الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
24 - كِتابُ الرَّقَاقِ
[24]
كِتَابُ الرَّقَاقِ
(كِتَابُ الرَّقاقِ)
(الرقاق): جمع رقيق، وهو الذي فيه رِقةٌ؛ أي: لطافةٌ، والرقة: ضد الغلظ.
سميت هذه الأحاديث رقاقًا؛ لأن في كل حديث من الوعظ والتنبيه ما يجعل القلب رقيقًا، ويُحدث في القلوب رقةً.
مِنَ الصِّحَاحِ:
3997 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَتانِ مَغْبونٌ فيهما كثيرٌ مِن النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ".
قوله: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"، (مغبون): اسم مفعولٍ من (غُبن): إذا خسر الرجل في تجارته، وذهب عنه مطلوبُه؛ يعني: لا يَعرف قَدْرَ هاتين النعمتين كثيرٌ من الناس؛ يعني: لا يعملون في زمان الصحة والفراغ الأعمال الصالحة، ولا يهيئون أمر الآخرة، حتى تتبدل الصحة بالمرض، والفراغُ بالاشتغال، فحينئذ يندمون على تضييع أعمارهم ولا ينفعهم الندم.
روى هذا الحديث ابن عباس.
* * *
3999 -
وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بجَدْيٍ أَسَكَّ مَيتٍ، فقال:"أيُّكم يُحِبُّ أَنَّ هذا لهُ بدرهمٍ؟ " فقالوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لنا بشَيْءٍ، فقال:"فَوالله، للدُّنيا أَهْوَنُ على الله مِن هذا عَلَيْكُم".
قوله: "بجديٍ أَسَكَّ"، (الأَسَكُّ): صغير الأذن.
"أن هذا له بدرهم"؛ يعني: أن يشتريه بدرهم.
* * *
3998 -
وقال: "والله، ما الدُّنيا في الآخِرَةِ إلا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحدُكم إِصبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِعُ؟ ".
قوله: "في اليم"؛ أي: في البحر.
روى هذا الحديث المستورد بن شداد.
4000 -
وقال: "الدُّنيا سِجْنُ المُؤْمنِ وجَنَّةُ الكافرِ".
قوله: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر"؛ يعني: الدنيا سجن المؤمن بالنسبة إلى ما يكون له في الآخرة من النعيم المقيم، والدنيا جنة الكافر بالنسبة إلى ما يكون له في الآخرة من عذاب الجحيم.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
4001 -
وقال: "إنَّ الله لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعطَى بها في الدُّنْيا، ويُجزَى بِها في الآخِرَةِ، وأمَّا الكافرُ فيُطعَمُ بحَسَناتِ ما عَمِلَ بها لِلَّهِ في الدُّنْيا، حتى إذا أفضَى إلى الآخِرَةِ لم يَكُنْ له حَسَنَةٌ يُجْزَى بها".
قوله: "إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة"؛ يعني: لا يُضيعُ حسنةَ المؤمن، بل
يعطي المؤمن بحسنته أجر الدنيا وأجر الآخرة، فأما أجر الدنيا: فهو أن يدفع عنه البلاء، ويوسِّع رزقه، ويُحسن جماله، ويحببه في قلوب الناس، وأما أجر الآخرة: فاللقاء والجنة.
روى هذا الحديث أنس.
* * *
4002 -
وقال: "حُجِبَتْ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وحُجِبَتْ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ".
قوله: "حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره"؛ أي: حفَّت النار وأُدير حولها الطيباتُ وما تشتهيه الأنفس، والجنة على عكس هذا، فمَن فعل ما اشتهته نفسه فقد سلك طريق النار، ومَن منع نفسه عما تشتهيه فقد سلك طريق الجنة.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
4003 -
وقال: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ، وعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وعَبْدُ الخَميصَة، إنْ أُعطيَ رَضيَ، وإنْ لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيْكَ فلا انتَقَشَ، طُوبى لعبدٍ آخذٍ بعِنانِ فرسِه في سبيلِ الله أشعثَ رأسُه، مُغْبَرَّةٍ قَدَماهُ، إنْ كانَ في الحِراسَةِ كانَ في الحراسةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقةِ، إنْ استأذَنَ لم يُؤذَنْ لهُ، وإنْ شَفَعَ لم يُشَفَّعْ".
