الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
25 - كِتابُ الفِتَنِ
[25]
كِتابُ الفِتَنِ
(كتاب الفتن)
مِنَ الصِّحَاحِ:
4141 -
عن حُذَيْفةَ قال: "قامَ فِينا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَقامًا، ما تركَ شيئًا يكونُ في مَقامِهِ ذلكَ إلى قِيامِ السَّاعةِ إلَاّ حدَّثَ بهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ ونَسِيَهُ مَنْ نسِيَهُ، قدْ عَلِمَهُ أصحابي هؤلاءِ، وإنَّهُ لَيكونُ منهُ الشَّيءُ قدْ نسيتُهُ، فأراهُ فأذْكُرُه كما يَذكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إذا غابَ عنهُ، ثُمَّ إذا رآهُ عَرَفَهُ".
قوله: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقامًا"؛ يعني: خطبنا ووعظنا وأخبرنا بما يظهرُ من الفِتنِ من ذلك الوقت إلى يوم القيامة.
* * *
4142 -
وعن حُذَيْفَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "تُعْرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ كالحَصيرِ عُوْدًا عُوْدًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وأيُّ قَلْبٍ أنكَرَها نُكِتَتْ فيهِ نُكْتَةٌ بَيضاءُ، حتَّى تَصيرَ على قلبَيْنِ: أَبْيضَ مِثلِ الصَّفا، فلا تَضُرُّهُ فِتنةٌ ما دامَتِ السَّماواتُ والأَرْضُ، والآخرُ أسودُ مُرْبادًّا كالكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعرِفُ مَعْروفًا، ولا يُنكِرُ مُنْكرًا، إلَاّ ما أُشْرِبَ مِنْ هَواهُ".
قوله: "تُعرَضُ الفتن كالحصير عودًا عودًا"، (عودًا): مفعولُ فعل
محذوف؛ أي: تُنسج عودًا فعودًا؛ أي: عُودٌ بعدَ عوُدٍ حتى يصير حصيرًا.
يعني: كما أن الحصير يجتمع من عودات واحدًا واحدًا، فكذلك الفتن تظهرُ في القلوب واحدةً بعد واحدة، حتى تَستُرَ الفتنُ جميعَ القلوب وتسوِّدها؛ لأنه يظهر من كل فتنة في القلب نكتة سوداء، فإذا اجتمعت نكت كثيرة في القلب فصار القلب مستورًا بالنكَت، فحينئذ لا يعرف الخير من الشر؛ لانعدام نور القلب، وأراد بـ (الفتن): الاعتقادات الفاسدة.
"أُشرِبَها": هذا ماضٍ مجهول، يقال: شربَ زيدٌ الماءَ، وأَشْرَبَ زيدٌ عَمرًا الماءَ؛ أي: سقى زيدٌ عَمرًا الماء، ثم يستعمل (أُشْرِبَ) بمعنى خلط؛ لأن الماء يختلط بالشارب.
قوله: "فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها"؛ أي: فأيُّ قلبٍ خلط فيه الفتن ودخلَتْهُ الفتن.
"نكتت فيه"؛ أي: أَثَّرَتْ فيه، ونُقِشَتْ فيه (نكتة)؛ أي: نقطة سوداء.
"وأيُّ قلبٍ أنكرها"؛ يعني: أيَّ قلبٍ امتنع عن قَبولِ تلك الفتن ظهر فيه النور.
"حتى تصير على قلبين": الضمير في (تصير) ضمير القلوب؛ يعني: حتى تصيرَ قلوبُ أهلِ ذلك العصر على نوعين:
أحدهما: "أبيض مثل الصَّفا" وهو الحجر الأبيضُ شديد البياض، "فلا تضرُّهُ فتنة"؛ يعني: مِنْ حِفْظِهِ الله تعالى في ذلك الوقت عن الفتن، يُحْفَظُ بعدَ ذلك أيضًا عن الفتن إلى يوم القيامة.
والنوع الثاني: "أَسْوَدُ مُرْبَادُّ"، (المُرْبَادُّ): الطين المتغير المنتن، الذي صار أسودًا من غاية تغيره وطول مكثه بمكان، ثم يستعمل المُرْبَادُّ في كل متغير، وفي الأسود الذي هو على غاية السَّواد؛ يعني: والآخر يصير أسود غاية السَّواد لا يعرف الخير، ولا يبصر الحق؛ لانعدام النور عنه، فيصير خاليًا عن الخير.
