُفْعَلَ لِرَفْعِ حَقِيقَتِهِ وَتُوجَدَ لِمُجَرَّدِ أَنْ تُعْدَمَ فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ شِرَاءِ الْعَبْدِ لِيُعْتِقَهُ، أَوْ الطَّعَامِ لِيُتْلِفَهُ فَإِنَّ قَصْدَ الْعِتْقِ وَالْإِتْلَافِ لَا يُنَافِي قَصْدَ الْبَيْعِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا رَفْعٌ لِلْعَقْدِ وَفَسْخٌ لَهُ، وَإِنَّمَا يُنَافِي بَقَاءَ الْمِلْكِ وَدَوَامَهُ وَالْأَمْوَالُ لَا يُقْصَدُ بِمِلْكِهَا بَقَاؤُهَا فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِأَعْيَانِهَا وَمَنَافِعِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِإِزَالَةِ الْمَالِيَّةِ عَنْ الشَّيْءِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، فَإِنَّهَا تُقْصَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِذَاتِهَا كَالْأَكْلِ، أَوْ بِبَذْلِهَا الدِّينِيِّ أَوْ الدُّنْيَوِيِّ كَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ، أَوْ بِمَنْفَعَتِهَا كَالسَّكَنِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تُوجِبُ فَسْخَ الْعَقْدِ
وَالْإِيضَاحَ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ أَنْ يَقْصِدَ بِمِلْكِهَا الِانْتِفَاعَ بِتَلَفِ عَيْنِهَا، أَوْ بِبَذْلِ الْعَيْنِ، وَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَصْدُ الْفَسْخِ فِي الْعَقْدِ مُحَالٌ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَبْقَ إلَّا قَصْدُ الِانْتِفَاعِ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُمْ:
إنَّ قَصْدَ تَرَاجُعِهِمَا قَصْدٌ صَالِحٌ لِمَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ.
قُلْنَا: هَذِهِ مُنَاسَبَةٌ شَهِدَ لَهَا الشَّارِعُ بِالْإِلْغَاءِ وَالْإِهْدَارِ وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ وَالتَّعْلِيلِ هُوَ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ، وَالْمَصَالِحُ وَالْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِمَا يُخَالِفُهَا إذَا اُعْتُبِرَتْ فَهِيَ مُرَاغِمَةٌ بَيِّنَةٌ لِلشَّارِعِ مَصْدَرُهَا عَدَمُ مُلَاحَظَةِ حِكْمَةِ التَّحْرِيمِ، وَمَوْرِدُهَا عَدَمُ مُقَابَلَتِهِ بِالرِّضَى وَالتَّسْلِيمِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَكُونُ مَصَالِحَ، وَإِنْ ظَنَّهَا مَصَالِحَ، وَلَا تَكُونُ مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ، وَإِنْ اعْتَقَدَهَا مُعْتَقِدٌ مُنَاسِبَةً بَلْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ خِلَافَ مَا رَآهُ هَذَا الْقَاصِرُ فِي نَظَرِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ حُسْنُهُ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ، وَتَحْكِيمُ عِلْمِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ عَلَى عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَإِنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَصَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ قَدْ حَرَّمَ هَذِهِ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَعَلِمَ أَنَّ النِّكَاحَ الْحَسَنَ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي حِلِّهِ هُوَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الشَّارِعَ لَيْسَ مُتَشَوِّقًا إلَى رَدِّ هَذِهِ إلَى زَوْجِهَا إلَّا أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ يُيَسِّرُهُ لَيْسَ لِلْخَلْقِ فِيهِ صُنْعٌ وَقَصْدٌ لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مَعْنًى مَطْلُوبًا لَسَنَّهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - وَنَدَبَ إلَيْهِ، كَمَا نَدَبَ إلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَكَمَا كَرِهَ الِاخْتِلَاعَ وَالطَّلَاقَ الْمُوجِبَ لِزَوَالِ الْأُلْفَةِ، وَقَدْ قَالَ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى صلى الله عليه وسلم:«مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُبَاعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ تَرَكَتْكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ» .
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَثْرَةَ وُقُوعِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَهَلَّا نَدَبَ إلَى التَّحْلِيلِ وَحَضَّ عَلَيْهِ كَمَا حَضَّ عَلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَلَمَا زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ عَنْ ذَلِكَ وَلَعَنُوا فَاعِلَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ نَوْعٍ وَلَا نَدْبٍ إلَى شَيْءٍ مِنْ
أَنْوَاعِهِ -، ثُمَّ لَوْ كَانَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ تَيْسِيرَ عَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ لَمْ يُحَرِّمْهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يُحْوِجْهُ إلَى هَذَا الْعَنَاءِ فَإِنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ - وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَالْمُطَلِّقُ هُوَ الَّذِي جَلَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَقَالُوا: لَوْ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا جَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ ضَرَرًا مِثْلَ قَتْلٍ، أَوْ قَذْفٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ عُقُوبَةً مُطْلَقَةً، أَوْ عُقُوبَةً مَحْدُودَةً لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَالُ فِي إسْقَاطِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ وَلَوْ فَعَلَ مَا عَلَيْهِ فِيهِ كَفَّارَةٌ لَمْ يَكُنْ إلَى رَفْعِهَا سَبِيلٌ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَبِهِ شَبَقٌ وَهُوَ لَا يَجِدُ رَقَبَةً لَمْ يُمْكِنْ وَطْؤُهَا حَتَّى يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، فَإِنَّمَا يَسْعَى الْإِنْسَانُ فِي مَصْلَحَةِ أَخِيهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَأَبَاحَهُ وَأَمَّا مُسَاعَدَتُهُ عَلَى أَغْرَاضِهِ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ فَهُوَ إضْرَارٌ بِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمَا هَذِهِ إلَّا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ مَنْ يَهْوَى امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَى نَيْلِ غَرَضِهِ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي لُزُومِ التَّقْوَى وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ السَّبْتِ اسْتَحَلُّوا مَا اسْتَحَلُّوا لَمَّا قَامَتْ فِي نُفُوسِهِمْ هَذِهِ الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ وَلَعَلَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا اتَّقَيَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ لِعَامَّةِ الْمُتَّقِينَ.
وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّحْلِيلِ الْمَكْتُومِ وَهُوَ الَّذِي حُكِيَ وُقُوعُ الشُّبْهَةِ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ وَتَوَاطَآ عَلَيْهِ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَبِهَذَا الْكَلَامِ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ الْحِيَلِ مُلْحَقٌ بِالْأَوَّلِ مِنْهَا لَكِنَّ الْأَوَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحْتَالِ بِهِ، وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ لَوْ فُرِضَ تَجَرُّدُهُ عَنْ الْآخَرِ وَهُنَا إنَّمَا صَارَ الْمُحْتَالُ بِهِ مُحَرَّمًا لِاقْتِرَانِهِ بِالْآخَرِ فَإِنَّهُ لَوْ جَرَّدَ النِّكَاحَ مَثَلًا عَنْ هَذَا الْقَصْدِ لَكَانَ حَلَالًا وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لَوْ حَصَلَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ لَهُ مُجَرَّدًا عَنْ الِاحْتِيَالِ لَكَانَ مُبَاحًا، ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ فِيهِ أَنْوَاعٌ.
أَحَدُهَا:
الِاحْتِيَالُ لِحِلِّ مَا هُوَ يَحْرُمُ فِي الْحَالِ كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ.
الثَّانِي:
الِاحْتِيَالُ لِحِلِّ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ مَا يَحْرُمُ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْحِيلَةِ كَالِاحْتِيَالِ عَلَى حِلِّ الْيَمِينِ فَإِنَّ يَمِينَ الطَّلَاقِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ إذَا حَنِثَ فَإِنَّ الْمُحْتَالَ يُرِيدُ إزَالَةَ التَّحْرِيمِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْحِيَلُ الرِّبَوِيَّةُ كُلُّهَا فَإِنَّ الْمُحْتَالَ يُرِيدُ مَثَلًا أَخْذَ مِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ بِبَذْلِ ثَمَانِينَ حَالَّةٍ فَيَحْتَالُ لِيُزِيلَ التَّحْرِيمَ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَهُوَ هَذَا الْمَعْنَى.
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
الِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ وَاجِبٍ قَدْ وَجَبَ، مِثْلُ أَنْ يُسَافِرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ لِيُفْطِرَ، وَمِثْلُ الِاحْتِيَالِ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِ مُسْلِمٍ مِنْ نِكَاحٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا.
الرَّابِعُ:
الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، مِثْلُ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، أَوْ الشُّفْعَةِ أَوْ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ خَبِيثٌ، مِثْلُ الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، أَوْ صَوْمِ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ، أَوْ الشُّفْعَةِ لَكِنَّ شُبْهَةَ الْمُرْتَكِبِ أَنَّ هَذَا مَنْعٌ لِلْوُجُوبِ لَا رَفْعٌ لَهُ وَكِلَاهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، مِثْلُ الْإِفْرَادِ لِابْنِهِ أَوْ تَمْلِيكِهِ نَاوِيًا لِلرُّجُوعِ، أَوْ تَوَاطُؤِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرَاهُ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى التَّحْلِيلِ وَفِي بَعْضِهَا يَظْهَرُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا يَخْفَى كِلَاهُمَا كَالتَّحْلِيلِ وَخُلْعِ الْيَمِينِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ:
الِاحْتِيَالُ عَلَى أَخْذِ بَدَلِ حَقِّهِ، أَوْ عَيْنِ حَقِّهِ بِخِيَانَةٍ مِثْلُ أَنَّ مَالًا قَدْ اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ زَاعِمًا أَنَّهُ بَدَلُ حَقِّهِ أَوْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ هَذَا الْقَدْرَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ إظْهَارِهِ فَهَذَا أَيْضًا يَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ مَا لَا يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَنْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى عَمَلٍ بِجُعْلٍ يُفْرَضُ لَهُ وَيَكُونُ جُعْلُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجُعْلِ فَيَغُلُّ بَعْضَ مَالِ مُسْتَعْمِلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ تَمَامَ حَقِّهِ فَإِنَّ هَذَا حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ السُّلْطَانَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ الْفَيْءِ وَالْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ وَسَائِرِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ الْحَاكِمَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْأَوْقَافِ أَوْ غَيْرَهُمَا كَالْمُوَكَّلَيْنِ وَالْمُوصَيْنَ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي كَوْنِهِ يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَى مَا شَرَطَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ظَنَّ الْبَائِعُ، أَوْ الْمُكْرِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعِوَضُ الْمُسْتَحَقُّ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا.