قوله: "تعس"؛ أي: هلك وسقط على وجهه، "عبد الدينار"؛ أي: الحريص على جمع الدنيا.
"الخَميصة": كساء أسود مربعٌ له علمان، وأراد بعبد الخميصة: مَن يحبُّ
كثرة الثياب النفيسة، ويحرص على التجمُّل فوق قَدْرِ الحاجة.
"وانتكس"؛ أي: صار خسيسًا ذليلاً. "شيك" ماضٍ مجهولٌ من الشوك؛ أي: أدخل الشوك في جسده. "فلا انتقش"؛ أي: فلا أخرج الشوك منه.
هذه الكلمات دعاءٌ من النبي على مَن ترك عمل الآخرة، واشتغل بجمع أموال الدنيا؛ يعني: مَن كانت هذه صفته صار ذليلًا، وإذا أصابه غمٌّ وجراحةٌ ما أزال الله عنه ذلك الغم.
"أشعث"؛ أي: متفرق شعر الرأس لا يكون له فراغ غسل رأسه، "أغبر"؛ أي: صار ذا غبارٍ من كثرة المشي على التراب.
"إن كان في الحراسة"؛ يعني: إن كان في حراسة الجيش كان شغله ذلك.
"وإن كان في الساقة"؛ أي: يمشي خلف الجيش، (الساقة): الجماعة المتأخَّرة من الجيش؛ يعني: يكون مشغولاً بالخيرات.
"إن استأذن لم يؤذن له"؛ يعني: لا يخالط الناس، ولا يجعل نفسه مشهورة، بل لا يعرف الناس، حتى لو استأذن في دخول الدار أو مجلسٍ لم يؤذن له من قلة قَدْرِه عند الناس.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
4004 -
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ مِمَّا أخافُ عليكُم مِن بعدي ما يُفتَحُ عليكُم مِن زَهْرَةِ الدُّنيا وزينَتِها"، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أَوَ يأتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فسكتَ حتى ظنَنَّا أنهُ يُنزَلُ عليهِ، قال: فَمَسَحَ عنه الرُّحَضَاءَ وقال: "أينَ السَّائِلُ؟ " وكأنَّهُ حَمِدَهُ، فقال: "إنَّه لا يأتي الخَيْرُ بالشَّرِّ،
وإنَّ مِمَّا يُنبتُ الرَّبيعُ يَقتُلُ حَبَطًا أو يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةَ الخضراءِ، أَكَلَتْ حتى إذا امتَدَّتْ خاصِرَتَاهَا استقبَلَتْ عينَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وبَالَتْ، ثم عادَت فأَكَلَتْ، وإنَّ هذا المالَ خَضرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَن أخذَهُ بحَقِّه ووَضَعَهُ في حَقِّه فنِعْمَ المَعُونَةُ هُوَ، ومَن أخذَهُ بغيرِ حقَّهِ كانَ كالذي يأكُلُ ولا يَشْبَعُ، ويكونُ شهيدًا عليهِ يومَ القيامةِ".
قوله: "ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا"، (الزهرة): ما نستلذُّه ونستمتع به؛ يعني: أخاف إذا كثرت أموالكم أن تشتغلوا بالأموال وتتكبروا، وتقلَّ أعمالكم الصالحة.
"أو يأتي الخير بالشر؟ " الباء للتعدية؛ يعني: حصول الغنيمة لنا خيرٌ، وهل يكون ذلك الخير سببًا للشر وترك الطاعات؟.
"الرُّحَضاء": العرق الذي يظهر للنبي عند نزول الوحي عليه.