"كالكُوز مُجَخِّيًا"، (مُجَخِّيًا): منصوب على الحال، ومعناه: المائل والمنكوس؛ يعني: كما أن الكُوز إذا نُكِسَ لا يبقى فيه ماء، فكذلك هذا القلب لا يبقى فيه خير إلا ما أُشْرِبَ من هواه.
يعني: لا يُعرف هذا القلب إلا ما قَبلَ مِنَ الاعتقادات الفاسدة، ومِنَ الشهوات النفسانية؛ يعني: يقبَلُ كلَّ شرٍّ.
* * *
4143 -
وقال حُذَيْفَةُ: حدَّثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَديثَيْنِ، رأَيتُ أَحَدَهُما، وأنا أَنتَظِرُ الآخرَ، حَدَّثنا أنَّ الأَمانةَ نَزلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ القُرآنِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ السُّنَّةِ. وحَدَّثَنا عنْ رفعِها قال:"يَنامُ الرَّجُلُ النَّوْمةَ فَتُقْبَضُ الأَمانةُ مِنْ قلبهِ، فيَظلُّ أثَرُها مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ، ثمَّ يَنامُ النَّوْمةَ فتُقْبَضُ، فيَبقَى أثَرُها مِثْلَ أثَرِ المَجْلِ كجَمْرٍ دَحْرجتَهُ على رِجلِكَ فنَفِطَ، فتراهُ مُنْتَبرًا وليسَ فيهِ شيءٌ، ويُصْبحُ النَّاسُ يَتَبايَعونَ ولا يكادُ أَحَدٌ يُؤدِّي الأمانةَ، فيُقال: إنَّ في بني فُلانٍ رَجُلًا أمينًا، ويُقالُ للرَّجُلِ: ما أَعْقَلَهُ، وما أظرَفَهُ، وما أَجْلَدَهُ، وما في قَلْبهِ مِثقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ".
قوله: "رأيتُ أحدَهما" أراد بـ (أحدهما): نزول الأمانة، وهي الإيمان ها هنا، وأراد حذيفةُ بالحديث الثاني: ارتفاعَ الأمانة، وهي الإيمان - أيضًا - وانتقاصه؛ يعني: لم أرَ انتقاصُ الإيمان وارتفاعَه، بل سيكون في عصرٍ آخر لا في عصر الصحابة رضي الله عنهم.
"في جَذْرِ قلوب الرجال"، (الجَذْرُ): الأصل، فتلفظ بـ (الرجال)، وأراد الرجال والنساء جميعًا.
"ثم عَلِمُوا من القرآن"؛ يعني: وضعَ الله تعالى بفضلِهِ نورَ الإيمان في قلوب المسلمين، ثم علموا بنور الإيمان حقيقةَ الدين، وعلموا أحكامَ الشرع من
القرآن و"من السُّنَّة"، وهي الأحاديث النبوية.
"فتقبَضُ الأمانة"؛ أي: الإيمان، وأرادَ بقبضِ الأمانة هنا: قبضَ بعض الإيمان لا جميعه؛ يعني: ينتقص الإيمان.
"فيظلُّ أثرُها"؛ أي: فيصيرُ أثرُ الأمانة؛ أي: الإيمان.
"مثل أَثَرِ الوَكْتِ"، (الوَكْتُ): نقطة بيضاء تظهرُ في سَوَادِ العين؛ يعني: يبقى أثر من الإيمان في قلوب بعض الناس، فيزول أكثره، فإذا كان كذلك تكون أعماله القبيحة أكثر من أعماله الصالحة.
"ثم ينامُ النَّوْمَة"؛ يعني: ثم يزولُ عن قلبه بعض ما بقي فيه من الإيمان.
"مثل أثر المَجْلِ"، (المَجْلُ): ظهورُ نقطةٍ كبيرة في الكَفِّ من العمل؛ يعني: كما أنَّ المَجْلَ باطنُهُ مجوَّفٌ يراه الناس، ويحسبون أن في جَوْفِهِ شيئًا، ولم يكن فيه شيء، فكذلك هذا الرجل يحسبه الناس صالحًا، ولا يكون فيه من الصلاح والإيمان إلا قليل.
