الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ حماد الأنصاري محدث المدينة النبوية
.
بقلم: الدكتور/ عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان.
أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
نُشرت في جريدة (الرياض) العدد: (10728) بتاريخ: 7 رجب عام 1418هـ، الموافق: 7 نوفمبر 1997م.
قضاء الله نافذ، وإذا حلّ الأجل فلا مردّ له، والموتُ حقٌّ، وهو سبيلُ كلّ حي؛ ومن عناية الله بالمؤمن طلب منه أن يسلم ويرضى بقضاء الله وقدره؛ وقطارُ الحياة يموجُ بالأحياء والأموات، وفي كلِّ لحظة مولد ينبض بالحياة فيضاف إلى رصيدها، أو ميت يغادر الفانية إلى الباقية؛ وكم من الأحياء الذين يعيشون في عداد الأموات؛ لأنهم يعيشون على هامش الحياة، حيث إنهم لم يعيشوا فيها كما أراد الله لهم دينًا وخلقًا وعلمًا وعملاً وكدًّا وسعيًا وصلاحًا.
وكم من الأموات الذين يغادرون هذه الدنيا، ولكنهم يعيشون في قلوب الناس جميعًا بأخلاقهم وصلاحهم وأعمالهم؛ ومن هذا الصنف: شيخ الحديث، وعالم المدينة النبوية الشيخ حماد بن محمد الأنصاري "يرحمه الله" الذي وافته المنية منذ أيّام؛ وقد تألّم وحزن لفقده كلُّ من عرفه من طلاّب العلم ومحبيه، ولا شكّ أن فقد العلماء من أمثاله يترك فراغًا كبيرًا قد لا يتهيّأ من يسده.
وكأني أنظر إلى وجه الشيخ "يرحمه الله" وأشهد فيه ذلك السمْت الذي ينمّ عن طيبة القلب، وصفاء النفس، ونقاء السريرة والوقار الذي يملأ النفسَ إجلالاً وتقديرًا، واستروح ذلك الحب الذي يفيض منه على كل من له صلة به من طلابه ومحبيه؛ تجالسه فتراه طلق المحيّا، هاشًّا، باشًّا في وجه من يجالسه، أو يقصده طلبًا للعلم والفائدة.
أحبَّ العلمَ، ونذرَ له نفسه، وكرّس له كل جهده ووقته؛ وكأنه لا يرغب في أن تفوت لحظةٌ واحدة أو يمرّ نفس دون أن يكون قد شغلَه في الحصول على معلومة أو كتاب.
وملَك عليه حبّ الكتب واقتناؤها شغاف قلبه؛ وإذا سمع بكتاب جيّد يدخل دائرة اهتمامِه لا يهدأُ له بال، ولا يغمض له جفن، ويظلّ يلحّ ويدأَب
ليلَه ونهارَه حتى يتحصّل عليه في أيِّ مكان، أو بأيِّ ثمن؛ بل كان يقتطع من قوته ليؤمن ما يحتاجه من الكتب، أو يصور ما يختاره من المخطوطات النادرة في الحديث وعلومه.
وارتحل شرقًا وغربًا، وطوّف في بلادٍ كثيرة لا لكي يتنزّه أو يستجم، ولكنه يتكبّد عناء السفر ومشاق الترحال بحثًا عن كنوز تراثنا الإسلامي المحفوظ في مكتبات العالم.
ويقتضي المقام أن أقدم نبذة موجزة عن حياته الشخصية، وآثاره العلمية:
فهو أبو عبد اللطيف حماد بن محمد الأنصاري، ولد في (تاد مكة) من بلاد (مالي) بأفريقيا الغربية عام 1344؛ وينتهي نسبُه إلى سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري.
ونشأ وترعرع في مسقط رأسه، وعاش في وسط يحفّه الالتزام بهدي الإسلام، ويحوطه التطلُّع إلى العلم الشرعي؛ إذْ من أسرته مَن اشتغل بالعلم والفتيا والقضاء؛ فلا غرو إذًا أن يتجّه الشيخ منذ نعومة أظفاره إلى العلم، ويحرص على مجالسة العلماء، والإفادة منهم، وتهيّأ له أن يحفظ كتاب الله وهو في الخامسة عشرة من عمره.