"وإن مما يُنبت الربيعُ ما يَقتل أو يُلِمُّ"، (ألمَّ): إذا نزل، وألمَّ أيضًا: إذا قارب شيئًا؛ يعني: مثال كثرة المال كمثال ما ينبت في فصل الربيع، فإن بعض النبات حلوٌ في فم الدابة، وهي حريصةٌ على أكله، ولكن ربما تأكل كثيرًا فيحصل بها داءٌ من كثرة الأكل، فتموت من ذلك الداء، أو تقرب من الموت، وإن لم تأكل الدابة إلا بقَدْرِ ما يطيقه كرشُها، فتأكل، وتترك الأكل حتى تهضم ما أكلت، وحتى تبول وتروث روثًا، ويحصل لها خفةٌ من خروج الروث والبول منها، فلا يضرها الأكل.
فكذلك مَن حصل له مال كثير، فإن حرص على المال، ويُكثر الأكل والشرب والتجمُّل، فيقسو قلبه، وتتكبر نفسه، ويرى نفسه أفضل من غيره، ويحتقر الناس ويؤذيهم، ولا يُخرج حقوق المال من الزكاة وأداء الكفارات والنذور، وإطعام السائلين والأضياف، وحقوق الجار.
فمَن كانت هذه صفته لا شك أن المال شرٌّ له، ويبعده من الجنة، ويقرَّبه من النار، ومَن أدى حقوق المال، ولا يحتقر الناس، ولا يفخر عليهم، ولا يشتغل بجمع المال بحيث تفوت عنه طاعةٌ، ويُحسن إلى الناس، فمالُه خيرٌ له، كما قال صلى الله عليه وسلم:"نعم المال الصالح للرجل الصالح".
فإذا عرفت هذا؛ فقد عرفت أن الخير والشر لا يحصلان للرجل من عين المال، بل نفسُ الرجل هي التي تصرف المال فيما فيه خير له، أو فيما فيه شرٌّ له.
قوله: "فثَلَطت"؛ أي: أخرجت الروث عنها حتى تجد خفةً في بطنها، ثم تعود بعد الخفة إلى الرعي.
* * *
*
4005 -
وقال: "والله لا الفَقْرَ أَخْشَى عليكُم، ولكِنْ أَخْشَى عليكُم أنْ تُبْسَطَ عليكُم الدُّنيَا كما بُسِطَتْ على مَن قَبْلَكم، فَتَنَافسُوها كما تَنَافَسُوها، وتُهلِكَكُم كما أهلَكَتْهُم".
قوله: "فتنافسوها"؛ أي: فتختاروها وترغبوا فيها، ويَكثر اشتغالكم في جمعها، وتقل طاعتكم، ويحصل بينكم العداوة بسبب المال، فيقتل بعضكم بعضًا وتقعوا في المعاصي.
روى هذا الحديث عمرو بن عوف.
* * *
*
4006 -
وقال: "اللهمَّ! اجعلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدِ قُوتًا"، ويُروَى:"كَفَافًا".
قوله: "كفافًا"، (الكفاف) من القوت: ما يَكفُّ؛ أي: يمنع الرجلَ عن الجوع، أو عن السؤال وإراقة ماء الوجه.
قد عُلم بهذا الحديث أن القوت لا بد منه، والأقل منه مذمومٌ عند بعض الناس، والأكثر منه أيضًا مذمومٌ عند بعض الناس.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بيَّن ما هو الأصلح للعوامِّ والخواصِّ، فهذا الحديث حديثٌ يدخل فيه جميع الناس؛ لأن القوت عبارةٌ عما يحتاج إليه الرجل لسد القوت بحيث لا إسراف ولا إقتار؛ أي: لا ضرر فيه، والناس يختلفون في القوت، فبعضهم اعتاد في الأكل في كل عشرة أيام يومًا، ومنهم من اعتاد فوق ذلك، فإذا بلغ الرجل الوقت الذي كان يعتاد فيه الأكل، وعلم أنه لو لم يأكل فيه للحقه ضرر، فقوتُه ما يدفع عن نفسه الضرر في ذلك الوقت، فإن طلب ذلك الشخص أكثر ممَّا كان يعتاد من القوت؛ لكان طلبه أكثر من المعتاد إسرافًا في حقه، ولم يكن إسرافًا في حق مَن لم يكن بتلك المنزلة من التوكُّل وذَوْقِ الطاعة.