"كَجَمْرٍ دحرجْتَهُ على رِجْلِكَ" هذا صفة المَجْلِ.
(الجَمْرُ): خشبٌ محترقٌ قبل أن تُخمدَ ناره.
و (دحرجْتُهُ)؛ أي: رددْتُهُ.
يعني: كما أنك إذا وضعت رجلك على جمر فتحترق رجلك، ويظهر فيها نقطةٌ كبيرة مجوفةُ الباطن؛ يعني: ذاك الرجل الذي نقصَ إيمانُهُ مرةً بعد أخرى، يكون مثل مَجْلٍ، يشبه نقطة تظهر برجْلِ مَنْ دَحْرَجَ جَمرًا برجله.
"فَنَفِطَ"؛ أي: ظهر برجله نقطة؛ أي: بَثْرَةٌ مجوفة.
"مُنْتَبرًا"؛ أي: كبيرًا مرتفعًا.
"يتبايعون"؛ أي: يجري بينهم البيع، ولا يحفظون الأمانة في المعاملات؛
لأن حفظَ الأمانة أثرُ كَمَال الإيمان، فإذا نقصَ الإيمان نقصَتِ الأمانة، فيقال:"إن في بني فلان رجلًا أمينًا"؛ يعني: لا يبقى مَنْ يحفظ الأمانة إلا قليلًا حتى يكون في كل ناحية واحد، ويُقال:"ما أعقله"، (ما) في هذه الكلمات الثلاث:(ما) التعجب؛ يعني: يمدحُ أهلُ ذلك الزمان الرجال بكثرة العقل والظرافة والجلادة، ولا يمدحونهم بكثرة الصَّلاح، والواو في:"وما في قلبه" واو الحال، و (ما) للنفي.
* * *
4144 -
وعن حُذَيْفةَ قال: كانَ النَّاسُ يَسألونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أسألُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخافةَ أنْ يُدرِكَني، فقُلْتُ: يا رسولَ الله! إنَّا كُنَّا في جاهِليَّةٍ وشرٍّ، فجاءَنا الله بهذا الخَيْرِ، فهلْ بعدَ هذا الخيرِ مِنْ شرٍّ؟ قال:"نعمْ"، قلتُ: وهلْ بعدَ ذلكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قال: "نعمْ، وفيهِ دَخَنٌ". قلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قال: "قومٌ يَسْتنُّونَ بغيرِ سُنَّتي، ويَهدونَ بغيرِ هَدْيي، تَعرِفُ منهمْ وتُنكِرُ". قلت: فهلْ بعدَ ذلكَ الخَيرِ منْ شرٍّ؟ قال: "نعمْ، دُعاةٌ على أبوابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أجابَهُمْ إليها قَذَفوهُ فيها". قلتُ: يا رسولَ الله! صِفْهُمْ لنا. قال: "هُمْ مِنَ جِلْدَتِنا، ويتكلَّمونَ بألسِنَتِنا". قلتُ: فما تأْمُرُني إنْ أدركَني ذلكَ؟ قال: "تَلزَمُ جَماعَةَ المُسْلِمينَ وإمامَهُمْ". قلتُ: فإنْ لَمْ يكُنْ لَهُمْ جَماعَةٌ ولا إمامٌ؟ قال: "فاعتَزِلْ تلكَ الفِرَقَ كلَّها، ولوْ أنْ تَعَضَّ بأصْلِ شَجَرَةٍ حتَّى يُدرِكَكَ المَوْتُ وأنتَ على ذلكَ".
وفي رِوايةٍ: "تكونُ بعدِي أئِمَّةٌ لا يَهتَدونَ بهُدايَ ولا يَستنُّونَ بسُنَّتي، وسيقومُ فيهِمْ رِجالٌ قُلُوبُهُمْ كقلوبِ الشَّياطينِ في جُثمانِ إنسٍ". قالَ حُذَيْفةُ، قلتُ: كيفَ أَصْنَعُ يا رسولَ الله إنْ أدركْتُ ذلكَ؟ قال: "تَسْمَعُ وتُطيعُ الأميرَ، وإن ضُرِبَ ظَهْرُكَ وأُخِذَ مالُكَ".
