الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيخنا كلمات في ذكراك
- بقلم الشيخ: عواد الخلف، المعيد بكلية الشريعة جامعة الكويت.
ترقرق الدمع من العيون الباكيات على وفاة الشيخ العلامة أديب المحدثين ومحدث الأدباء الشيخ حماد بن محمد الأنصاري "رحمه الله تعالى رحمةً واسعة بفضله ومنّه".
قال "صلى الله عليه وسلم": "إن الله لا يقبض العلمَ انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء". ووالله إن مصيبتنا بهذا الإمام لعظيمة جدّ عظيمة لا يعزينا فيها إلا ما عرفناه عن هذا الشيخ من خدمة للسنة علمًا وعملاً؛ فقد كان "رحمه الله" موسوعة للعلوم الشرعية في شتى الفروع، كالبحر المتلاطم الذي لا ساحلَ له؛ فإذا ذكر الحديثُ فهو نجم يهتدي به، وإذا ذكر الأدب فهو إمامٌ يقتدى به؛ وكم سارت بذكره الركبان سير الشمس في البلدان؛ فكثير من أصحاب الشهادات العلياء تخرّج من بين يديه ونهل من معينه، بل منهم من تتلمذ على تلامذته؛ وإليك أيها القارئ الكريم هذه الترجمة التي قرئت على الشيخ وأنا أسمع: فقيدُنا هو: حماد بن محمد بن محمد بن حنة بن المختار بن محمد البشير، من ذرية سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري.
ولد سنة 1344هـ في بلدة "تادمكة" في أفريقيا الغربية، من بلاد "ملي"" (مالي) كما تسمى اليوم".
نشأ في بيت علم وقضاء وفتوى، وتلقّى العلمَ في بلده عن أجلة المشايخ؛
وقد شرع في السنة العاشرة من عمره في حفظ القرآن غيبًا وتجويده على خاله المقرئ محمد أحمد بن تقي الأنصاري الملقب بـ (أستاذ الأطفال) لاعتنائه بإقرائهم القرآن؛ فأكملَه حفظًا وتجويدًا وهو ابن خمس عشر سنة.
ثم قرأ على شيخ المذكور في علم التوحيد "رسالة ابن أبي زيد القرواني""مالك الأصغر"، وكذلك تلقى عنه في علم النحو والتصريف:"الآجرومية"، ثم "ملحة الإعراب" للحريري، ثم "ألفية ابن مالك"، ثم "زوائد الكافية على الألفية"، ثم "لامية الأفعال في تصريف الأفعال"، ثم "الزوائد على لامية الأفعال" لابن إسحاق الملقب ميدو؛ وقد أجاد هذين العلمين حتى برز على أقرانه فيهما.
وأخذ علم البلاغة عن شيخه علامة عصره الفهامة المحقق موسى بن الكسائي الأنصاري؛ درس عليه "الجوهر المكنون في صدف الثلاثة الفنون" المعاني، والبيان، والبديع ـ نظمٌ للأخضري في خمسمائة بيت؛ ثم "عقود الجمان" نظمٌ للسيوطي في ألف بيت.
وأخذ علم الأصول عن بحر العلوم عمه محمد أحمد الملقب بالبحر لتبحره في العلوم، درس عليه "الورقات" لإمام الحرمين الجويني، ثم "جمع الجوامع" للتاج السبكي مع البناني والمحلي والعطار، ثم نظمه "الكوكب الساطع نظم جمع الجوامع" للسيوطي حفظه بعد أن درس أصله "جمع الجوامع"؛ ثم طالع "نشر البنو على مراقي الصعود".
وأخذ عن عمّه أيضًا في التفسير "الجلالين" مع "حاشية الجمل"، ثم البغوي، ثم الخازن.
وفي الحديث سمع "الموطأ" و "الصحيحين" و "سنن أبي داود"؛ ولم يكن يوجد في بلده في ذلك الوقت غير هذه الكتب مما يتعلق بالحديث.
وتلقّى عنه دواوين اللغة الست، وهي:"ديوان امرئ القيس"، و "ديوان النابغة الذبياني"، و "ديوان زهير بن أبي سلمى"، و"ديوان علقمة الفحل"، و"ديوان طرفة"، و "ديوان عنترة".
ودرس عليه في الفقه "مختصر خليل بن إسحاق الجندي التركي" وملحقاته، و "التبصرة" لابن سلمون الحنفي، و "الطليحية"، و "مصطلحات الفقه المالكي" لابن بهرام؛ وسمع عنه "المدونة".