وكذلك الناس يختلفون في كثرة العيال وقلَّتها، فقوتُ كلِّ أحدٍ يتعلق بقَدْرِ عياله.
فالمحمود من المال ما يحصل للرجل به القوةُ على الطاعة، ولا يمنعه الاشتغالُ به من الطاعة، ولا يمنعه الجوع أيضًا من الطاعة.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
4007 -
وقال: "قد أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، ورُزِقَ كَفَافًا، وقنَّعَهُ الله بما آتاهُ".
قوله: "قنعه"؛ أي: جعله الله قانعًا ولم يطلب الزيادة.
روى هذا الحديث عبد الله بن عمرو.
* * *
4008 -
وقال: "يقولُ العبدُ: مالي، مالي، إنَّما لهُ مِن مَالِهِ ثلاثٌ:
ما أكلَ فأَفْنَى، أو لَبسَ فأَبْلَى، أو أَعْطَى فاقتَنَى، وما سِوَى ذلك فهوَ ذَاهِبٌ وتَارِكُه للنَّاسِ".
وقوله: "أو أعطى فاقتنى"، (اقتنى) بمعنى: ادَّخَر؛ يعني: ما تصدَّق به يكون له ذخيرة يوم القيامة.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
4009 -
وقال: "يَتْبَعُ المَيتَ ثلاثةٌ، فيَرجعُ اثنانِ ويبقَى معَهُ واحدٌ، يتبعُهُ أهلُه ومالُه وعَمَلُه، فَيَرْجِعُ أهلُه ومالُه، ويبقَى عَمَلُه".
قوله: "يتبع الميت ثلاثة" يريد بهذا الحديث: أن بعض ماله يتبعه وهو العبيد والإماء.
روى هذا الحديث أنس.
* * *
4012 -
وقال: "ليس الغِنى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
قوله: "غنى النفس" معنى (الغنى): عدم الاحتياج إلى الناس، فمن كان في قلبه حرصٌ على جمع المال فهو فقير وإن كان له مال كثير؛ لأنه يحتاج إلى طلب الزيادة، ويُتعب نفسه بطلب الزيادة، ولا ينفق ماله على نفسه وعياله من خوفِ أن ينقص ماله.
ومن كان له قلب بعيد عن الحرص، راضٍ بالقوت، فهو غني وإن لم يكن له مال؛ لأنه لا يطلب الزيادة من القوت، ولا يتعب نفسه في طلب المال.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4014 -
عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله يقولُ: ابن آدَم! تَفَرَّغْ لعبادتي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وأَسُدَّ فقرَكَ، فإنْ لم تفعلْ مَلأْتُ يدَكَ شُغْلاً، ولم أَسُدَّ فقرَكَ".
قوله: "وإن لا تفعل"؛ يعني: وإن لا تفعل ما أمرتك من الإعراض عن الدنيا، والاشتغال بطاعتي "ملأت يدك شغلاً"؛ أي: كثَّرتُ شغلك الدنيويَّ، فتُتعب نفسك بالشغل وكثرة التردُّد في طلب المال والغنى، ولا يحصل لك الغنى، فتُجعل محرومًا من ثوابي، ولا يحصل لك من الرزق إلا ما قدَّرت لك.
* * *
4015 -
"عن جابرٍ قال: ذُكِرَ رَجُلٌ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعبادةٍ واجتِهادٍ، وذُكِرَ آخرُ بِرِعَةٍ، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا تَعدِلْ بالرِّعَةِ شَيْئًا"، يعني: الوَرَعَ.
قوله: "لا تعدل بالرِّعة"، (الرِّعة): الورع؛ يعني: لا تقابلْ شيئًا بالورع، فإن الورع أفضل من كل خصلة.