قوله: "فهل بعد هذا الخير من شر"؛ يعني: هل يجيء بعد الإسلام الكفر والضلالة والبدع والفتن.
"وهل بعد ذلك الشر من خير"؛ يعني: وهل تزول الفتن والبدع، ويجيء بعدها العدل والصلاح؟.
"وفيه دَخَنٌ" بفتح الدال والخاء؛ أي: كُدُوْرَةٌ؛ أي: لا تكون الاعتقادات الصحيحة والأعمال الصالحة وعدل الملوك في ذلك الوقت خالصة، بل يخالطُهَا المكروهات.
"قومٌ يستنُّونَ بغير سنتي"؛ يعني: يكون في ذلك الوقت قوم يعتقدون اعتقادات، ويعملون أعمالًا غير ما أنا عليه.
"ويَهدون بغير هَدْيي"؛ أي: ويتخذون سِيَرًا غير سِيرتي، والسِّيرة: الطريقة التي عليها الرجل من الفعل والقول.
"تَعرِفُ منهم وتُنِكرُ"؛ أي: ترى فيهم ما تعرفُه أنه من ديني، وترى فيهم أيضًا ما تنكِرُ كونَهُ من ديني؛ يعني: ترى فيهم السُّنة والخيرَ والشرَّ.
"فهل بعد ذلك الخيرِ من شر"؛ يعني: هل يضعف الإسلام بعد ذلك ويقوى أهل الشر؟
"قال: نعم دعاةٌ على أبوابِ جهنم"، (دُعَاة): جمع الداعي؛ يعني: يظهر بعد ذلك جماعة من أهل البدعة والضلالة، يدعون الناس من الخير إلى الشر، ومن السُّنة إلى البدعة.
"مَنْ أجابَهُمْ": فكأنما قذفوهُ في نارِ جهنَّمَ.
"قال: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا"؛ يعني: هم بشرٌ مثلنا.
"ويتكلمون بألسنتنا"؛ أي: بلغتنا؛ يعني: لا نقدرُ أن نعرفَهُم بصورِهِمْ بل بِسِيَرِهِمْ.
قوله: "في جُثْمَان إِنْسٍ"، و (الجُثمان): الشخص.
"تسمعُ وتطيعُ"؛ يعني: طريق النجاة في ذلك الوقت: أن تسمعَ ما يأمرُكَ الأميرُ، وتطيعُه ولا تعصيه، إلا إذا أمرك بمعصية، فإنك حينئذ لا تطيعه، ولكن لا تقاتله، بل فرَّ منه.
* * *
4145 -
وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بادِرُوا بالأَعْمالِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيل المُظْلِمِ، يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمْسي كافِرًا، ويُمْسي مُؤْمِنًا ويُصْبحُ كافِرًا، يبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا".
قوله: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل"، (بادروا)؛ أي: أسرعوا وسابقوا، (القِطَع): جمع قِطْعَةٍ، وهي بعض الشيء؛ يعني: ستأتي فتنٌ شديدة كالليل المظلم لا يعرفُ أحدٌ سببَهَا، ولا يُعْرَفُ طريقُ الخلاص منها، فتعجَّلوا بالأعمال الصالحة قبل مجيئها، فإنكم لا تطيقون الأعمال الصالحة إذا أتتكم الفتن.
"يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا"؛ يعني: يكفرُ كثيرٌ من المسلمين بالله في تلك الفتن، والفتن التي يكفر المسلم فيها تحتمل احتمالات:
أحدها: أن تكون بين طائفتين مسلمَتَيْن حربٌ، فتستحلُّ كلُّ واحدةٍ من الطائفتين مالَ الأخرى ودمَها بالتعصب والغضب، فيكفرون باستحلالهم أموالَ المسلمين ودمائَهم.
والاحتمال الثاني: أن يغلب الكفارُ على بلاد المسلمين، ويكون ملوكُ بلادهم كفارًا، فيأمرون الرعيَّةَ بالارتداد عن الإسلام إلى الكفر، وربما يرتدُّ المسلمُ لطلبِ جَاهٍ ومَالٍ منهم من غير أن يطلبوا منه الكفر.