وَأَمَّا مَا يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ بِأَنْ يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا كَرَجُلٍ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مَالٌ
فَجَحَدَهُ إيَّاهُ وَعَجَزَ عَنْ خَلَاصِ حَقِّهِ، أَوْ ظَلَمَهُ السُّلْطَانُ مَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا مُحْتَالٌ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ لَكِنْ إذَا احْتَالَ بِأَنْ يَغُلَّ بَعْضَ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْغُلُولَ وَالْخِيَانَةَ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَالْكَذِبَ حَرَامٌ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّوَصُّلَ إلَى حَقِّهِ، وَلِهَذَا «قَالَ بَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ، فَقَالَ: أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» بِخِلَافِ مَا لَيْسَ خِيَانَةً لِظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ وَالتَّبَذُّلِ وَالتَّبَسُّطِ فِي مَالِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ كَأَخْذِ الزَّوْجَةِ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إذَا مَنَعَهَا فَإِنَّهَا مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ إعْلَانِ هَذَا الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ غُلُولًا وَلَا خِيَانَةً وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا هِيَ أَيْضًا مِنْ الْحِيَلِ الْمَحْضَةِ، بَلْ هِيَ بِمَسَائِلِ الذَّرَائِعِ أَشْبَهُ، لَكِنْ لِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ التَّحَيُّلِ ذَكَرْنَاهَا لِتَمَامِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ أَنْ يُمَيِّزَ الْفَقِيهُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِيَعْرِفَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هِيَ فَيُلْحِقَهَا بِنَظِيرِهَا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ مِنْ هَذِهِ الْحِيَلِ مُسْتَوْفًى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يُسْتَوْفَ الْكَلَامُ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الْخَمْسَةَ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ مُبْتَدَعَةٌ وَنَبَّهْنَا هُنَا عَلَى سَبَبِ التَّحْرِيمِ فِيهَا وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَدْ شُبِّهَتْ بِهِ حَتَّى جُعِلَتْ، وَإِيَّاهُ جِنْسًا وَاحِدًا، وَقِيَاسُ مَنْ قَاسَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهُوَ الثَّالِثُ وَرُبَّمَا قِيسَ الثَّانِي أَيْضًا عَلَيْهِ كَمَا قِيسَ عَلَيْهِ الثَّانِي مِنْ الْخَامِسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ الْمُؤَثِّرِ هُوَ مِثْلُ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] نَظَرًا إلَى أَنَّ الْبَائِعَ يَتَنَاوَلُ بِمَالِهِ لِيَرْبَحَ، وَكَذَلِكَ الْمُرْبِي، وَلَقَدْ سَرَى هَذَا الْمَعْنَى فِي نُفُوسِ طَوَائِفَ حَتَّى بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمَرْمُوقِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا أَدْرِي لِمَ حُرِّمَ الرِّبَا وَيَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ تَحْلِيلُهُ، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ اتِّبَاعًا فَقَطْ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَامَ فِي نَفْسِ هَذَا هُوَ الَّذِي قَامَ فِي نُفُوسِ الَّذِينَ قَالُوا {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَلْيُعَزِّ مِثْلُ هَذَا نَفْسَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ هَذِهِ عَزَاءُ الْمُصِيبَةِ، وَلْيَتَأَمَّلْ فِي قَوْله تَعَالَى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
فَلْيَنْظُرْ هَلْ أَصَابَهُمْ هَذَا التَّخَبُّطُ الَّذِي هُوَ كَمَسِّ الشَّيْطَانِ بِمُجَرَّدِ أَكْلِهِمْ السُّحْتَ أَمْ بِقَبُولِهِمْ الْإِثْمَ مَعَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فَمَنْ كَانَ هَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُ مُتَوَجَّهًا، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ سَمْعًا وَطَوْعًا أَلَمْ يَكُنْ هَذَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ رَأْيِهِ وَنَقْصِ عَقْلِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ فِقْهِ الدِّينِ.
نَعَمْ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْإِجَارَةُ، لِأَنَّهَا بَيْعُ مَعْدُومٍ وَلَمْ يَهْتَدِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُوجَدُ وَبَيْعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يَتَأَتَّى وُجُودُهَا مُجْتَمِعَةً وَلَا يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا مَعْدُومَةً وَلَوْ عَارَضَهُ مَنْ قَالَ: الْقِيَاسُ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَعْدُومِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا فَرْقٌ.
وَكَذَلِكَ يَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَأَنْ لَا يَصِحَّ الْقَرْضُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ، لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ عَيْنٍ رِبَوِيَّةٍ بِدَيْنٍ مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ إنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ إذَا عَارَضَهُ نَصٌّ ظَاهِرٌ أَمْكَنَ تَرْكُهُ عِنْدَ مُعْتَقِدِ صِحَّتِهِ لَكِنْ إذَا لَمْ يَرَ نَصًّا يُعَارِضُهُ فَإِنَّهُ يَجُرُّ إلَى أَقْوَالٍ عَجِيبَةٍ تُخَالِفُ سُنَّةً لَمْ تَبْلُغْهُ، أَوْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِمُخَالَفَتِهَا، مَثَلُ قِيَاسِ مَنْ قَاسَ الْمُعَامَلَةَ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ عَلَى الْإِجَارَةِ مَعَ الْفُرُوقِ الْمُؤَثِّرَةِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَقِيَاسِ مَنْ قَاسَ الْقِسْمَةَ عَلَى الْبَيْعِ وَجَعَلَهَا نَوْعًا مِنْهُ حَتَّى أَثْبَتَ لَهَا خَصَائِصَ الْبَيْعِ لِمَا فِيهَا مِنْ ثُبُوتِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَقْسِمَ الثِّمَارَ خَرْصًا كَمَا لَا تُبَاعُ خَرْصًا فَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مُقَاسَمَةِ أَهْلِ خَيْبَرَ الثِّمَارَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى النَّخْلِ خَرْصًا، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْهُ، لَكِنَّهُ أَقْبَحُ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى فَقِيهٍ، كَمَا خَفِيَ الْأَوَّلُ عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
وَاَلَّذِي قِيسَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ الْمُحَرَّمَةُ وَلَيْسَ مِثْلَهُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَعَارِيضُ وَهِيَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلَامٍ جَائِزٍ يَقْصِدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا وَيَتَوَهَّمُ غَيْرُهُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ، وَيَكُونُ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ لُغَوِيَّتَيْنِ أَوْ عُرْفِيَّتَيْنِ، أَوْ شَرْعِيَّتَيْنِ، أَوْ لُغَوِيَّةٍ مَعَ أَحَدِهِمَا، أَوْ عُرْفِيَّةٍ مَعَ شَرْعِيَّةٍ فَيَعْنِي أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ وَيَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ إنَّمَا عَنَى الْآخَرَ لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْحَالِ تَقْتَضِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَمْ
يَعْرِفْ إلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ يَكُونُ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِيهِ مَعْنًى فَيَعْنِي بِهِ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ بَاطِنًا فِيهِ بِأَنْ يَنْوِيَ مَجَازَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ، أَوْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ أَوْ بِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدَ، أَوْ يَكُونَ سَبَبُ التَّوَهُّمِ كَوْنَ الْمُخَاطَبِ إنَّمَا يَفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ بِعُرْفٍ خَاصٍّ لَهُ، أَوْ غَفْلَةٍ مِنْهُ، أَوْ جَهْلٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ مَعَ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا قَصَدَ حَقِيقَتَهُ، فَهَذَا - إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ - جَائِزٌ كَقَوْلِ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم:" هَذِهِ أُخْتِي "، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» وَقَوْلِ الصِّدِّيقِ: رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى غَيْرَهَا، وَكَانَ يَقُولُ:«الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» وَكَإِنْشَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ:
شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
…
وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ
…
وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
لَمَّا اسْتَقْرَأَتْهُ امْرَأَتُهُ الْقُرْآنَ حَيْثُ اتَّهَمَتْهُ بِإِصَابَةِ جَارِيَتِهِ - وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إذَا كَانَ دَفْعُ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَاجِبًا وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ مِثْلُ التَّعْرِيضِ عَنْ دَمٍ مَعْصُومٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَعْرِيضُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا السَّبِيلِ وَهَذَا الضَّرْبُ نَوْعٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي الْخِطَابِ، لَكِنَّهُ يُفَارِقُ الْحِيَلَ الْمُحَرَّمَةَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَالْوَجْهِ الْمُحْتَالِ بِهِ: أَمَّا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُنَا فَهُوَ دَفْعُ ضَرَرٍ غَيْرِ ضَرَرٍ مُسْتَحَقٍّ، فَإِنَّ الْجَبَّارَ كَانَ يُرِيدُ أَخْذَ امْرَأَةِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، وَهَذَا مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ بَقَاءُ الْكُفَّارِ غَالِبِينَ عَلَى الْأَرْضِ، أَوْ غَلَبَتُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ فَلَوْ عَلِمَ أُولَئِكَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَتَرَتَّبَ عَلَى عِلْمِهِمْ شَرٌّ طَوِيلٌ، وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْمَعَارِيضِ الَّتِي يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فَإِنَّ عَامَّتَهَا إنَّمَا جَاءَتْ حَذَرًا مِنْ تَوَلُّدِ شَرٍّ عَظِيمٍ عَلَى الْأَخْبَارِ - فَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِهَا كِتْمَانَ مَا يَجِبُ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ إقْرَارٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ صِفَةِ مَبِيعٍ أَوْ مَنْكُوحَةٍ، أَوْ مُسْتَأْجَرٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا حَرَامٌ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهِ إذَا ذُكِرَتْ الْأَحَادِيثُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّصِيحَةِ وَالْبَيَانِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمُحَرِّمَةُ لِلْغِشِّ وَالْخِلَابَةِ وَالْكِتْمَانِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ
عَنْهُ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ قَالَ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فَقَالَ: الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ. تَكُونُ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ نَحْوِ هَذَا.
وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ كِتْمَانٌ وَتَدْلِيسٌ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَقِّ وَالتَّعْرِيضُ فِي الْحَلِفِ عَلَيْهِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْعُقُودُ بِأَسْرِهَا وَوَصْفُ الْعُقُودِ عَلَيْهِ وَالْفُتْيَا وَالتَّحْدِيثُ وَالْقَضَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّ مَا حَرُمَ بَيَانُهُ فَالتَّعْرِيضُ فِيهِ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ إنْ اُضْطُرَّ إلَى الْخِطَابِ وَأَمْكَنَ التَّعْرِيضُ فِيهِ - كَالتَّعْرِيضِ لِسَائِلٍ عَنْ مَعْصُومٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ -، وَإِنْ كَانَ بَيَانُهُ جَائِزًا أَوْ كِتْمَانُهُ جَائِزًا، وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي كِتْمَانِهِ كَالْوَجْهِ الَّذِي يُرَادُ عَزْوُهُ فَالتَّعْرِيضُ أَيْضًا مُسْتَحَبٌّ هُنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي كِتْمَانِهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي الْإِظْهَارِ - وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِذَلِكَ الضَّرَرِ -، جَازَ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُ غَرَضٌ مُبَاحٌ فِي الْكِتْمَانِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْإِظْهَارِ فَقِيلَ لَهُ التَّعْرِيضُ أَيْضًا.
وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وَقِيلَ لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْيَمِينِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ أَبِي عِصْمَةَ أَظُنُّهُ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ فَإِنَّ أَبَا نَصْرٍ هَذَا لَهُ مَسَائِلُ مَعْرُوفَةٌ رَوَاهَا عَنْهُ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَامِهِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ. قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ فَلَا بَأْسَ، فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ، وَهَذَا إذَا احْتَاجَ إلَى الْخِطَابِ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ، وَمَنْ رَخَّصَ فِي الْجَوَابِ قَدْ لَا يُرَخِّصُ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ كُلْثُومٍ أَنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَالتَّعْرِيضُ مَضْمُونُهُ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَهِمَ مِنْهُ السَّامِعُ خِلَافَ مَا عَنَاهُ الْقَائِلُ إمَّا لِتَقْصِيرِ السَّامِعِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَوْ لِتَبْعِيدِ الْمُتَكَلِّمِ وَجْهَ الْبَيَانِ، وَهَذَا غَايَتُهُ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي تَجْهِيلِ الْمُسْتَمِعِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ، وَتَجْهِيلُ الْمُسْتَمِعِ بِالشَّيْءِ إذَا كَانَ مَصْلَحَةً لَهُ كَانَ عَمَلَ خَيْرٍ مَعَهُ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِالشَّيْءِ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ خَيْرًا لَهُ، وَلَا يَضُرُّهُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَوَهَّمَهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا يُطْلَبُ مَعْرِفَتُهُ، إنْ لَمْ يَكُنْ مَصْلَحَةً لَهُ بَلْ مَصْلَحَةً لِلْقَائِلِ كَانَ أَيْضًا جَائِزًا، لِأَنَّ عِلْمَ السَّامِعِ إذَا فَوَّتَ مَصْلَحَةً عَلَى الْقَائِلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْعَى فِي عَدَمِ عِلْمِهِ،
وَإِنْ أَفْضَى إلَى اعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ فِي شَيْءٍ سَوَاءٌ عَرَفَهُ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَالْمَقْصُودُ بِالْمَعَارِيضِ فِعْلٌ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَبَاحَ الشَّارِعُ السَّعْيَ فِي حُصُولِهِ، وَنَصَبَ سَبَبًا يُفْضِي إلَيْهِ أَصْلًا وَقَصْدًا، فَإِنَّ الضَّرَرَ قَدْ يُشْرَعُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْصِدَ دَفْعَهُ، وَيَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَضَمَّنْ الشَّرْعُ النَّهْيَ عَنْ دَفْعِ الضَّرَرِ، فَلَا يُقَاسُ بِهَذَا إذَا كَانَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ سُقُوطَ مَا نَصَّ الشَّارِعُ وُجُوبَهُ وَتَوَجَّهَ وُجُوبُهُ كَالزَّكَاةِ وَالشُّفْعَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِمَا، أَوْ حِلَّ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ تَحْرِيمَهُ وَتَوَجَّهَ تَحْرِيمُهُ مِنْ الزِّنَا وَالْمُطَلَّقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَصْلَحَةَ الْوُجُوبِ هُنَا تَفْوِيتٌ وَمَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَوْجَبَ الشَّارِعُ مَوْجُودٌ مَعَ فَوَاتِ الْوُجُوبِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حَرَّمَ مَوْجُودٌ مَعَ فَوَاتِ التَّحْرِيمِ إذَا قَصَدَ الِاحْتِيَالَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُنَاكَ رَفْعُ الضَّرَرِ مَعْنًى قَصَدَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ لِلْعَبْدِ وَفَتَحَ لَهُ بَابَهُ، فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُحْتَالِ بِهِ فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِحَقٍّ وَنَطَقَ بِصِدْقٍ فِيمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا سِيَّمَا إنْ لَمْ يَنْوِ بِاللَّفْظِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الظُّهُورُ مِنْ ضَعْفِ فَهْمِ السَّامِعِ وَقُصُورِهِ فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَمَعَارِيضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِزَاحُهُ عَامَّتُهُ كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِثْلُ قَوْلِهِ:«نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» ، وَقَوْلِهِ:«إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» «وَزَوْجُك الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ» ، «وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» .
وَأَكْثَرُ مَعَارِيضِ السَّلَفِ كَانَتْ مِنْ هَذَا - وَمِنْ هَذَا الْبَابِ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ لَكِنَّ هَذَا كَانَ مَكْرُوهًا لِتَعَلُّقِهِ بِأَمْرِ الدِّينِ وَكَوْنِ بَيَانِ الْعِلْمِ وَاجِبًا. بِخِلَافِ مَا قَصَدَ بِهِ دَفْعَ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - وَلَمْ يَكُنْ فِي مَعَارِيضِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْوِيَ بِالْعَامِّ الْخَاصَّ وَبِالْحَقِيقَةِ الْمَجَازَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا إذَا عَرَّضَ بِهِ الْمُعَرِّضُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُدُودِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالْمُفْرَدُ وَالْمُشْتَرَكُ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَتَخْتَلِفُ دَلَالِيَّتُهُ تَارَةً بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، وَتَارَةً بِحَسَبِ التَّأْلِيفِ، وَكَثِيرٌ مِنْ وُجُوهِ اخْتِلَافِهِ قَدْ لَا يَبِينُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، بَلْ يُرَاجَعُ فِيهِ إلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقَدْ يَظْهَرُ قَصْدُهُ
بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَقَدْ لَا يَظْهَرُ وَإِذَا كَانَ الْمُعَرِّضُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِاللَّفْظِ مَا جُعِلَ اللَّفْظُ دَلَالَةً عَلَيْهِ وَمُبَيِّنًا لَهُ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَشْتَبِهْ هَذَا إنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ يَحْمِلْ الْعَقْدُ مُقْتَضِيًا لَهُ أَصْلًا. فَإِنَّ لَفْظَ أَنْكَحْت وَزَوَّجْت لَمْ يَضَعْهُ الشَّارِعُ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ قَطُّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَظْهَرَهُ لَمْ يَصِحَّ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِ اللَّفْظِ لَهُ إخْبَارُ صَلَاحِهِ لَهُ إنْشَاءً، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْمَعَارِيضِ: تَزَوَّجْت وَعَنَى نِكَاحًا فَاسِدًا، جَازَ كَمَا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ فِي الْعَقْدِ: تَزَوَّجْت نِكَاحًا فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ إذَا نَوَاهُ.
وَكَذَلِكَ فِي الرِّبَا، فَإِنَّ الْقَرْضَ لَمْ يَشْرَعْهُ الشَّارِعُ إلَّا لِمَنْ قَصَدَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَ قَرْضِهِ فَقَطْ وَلَمْ يُبِحْهُ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِفْضَالَ قَطُّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا أَقْرَضَهُ أَلْفًا لِيَبِيعَهُ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ أُخْرَى أَوْ لِيُحَابِيَهُ الْمُقْتَرِضُ فِي بَيْعٍ، أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ لِيُعِيرَهُ، أَوْ يَهَبَهُ، فَقَدْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ يَجْعَلْ الْعَقْدَ مُقْتَضِيًا لَهُ قَطُّ، وَإِذَا كَانَ الْمُعَرِّضُ قَصَدَ بِالْقَوْلِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْقَوْلُ أَوْ يَقْتَضِيهِ وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ بِالْقَوْلِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ الْقَوْلُ وَلَا يَقْتَضِيهِ فَكَيْفَ يُقَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ؛ وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمُحْتَالِ الْمُنَافِقُ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ - فَالْحِيلَةُ كَذِبٌ فِي الْإِنْشَاءِ كَالْكَذِبِ فِي الْإِخْبَارِ، وَالتَّعْرِيضُ لَيْسَ كَذِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِنَايَةِ وَحَسْبُكَ أَنَّ الْمُعَرِّضَ قَصَدَ مَعْنًى حَقًّا بِنِيَّتِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ فِي الْوَضْعِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ، وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ مَعْنًى مُحَرَّمًا بِلَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُهُ فِي الْوَضْعِ الَّذِي بِهِ التَّعَاقُدُ.
فَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ لِلْعَرْضِ بِهِ وَالْمَعْنَى الَّذِي كَانَ التَّعْرِيضُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُ الْحِيَلِ بِهِ.
وَهُنَا فَرْقٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُعَرِّضُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَبْطَلَ بِالتَّعْرِيضِ حَقًّا لِلَّهِ، أَوْ لِآدَمِيٍّ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَلَمْ يُبْطِلْ حَقًّا لَهُ، لِأَنَّهُ إذَا نَاجَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ بِكَلَامٍ وَعَنَى بِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَلُومًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَفْهَمُونَ مِنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِالسَّرَائِرِ وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيِّ فَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ إلَّا إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ إسْقَاطَ حَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنْ تَضَمَّنَ إسْقَاطَ حَقِّهِ حَرُمَ بِالْإِجْمَاعِ.
فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُبَاحَ لَيْسَ مِنْ الْمُخَادَعَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَادَعَةٌ لِمَخْلُوقٍ أَبَاحَ الشَّارِعُ مُخَادَعَتَهُ لِظُلْمِهِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ - وَلَا يَلْزَمُ مِنْ
جَوَازِ مُخَادَعَةِ الظَّالِمِ جَوَازُ مُخَادَعَةِ الْمُحِقِّ، فَمَا كَانَ مِنْ التَّعْرِيضِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ كَانَ قَبِيحًا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا إلَّا عِنْدَ تَضَمُّنِ مَفْسَدَةٍ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحِيَلِ إنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ أَيْضًا. وَأَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لِدَفْعِ شَرٍّ، وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَقَصَدَ بِهِ حُصُولَ شَرٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعَارِيضَ كَمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَكُونُ بِالْفِعْلِ وَقَدْ تَكُونُ بِهِمَا - مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يُظْهِرَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ وَيُسَافِرَ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ لِيَحْسَبَ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ يَكِرَّ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَطْرِدَ الْمُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْ خَصْمِهِ لِيَظُنَّ هَزِيمَتَهُ، ثُمَّ يَعْطِفَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ:«الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ الَّتِي بَيَّنَّا تَحْرِيمَهَا وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا قِصَّةُ يُوسُفَ عليه السلام حِينَ كَادَ اللَّهُ لَهُ فِي أَخْذِ أَخِيهِ كَمَا نَصَّ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ فِيهَا ضُرُوبًا مِنْ الْحِيَلِ.
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لِفِتْيَتِهِ: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِمْ وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مَعَانِيَ مِنْهَا أَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ وَرِقٌ يَرْجِعُونَ بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَضُرَّ أَخْذُ الثَّمَنِ بِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى لَوْمًا إذَا أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَرَاهُمْ كَرَمَهُ فِي رَدِّ الْبِضَاعَةِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ لِلْعَوْدِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَمَانَتَهُمْ تُحْوِجُهُمْ إلَى الرَّجْعَةِ، لِيُؤَدُّوهَا إلَيْهِ، فَهَذَا الْمُحْتَالُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ. وَالْمَقْصُودُ رُجُوعُهُمْ وَمَجِيءُ أَخِيهِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ وَلَهُ وَهُوَ مَقْصُودٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْهُمْ نَفْسَهُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ فِيهَا أَيْضًا مَنْفَعَةٌ لَهُ وَلَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ، وَتَمَامٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ فِي هَذَا الْبَلَاءِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَضَمَّنُ إيهَامَ أَنَّ أَخَاهُ سَارِقٌ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ وَبِرِضًى مِنْهُ بِذَلِكَ وَالْحَقُّ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ
فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَّفَ أَخَاهُ نَفْسَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ أَنَّهُ يُوسُفُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَا مَكَانُ أَخِيكَ الْمَفْقُودِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ إنَّهُ وَضَعَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَالْأَخُ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَفِيهِ تَرْوِيعٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ التَّرْوِيعَ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ لَمَّا قَالَ لَهُ إنِّي أَنَا أَخُوكَ قَالَ بِنْيَامِينُ فَأَنَا لَا أُفَارِقُكَ قَالَ يُوسُفُ عليه السلام فَقَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي بِي، وَإِذَا حَبَسْتُك ازْدَادَ غَمُّهُ وَلَا يُمْكِنُنِي هَذَا إلَّا بَعْدَ أَنْ أُشَهِّرَكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ وَأَنْسُبَكَ إلَى مَا لَا تَحْتَمِلُ قَالَ: لَا أُبَالِي فَافْعَلْ مَا بَدَا لَك فَإِنِّي لَا أُفَارِقُك. قَالَ فَإِنِّي أَدُسُّ صَاعِي هَذَا فِي رَحْلِك، ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ بَعْدَ تَسْرِيحِكَ. قَالَ: فَافْعَلْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 70] الْآيَةَ فَهَذَا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا فِيهِ أَذًى لَهُ فِي الظَّاهِرِ إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ.
وَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ قَوْمُهُ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّرَبُّضِ، وَكَانَ يَأْمُرُ ابْنَهُ إذَا رَعَى إبِلَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَبْعُدَ، فَإِذَا جَاءَ خَاصَمَهُ بَيْنَ يَدَيْ قَوْمِهِ وَهَمَّ يَضْرِبُهُ فَيَقُومُونَ فَيَشْفَعُونَ إلَيْهِ فِيهِ، وَيَأْمُرُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَزْدَادَ بُعْدًا فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ أَمَرَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَنْ يَبْعُدَ بِهَا وَجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ اللَّيْلُ وَهُوَ يَلُومُ قَوْمَهُ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ فِيهِ وَمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَهُمْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ ابْنِهِ وَلَا يُنْكِرُونَ إبْطَاءَهُ حَتَّى إذَا انْهَارَ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي طَلَبِهِ فَلَحِقَهُ وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ حَتَّى قَدِمَ بِهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَانَتْ صَدَقَاتُ طَيِّئٍ مِمَّا اسْتَعَانَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيًّا قَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنهما فِي بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى أَعْرِفُكَ أَسْلَمْتَ إذَا كَفَرُوا وَوَفَّيْتَ إذَا غَدَرُوا وَأَقْبَلْتَ إذَا أَدْبَرُوا وَعَرَفْتَ إذَا أَنْكَرُوا.
وَمِثْلُ هَذَا مَا أَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْوَفْدِ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَقُولُوا وَأَذِنَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ عَامَ خَيْبَرَ أَنْ يَقُولَ وَهَذَا كُلُّهُ الْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ مُبَاحٌ لِكَوْنِ الَّذِي قَدْ أُوذِيَ قَدْ أَذِنَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، أَوْ أَمْرٌ مُبَاحٌ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71]{قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] إلَى قَوْلِهِ: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74]{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ - فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 75 - 76] وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَسْمِيَتِهِمْ سَارِقِينَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ وَأَنَّ يُوسُفَ نَوَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِ حَيْثُ غَيَّبُوهُ عَنْهُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي احْتَالُوهَا عَلَيْهِ وَخَانُوهُ فِيهِ وَالْخَائِنُ يُسَمَّى سَارِقًا وَهُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمَشْهُورِ حَتَّى أَنَّ الْخَوَنَةَ مِنْ ذَوِي الدِّيوَانِ يُسَمُّونَ لُصُوصًا.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُنَادِيَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ عليه السلام. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ أَمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلَ الصَّاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُوَكَّلِينَ بِالصِّيعَانِ - وَقَدْ فَقَدُوهُ وَلَمْ يَدْرُوا مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ - أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ يُوسُفُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ كَذِبًا كَانَ فِي حَقِّهِ وَغَالِبِ ظَنِّهِ مَا هُوَ عِنْدَهُ، وَلَعَلَّ يُوسُفَ قَدْ قَالَ لِلْمُنَادِي هَؤُلَاءِ قَدْ سَرَقُوا، وَعَنَى بِسَرِقَتِهِ مِنْ أَبِيهِ وَالْمُنَادِي فَهِمَ سَرِقَةَ الصُّوَاعِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ فَإِنَّ يُوسُفَ لَعَلَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى أَنَّ الصُّوَاعَ فِي رِحَالِهِمْ لِيَتِمَّ الْأَمْرُ فَنَادَى إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ بِنَاءً عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ يُوسُفُ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ سَرَقْتُمْ صَاعَ الْمَلِكِ إنَّمَا قَالَ نَفْقِدُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ، أَوْ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا صَنَعَهُ يُوسُفُ فَاحْتَرَزَ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَفْعُولَ لِيَصِحَّ أَنْ يُضْمِرَ سَرِقَتَهُمْ يُوسُفَ، ثُمَّ قَالَ: نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ احْتَرَزَ يُوسُفُ فِي قَوْلِهِ:{مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] وَلَمْ يَقُلْ إلَّا مَنْ سَرَقَ.
وَعَلَى التَّقْدِيرِ فَالْكَلَامُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَارِيضِ وَقَدْ قَالَ نَصْرُ بْنُ حَاجِبٍ سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَذِرُ إلَى أَخِيهِ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ فَعَلَهُ وَيُحَرِّفُ الْقَوْلَ
فِيهِ لِيُرْضِيَهُ أَيَأْثَمُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِهِ لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَذَبَ فِيهِ فَإِذَا أَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَكَرَاهَةَ أَذَى الْمُؤْمِنِ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَيَدْفَعُ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ بِالْكَذِبِ اتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ وَلَا لِطَمَعِ شَيْءٍ يُصِيبُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي ذَلِكَ وَرَخَّصَ لَهُ إذَا كَرِهَ مَوْجِدَتَهُمْ وَخَافَ عَدَاوَتَهُمْ. قَالَ حُذَيْفَةُ إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ أَتَقَدَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَتَغَيَّرَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، قَالَ سُفْيَانُ وَقَالَ الْمَلَكَانِ:{خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] أَرَادَ مَعْنَى شَيْءٍ وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ فَلَمْ يَصِيرَا بِذَلِكَ كَاذِبَيْنِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وَقَالَ:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وَقَالَ يُوسُفُ:{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] أَرَادَ مَعْنَى أَمْرِهِمْ. فَبَيَّنَ سُفْيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْمَعَارِيضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبًا كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ التَّوَصُّلُ إلَى أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْغَيْرِ بِمَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ.
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَبْسَ أَخِيهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْأَخُ مِمَّنْ ظَلَمَ يُوسُفَ حَتَّى يُقَالَ قَدْ اقْتَصَّ مِنْهُ، وَإِنَّمَا سَائِرُ الْإِخْوَةِ هُمْ الَّذِينَ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، نَعَمْ كَانَ تَخَلُّفُهُ عِنْدَهُ يُؤْذِيهِمْ مِنْ أَجْلِ تَأَذِّي أَبِيهِمْ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ اسْتَثْنَوْا فِي الْمِيثَاقِ إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ وَقَدْ أُحِيطَ بِهِمْ وَيُوسُفُ عليه السلام لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِاحْتِبَاسِ أَخِيهِ الِانْتِقَامَ مِنْ إخْوَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ هَذَا وَكَانَ فِي ضِمْنِ هَذَا مِنْ الْإِيذَاءِ لِأَبِيهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ إخْوَتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِيَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَيَتِمَّ الْبَلَاءُ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ عليهما السلام كَمَالَ الْجَزَاءِ وَتَبْلُغُ حِكْمَةُ اللَّهِ الَّتِي قَضَاهَا لَهُمْ نِهَايَتَهَا، وَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَصَدَ الِاقْتِصَاصَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ.
وَإِنَّمَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَرِّقَ، أَوْ أَنْ يُخَوِّنَ سَرِقَةً أَوْ خِيَانَةً مِثْلَمَا سَرَّقَهُ إيَّاهُ، أَوْ خَوَّنَهُ إيَّاهُ.
وَلَمْ تَكُنْ قِصَّةُ يُوسُفَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ يُوسُفُ أَخَذَ أَخَاهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَكَانَ لِهَذَا الْمُحْتَجِّ شُبْهَةٌ. مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا بِالِاتِّفَاقِ أَنْ يُحْبَسَ رَجُلٌ بَرِيءٌ وَيُعْتَقَلَ لِلِانْتِقَامِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ جُرْمٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُ بِاعْتِقَالِهِ وَكَانَ هَذَا ابْتِلَاءً مِنْ اللَّهِ لِهَذَا الْمُعْتَقَلِ.
كَأَمْرِ إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَتَكُونُ حِكْمَتُهُ فِي حَقِّ الْمُبْتَلَى امْتِحَانَهُ وَابْتِلَاءَهُ لِيَنَالَ دَرَجَةَ الصَّبْرِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ. وَيَكُونُ حَالُهُ فِي هَذَا كَحَالِ أَبِيهِ يَعْقُوبَ فِي احْتِبَاسِ، يُوسُفَ عَنْهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَيِّنٌ يُعْلَمُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَمِنْ حَالِ يُوسُفَ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] فَإِنَّ الْكَيْدَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ نَحْوُ مَنٍّ وَقَدْ نَسَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إلَى يُوسُفَ كَمَا نَسَبَهُ إلَى نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: 15]{وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16] وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور: 42] وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ صَالِحٍ:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ - قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} [النمل: 48 - 49] إلَى قَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ - فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل: 50 - 51] : الْآيَةَ.
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ إنَّمَا سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِعْلَهُ بِالْمَاكِرِينَ وَالْكَائِدِينَ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً مَعَ أَنَّهُ حَسَنٌ وَفِعْلُهُمْ قَبِيحٌ لِمُشَاكَلَتِهِ لَهُ فِي الصُّورَةِ
وَوُقُوعِهِ جَزَاءً لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] سَمَّى الثَّانِيَ سَيِّئَةً وَهُوَ بِحَقٍّ لِمُقَابَلَتِهِ لِلسَّيِّئَةِ، وَقَالَ:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] سَمَّى الْأَوَّلَ عُقُوبَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ الْأَوَّلِينَ عُقُوبَةٌ لِمُقَابَلَتِهِ لِلْفِعْلِ الثَّانِي وَجَعَلُوا هَذَا نَوْعًا مِنْ الْمَجَازِ - وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ أَصْوَبُ بَلْ تَسْمِيَتُهُ مَكْرًا وَكَيْدًا وَاسْتِهْزَاءً وَسَيِّئَةً وَعُقُوبَةً عَلَى بَابِهِ فَإِنَّ الْمَكْرَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ خَفِيٍّ وَكَذَلِكَ الْكَيْدُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الشَّرَّ كَانَ مَكْرًا حَسَنًا، وَإِلَّا كَانَ مَكْرًا سَيِّئًا. بَلْ إنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّرُّ الْوَاصِلُ حَقًّا لِمَظْلُومٍ كَانَ ذَلِكَ الْمَكْرُ وَاجِبًا فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخَلْقِ وَوَاجِبًا مِنْ اللَّهِ بِحُكْمِ الْوَعْدِ إنْ لَمْ يَعْفُ الْمُسْتَحِقُّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَمْكُرُ وَيَسْتَهْزِئُ بِمَنْ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الظَّالِمُ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَالسَّيِّئَةُ مَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهَا وَالْعُقُوبَةُ مَا عُوقِبَ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ شَرٍّ.
وَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ عليه السلام كَانَ قَدْ كِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ. أَوَّلُهَا:
أَنَّ إخْوَتَهُ كَادُوا لَهُ كَيْدًا حَيْثُ احْتَالُوا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] .
ثُمَّ إنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ كَادَتْ لَهُ بِأَنْ أَظْهَرَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا وَكَانَتْ هِيَ الْمُرَاوِدَةَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] .
ثُمَّ كَادَ لَهُ النِّسْوَةُ حَتَّى اسْتَجَارَ بِاَللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ - فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33 - 34] حَتَّى إنَّهُ عليه السلام قَالَ لَمَّا جَاءَهُ رَسُولُ الْمَلِكِ يَسْتَخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] .
فَكَادَ اللَّهُ لِيُوسُفَ بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَيْدِي إخْوَتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَمَا أَخْرَجُوا يُوسُفَ مِنْ يَدِ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.
وَكَيْدُ اللَّهِ سبحانه وتعالى لَا يَخْرُجُ عَنْ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ الْأَغْلَبُ أَنْ يَفْعَلَ سُبْحَانَهُ فِعْلًا خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الَّذِي كَادَ لَهُ فَيَكُونَ الْفِعْلُ قَدَرًا مَحْضًا لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّرْعِ كَمَا كَادَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنْ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ.
وَكَذَلِكَ كَانَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ فَإِنَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مَا قَدَرَ أَنْ يَفْعَلَ أَنْ أَلْقَى الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ بِسَرِقَتِهِمْ فَلَمَّا أَنْكَرُوا {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] أَيْ جَزَاءُ السَّارِقِ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] أَيْ جَزَاؤُهُ نَفْسُ نَفْسِ السَّارِقِ يَسْتَعْبِدُهُ الْمَسْرُوقَ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ إلَى مُدَّةٍ وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَةَ آلِ يَعْقُوبَ، وَقَوْلُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ جَزَاؤُهُ جُمْلَةٌ ثَانِيَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى. وَالتَّقْدِيرُ فِي جَزَاءِ هَذَا الْفِعْلِ نَفْسُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْجَزَاءُ فِي دِينِنَا كَذَلِكَ يَجْزِي الظَّالِمِينَ. وَالثَّانِي:
أَنَّ قَوْلَهُ {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ هِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَإِ وَالتَّقْدِيرُ جَزَاءُ السَّارِقِ هُوَ أَنَّهُ مَنْ وُجِدَ الصَّاعُ فِي رَحْلِهِ كَانَ هُوَ الْجَزَاءَ كَمَا تَقُولُ جَزَاءُ السَّرِقَةِ مِمَّنْ سَرَقَ قَطْعُ يَدِهِ -، وَإِنَّمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْعُقُوبَةِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْأَلَمِ الْوَاصِلِ إلَى الْمُعَاقَبِ فَكُلَّمَا تَكَلَّمُوا بِهَذَا الْكَلَامِ كَانَ إلْهَامُ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا كَيْدًا لِيُوسُفَ خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِ، إذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا الْإِجْزَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَرَقَ فَإِنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِهِ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ حُكْمَ السَّارِقِ وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ عليه السلام عَادِلًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ أَوْ يَقُولُونَ جَزَاؤُهُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا تَفْعَلُونَ بِالسُّرَّاقِ فِي دِينِكُمْ وَقَدْ كَانَ مِنْ دِينِ مَلِكِ مِصْرَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ السَّارِقَ يُضْرَبُ وَيَغْرَمُ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ غَيْرَهُمْ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] أَيْ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فِي دِينِ مَلِكِ مِصْرَ لِأَنَّ دِينَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ طَرِيقٌ
إلَى أَخْذِهِ - إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ - اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَكِنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِأَنْ يُهَيِّئَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سَبَبًا آخَرَ بِطَرِيقٍ يُؤْخَذُ بِهِ فِي دِينِ الْمَلِكِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي كَانَ الرَّجُلُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يُعْتَقَلُ بِهَا.
فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَيْدِ فِعْلًا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُيَسِّرَ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الْمَظْلُومِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ أُمُورًا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُهُ بِالِانْتِقَامِ مِنْ الظَّالِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنْ الْحِيَلِ الْفِقْهِيَّةِ، فَإِنَّا إنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي حِيَلٍ يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ لَا فِيمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، بَلْ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَادَ كَيْدًا مُحَرَّمًا فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُهُ وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي مُرْتَكِبِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ فَإِنَّهُ لَا يُبَارِكُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحِيَلِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلَ عَلَى اللَّهِ إذَا كَادَهُ الْخَلْقُ فَإِنَّ اللَّهَ يَكِيدُ لَهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنْهُ وَلَا قُوَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] قَالُوا بِالْعِلْمِ.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخَفِيَّ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ الْمَقَاصِدَ الْحَسَنَةَ مِمَّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ يُوسُفَ كَانَ مِنْهُ فِعْلٌ فَيَكُونُ بِهَذَا الْعِلْمِ هُوَ مَا اهْتَدَى بِهِ يُوسُفُ إلَى أَمْرٍ تَوَكَّلَ فِي إتْمَامِهِ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اهْتِدَاءَهُ لِإِلْقَاءِ الصَّاعِ وَاسْتِرْجَاعِهِمْ نَوْعُ فِعْلٍ مِنْهُ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الْحِيلَةَ، وَالْحِيَلُ الْفِقْهِيَّةُ بِهَا وَحْدَهَا يَتِمُّ غَرَضُ الْمُحْتَالِ لَوْ كَانَتْ حَلَالًا.
النَّوْعُ الثَّانِي:
مِنْ كَيَدِهِ لِعَبْدِهِ هُوَ أَنْ يُلْهِمَهُ سُبْحَانَهُ أَمْرًا مُبَاحًا، أَوْ مُسْتَحَبًّا، أَوْ وَاجِبًا يُوصِلُهُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ الْحَسَنِ فَيَكُونُ هَذَا عَلَى إلْهَامِهِ لِيُوسُفَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ هُوَ مِنْ كَيْدِهِ سُبْحَانَهُ أَيْضًا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] فَإِنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ الْمُوصِلَ إلَى الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ صِفَةُ مَدْحٍ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يُخْصَمُ بِهِ الْمُبْطِلُ صِفَةُ مَدْحٍ. حَيْثُ قَالَ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] .
وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْكَيْدِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَيْدُ الَّذِي تُسْتَحَلُّ بِهِ الْمُحَرَّمَاتُ، أَوْ تَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ فَإِنَّ هَذَا كَيْدٌ لِلَّهِ، وَاَللَّهُ هُوَ الْمَكِيدُ فِي مِثْلِ
هَذَا فَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ أَنْ يُكَادَ دِينُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَيْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلٍ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَشْرُوعَ هُوَ عَامٌّ لَا يُخَصُّ بِهِ شَخْصٌ دُونَ شَخْصٍ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ مُبَاحًا لِشَخْصٍ كَانَ مُبَاحًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ - فَإِذَنْ مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فِقْهِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ، بِتِلْكَ الْحِيلَةِ لَا يُفَهِّمُهَا وَلَا يُعَلِّمُهَا، لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَشْرَكُونَهُ فِي فَهْمِهَا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُسَاوُونَهُ فِي عَمَلِهَا، وَإِنَّمَا فَضِيلَةُ الْفَقِيهِ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ أَنْ يَتَفَطَّنَ لِانْدِرَاجِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَحْتَ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، أَوْ يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَتُهُ بِأَدِلَّتِهِ الْعَامَّةِ نَصًّا أَيْضًا وَاسْتِنْبَاطًا فَأَمَّا الْحُكْمُ فَمُتَقَرَّرٌ قَبْلَ تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَإِذَنْ احْتِيَاجُ النَّاسِ إلَى الْحِيَلِ لَا يُجَدِّدُ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ الْأَحْكَامُ مُسْتَقِرَّةٌ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، فَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْحُكْمَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ تِلْكَ الْحَاجَةِ كَانَ حُكْمًا عَامًّا وُجِدَتْ حَاجَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ تَأْثِيرًا فِي الْحُكْمِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ سَوَاءٌ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ مُطْلَقًا، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا كَادَ لِيُوسُفَ كَيْدًا جَزَاءً مِنْهُ عَلَى صَبْرِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِيُوسُفَ عليه السلام اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ الْكَيْدِ لَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ مُبَاحٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمِنَّةَ كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَنْ أُلْهِمَ الْعَمَلَ بِمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يُلْهِمُ الْعَبْدَ مَا لَا يُلْهِمُهُ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {كِدْنَا} [يوسف: 76] صَنَعْنَا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ أَلْهَمْنَا يُوسُفَ.
وَمَنْ احْتَالَ بِعَمَلٍ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ فَهَذَا جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِثْلُ الْخِيَانَةِ وَالْغُلُولِ، أَوْ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُ الْمُبَاحِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِثْلُ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ؟ يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ نَفْسَ الْأَحْكَامِ مِثْلُ إبَاحَةِ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى كَيْدًا.
وَإِنَّمَا الْكَيْدُ فِعْلٌ مِنْ اللَّهِ ابْتِدَاءً، أَوْ فِعْلٌ مِنْ الْعَبْدِ يَكُونُ الْعَبْدُ بِهِ فَاعِلًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ - وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى الْكَيْدِ إنَّمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا يُوسُفُ عليه السلام، وَالْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ تَيَقَّنَ اللَّبِيبُ أَنَّ الْكَيْدَ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ إلْهَامِ فِعْلٍ كَانَ مُبَاحًا، أَوْ فِعْلٍ مِنْ اللَّهِ تَمَّ بِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ،
وَأَنَّ حَاجَةَ يُوسُفَ لَمْ تُبِحْ لَهُ فِعْلَ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ قِيلَ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الثَّانِي:
مِمَّا ظَنَّ الْمُحْتَالُونَ أَنَّهُ مِنْ الْحِيَلِ سَائِرُ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ فَقَالُوا: الْبَيْعُ احْتِيَالٌ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ، وَالنِّكَاحُ احْتِيَالٌ عَلَى حُصُولِ حِلِّ الْبُضْعِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْخَلْقُ وَهُوَ احْتِيَالٌ عَلَى طَلَبِ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ لَهُمْ - وَقَالَ قَائِلُهُمْ: الْحِيلَةُ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْإِنْسَانُ إلَى إسْقَاطِ الْمَآثِمِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَالَ آخَرُ: هِيَ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَرْكٍ، أَوْ فِعْلٍ لَوْلَاهَا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذَا شَأْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ، وَقَالُوا: قَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَامِلِهِ عَلَى خَيْبَرَ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ، فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ ابْتِيَاعَ الْجَنِيبِ بِجَمْعٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَمْعَ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِثَمَنِهِ جَنِيبًا فَعَقَدَ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ لِلْعَقْدِ الثَّانِي.
قَالُوا: وَهَذِهِ حِيلَةٌ تَضَمَّنَتْ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بَعْدَ عَقْدَيْنِ فَهِيَ أَوْكَدُ مِمَّا تَضَمَّنَتْ حُصُولَهُ بَعْدَ عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَأَشْبَهَتْ الْعِينَةَ فَإِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ، فَلَمْ يُمْكِنْ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَعَقَدَ عَقْدَيْنِ بِأَنْ بَاعَ السِّلْعَةَ ثُمَّ ابْتَاعَهَا، وَالْحِيَلُ الْمَعْرُوفَةُ لَا تَتِمُّ غَالِبًا إلَّا بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى الْعَقْدِ الْآخَرِ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ عَقْدٍ آخَرَ. أَوْ فَسْخٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَقَاصِدِ بِالطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ إلَيْهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ سَوَاءٌ سُمِّيَ حِيلَةً، أَوْ لَمْ يُسَمَّ، فَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْوَسِيلَةِ وَالْمَقْصُودِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْمُحْتَالُ بِهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ مَقْصُودُهُ الَّذِي شُرِعَ الْبَيْعُ لَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِلْكُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ وَيَحْصُلَ مِلْكُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، فَيَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِلْكًا لِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي نَفْسَ السِّلْعَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهَا، وَإِنْفَاقِهَا، أَوْ التِّجَارَةِ فِيهَا. فَإِنْ قَصَدَ ثَمَنَهَا الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ، أَوْ الدَّنَانِيرُ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودَهُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ احْتَاجَ إلَى دَرَاهِمَ فَابْتَاعَ سِلْعَةً نَسِيئَةً لِيَبِيعَهَا وَيَسْتَنْفِقَ ثَمَنَهَا فَهُوَ التَّوَرُّقُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْبَائِعُ نَفْسَ الثَّمَنِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بِمَا جُعِلَتْ الْأَثْمَانُ لَهُ مِنْ إنْفَاقٍ وَتِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ نَفْعَ الْمِلْكِ الْمُبَاحِ بِالْبَيْعِ وَمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَحَصَّلَهُ بِالْبَيْعِ فَقَدْ قَصَدَ بِالسَّبَبِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ وَأَتَى بِالسَّبَبِ حَقِيقَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودُهُ يَحْصُلُ بِعَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى
لَا تُبَاعُ بِسِلْعَتِهِ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ عُرْفِيٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَبِيعُ سِلْعَتَهُ لِيَمْلِكَ ثَمَنَهَا، وَالْبَيْعُ لِمِلْكِ الثَّمَنِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ، ثُمَّ يَبْتَاعُ بِالثَّمَنِ سِلْعَةً أُخْرَى، وَابْتِيَاعُ السِّلَعِ بِالْأَثْمَانِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ.
وَهَذِهِ قِصَّةُ بِلَالٍ رضي الله عنه بِخَيْبَرَ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ فَقَدْ أَرَادَ بِالْبَيْعِ مِلْكَ الثَّمَنِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ مَقْصُودٌ، ثُمَّ إذَا ابْتَاعَ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا فَقَدْ أَرَادَ بِالِابْتِيَاعِ مِلْكَ سِلْعَةٍ وَهَذَا مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ بَائِعًا قَصَدَ مِلْكَ الثَّمَنِ حَقِيقَةً، وَلَمَّا كَانَ مُبْتَاعًا قَصَدَ مِلْكَ السِّلْعَةِ حَقِيقَةً، فَإِنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ، إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ مَقْصُودٌ مَشْرُوعٌ.
وَلِهَذَا يَسْتَوْفِيَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّقْدِ وَالْقَبْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إنْ ابْتَاعَ بِالثَّمَنِ مِمَّنْ ابْتَاعَهُ مِنْ جِنْسِ مَا بَاعَهُ فَيُخَافُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا مِنْهُمَا بَلْ قَصْدُهُمَا بَيْعُ السِّلْعَةِ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَيَكُونُ رِبًا، وَيَظْهَرُ هَذَا الْقَصْدُ بِأَنْ يَكُونَ إذَا بَاعَهُ التَّمْرَ مَثَلًا بِدَرَاهِمَ لَمْ يُحَرِّرْ وَزْنَهَا وَلَا نَقْدَهَا وَلَا قَبْضَهَا فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ مِلْكَ الْمُثَمَّنِ بِذَلِكَ التَّمْرِ وَلَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي تَمَلُّكَ التَّمْرِ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ بَلْ عَقَدَ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ عَلَى أَنْ يُعِيدَ إلَيْهِ الثَّمَنَ وَيَأْخُذَ التَّمْرَ الْآخَرَ وَهَذَا تَوَاطُؤٌ مِنْهُمَا حِينَ عَقْدِهِ عَلَى فَسْخِهِ، وَالْعَقْدُ إذَا قَصَدَ بِهِ فَسْخَهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَيَكُونَانِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبْتَاعَا بِالتَّمْرِ تَمْرًا.
يُحَقِّقُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعَقْدُ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ حِنْطَةٍ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ لِيَبْتَاعَ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّهُمَا غَالِبًا يَتَشَارَطَانِ وَيَتَرَاضَيَانِ عَلَى سِعْرِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: بِعْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا، ثُمَّ يَقُولُ: اصْرِفْ لِي بِهَا كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَيَقُولُ: بِعْتُك هَذَا التَّمْرَ بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. ثُمَّ يَقُولُ: بِعْنِي بِهِ كَذَا وَكَذَا تَمْرًا فَيَكُونَانِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ صُورَةً لَا حَقِيقَةً لَيْسَ لِلْبَائِعِ غَرَضٌ فِي أَنْ يَمْلِكَهُ وَلَا لِلْمُشْتَرِي غَرَضٌ أَنْ يَمْلِكَهُ وَقَدْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَمْلِكَهُ الْبَائِعُ، ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَالْعَقْدُ لَا يُعْقَدُ لِيُفْسَخَ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ وُجُودِهِ. فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَأَيْنَ مَنْ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ لِيَشْتَرِيَ بِهِ مِنْهُ إلَى مَنْ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ لِيَأْخُذَ مِنْهُ.