يجوز: (لا تَعْدِلْ) بفتح التاء وجزم اللام، على أنه نهيُ مخاطَبٍ مذكَّرٍ (1)، ويجوز:(لا تُعدَل) بضم التاء وفتح الدال، على أنه نفيٌ؛ أي: لا تُعْدَل خصلةٌ بالرِّعة.
* * *
(1) في "م": "على أنه نهي خطاب".
4016 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ وهو يَعِظُه: "اغتنمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَك قبلَ مَوْتِكَ"، مرسل.
قوله: "اغتنم"؛ أي: اتخذ هذه الأشياء غنيمةً واتخذها نعمة؛ يعني: اعمل في الشباب الأعمال الصالحة، وكذلك في الصحة، وفي الغنى، وفي حالة الفراغ والحياة.
روى هذا الحديث عمرو بن ميمون الأَوْدي.
* * *
4018 -
عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما يَنْتَظِرُ أَحَدُكم إلا غِنًى مُطْغِيًا، أو فَقْرًا مُنْسِيًا، أو مَرَضًا مُفْسِدًا، أو هَرَمًا مُفْنِدًا، أو مَوْتًا مُجْهِزًا، أو الدَّجَّالَ، فالدَّجَّالُ شَرُّ غائبٍ يُنتَظَرُ، أو السَّاعةَ، {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ".
قوله: "ما ينتظر أحدكم إلا غنًى مطغيًا"، (المُطْغي): الشيء الذي يجعل المرء طاغيًا، والطاغي: العاصي والمجاوِزُ عن الحد؛ يعني: لم لا يعمل أحدكم الأعمال الصالحة في حال وجدانه كفافًا من القوت، وليس له غنًى يمنعه عن الطاعة، وليس به فقر يمنعه أيضًا من الطاعة، فإذا لم يعمل في حال الفراغ الأعمالَ الصالحة، ربما يأتيه ما يمنعه من الطاعة كهذه الأشياء المذكورة.
"أو فقرًا مُنْسِيًا"؛ يعني: أو فقرًا ينسيه الطاعة من الجوع والعري، أو التردُّد في طلب القوت.
"أو هرمًا مفندًا"، (المفند) بسكون الفاء وكسر النون، وفتح الفاء والنون وتشديدها: الذي لا يدري ما يقول من غاية كبره.
"أو موتًا مُجْهِزًا"؛ أي: قاتلاً فجأةً بحيث لا يقدر على التوبة.
"أدهى"؛ أي: أشقُّ وأشد، "وأمر"؛ أي: أشد مرارة.
* * *
4017 -
عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألا إنَّ الدُّنيا مَلْعونَةٌ، مَلْعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ الله وما وَالَاهُ، وعالِمًا أو مُتَعلِّمًا".
قوله: "وما والاه"، (الموالاة): جريان المحبة بين اثنين، وقد يأتي ولا يكون إلا من واحدٍ؛ يعني: ملعونٌ ما في الدنيا إلا ذكر الله أو ما أحبَّ الله؛ يعني: ما يجري في الدنيا ممَّا يحبه الله غير ملعون، والباقي ملعون؛ أي: مطرودٌ مبغوض عند الله.
* * *
4019 -
وعن سهل بن سعد قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانَت الدُّنيا تَعْدِلُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماءٍ".
قوله: "تعدل"؛ أي: تَزِنُ وتقابل؛ يعني: لو كان للدنيا وقعٌ وقَدْرٌ عند الله بقدر جناح بعوضةٍ ما سقى كافرًا منها شربة؛ لأن الكافر عدو، ولا يُعطى العدو إلا من الشيء الخسيس الذي لا يلتفت إليه من حقارته.
* * *
4020 -
عن ابن مَسْعودٍ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَتَّخِذوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا في الدُّنيا".
قوله: "لا تتخذوا الضيعة (1) "، (الضيعة): البستان والمزرعة؛ يعني:
(1) جاء في هامش "ش": وضيعة الرجل ما يكون من مكاسب كالصنعة والتجارة والزراعة ونحو ذلك.