والاحتمال الثالث: أن يكونَ ملوكُ بلاد المسلمين مسلمين، ولكن يغلبُ عليهم الظلمُ والفسقُ، فيريقونَ دماءَ المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حق، ويزنون، ويشربون الخمر، ويلبسون الحرير، ويعتقد بعضُ الناس أنهم على الحق، ويفتيهم بعض علماء السوء على جواز ما يفعلون من المحرمات، وربما يغضبُ الملكُ على أحد من الرعيَّةِ، ويأمر الناس بقتله، أو بأخذ ماله، فيعتقدُ بعض الناس كَوْنَ أمره حقًا، وربما يأمر بصلبِ السَّارق، فيعتقد الناسُ جوازَهُ، فيكفرون به، لأن حدَّ السَّارقِ القَطْعُ لا الصَّلب.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
4146 -
وقال: "ستكونُ فِتَنٌ القاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القائِمُ، والقائِمُ فيها خَيْرٌ مِنَ الماشي، والماشي فيها خَيْرٌ مِنَ السَّاعي، مَنْ تَشرَّفَ لها تَسْتَشرِفْهُ، فمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أو مَعاذًا فلْيَعُذْ بهِ".
وفي رِوايةٍ: "النَّائِمُ فيها خيرٌ مِنَ اليَقْظانِ، واليَقْظانُ خيرٌ مِنَ القائِمِ".
قوله: "ستكون فتن القاعدُ فيها خيرٌ من القائم": وإنما كان القاعد فيها خيرًا من القائم؛ لأن القائمَ أقربُ إلى تلك الفتن من القاعد؛ لأنه يرى ويسمع، ما لا يراه ويسمعه القاعد، وكذلك القائم بمكانه خيرٌ من الماشي إلى الفتن.
"من تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ"، (تَشَرَّفَ واسْتَشْرَفَ): إذا صعد مكانًا شَرَفًا؛ أي: مرتفعًا؛ لينظر إلى شيء، هذا هو الأصل، ثم يستعمل (التَّشَرُّفُ والاستِشْرَافُ) في النظر إلى شيء في أيِّ مكانٍ كان؛ يعني: مَنْ قَرُبَ من تلك الفتن، ونظرَ إليها، نظرَتْ إليه الفتنُ؛ يعني: مَنْ قَرُبَ منها تَجره إلى نفسها؛ يعني: الخلاص في التباعد منها، والهلاك في مقاربتها.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
4146/ م - وفي رِوايةٍ: "فإذا وَقَعَتْ فمَنْ كانَ له إبلٌ فَلْيَلْحَقْ بإبلِهِ، ومَنْ كانَتْ لهُ غَنَمٌ فليلْحَقْ بغَنَمِهِ، ومَنْ كانَتْ لهُ أرضٌ فليلْحَقْ بأرضهِ". فقالَ رَجُلٌ: يا رسُولَ الله! أرأَيْتَ مَنْ لَمْ تكُنْ لهُ إبلٌ ولا غَنَمٌ ولا أرضٌ؟ قال: "يعمِدُ إلى سيفِهِ فيدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بحَجَرٍ، ثمَّ ليَنْجُ إن استطاعَ النَّجاءَ، اللهمَّ هلْ بلَّغْتُ؟ " ثلاثًا، فقال رَجُلٌ: يا رسُولَ الله! أرأيتَ إنْ أُكْرِهْتُ حتَّى يُنْطَلَقَ بي إلى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ فضرَبني رَجُلٌ بسيفِهِ، أوْ يَجيءُ سَهْمٌ فيقتُلُني؟ قال:"يبوءُ بإثمه وإثمِك ويكونُ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ".
قوله: "فمَنْ كان له إبلٌ فليلحق بإبله"؛ يعني: فليطْرِدْ إبلَه، وليبعدْ من تلك الفتنِ إلى موضع بعيد.
"فيدق على حده بحجر"؛ يعني: فليكسرْ سلاحَه كي لا يذهب به إلى الحرب، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكسر السلاح؛ لأن تلك الفتن تكون الحرب بين المسلمين، ولا يجوز حضور تلك الحرب.
"ثم لينج"؛ أي: ثم لِيسرعْ في الفرار عن تلك الفتن، (النَّجَا): الإسراع.