وأخذ يتدرّج في مدارج العلم حتى تمكّن من حفظ قدر وافرٍ من المتون في شتّى صنوف العلوم والفنون، ونال حظًّا كبيرًا من العلوم الشرعية والعربية في بلاده مع التركيز في هذه المرحلة على علوم العربية، تمّ له ذلك من خلال ملازمته بعض المشايخ والعلماء، ومنهم عمّه الشيخ محمد أحمد بن محمد الذي يلقّب بالبحر لتبحّره في العلوم، وخاله محمد أحمد تقي، وابن عمه موسى بن الكسائي.
ولم تمنعه الظروف القاسية في بلاده من إشباع نهمه في التزوّد بالعلم من فطانة متعددة؛ فكم سهر من الليالي الطوال على ضوء القمر أو السراج يقرأ ويكتب ويحفظ.
وحينما قدِم إلى المملكة العربية السعودية تطلّع إلى الاستزادة من العلم؛ فلازم بعض علماء الحرمين، ودرس على بعضهم الحديث وعلومَه، منهم الشيخ عبد الرزاق حمزة، والشيخ حسن المشّاط بمكة، والشيخ محمد بن تركي، والشيخ حبيب الرحمن الهندي بالمدينة المنورة، والمحدث الشيخ عبد الشكور الهندي، وعبد الحق العمري، ومحمد بن عيسى الفاداني، والشيخ قاسم بن عبد الجبار الانديجاني الفرغاني صاحب كتاب "المصباح في علوم الحديث"؛ وحصل من بعضهم على إجازات، وسمع بالأسانيد المتصلة إلى المؤلفين فيما تلقاه عنهم من أحاديث؛ ومن ذلك: الحديث المسلسل بالأولية الذي أجازه به الشيخ قاسم الإنديجاني، ثم أجازه في الكتب الستة المشهورة؛ ومن شيوخه الذين كان لهم تأثيرٌ واضحٌ عليه: الشيخ محمد عبد الله بن محمود المدني "أحد أئمة المسجد النبوي"، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ "مفتي المملكة العربية السعودية".
وكان "يرحمه الله" يشيد في مجالسه بشيوخه هؤلاء، ويذكر فضلَهم عليه؛ ويبدو أن جلّ ما درسه وناله من العلم إنما كان على أيدي العلماء والمشايخ، وعكوفه على الكتب حفظًا وقراءة واستيعابًا؛ وكان له بذلك الإدراك الراسخ والإطلاع الواسع والعلم الغزير في علوم الحديث، والتفسير، والفقه، والعقيدة، واللغة العربية، وغيرها من علوم الآلة.
وهذا المسلك هو الذي كان ينتهجه علماؤنا السابقون الذين يطلبون العلم لذات العلم وحبًّا ورغبةً في التزوّد منه، وليس لغرض أو عرض دنيوي.
ولا شكّ أن هذا المسلك في تلقّي العلم كان له أثرٌ واضح في تكوين
شخصية الشيخ العلمية من حيث التعمّق والتبحُّر فيما درسه من علوم جعلت منه عالمًا متبحرًا، ولا سيما في علم الحديث وأصوله الذي أولاه جلّ اهتمامِه وعنايته وأصبح شغله الشاغل دراسة وقراءة وتأليفًا وتدريسًا.
وجمع في الحديث وعلومه مكتبة شاملةً لكل ما يتّصلُ بهذا العلم من مطبوعات ومخطوطات نادرة؛ وتعدّ مكتبتُه بحقٍّ من أنفس وأوسع المكتبات في هذا الباب؛ وليس العبرة بجمع الكتب، ولكن باستعياب ما في بطونها من درر العلم وكنوزه.
وقد تمّ ذلك للشيخ مما جعله ذا دراية واسعة بما اشتملت عليه مصادر العلم على تعدد جوانبه وكثرة فروعه وفنونه؛ وتألّق الشيخُ في علم الحديث وأصبح حجّة ومرجعًا للعلماء وطلاّب العلم في هذا الباب.
ولم يُعرف عن الشيخ أنه نال شهادة من جهة تعليمية رسمية سوى ما عرف من التحاقه بدار العلوم الشرعية بالمدينة المنورة عام 1369هـ في قسم الحديث النبوي، ولم يدرس في جامعة، ولم ينل شهادة الدكتوراه، ولكن جامعته وشهادته الكبرى علمه الفيّاض، وأخلاقُه، وهمّته، وحرصُه على العلم وطلاّبه، وآثاره المتمثلة في طلاّبه، ومؤلفاته المفيدة.
