الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر البادية:
وفي استطلاعنا الشيخ عن أثر البيئة في نشأته لم يزد على الإشارة إلى طوابعها العلمية، وطبيعي أن المتأمل في هذا العرض السريع لصور تلك البيئة لا يفوته إدراك العوامل التي تعاونت على تكوين شخصيته، وحددت لهذه الشخصية معالم السلوك وطرائق التفكير، واِلإتجاه الملتزم الذي صار إليه؛ ولعل في مقدمة هذه العوامل واحداً لم يشر إليه في ما كتب إلينا وهو طبيعة البادية التي أحاطت نشأته؛ فقد علمنا من أحاديث فضيلته الخاصة عن تلك البيئة ما لا يصح إغفاله عند ترجمته.
إن البادية هي أول ما فتح عينيه عليه من بقاع مالي، وبالتالي من مشاهد الدنيا، والبادية بما تنطوي عليه من قوة واتساع واستثارة للجهد الشخصي، وبُعد عن فتن الحواضر ومفاسدها وقدرة فائقة على الاحتفاظ بخصائص الفطرة أقرب ما تكون إلى السلامة، ذات آثار لا سبيل لناشئ فيها إلى التخلص منها.
ولقد أتيح لنا أن نرافق الشيخ الصديق في بعض الرحلات الجامعية فأطرفنا بالكثير الشيق عن تلك الحياة الحافلة بروح الفروسية، في صحبة الطبيعة الصافية والأنعام الناغية، إلى جانب المناهل الروحية التي طالما أمدته بما يعوزه من غذاء العلم والمعرفة.
والذين يعرفون الشيخ عن كثب مثلنا يشعرون بهذه المؤثرات في مظهره وحديثه وتصرفاته، وحتى في نبراته البريئة من كل تكلف؛ وأن ملامح البادية أول ما يطالع الناظر إلى الشيخ حماد الأنصاري: هيكل نحيف أقرب إلى الطول، ووجهه أسمر منمنم لا تكاد اِلابتسامة تفارقه، يخيل إليك أن سمرته أثر من لفح الشمس، ينظر إلى محدثه بعينين سوداوين، ينم صفاؤهما عن ود وذكاء وبساطة
معاً، ومع أنه تجاوز نطاق الشباب، وأطلت من خلال لحيته أشعة الشيخوخة، فما يزايله النشاط الذي يتميز سكان الريف وراكبي الإبل.
وكم قلت لإخوان لي وأنا ألاحظ هذا الهيكل الضامر النشيط: إنه ليذكرني بجنود الدعوة أيام زحفوا من هذه الجزيرة يفتحون أرض الله لدين الله.
وما أن يتحدث إليك حتى تأخذ هذه الصورة في استكمال عناصرها النفسية، من خلال تلك الصراحة الفطرية، التي لا تكاد تقع على مثلها إلا في النادر.
من هذه الصراحة في دروسه مثلا "وبخاصة في حصص التوحيد": شدته على القائلين بالمجاز، وقسوته على المخالفين لمذهب السلف في تقرير صفات الله تبارك وتعالى.
فالقول بالمجاز في القرآن طاغوت بنظر الشيخ، والإنصراف عن صريح البيان إلى ملتويات التأويل في صفات الخالق سبحانه طاغوت؛ لأنه في كلتا الطريقتين عدوان على حقائق الوحي.
وهو حين يسوق هذه الأحكام لا يلجأ إلى اللف والدوران، ولا يقدم علاجه المر مغلفا في (برشامة) على طريقة المنفلوطي، بل ويصبه في نبراته الصارمة، فتنزل على أسماع المخالفين "وما أكثرهم" كلذعات السياط، تنسيهم ما وراءها من الأدلة الدامغة، فيذهبون يشيعون عنه ما لم يقله، لأنهم لا يستطيعون الفصل بين حجته وشدته.
لقد بلغني ذات يوم أن طالبا قد أشاع عن الشيخ القول بأن لله يدين كيديه، وأنه جعل يمد يديه أثناء ذلك ويهزهما توكيداً لهذا التجسيم، والعياذ بالله؛ ولقيت ذلك الطالب فبينت له خطأه فيما ينقل عنه؛ لأن مذهب الشيخ