الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَ بِسَاطًا، قَالُوا: يَجْعَلُ بِسَاطَيْنِ، وَقَالُوا: حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الدَّارَ، قَالُوا: يُحْمَلُ، فَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَتَعَجَّبُ.
فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ مَا شُرِعَ لَهُ وَجَاءَ عَنْ السَّلَفِ فِي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الْأَحْكَامَ لَيْسَ بِمُحْتَالٍ الْحِيلَةَ الْمَذْمُومَةَ، وَإِنْ سُمِّيَتْ حِيلَةً، فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهَا. وَغَرَضُهُ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لِحُصُولِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا، كَمَا سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - بَيَانُهُ، وَسَيَأْتِي تَشْدِيدُهُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَاحْتِجَاجُهُ عَلَى رَدِّهَا فِي أَثْنَاءِ الْأَدِلَّةِ.
[الْوَجْهُ الْأَوَّلُ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ]
فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَإِبْطَالِهَا وُجُوهٌ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ
أَنَّهُ سبحانه وتعالى قَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ مُظْهِرِي الْإِسْلَامِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] الْآيَةَ.
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعِينَ مَخْدُوعُونَ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ اللَّهَ خَادِعٌ مَنْ يُخَادِعُهُ وَأَنَّ الْمَخْدُوعَ يَكْفِيهِ اللَّهُ شَرَّ مَنْ خَدَعَهُ، وَالْمُخَادَعَةُ هِيَ الِاحْتِيَالُ وَالْمُرَاوَغَةُ بِإِظْهَارِ الْخَيْرِ مَعَ إبْطَالِ خِلَافِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ. يُقَالُ: طَرِيقٌ خَدِعٌ إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقَصْدِ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَيُقَالُ: غُولٌ خَيْدَعٌ، وَيُقَالُ: لِلشَّرَابِ الْخَيْدَاعُ، وَضَبٌّ خَدِعٌ، أَيْ مُرَاوِغٌ. وَفِي الْمَثَلِ أَخْدَعُ مِنْ ضَبٍّ،
وَخُلُقٌ خَادِعٌ، وَسُوقٌ خَادِعَةٌ أَيْ مُتَلَوِّنَةٌ. وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ، وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ وَالسَّتْرُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخِزَانَةِ: مِخْدَعٌ وَمُخْدَعٌ.
فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ إنْشَاءً لِلْإِيمَانِ، أَوْ إخْبَارًا بِهِ وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي هَذَا الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ - بِحَيْثُ يَكُونُ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِذَلِكَ، وَحُكْمُهُ أَنْ يَعْصِمَ دَمَهُ وَمَالَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ - كَانَ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ غَيْرَ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَتِهَا، بَلْ مُرِيدًا لِحُكْمِهَا وَثَمَرَتِهَا فَقَطْ، مُخَادِعًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكَانَ جَزَاؤُهُ أَنْ يُظْهِرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - مَا يَظُنُّ أَنَّهُ كَرَامَةٌ وَفِيهِ عَذَابٌ أَلِيمٌ، كَمَا أَظْهَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا ظَنُّوا أَنَّهُ إيمَانٌ وَفِي ضِمْنِهِ الْكُفْرُ.
وَهَكَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ: بِعْتُ، وَاشْتَرَيْتُ، وَاقْتَرَضْتُ، وَأَنْكَحْتُ، وَنَكَحْتُ إنْشَاءً لِلْعَقْدِ، أَوْ إخْبَارًا بِهِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ، وَلَا ثُبُوتَ النِّكَاحِ الَّذِي جُعِلَتْ لَهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، بَلْ مَقْصُودُهُ بَعْضُ أَحْكَامِهَا الَّتِي قَدْ يَحْصُلُ ضِمْنًا، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ. أَوْ قَصَدَ مَا يُنَافِي قَصْدَ الْعَقْدِ، أَوْ قَصْدُهُ بِالْعَقْدِ شَيْءٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنْ تَعُودَ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ. أَوْ أَنْ تَعُودَ السِّلْعَةُ إلَى الْبَائِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، أَوْ أَنْ تَنْحَلَّ يَمِينٌ قَدْ حَلَفَهَا كَانَ مُخَادِعًا لِمُبَاشَرَتِهِ لِلْكَلِمَاتِ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا حَقَائِقُ وَمَقَاصِدُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ مَقَاصِدَهَا وَحَقَائِقَهَا.
وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ النِّفَاقِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَحُدُودِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ الْأَثَرِ مَا رُوِيَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَيُحِلُّهَا لَهُ رَجُلٌ؟ فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ. رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَسَيَجِيءُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُخْدَعُ، هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، عَنْ عُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا:«لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحُ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحُ دُلْسَةٍ» .
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: الْمُدَالَسَةُ الْمُخَادَعَةُ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَنَاهِيكَ بِهِ فِي هَؤُلَاءِ الْمُحْتَالِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَأَنَّمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ، فَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ.
وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْحِيَلِ هُوَ كِتَابُ الْمُخَادَعَةِ، وَكَذَلِكَ
الْمُعَاهِدُونَ إذَا أَظْهَرُوا لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ سِلْمَهُ وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ الْمَكْرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِأَنْ يُظْهِرُوا لَهُ أَمَانًا، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمَانٍ فَقَدْ أَبْطَنُوا خِلَافَ مَقْصُودِ الْمُعَاهَدَةِ. كَمَا يُظْهِرُ الْمُحَلِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمَرْأَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ نِكَاحَهَا وَأَنَّهُ رَاغِبٌ فِي ذَلِكَ وَمَقْصُودُهُ طَلَاقُهَا بَعْدَ اسْتِفْرَاشِهَا لَا مَا هُوَ مَقْصُودُ النِّكَاحِ.
وَلِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ كُلَّ مَا فَهِمَ الْكَافِرُ أَنَّهُ أَمَانٌ كَانَ أَمَانًا لِئَلَّا يَكُونَ مَخْدُوعًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدَ خَدْعَهُ، وَرَوَى سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ:«كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَدٌ فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ غَزَاهُمْ فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَرَجَعَ، وَإِذَا الشَّيْخُ: عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ خَدِيعَةٌ بِالْمُعَاهَدِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِمَا اقْتَضَاهُ لَفْظُ الْعَهْدِ فَعُلِمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَفْظًا، أَوْ عُرْفًا خَدِيعَةٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ.
وَتَلْخِيصُ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ مُخَادَعَةَ اللَّهِ حَرَامٌ، وَالْحِيَلُ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ.
بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُنَافِقِينَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَبِقَوْلِهِ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] وَلَوْلَا أَنَّ الْمُخَادَعَةَ حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ الْمُنَافِقُ مَذْمُومًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَأَيْضًا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَادِعُهُمْ، وَخَدْعُ اللَّهِ الْعَبْدَ عُقُوبَةٌ لَهُ، وَالْعُقُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ.
وَبَيَانُ الثَّانِي مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَفْتَوْا أَنَّ التَّحْلِيلَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْحِيَلِ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ، وَالرُّجُوعُ إلَيْهِمْ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ مُتَعَيَّنٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ لُغَوِيَّةً، أَوْ شَرْعِيَّةً.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَادَعَةَ إظْهَارُ شَيْءٍ مِنْ الْخَيْرِ، وَإِبْطَانُ خِلَافِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، هَذَا