وأخذ الفرائض عن أستاذه الجليل الشريف الإدريسي الحسني حمود بن محمود، درس عليه "الرحبية" مع "شرح الشنشورية"؛ وعنه أخذ في المنطق "السلم المَرونَق" للأخضري، وايساغوجي، و"الشمسية"، وفي علم المنازل "المنظومة السوسية" للأخضري، ومطلعها:
ومن يرد مدخل شهر ينشد
…
ينيرئ فيريرد ومرسد
ابريل مايب وهاء يونيُه
…
يليوز غشتجَ شتمروفُه
ودرس عليه أيضًا علم الأصول الفقيهة، وفي علم المصلح "النخبة" للحافظ ابن حجر العسقلاني مع شرح "النزهة" و "ألفية السيوطي".
وفي علم الأصول التفسيرية أبوابًا من "الإتقان" للسيوطي مع مقدمته.
هذا، وقد أخذ تلك العلوم عن أولئك العلماء بالأسانيد المتصلة إلى المؤلفين.
وبعد ذلك أكبّ على مطالعة الكتب والتدريس في بلده "مناقَه" إلى أن
اشتدت رغبته في الهجرة من بلاده بعد أن استولى الاستعمار الفرنسي عليها ودبّ الإفسادُ فيها، إلى بلاد الإسلام؛ فهاجر سنة ست وستين وثلاثمائة وألف للهجرة؛ فلما وصل إلى الحرم الشريف (مكة المكرمة) سنة سبع وستين انضم إلى الحلقات العلمية في الحرم آنذاك التي كانت حول بعض العلماء منهم الشيخ عبد الرزاق حمزة المصري، وكان يدرس في "تفسير ابن كثير"، والشيخ محمد أمني الحنفي ويدرس في "صحيح البخاري"، والشيخ حسن مشّاط ويدرس في "الترمذي"؛ وغيرهم من المشايخ المدرسين في الحرم المكي حواهم كلهم ثَبَتُه في الذين أخذ عنهم في الجزيرة العربية في رحلته الثانية إلى آسيا.
وأما في المدينة النبوية فقد سمع من الشيخ محمد بن تركي النجدي درس عليه "الموطأ"، والشيخ محمد خيال قاضي المستعجلة آنذاك، درس عليه "صحيح البخاري" و "فتح المجيد"؛ والشيخ عمار المغربي درس عليه في "البخاري"، والشيخ حبيب الرحمن الهندي، وهو من أساتذة دار العلوم الشرعية درس عليه في الترمذي وأبي داود؛ وغيرهم من علماء الحرمين.
وأجازه غير واحد، منهم الشيخان المحدّثان الهنديان عبد الشكور الهندي، وعبد الحق العمري، وهما في باكستان بعد التقسيم؛ ومحمد بن عيسى الفاداني الجاوي، وعبد الحفيظ الفلسطيني، لقيه في مِنى سنة سبع وستين وأجازه في الستة، والسيد قاسم بن عبد الجبار الفرغاني الأندجاني صاحب كتاب "المصباح في أصول الحديث" أعطاه إجازتين: سمع منه حديث المسلسل بالأولية، ثم أجازه في الستة، وغيرها من اكتب الحديث والرواة والمصطلح والفقه بجميع المذاهب الأربعة؛ والأستاذ محمد الشعراني البتجري المرتفوري الإندونيسي
أجازه في الستة، والعتيق بن سعد الدين التنبكتي القاوي "بتخفيف القاف" أجازه في الستة أيضًا، والشيخ أبو بكر التنبكتي عن طريق الشيخ الطيب في الستة؛ وآخرون من علماء نجد، والعراق، والشام، واليمن، وأفريقيا الشرقية، والهند بقسميه، وجاوا بأقسامها.
وجميع السماعات والإجازات المذكورة كلها بالأسانيد المتصلة إلى أصحاب الكتب مجموعة في دفاتر كثيرة يحويها ثبت سماه: "إتحاف القاري بثبت الأنصاري".
كما أنه التحق بدار العلوم الشرعية في المدينة النبوية في قسم التخصص سنة 1369هـ إلى نهاية 70هـ.
ومن أشهر شيوخه في دار العلوم الشرعية: عمر بري؛ درس عليه "الهداية" للمرغيناني في الفقه الحني، و "صحيح مسلم"، و "ديوان المتنبي"، و "ألفية بان مالك"؛ والشيخ محمد بن ركي: درس عنه "الموطأ"، و "المغني" لابن قدامة، والشيخ محمد الحافظ درس عليه "النسائي".