"يبوءُ بإثمِهِ وإثمِكَ": (يبوء)؛ أي: يرجع؛ يعني: يكون لمَنْ أكرهَكَ إثمُ نفسِه وإثمُكَ.
روى هذا الحديث أبو بكرة.
* * *
4147 -
وقال: "يُوشِكُ أنْ يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدينِهِ مِنَ الفِتَنِ".
قوله: "يوشِك"
…
إلى آخره، أي: سوف تكون المواشي أفضل مال الرجل بسبب أن يذهب مع مواشيه إلى الصحارى والجبال ليرعَاها، ويكون معها مقيمًا هناك، ويخلص بسبب إقامته هناك عن الفتن، ومحاربته المسلمين؛ لأن المحاربة حينئذ تكون بين المسلمين.
"شَعَفَ الجبالِ"؛ أي: رؤوسها، واحدها:(شَعَفَة).
"ومواقِعَ القَطْرِ"، (المَوَاقِع): جمع مَوْقِع، وهو موضع الوقوع.
و (القَطْرِ): المطر؛ أي: المواضعُ التي ينزل فيها المطر، يريد بها الصحارى والجبال.
روى هذا الحديث أبو سعيد.
* * *
*
4148 -
عن أُسامَةَ قال: أَشْرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أُطُمٍ مِنْ آطامِ المَدينةِ فقال: "هل تَروْنَ ما أَرَى؟ " قالوا: لا، قال:"فإنِّي لأَرَى الفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيوتِكُمْ كوَقْعِ المَطَرِ".
قوله: "أَشْرَفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم"؛ أي: طَلَعَ ونَظَرَ.
(الأُطُمُ): الأَكَمَةُ، (الخِلال): الوسَط؛ يعني: أرى الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم حين صعدَ ذلك الموضع اقترابَ الفتن؛ ليخبرَ بها أمته؛ ليكونوا على حذر منها.
* * *
4149 -
وقال: "هَلَكَةُ أُمَّتي على يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ".
قوله: "هَلَكَةُ أُمَّتي على يَدَيْ غِلْمَةٍ مِن قُرَيْشٍ"، (الغِلْمَةُ): جمع غُلام، والمراد بـ (الغِلمَة): الشبان، لعله صلى الله عليه وسلم يريد بأولئك الغِلمَة: الخلفاءُ الذين كانوا
بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم مثل يزيد وعبد الملك بن مروان وغيرهما، فإنه قد لحقَ المسلمين من أولئك الخلفاء قتل وظلم.
روى هذا الحديث أبو هريرة رضي الله عنه.
* * *
4150 -
وقال: "يتقارَبُ الزَّمَانُ، ويُقبَضُ العِلمُ، وتظهَرُ الفِتنُ، ويُلْقَى الشُّحُّ، ويكثُرُ الهَرْجُ". قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: "القتلُ".
قوله: "يتقاربُ الزمان": قال الخطابي: معناه: قصرُ زمان الأعمال (1)، وقلةُ البركة في الأعمار، وقيل: هو دُنُوُ الساعة، وقيل: هو قصر مدة الأيام والليالي على ما رُوي: أن الزمان يتقارب حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السَّعَفَة، والسَّعَفَةُ: ورق النخل.
"ويُلْقَى الشُّحُّ"؛ أي: يُلقى البخلُ في القلوب حتى يحبوا المال، ولا يؤدوا الزكاة والكفارات والنذور.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
4151 -
وقال: "والذِي نَفْسي بيدِه، لا تَذْهَبُ الدُّنْيا حتَّى يأْتيَ عَلَى النَّاسِ يومٌ لا يَدْري القاتِلُ فيمَ قتلَ، ولا المَقتُولُ فيمَ قُتِلَ". فقيلَ: كيفَ يكونُ ذلكَ؟ قال: "الهَرْجُ، القاتِلُ والمَقتولُ في النَّارِ".
قوله: "الهَرْجُ"؛ يعني: تكون حرب بين طائفتين من المسلمين للعصبية
(1) في "م": "الأعمار".
وطلب الجاه يقتل بعضهم بعضًا.