لا تحصِّلوا البساتين والمزارع، فإنكم لو حصَّلتم واحدًا لحرصتم على طلب الزيادة، ولا تشبعوا حينئذ من الدنيا.
* * *
4021 -
وقال: "مَن أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بآخِرَتهِ، ومَن أَحَبَّ آخرَتَهُ أَضَرَّ بدنياهُ، فآثِروا ما يَبْقَى على ما يَفْنَى".
قوله: "أضر بآخرته"، (الإضرار): إيصال النقصان والمضرة إلى أحدٍ، ويَعدَّى بالباء؛ يعني: مَن أحب دنياه نقص درجته في الآخرة؛ لأنه يشتغل ظاهره وباطنه بالدنيا، فلا يكون له فراغه لطاعة الله.
روى هذا الحديث أبو موسى.
* * *
4023 -
عن ابن كَعْبِ بن مالكٍ، عن أبيه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بأَفْسَدَ لها مِن حِرْصِ المَرْءِ على المالِ والشَّرَفِ لدينِهِ".
قوله: "بأفسد لها" الضمير في (لها) يرجع إلى (الغنم)، وهو مؤنث لأنه جمع في المعنى.
"من حرص المرء على المال والشرف لدينه"، (والشرف) معطوفٌ على "المال"؛ أي: حرص المرء على المال وحرصه على الشرف؛ أي: على المنصب والجاه؛ يعني: حرصُ المرء على المال والشرف أكثر إفسادًا لدينه من إفساد الذئبين للغنم.
* * *
4024 -
عن خَبَّابٍ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما أَنْفَقَ المُؤْمِنُ مِن نَفَقَةٍ إلا أُجِرَ فيها، إلاّ نَفَقَتَهُ في هذا التُّرابِ".
قوله: "إلا نفقته في هذا التراب"؛ يعني: إلا صَرْفَه مالَه في بناء البيوت والقصور، والزيادةِ على قَدْرِ حاجته؛ يعني: صرفُ المال في البناء الذي يبنيه للزينة والمفاخرة لا للحاجة لا يكون له فيه ثواب.
* * *
4027 -
عن أبي هاشم بن عُتبة قال: عَهِدَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما يَكْفيكَ مِن جَمْعِ المالِ خادِمٌ ومَركَبٌ في سبيلِ الله".
قوله: "عهد إلي"؛ أي: أوصاني.
* * *
4028 -
عن عُثْمانَ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سِوَى هذه الخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُه، وثَوْبٌ يُوَارِي بهِ عَوْرَتَهُ، وجِلْفُ الخُبْزِ والماءِ".
قوله: "جلف الخبز"، (الجلف) بكسر الجيم وسكون اللام: الظرف؛
يعني: ينبغي له أن يطلب بيتًا وثوبًا وظرفًا يضع فيه الخبز.
"والماء"؛ يعني: لا ينبغي له أن يضيع عمره في تحصيل المال، إلا ما لا بد له منه.
قوله: "يواري"؛ أي: يستره.
* * *
4029 -
عن سَهْلِ بن سَعْدٍ قال: جاءَ رَجُلٌ فقال: يا رسولَ الله! دُلَّني
على عَمَلٍ إذا أنا عَمِلْتُهُ أَحَبني الله وأَحَبني النَّاسُ، قال:"ازهَدْ في الدُّنيا يُحِبَّكَ الله، وازهَدْ فيما عندَ الناسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ".
قوله: "ازهد في الدنيا"؛ أي: كن تاركًا للدنيا ومُعْرِضًا عنها، (زهد في الأمر): إذا أعرض عنه، و (زهد عن الأمر): إذا مال إليه، بخلافِ رَغِبه، فإن لفظة (رَغِبَ) إذا كان بعدها (في) معناه: مال إليه، وإذا كان بعدها "عن" معناه: أعرض عنه.