يُوَضِّحُ هَذَا أَشْيَاءُ: مِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا
فَإِنَّهُمَا فِي الْعُرْفِ لَا يَحْتَاجَانِ أَنْ يُعَاقِدَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، بِثَمَنٍ يُمَيِّزَهُ، ثُمَّ يَبْتَاعَا بِهِ، وَإِنَّمَا يُقَوِّمَانِ السِّلْعَتَيْنِ لِيَعْرِفَا مِقْدَارَهُمَا، وَلَوْ قَالَ لَهُ بِعْتهَا بِكَذَا وَكَذَا. أَوْ ابْتَعْت مَثَلًا هَذِهِ بِهَذَا الثَّمَنِ لَعُدَّ هَذَا لَاعِبًا عَابِثًا قَائِلًا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَبْتَاعُ بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِالثَّمَنِ مِنْ جِنْسِهَا كَيْفَ يَأْمُرُهُ الشَّارِعُ بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ؟
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا حِكْمَةٌ إلَّا تَضْيِيعُ الزَّمَانِ، وَإِتْعَابُ النَّفْسِ بِلَا فَائِدَةٍ. فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَنْ يَبْتَاعَ رِبَوِيًّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا قَالَ بِعْتُك هَذَا بِكَذَا وَابْتَعْت مِنْك هَذَا بِهَذَا الثَّمَنِ. فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ اسْتِحْلَالِ رِبًا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَطُّ، فَإِنَّ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ نَوْعَانِ: رِبَا الْفَضْلِ.
وَرِبَا النَّسِيئَةِ، فَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَيُمْكِنُهُ فِي كُلِّ مَالٍ رِبَوِيٍّ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الْمَالَ بِكَذَا وَيُسَمِّيَ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَقُولَ ابْتَعْت هَذَا الْمَالَ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذِهِ الْحَرِيرَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عِشْرِينَ صَاعًا إلَى سَنَةٍ وَابْتَعْتهَا مِنْك بِتِسْعِمِائَةٍ حَالَّةٍ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَيُمْكِنُهُ رِبَا الْقَرْضِ فَلَا يَشَاءُ مُرْبٍ إلَّا أَقْرَضَهُ، ثُمَّ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ مُسَاقَاةٍ، أَوْ أَهْدَى لَهُ، أَوْ نَفَعَهُ، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ أَيَعُودُ الرِّبَا الَّذِي قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَوْجَبَ مُحَارَبَةَ مُسْتَحِلِّهِ، وَلَعَنَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِأَخْذِهِ، وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ، وَجَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَجِئْ فِي غَيْرِهِ إلَى أَنْ يُسْتَحَلَّ جَمِيعُهُ بِأَدْنَى سَعْيٍ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ أَصْلًا إلَّا بِصُورَةِ عَقْدٍ هِيَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ يَضْحَكُ مِنْهَا وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا؟ أَمْ يَسْتَحْسِنُ مُؤْمِنٌ أَنْ يَنْسُبَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. بَلْ أَنْ يَنْسُبَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إلَى أَنْ يُحَرِّمَ هَذِهِ الْمَحَارِمَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ يُبِيحَهَا بِضَرْبٍ مِنْ الْعَبَثِ وَالْهَزْلِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَطُّ.
وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُرْبِينَ مِنْ الصَّيَارِفِ قَدْ جَعَلَ عِنْدَهُ خَرَزَةَ ذَهَبٍ فَكُلُّ مَنْ جَاءَ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ فِضَّةً بِأَقَلَّ مِنْهَا لِكَوْنِهَا مَكْسُورَةً، أَوْ مِنْ نَقْدٍ غَيْرِ نَافِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ لَهُ الصَّيْرَفِيُّ: بِعْنِي هَذِهِ الْفِضَّةَ بِهَذِهِ الْخَرَزَةِ، ثُمَّ يَقُولُ ابْتَعْت هَذِهِ الْخَرَزَةَ بِهَذِهِ الْفِضَّةِ. أَفَيَسْتَجِيزُ رَشِيدٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَحَلَّ تَحْصِيلَ الْفِضَّةِ
بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِي مُحَلِّلِ الْقِمَارَ مَا يَقُولُ، وَيَقُولُ فِي مُحَلِّلِ النِّكَاحَ مَا يَقُولُ؟ وَكَذَلِكَ بَلَغَنِي أَنَّ مِنْ الْبَاعَةِ مَنْ قَدْ أَعَدَّ بَزًّا لِتَحْلِيلِ الرِّبَا، فَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ إلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ ذَهَبَا إلَى ذَلِكَ الْمُحَلِّلِ فَاشْتَرَى ذَلِكَ الْمُعْطِي مِنْهُ ذَلِكَ الْبَزَّ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لِلْآخَرِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ الْآخِذُ إلَى صَاحِبِهِ، وَقَدْ عُرِفَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ بِحَيْثُ إنَّ الْبَزَّ الَّذِي يُحَلَّلُ بِهِ الرِّبَا لَا يَكَادُ يَبِيعُهُ الْبَيْعَ أَلْبَتَّةَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ حِيَلِ الرِّبَا أَغْلَظُ فِي بَابِهَا مِنْ التَّحْلِيلِ فِي بَابِهِ، وَلِهَذَا حَرَّمَهَا، أَوْ بَعْضَهَا مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّحْلِيلَ، لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْهَازِلِ. بِخِلَافِ نِكَاحِهِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَالَ فِي الرِّبَا غَالِبًا إنَّمَا يَتِمُّ فِي الْمُوَاطَأَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ، وَلَا يَفْتَقِرُ عَقْدُ الرِّبَا إلَى شَهَادَةٍ. وَلَكِنْ يَتَعَاقَدَانِ، ثُمَّ يَشْهَدَانِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دِينًا، وَلِهَذَا إنَّمَا لُعِنَ شَاهِدَاهُ إذَا عَلِمَا بِهِ. وَالتَّحْلِيلُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ لِكَوْنِ الشَّهَادَةِ شَرْطًا فِيهِ، وَالشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ مُؤَثِّرَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ، وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا يُؤَثِّرُ.
وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى مِنْهُ رِبَوِيًّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُوَاطِئَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ لَفْظًا، أَوْ يَكُونَ الْعُرْفُ قَدْ جَرَى بِذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مِلْكَ الثَّمَنِ غَيْرُ مَقْصُودٍ. فَلَا قَوْلُهُ أَوَّلًا بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ مَثَلًا صَحِيحٌ. وَلَا قَوْلُهُ ثَانِيًا ابْتَعْت هَذَا بِأَلْفٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَوَّلًا مِلْكَ الْأَلْفِ. وَلَمْ يَقْصِدْ ثَانِيًا التَّمْلِيكَ بِهَا، وَلَمْ يَقْصِدْ الْآخَرُ تَمْلِيكَ الْأَلْفِ أَوَّلًا وَلَا مِلْكَهَا ثَانِيًا، بَلْ الْقَصْدُ تَمْلِيكُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مَثَلًا إنْ لَمْ تَجْرِ بَيْنَهُمَا مُوَاطَأَةٌ، لَكِنْ قَدْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْبَائِعَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ فَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ يَمْنَعُ كُلًّا مِنْهُمَا أَنْ يَقْصِدَ الثَّمَنَ فِي الْعَقْدَيْنِ بَلْ عِلْمُهُ بِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُوَاطَأَةِ الْعُرْفِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ قَصَدَ الْبَائِعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي فَهُنَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْهُ ذَهَبًا إلَّا أَنْ يَمْضِيَ لِيَبْتَاعَ بِالْوَرِقِ مِنْ غَيْرِهِ ذَهَبًا فَلَا يَسْتَقِيمُ فَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ الدَّنَانِيرَ فَيَشْتَرِيَ مِنْهُ ذَهَبًا، وَكَذَلِكَ كُرِهَ مِنْك أَنْ تَصْرِفَ دَرَاهِمَك مِنْ رَجُلٍ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ تَبْتَاعَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ غَيْرَ دَرَاهِمِك وَغَيْرَ عُيُونِهَا فِي الْوَقْتِ، أَوْ بَعْدَ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ
طَالَ الزَّمَانُ وَصَحَّ أَمْرُهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، لِأَنَّهُ مَنْ قَصَدَ الشِّرَاءَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَقْصِدْ تَمْلِيكَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَا يُحْتَاطُ فِي النَّقْدِ وَالْوَزْنِ فَمَتَى بَدَا لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُفَارَقَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجِدَ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَلَلٌ، ثُمَّ إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلُوا هَذَا الْمَنْعَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ حِيلَةٍ وَمُوَاطَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ، وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْكَرْمَانِيُّ. قَالَ قُلْت لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ ذَهَبًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ؟ قَالَ: يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَفْعَلُ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ الصَّرْفِ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ فَلَا يَنْقُلُ الْكَرَاهَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا عَنْ الصَّحَابَةِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَكْسُ مَسَائِلِ الْعِينَةِ وَهِيَ فِي رِبَا الْفَضْلِ كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ فِي رِبَا النَّسَاءِ، لِأَنَّ هَذَا يَبِيعُ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِهِ، وَمِثْلُهَا فِي رِبَا النَّسَاءِ أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا بِنَسِيئَةٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً - وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا عَدَّهَا مِنْ الرِّبَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ عَادَ الثَّمَنُ إلَى الْمُشْتَرِي وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ، أَوْ رِبَا النَّسَاءِ، وَفِي مَسَائِلِ الْعِينَةِ قَدْ عَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ جَمِيعًا. ثُمَّ إنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَقْصِدْ الثَّمَنَ وَلَا الْمَبِيعَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ وَصْلَةً إلَى الرِّبَا فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ هُنَا بَاطِلٌ فَلَا يُوقَفُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُبْطِلُ الْحِيَلَ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ قَدْ جَعَلَ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّوَابُ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا يُنْصَبُ الْخِلَافُ فِيهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَلَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ، وَلَهَا مَأْخَذٌ آخَرُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الثَّمَنِ إذَا لَمْ
يُسْتَوْفَ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ، فَيَصِيرُ الثَّانِي مَبْنِيًّا عَلَيْهِ. وَهَذَا تَعْلِيلٌ خَارِجٌ عَنْ قَاعِدَةِ الْحِيَلِ وَالذَّرَائِعِ أَيْضًا. فَصَارَ لَهَا ثَلَاثَةُ مَآخِذَ، فَلَمَّا لَمْ يُمْتَحَضْ تَحْرِيمُهَا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ تَوَقَّفَ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَنْ تَوَقَّفَ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْحِيَلِ أُعْطِيت حُكْمَ الْحِيَلِ، وَإِلَّا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْمَأْخَذَانِ الْآخَرَانِ، هَذَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مَقْصُودًا حَقِيقَةً فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ مَا دَامَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ الْبَيْعَ بِأَقَلَّ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ الثَّمَنَ رِبَوِيًّا، لَا يُبَاعُ بِالْأَوَّلِ نَسْئًا، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تُسْتَوْفَى إلَّا بِالتَّقَابُضِ، فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ التَّقَابُضُ كَانَ ذَرِيعَةً إلَى الرِّبَا، وَإِنْ تَقَابَضَا وَكَانَ الْعَقْدُ مَقْصُودًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كَمَا يَشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ.
وَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ إلَى الْحَلَالِ هِيَ الْعُقُودَ الْمَقْصُودَةَ الْمَشْرُوعَةَ الَّتِي لَا خِدَاعَ فِيهَا وَلَا تَحْرِيمَ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُلْحَقَ فِيهَا صُورَةُ عَقْدٍ لَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَتَهُ مَنْ مَلَكَ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ اسْتِحْلَالَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الرِّبَا وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ:«بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الِاحْتِيَالِ بِالْعُقُودِ الَّتِي لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ الْأُولَى، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِثَمَنِهَا سِلْعَةً أُخْرَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ، وَمَتَى وُجِدَ الْبَيْعَانِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ جَازَ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ كُلُّ بَيْعٍ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَلَا يَكُونُ رِبًا، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي بُيُوعٍ قَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهَا، وَإِنْ كَانَ بَيْعًا فَإِنَّهَا رِبًا وَهِيَ بَيْعٌ فَاسِدٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَوْ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي بَيْعٍ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ، أَوْ فَاسِدٌ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا إدْخَالَهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ حَتَّى يُثْبِتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَمَتَى أَثْبَتَ أَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى صِحَّةِ صُورَةِ النِّزَاعِ أَلْبَتَّةَ.
وَالنُّكْتَةُ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالْبَيْعِ إنَّمَا يَقْتَضِي الْبَيْعَ الصَّحِيحَ. وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَوَاطَآ فِيهَا عَلَى الِاشْتِرَاءِ بِالثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ جِنْسِ
الثَّمَنِ الرِّبَوِيِّ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الِاشْتِرَاءُ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ الِاشْتِرَاءُ مِنْهُ بَعْدَ بَيْعِهِ بَيْعًا مَقْصُودًا ثَابِتًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّرَاءَ مِنْهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ، لِأَنَّهُ قَالَ:«وَابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا. لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَقَدْرُ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ هُوَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَنْ الْآخَرِ وَلَا هُوَ مُلْتَزَمًا لَهُ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمُشْتَرَكِ أَمْرًا بِالْمُمَيَّزِ بِحَالٍ، نَعَمْ مُسْتَلْزِمٌ لِبَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ لَا بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ عَامًّا لَهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِلْأَفْرَادِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَقَوْلُهُ مَعَ هَذَا: الثُّبُوتُ لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِبَيْعِهِ مِنْ زَيْدٍ، أَوْ عَمْرٍ وَلَا بِكَذَا، أَوْ كَذَا وَلَا بِهَذَا السُّوقِ، أَوْ هَذِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا أَتَى بِالْمُسَمَّى حَصَلَ مُمَثَّلًا مِنْ جِهَةٍ وَجَدَّدَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ لَا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا خِلَافَ فِيهِ، لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ عَدَمَ الْأَمْرِ بِالْقُيُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا خَطَأٌ.
إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَا أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ غَيْرِهِ فَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، وَلَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مُطَابَقَةً وَلَا تَضَامُنًا وَلَا الْتِزَامًا، كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى بَيْعِهِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ تَرْكِ قَبْضِهِ وَبَيْعِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَبِنَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبِثَمَنٍ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ. فَإِنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ، وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ اللَّفْظَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ مُبْطِلًا لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إذَا أَتَى بِهَا، وَإِنَّمَا اُسْتُفِيدَ عَدَمُ الِامْتِثَالِ إذَا بِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَالْأَمْرُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ الْعُرْفِ الَّذِي يُثْبِتُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَبِيعُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ مِنْهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ أُخْرَى مُنْفَصِلَةٍ فِيمَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ جَازَ فِعْلُهُ وَمَا لَا فَلَا.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَوْ كَانَ الِابْتِيَاعُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا كَانَ بَيَانَ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ شِرَاءُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ لِمَنْ عِنْدَهُ رَدِيءٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِثَمَنٍ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ جَيِّدًا.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشُرُوطِ
الْبَيْعِ وَمَوَانِعِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ. أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَفْهَمُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ شَرْطٍ مَخْصُوصٍ كَمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ سَائِرِ الشُّرُوطِ، وَمَا هَذَا إلَّا بِمَثَابَةِ قَوْله تَعَالَى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ حِلِّ الْأَكْلِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى حَدِّ نَوْعِ الْمَأْكُولَاتِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَكْلِ كَانَ مُبْطِلًا، إذْ لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ لِذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءً وَلَيْسَ الْغَالِبُ أَنَّ بَائِعَ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ يَبْتَاعُ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُقَالَ: هَذِهِ الصُّورَةُ غَالِبَةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي التَّحْذِيرُ مِنْهَا كَمَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ، لِأَنَّ سِعْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْغَالِبِ مَعْرُوفٌ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا لِيَشْتَرِيَ نَقْدًا آخَرَ إذَا بَاعَهُ لِلصَّيْرَفِيِّ بِذَهَبٍ ابْتَاعَ بِالذَّهَبِ مِنْهُ النَّقْدَ الْآخَرَ وَلِهَذَا حَذَّرُوا مِنْهُ، وَأَمَّا التَّمْرُ وَالْبُرُّ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْعُرُوضِ فَإِنَّ مَنْ يَقْصِدُ بَيْعَهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ مُشْتَرِيًا مَخْصُوصًا. بَلْ يَعْرِضُهُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ عَامَّةً. أَوْ يَضَعُهُ حَيْثُ يَقْصِدُونَهُ، أَوْ يُنَادِي عَلَيْهِ، فَإِذَا بَاعَهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ السِّلْعَةُ الَّتِي يُرِيدُهَا وَقَدْ لَا تَكُونُ.
وَمِثْلُ هَذَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: بِعْ هَذِهِ الثِّيَابَ الْكَتَّانَ وَاشْتَرِ لَنَا بِالثَّمَنِ ثِيَابَ قُطْنٍ. أَوْ بِعْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ الْعَتِيقَةَ وَاشْتَرِ لَنَا بِالثَّمَنِ جَدِيدَةً لَا يَكَادُ يَخْطِرُ بِبَالِهِ الِاشْتِرَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَلْ يَشْتَرِي مِنْ حَيْثُ وَجَدَ غَرَضَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ أَغْلَبَ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَهُ، فَالْغَرَضُ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ أَوْ ابْتِيَاعِهَا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ.
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صُورَةً قَلِيلَةً لَمْ يَجِبْ التَّحْذِيرُ مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لَهَا كَمَا لَوْ يُحَذِّرُ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلِهَذَا إنَّمَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الصَّرْفِ، لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُ إشْعَارٌ بِالِابْتِيَاعِ مِنْ الْمُشْتَرِي أَلْبَتَّةَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ» إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَيْعُ الْمَقْصُودُ الْخَالِي عَنْ شَرْطٍ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَقْصُودًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي لَا يُقْصَدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْت هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ بَيْعُ الْمُكْرَهِ وَلَا بَيْعُ الْهَازِلِ.
وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَيْعُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ نَقْلُ الْمِلْكِ، فَإِذَا جَاءَ إلَى تَمَّارٍ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ
أَشْتَرِيَ مِنْك بِالتَّمْرِ الرَّدِيءِ تَمْرًا جَيِّدًا فَيَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِكَذَا دِرْهَمًا وَيَعْنِي بِالدَّرَاهِمِ كَذَا تَمْرًا جَيِّدًا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مِلْكَ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بَيْعُ تَمْرٍ بِتَمْرٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ مَضَى.
يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَيْنِ قَدْ يَتَرَاضَيَانِ أَوَّلًا عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ ثُمَّ يَجْعَلَانِ الدَّرَاهِمَ مُحَلِّلًا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ مَأْمُورٌ بِالِانْتِقَادِ وَالِاتِّزَانِ وَالْقَبْضِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَقْدِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ رَدَّ الثَّمَنِ إلَيْهِ لَمْ يُحَرِّرْ النَّقْدَ وَالْوَزْنَ وَالْقَبْضَ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْإِطْلَاقِ لَا يُسَمَّى بَيْعًا، وَلَوْ قَالَ النَّاسُ: فُلَانٌ بَاعَ دَارِهِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إلَّا صُورَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَمَتَى تَوَاطَأَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْحَدِيثِ.
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا، وَهَذَا يَقْتَضِي بَيْعًا يُنْشِئُهُ وَيَبْتَدِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَمَتَى وَاطَأَهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنْ أَبِيعَك وَأَبْتَاعَ مِنْك فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى الْعَقْدَيْنِ مَعًا فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي حَدِيثِ الْأَمْرِ بَلْ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَقْرِيرُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْعُقُودِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَارِنِهَا وَمُتَقَدِّمِهَا.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ عُمُومًا لَفْظِيًّا فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِصُوَرٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، فَإِنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَدْخُلُهَا فِيهِ فَيُضْعِفُ دَلَالَتَهُ وَيَخُصُّ مِنْهُ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ نُصُوصٌ فِي بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَهِيَ مِنْ الصُّوَرِ الْمَكْثُورَةِ فَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْعُمُومِ مِنْ أَسْهَلِ الْأَشْيَاءِ، وَانْظُرْ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» فَإِنَّهُ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا. لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَلَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ آخَرُ، فَأَيُّمَا أُوِّلَ بِالتَّخْصِيصِ هُوَ أَوْ قَوْلُهُ:«بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ. وَقَدْ خَرَجَ مِنْهُ