انتقل من المدينة إلى مكة سنة 1371هـ، وباشر التدريس فيها بالمدرسة الصولتية (نسبة إلى المرأة الهندية المؤسسة لها، واسمها صولة النساء) ؛ وهذه المدرسة هي الواقعة بحارة الباب؛ وقد بدأ بها التدريس بعد يومين خليا من شهر صفر، واستمر فيها مدرسًا في الابتدائية والثانية والعالي إلى نهاية سنة 1374هـ؛ وفي هذه المدرسة التقى بواضع أصل هذه الترجمة ابن عمه الشيخ إسماعيل الأنصاري، واستفاد كل منهما من الآخر؛ حيث اشتغلا ببحوث لا
تحصر، إلى أن اختير "رحمه الله" للتدريس بالرياض في المعهد العلمي التابع لإدارة المعاهد العلمية والكليات، وذلك في شعبان سنة 1374هـ، ثم نقل مدرسًا بمعهد إمام الدعوة بالرياض سنة 1375هـ، واستمر فيه يدرس في جميع مراحله: الابتدائي والثاني والعالي إلى نهاية سنة 1382هـ؛ حيث نقل في شهر رجب للتدريس بكلية الشريعة التابعة للإدارة العامة للمعاهد والكليات، وذلك في شعبان سنة 1374هـ، ثم نقل مدرسًا بمعهد إمام الدعوة بالرياض سنة 1375هـ، واستمرَّ فيه يدرس في جميع مراحله: الابتدائي والثانوي والعالي إلى نهاية سنة 1382هـ؛ حيث نقل في شهر رجب للتدريس بكلية الشريعة التابعة للإدارة العامة للمعاهد والكليات بالرياض؛ واستمرّ إلى نهاية سنة 1384هـ، حيث نقل في مستهلّ عام 1385هـ للتدريس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ودار مدرسًا في جميع كليات الجامعة التي فتحت بعد، منها:(كلية الحديث) و (كلية القرآن) ، و (كلية اللغة) ، و (كلية الدعوة) ؛ إلى أن انتقل إلى الدراسات العليا بالجامعة سنة 1396ـ باسم (أستاذ مشارك) ؛ وقد باشر التدريس في الدراسات العليا في قسمي السنة والعقيدة؛ وبعد تمام ثلاث سنوات من رئاسته قسم العقيدة عيّن رئيسًا لقسم السنة إلى سنة 1405هـ، ثم عاد إلى رئاسة قسم السنة مرة أخرى سنة 1408، وعيّن برتبة (أستاذ) سنة 1409هـ.
وقد شرع في التأليف في فنون مختلفة؛ فقد ألّف في النحو كتابًا سماه "الأجوبة النونية على أسئلة الألفية"، وفي التوحيد كتاب سماه "أبو الحسن الأشعري وعقيدته"، وفي الفقه رسالة سماها:"تحفة السائل عن صوم المرضع والحامل"، ورسالة "الإعلان بأن لَعَمْري ليست من الأيمان".
وألّف فيما يتعلق بالحديث كتبًا كثيرة، وهي:"بلغة القاصي والداني في تراجم شيوخ الطبراني"، و "فتح الوهاب فيمن اشتهر من المحدثين بالألقاب"، و "إتحاف ذوي الرسوخ بمن دلس من الشيوخ"، و "تعليق الأنواط في التذييل على صاحب الاغتباط"، و "سبيل الرشد في تخريج أحاديث ابن رشد"، و "إعلام الزمرة في أحكام الهجرة"، و "إعلام الحميم بأقسام العلوم"، و "يانع الثمر في
مصطلح أهل الأثر".
ونظَم "المختلف" للأزدي، ومطلعه:
اقرأ سيدنا بضم الهمز منحصرا
…
في أربع تستفد ما يشبه الدررا
ومبادي في أصول التفسير، و "تاريخ ملّي "أي: مالي" في القديم والحديث" جزآن، و "كشف اللثام عما ورد في دخول مكة بلا إحرام"، و "كشف الستر عما جاء في شد الرحل إلى القبر"، و "كشف الستور في نهي النساء عن زيارة القبور"؛ وفي السيرة النبوية رسالة بعنوان "تحقيق السيرة النبوية"، وغيرها من الرسائل المفيدة.
ومن الجدير بالذكر أن مكتبة الشيخ الخاصة تحوي أهم كتب الحديث بأنواعه المختلفة مطبوعًا ومخطوطات تقدّر بأكثر من خمسة آلاف مجلّد بما فيها كتب التوحيد وفقًا لسيرة السلف.
وقد فتح الشيخ صدرَه وبيتَه ومكتبته للقاصدين من طلبة العلم؛ فأصبحت مكتبته مهوى أفئدتهم، يقصدونها من شتى الأنحاء يستفيدون من الشيخ نفسه، توجيهًا، وعلمًا، وظرفًا، وأدبًا؛ وينهلون من معين ما حوت مكتبته من كنوز المخطوطات والمطبوعات، مما كان له جميل الأثر في نفوس أبنائه طلاب العلم ومحبيه.
ختامًا هذه كلمات كتبتُها بدموعي وفاءً لذلك الشيخ الذي كان وما زال ملء السمع والقلب؛ فرحمه الله وجعل الجنة مثواه.