الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأنصاري.. علامة الحديث المعاصر
.
بقلم: عبد المؤمن محمد النعمان.
جريدة "المدينة": العدد (12621) السنة الثالثة والستون. الاثنين: 3 رجب عام 1418هـ. الموافق: 3 نوفمبر 1997م. "ص 10".
وقفتُ متأمّلاً ما شاهدته بعيني عصر يوم الأربعاء قبل الماضي أثناء تشيع جنازة فضيلة علامة الحديث بالمدينة المنورة الشيخ حماد الأنصاري "رحمه الله"، وقلتُ في نفسي: إنّ مكانة علماء الإسلام في نفوس المسلمين لا تزالُ بخيرٍ ولله الحمد.
فالمشهد كان مؤثّرًا إذْ تجمع الناسُ في ساحة المسجد النبوي في موكب يجلله الصمت وتعلوه سحابة الحزن ويحفه العبق الإيماني، كل شخص يتبع الجنازة، والأيدي تتشابك لتشارك في حمل النعش، وكلُّ فردٍ يحتضن الأخر ويقول له بتأثّر:(أعظم الله أجرَك) ؛ وكان المسجّى فوق النعش والد لكل فرد يتلقى فيه التعزية.
وعنِّي شخصيًّا فقد كنت أتقبل العبارة من القائلين كما لو كنت أسير في جنازة والدي؛ إذْ لم أرَ فرقًا بين ذلك اليوم الذي ودّعتُ فيه والدي "رحمه الله" وقد كان صديقًا وحبيبًا للشيخ حماد لا تربطه به إلا علاقة التوحيد، وبين هذا اليوم وأنا أقف في نفس الموقف.
لا أريدُ أن أسترسل كثيرًا في هذا الجانب فالمصاب جلل، والجرح عميق، والمشهد مؤثّر، ولكن قضاء الله نافذ، وليس أمامَنا إلا التسليم والرضى؛ فقد أُصيبت الأمة الإسلامية بفقدان سيد الخلق "صلى الله عليه وسلم"، وكلُّ مصيبة بعدَ رسول الله جلل "وكلمة جلل من ألفاظ التضاد كما هو معروف".
الشاهد: أن المدينة المنورة فقدت عالمًا من خيرة علمائها في الوقت الحاضر، حفظ السنة النبوية، وتألّق في معرفة علم الحديث؛ وقد كان حُجّة في ذلك، ويمثّل بقيّة من علماء السلف بما هو معروفٌ عنهم من حفظ ودراية وإلمامٍ بعلم الحديث؛ جعله يكادُ يكون متفرّدًا، إذْ لا يدانيه إلا القلة في عالمنا الإسلامي اليوم؛ وهو في نفس الوقت من حملة لواء التوحيد من العلماء الذين يُشار إليهم
بالبنان لعقيدته الصافية وحرصه على تحقيق التوحيد ونبذ كل ما يتعارض معه من معتقدات باطلة وخرافات وبدع وغلوّ في الدين أهلكَ من كان قبلَنا؛ ومن هذا الجانب أحبّه الناسُ واحترموه.
والذي أعلمُه بمعلوماتي المتواضعة عن ترجمة حياته: أن الشيخ تجشّم الصعاب في رحلة قدومه إلى المدينة من مالي بغرض السكنى بها، فكان له ما أراد بعد رحلة مضنية، لكن المدينة المنورة ظفرت به عالمًا من علمائها الأفذاذ؛ والمدينةُ دار العلم، ومأرز الإيمان، فقد احتضنت قبل ذلك إمامَ دار الهجرة مالك بن أنس "رحمه الله" على عمله وفضله؛ فليس غريبًا أن يتربع في مسجدِها عالمٌ جليل في عصرنا الحاضر كفضيلة الشيخ حماد، وأن يموتَ فيها، ويدفن في بقيعِها المبارك.
ولعل من الواجب هنا: أن أعرّج بشيءٍ من اللوم على ما تعودنا عليه من بعض صحفنا ومن بعض كتّابنا تجاه علماء الإسلام بالذات من صمت وتجاهُل يختلف عما نشاهده تجاه من هم دونَهم ولا يعدلون معشار القيمة الاعتبارية التي لهم؛ ومع ذلك تنال أخبار وفاتهم تغطية إعلامية كبيرة وتتناولهم الأقلام بكلمات التأبين ما لا يمكن أن يوصف؛ وسواء رردنا ذلك للعلاقات أو للمكانة التي يراها الدهماء بعواطفهم الثائرة تجاه فلان أو فلان أو علاّن أو علاّنة مما ينتج عنه اهتمام صحفي بارز؛ فإن واجبَ الصحافة الإسلامية أن تقدّر العلماء وتعطيهم جزءًا مما يستحقونه، وتراعي بذلك مشاهر الجمهور الطويل العريض من طلاّب العلم ومحبي العلماء الذين هم بطبعهم بعيدون عن إمكانية المشاركات الإعلامية؛ ولكنه يسوؤهم ويزعجهم هذا الجحود.
بقي لي أن أُشير بشيء من الاقتضاب إلى إمكانية إحياء ذكر الشيخ حماد بما يبقيه في الذاكرة كعلم يُشير إلى اسمه في طيبة، وهو أن يبادر أبناؤُه البررة
بتذليل كل إمكانياتهم الفكرية والمادية في سبيل تهيئة مكتبة الشيخ الثرية بالنفائس من أمهات الكتب والمخطوطات لتكون دار علم يؤمها العلماء وطلبة العلم والدارسون من أهل التخصص، على أن يتفرغ أحد أبنائه القادرين ليكون أمينًا عامًّا للمكتبة، مع تخصيص موظّفين مؤهلين بما يبقي كيان المكتبة العلمي كما لو كان الشيخُ موجودًا، ويحفظها من الضياع ومخاطر الإعارة؛ فقد خدم الشيخُ العلمَ في حياته، فلا أقلّ من أن تبقى مكتبته قائمة تحمل اسمَه وترجمة مختصرة عن حياته بما يحفظ ذكرَه بعد مماته على غرار مكتبة الشيخ عارف حكمت التي بقيت قرونًا وهي تحمل اسمَه في طيبة الطيّبة ضمن مكتبات الحرم النبوي الشريف؛ وإنْ كانت الآن ضُمّت إلى مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة كأم رؤوم تحتضن شتات مكتبات المدينة (1) ا. هـ.
(1) إن كاتب هذه السطور انتقل إلى رحمة الله تعالى قبل ظهور هذا الكتاب؛ وذلك عام 1420هـ؛ وهو رجلٌ فاضل، متواضعٌ جدًّا. عبد الأول.