وقد كرّس جلّ سنين عمره لطلاب العلم والتدريس؛ حيث عمل مدرسًا في المدرسة الصولتية بمكة المكرمة، ثم انتقل إلى التدريس بالرياض في المعهد العلمي عام 1375هـ، ومنه انتقلَ إلى التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1385هـ، واستمرّ بها أستاذً للحديث وعلومه حتى عام 1410هـ، حيث بلغ سن التقاعُد؛ وأشرف في هذه الفترة على عددٍ كبيرً من طلاب الجامعة الإسلامية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وناقش عددًا كبيرًا من الرسائل المقدّمة في تلك المرحلتين.
ولم يقتصر الأمر في عطائه الثرّ على التدريس في أروقة الجامعة الإسلامية، بل كان الطلاّب يتوافدون عليه زرافات ووحدانًا كل يوم في بيته العامر بالعلم وخلق العلماء وبذلهم وعطائهم؛ وكانوا يجدون عندَه "يرحمه الله" بغيتهم، إذْ يتلقّاهم بأخلاق العالم الذي يحرص على إفادة طلاّبه وتوجيههم التوجيه السديد الذي ينير لهم دروب العلم والمعرفة، ويبعدهم عن الشطط؛ كما يجدون عندَه الأب الحاني على أبنائه، ولم يكن يبخل بوقته على أي راغبٍ في الإفادة الحقّة، بل يتلقّاه بالرعاية والعناية والاهتمام؛ ويمضى معه الساعات الطوال موجهًا ومعلّمًا؛ ولهذا الغرض كان باب مكتبته في بيتِه مفتوحًا كل يوم بعد صلاة العصر مباشرةً إلى أذان العشاء لكل قاصد من طلاّب العلم والعلماء؛ ومع أن ذلك قد يشغله عن أمور كثيرة تخصُّه وتخص مراجعة مؤلفاته أو متابعة بعض البحوث والدراسات، إلا أنه كان يشعر بالراحة التامّة وهو يؤدِّي رسالته نحو طلاّبه والراغبين في الإفادة من عمله.
والحق أنه كان مدرسةً في الحديث وعلومه، وتخرّج منها الكثيرون، وتأثروا بمنهجه وتوجهاته في دراسة الحديث النبوي وبعد ذلك من آثاره الجليلة.
أما آثاره المتمثلة في الكتب والمؤلفات فهي عديدة يدور جلّها حول الحديث النبوي وعلومه وحول العقيدة؛ ومنها:
1-
الفتح الكبير في تراجم شيوخ الطبراني في المعجم الكبير.
2-
فتح الوهّاب فيمن اشتهر من المحدِّثين بالألقاب.
3-
سبيل الرشد في تخريج أحاديث بداية ابن رشد.
4-
إعلام الزمرة بأحكام الهجرة.
5-
إتحاف ذوي الرسوخ بمن دلّس من الشيوخ.
6-
كشف الستر عما جاء في شدّ الرحل إلى القبر.
7-
دفع الاشتباه عن حديث "من صلى في مسجدي أربعين صلاة".
8-
الإعلان بأن (لعمري) ليس من الأيمان.
9-
كشف اللثام عما ورد في دخول مكة بلا إحرام.
10-
البت في الطواغيت الست.
وآن لي أنْ ألويَ عنان القلم عند هذا الحد؛ فإنّ الحديث عن الشيخ حماد "يرحمه الله" ذو شجون، وفي النفس يختلج الشيءُ الكثير عنه.
وفي نهاية المطاف لا أملكُ إلا أن قول: يرحمك الله أيها الشيخُ الجليل؛ وما أقسى فراقك على القلوب المتعطِّشة إلى عطائك، ولكنها إرادة الله ولا رادّ لقضائه؛ وحسبُك ما تركتَ من آثار جليلة في نفوس طلاب العلم تحيي ذكراك؛ واللهُ وليُّ التوفيق، وهو القادرُ على أن يجزيك خيرَ الجزاء على ما قدّمتَ.