"القاتل والمقتول في النار"؛ أما القاتل؛ فلأنه يقتل المسلمين ظلمًا، وأما المقتول: فلأنه كان حَريصًا على قتل المسلمين أيضًا، هكذا جاء تفسير هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر.
روى هذا الحديث أبو هريرة رضي الله عنه.
* * *
4152 -
وقال: "العِبادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرَةٍ إليَّ".
قوله: "العبادة في الهَرْجِ كهجرة إليَّ"؛ يعني: ثواب عبادة في زمان الفتن والمحاربة بين المسلمين كثواب هِجْرَةٍ من مكة إلى المدينة في زمانه صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة.
روى هذا الحديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4154 -
عن حُذَيْفةَ رضي الله عنه قال: والله ما أَدْري أَنَسِيَ أَصْحابي أوْ تَناسَوْا؟ والله ما تَرَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ قائِدِ فِتْنَةٍ إلى أنْ تَنْقضيَ الدُّنْيا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ ثلاثَ مِئَةٍ فَصَاعِدًا إلَاّ قدْ سَمَّاهُ لنا باسمِهِ واسمِ أبيهِ واسمِ قبيلَتِهِ.
قوله: "قائد فِتْنَةٍ"، أراد بـ (قائد الفتنة): مَنْ تَحْدُثُ بسببه بِدعةٌ أو ضلالةٌ أو محاربةٌ كعالم مبتدع يأمر الناس بالبدعة، أو أمير جَائر يحارب المسلمين.
"يبلغُ مَنْ معه"؛ يعني: يتَّبعُهُ.
"ثلاث مئة" إنسان "فصاعدًا"؛ أي: زائدًا.
* * *
4155 -
وقال: "إنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتي الأَئِمَّةَ المُضلِّينَ، وإذا وُضعَ السَّيْفُ في أُمَّتي لم يُرْفَعْ عنهمْ إلى يَوْمِ القِيامةِ".
قوله: "إنما أخافُ على أُمَّتي الأئمَّة المضلِّين"، (الأَئِمَّة): جمع الإمام، وهو رأسُ القوم، ومن يدعوهم إلى فعل أو قول أو اعتقاد؛ يعني: أخاف أن يحدث بين أمتي المبتدعون، فيدعونهم إلى البدعة والضلالة.
"فإذا وُضعَ السَّيفُ في أمتي لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة"؛ يعني: إذا ظهرت الحربُ بين أمتي، تبقى الحرب بينهم إلى يوم القيامة، إن لم يكن في بلد يكن في بلد آخر.
روى هذا الحديث ثوبان رضي الله عنه.
* * *
4156 -
عن سَفينةَ قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "الخِلافَةُ ثلاثونَ سنةً ثمَّ تكونُ مُلْكًا". ثُمَّ يقولُ سَفينةُ: أمْسِكْ، خِلافةُ أبي بكرٍ سَنتين، وخِلافةُ عُمرَ عَشرًا، وخِلافةُ عُثمانَ اثنتَيْ عَشَرةَ، وعليٌّ سِتًّا".
قوله: "الخلافة ثلاثون سنة ثم ملكًا"؛ يعني: الخلافةُ المرضية لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم تكون ثلاثين سنة، وهو زمن خلافة الخلفاء الراشدين المهديين، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، ثم بعد ذلك لا يكون الخلفاء متبعين بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل يظلمون الناس، ويخلطون الشرَّ بالخير.
* * *
4157 -
وعن حُذَيْفةَ قال: قلتُ: يا رسُولَ الله! أيكونُ بعدَ هذا الخَيْرِ شَرٌّ كما كانَ قبلَهُ شرٌّ؟ قال: "نعمْ". قلتُ: فما العِصْمَةُ؟ قال: "السَّيفُ". قلتُ: وهَلْ بعدَ السَّيفِ بقيَّةٌ؟ قال: "نَعَمْ، تكونُ إِمارَةٌ على أَقْذَاءَ وهُدْنَةٌ على
دَخَنٍ". قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ تَنْشَأُ دُعاةُ الضَّلالِ، فإنْ كانَ لله في الأَرْضِ خَليفَةٌ جَلَدَ ظَهْرَكَ وأَخَذَ مالَكَ فأَطِعْهُ، وإلا فَمُتْ وأنتَ عاضٌّ على جِذْلِ شَجَرةٍ". قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ بعدَ ذلكَ، معَهُ نَهْرٌ ونارٌ، فمَنْ وَقَعَ في نارِهِ وجَبَ أَجْرُهُ وحُطَّ وِزْرُهُ، ومَنْ وقعَ في نَهْرِهِ وجَبَ وِزْرُهُ وحُطَّ أجرُهُ". قالَ: قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ يُنْتَجُ المُهْرُ فلا يُركَبُ حتَّى تَقُومَ السَّاعةُ".