* * *
4030 -
عن ابن مَسْعودٍ: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نامَ على حَصيرٍ، فقامَ وقد أَثَّرَ في جَسَدِهِ، فقال ابن مَسْعودٍ: يا رسولَ الله! لو أَمَرْتَنا أن نَبْسُطَ لكَ ونَعْمَلَ، فقالَ:"ما لِي وللدُّنيا، وما أنا والدُّنيا إلا كَراكِبٍ استَظَلَّ تحتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ راحَ وتركَها".
قوله: "لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل"؛ يعني: لو أذنت لنا أن نبسط لك فراشًا لينًا لطيفًا، ونعمل لك ثوبًا حسنًا وبيتًا حسنًا، يكون لك أحسن وأطيب من اضطجاعك على هذا الحصير الخشن.
"ما لي وللدنيا" يجوز أن تكون (ما) للنفي؛ يعني: ليس لي ألفةٌ ومحبة مع الدنيا، ولا للدنيا ألفة ومحبة معي حتى أرغب فيها وأجمعَ ما فيها، ويجوز أن تكون للاستفهام؛ يعني: أيُّ ألفةٍ ومحبة لي مع الدنيا حتى أرغب فيها؟
* * *
4031 -
وعن أبي أُمامَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَغْبَطُ أوليائي عِنْدي لَمُؤْمِنٌ خَفيفُ الحَاذِ، ذو حَظٍّ مِن الصَّلاةِ، أَحْسَنَ عِبادَةَ ربهِ وأطاعَهُ في السِّرِّ، وكانَ
غامِضًا في النّاسِ لا يُشَارُ إليه بالأَصابعِ، وكانَ رزقُهُ كَفَافًا، فصَبَر على ذلكَ"، ثم نَقَرَ بيدِهِ فقال: "عُجِّلَتْ مَنِيَّتُه، وقَلَّتْ بواكيهِ، وقَلَّ تُرَاثُه".
قوله: "أغبطُ أوليائي"، (الأغبط): الذي حالُه أحسنُ وأربحُ من حال غيره؛ يعني بـ (أوليائي): الصالحين، والصالحون كلُّهم أحسن الحال، ولكن أحسنهم حالاً مَن هو موصوفٌ بما وُصف في هذا الحديث.
"خفيف الحاذ" قال في "صحاح اللغة": فلان خفيفُ الحاذ؛ أي: ضعيفُ الظهر؛ يعني: مَن ليس له كثرةُ عيال وكثرة شغل.
"غامضًا"؛ أي: مستورًا عن الناس لا يعرفه الناس، فإن الصالح إذا عرفه الناس يفتنونه، بأن يجتمعوا عليه ويحمدونه، فربما يظهر في نفسه غرور ورياء.
"ثم نقر بيده"، (نقر) بالراء المهملة: صوت ضرب بيده؛ يعني: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إبهامَه بوسطاه حتى سُمع منه صوت.
وهذا فعلُ مَن تعجَّب مِن شيء، أو رأى شيئًا حسنًا، أو أظهر عن نفسه قلة المبالاة بشيء وقلة الحزن، أو أظهر طربًا؛ يعني: مَن كانت هذه صفته، بمنزلة أن يُتعجَّب من حُسن حاله وقلة حزنه وقلة مبالاته بالدنيا وكثرة طربه وفرحه.
"عجِّلت منيته"؛ أي: كان قبضُ روحه سهلاً؛ لأن بعض الناس يكون قبض روحه شديدًا؛ لالتفاته إلى ما تَرك في الدنيا من المال والعيال والأحباب، وطيبِ العيش، والمساكن الرفيعة.
"قلَّت بواكيه"، (البواكي): جمع باكية، وهي المرأة التي تبكي على الميت؛ يعني: قلت عياله، وإذا قلَّت عياله قلَّ التفاتُ خاطره إلى الدنيا.
"التراث": الميراث.
* * *
4032 -
وقال: "عَرَضَ عليَّ رَبي لِيَجْعَلَ لي بَطْحاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فقلتُ: لا يا رَبِّ! ولكنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وأَجُوعُ يومًا، فإذا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إليكَ وذكرتُكَ، وإذا شَبعْتُ حَمِدْتُكَ وشَكَرْتُك".
قوله: "بطحاء مكة"، البطحاء والأبطح: مسيل الماء، ويريد النبي صلى الله عليه وسلم ببطحاء مكة: عرصة مكة وصحاريها.
* * *
4033 -
عن عبدِ الله بن مِحْصَنٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أَصْبَحَ منكم آمِنًا في سِرْبه، مُعَافًى في جَسَدِهِ، عِنْدَه قُوتُ يومِهِ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنيا بحَذافيرِها"، غريب.
قوله: "آمنًا فَي سِربه"، (السِّرب) بكسر السين: النفس والجماعة؛ يعني: من كانت نفسه آمنةً من شر الأشرار، وأهلُه أيضًا آمنين، "معافى في جسده"؛ أي: صحيحًا بدنُه، سليمًا من العيوب والآفات، "حِيزَ"؛ أي: جُمِعَ.
* * *
4034 -
وعن المِقْدَامِ بن مَعْدِ يْكَرِبَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ما ملأَ آدميٌّ وِعَاءً شرًّا مِن بَطْنٍ، بحَسْبِ ابن آدَم أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ لا مَحالةَ، فثُلُثٌ طَعامٌ، وثُلُثٌ شرَابٌ، وثُلُثٌ لِنَفَسِهِ".
قوله: "يقمن صلبه"، (يقمن): ضمير جماعة مؤنَّثٌ يرجع إلى الأُكُلات، وهو من (أقام): إذا حفظ شيئًا عن السقوط.
"الأُكُلات": جمع أُكْلة وهي اللقمة؛ يعني: لا بد للإنسان من قوتٍ يَقُوتُه ويحفظه عن أن يَضعف.
"فإن كان لا محالة"؛ يعني: فإن كان لا بد من أن يملأ بطنه ولا يشبع بأدنى قوتٍ فليملأ ثلثَ بطنه بالطعام، وثلثه بالماء، ويترك ثلثه خاليًا لخروج النَّفَس.
* * *
4035 -
وعن ابن عُمَرَ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَتَجَشَّأُ فقال: "أَقْصِرْ مِن جُشَائكَ، فإنَّ أطولَ النَّاسِ جُوْعًا يومَ القِيامةِ أطولُهم شِبَعًا في الدُّنْيا".
قوله: "يتجشأ"؛ أي: يُخرج الجشاءَ من صدره، و (الجشاء): ريحٌ يخرج عن الصدر عند امتلاء المعدة من الطعام.
* * *
4036 -
وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لكلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتي المالُ".
قوله: "إن لكل أمة فتنة"، (الفتنة) ها هنا: ما يوقع أحدًا في الضلالة أو المعصية.
روى هذا الحديث كعب بن عياض.
* * *
4037 -
عن أنسٍ، عن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُجَاءُ بابن آدَمَ يومَ القِيامَةِ كأنَّه بَذَجٌ، فيُوقَفُ بينَ يدي الله، فيقولُ له: أَعْطَيتُكَ وخَوَّلتُكَ وأنعمتُ عليكَ، فما صَنَعْتَ؟ فيقولُ: رَبِّ! جَمَّعتُهُ وثَمَّرتُهُ فَتَركْتُه أكثَر ما كانَ، فارجِعْنى آتِكَ بهِ كلِّه، فيقولُ لهُ: أَرِني ما قدَّمْتَ، فيقولُ: ربِّ! جَمَّعتُه وثَمَّرتُه فتركتُه أكثَر ما كانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بهِ كلِّه، فإذا عَبْدٌ لم يُقَدِّمْ خَيْرًا فيُمضَى بهِ إلى النَّارِ"، ضعيف.
قوله: "يجاء بابن آدم" يريد شخصًا واحدًا، وليس المراد بابن آدم هنا