وفي رِوايةٍ: "هُدْنَةٌ على دَخَنٍ، وجَماعةٌ على أقذاءَ". قلتُ: يا رسولَ الله! الهُدْنَةُ عَلَى الدَّخَنِ ما هيَ؟ قال: "لا تَرْجعُ قلوبُ أقوامٍ على الذي كانتْ عليهِ". قلتُ: بعدَ هذا الخَيْرِ شرٌّ؟ قال: "فِتْنَةٌ عَمْياءُ صَمَّاءُ، عليها دُعاةٌ على أبوابِ النَّارِ، فإنْ مِتَّ يا حُذَيفَةُ وأنتَ عاضٌّ على جِذْلٍ خيرٌ لكَ منْ أنْ تَتَّبعَ أَحَدًا منهُمْ".
قوله: "أيكون بعد هذا الخير شر": هذا الحديث معناه مثل الحديث الرابع من (كتاب الفتن)، وقد ذكرناه.
قوله: "فما العِصْمَةُ؟ "؛ يعني: فما طريق النجاة من ذلك الشر؟
قال صلى الله عليه وسلم:
"السَّيفُ"؛ يعني: طريقُ النجاة أن تضربَهم بسيفِكَ.
قال قتادة: المراد بهذه الطائفة: هم الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في زمن خلافة أبي بكرٍ الصديق.
"وهل بعد السَّيف بقية؟ "؛ يعني: إذا ضربناهم بالسيف فهل يبقى الإسلام بعد محاربتنا إياهم، وهل يصلح أهل ذلك الزمان بعد ذلك؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم تكونُ إمارةٌ على أَقْذاءَ، وهُدْنَةٌ على دَخَنٍ"، (الأَقْذَاء): جمع القَذَى، و (القَذَى): جمع القَذَاة، وهي ما يقع في العين من التِّبن والتراب،
(الهُدْنَةُ) بضم الهاء: الصلح، (الدَّخَن): الكُدُورَةُ واللون الذي يَضرب إلى السَّواد.
يعني: يكون في أهل ذلك الزمان أميرٌ بينه وبينهم صلحٌ غير خالص، بل يظهرون الصلح ويبطنون العداوةَ والبغضَ، كما أن العين التي تقع فيها القذاة ظاهرها صحيح، وباطنها سقيم.
"تنشأ"؛ أي: تظهر.
"وأنت عاضٌّ على جِذْلِ شجرة"، (الجِذْلُ): الجِذْعُ؛ يعني: لا تخالطهم، بل فرَّ منهم، ولازم موضعًا بعيدًا تحت شجرة.
"فمن وقع في ناره"؛ يعني: فمَنْ خالَفَهُ حتى يلقيه في ناره.
"فلا يُركِب": بضم الياء وكسر الكاف، وهو مضارع (أَرْكَبَ): إذا بلغَ المُهْرُ وقتَ الرُّكوب؛ يعني: يكون مجيء القيامة قريبًا.
"لا ترجعُ قلوبُ قومٍ على الذي كانت عليه"؛ يعني: لا تكون قلوبهم صافيةٌ من الحقد والبغض، كما كانت صافية قبل ذلك.
"فتنةٌ عمياءُ صَمَّاءُ"؛ يعني: فتنةٌ شديدة، لا يكون قتال أهل ذلك الزمان عن بصيرة، بل كما أن الأعمى لا يدري أين يذهب، فكذلك أولئك الجماعة لا يدرون بأي سبب يقاتلون، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يدري القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل".
وسُميت (صَمَّاء)؛ لأنها شديدة، يقال:(صخرة صَمَّاء)؛ أي: شديدة، ويحتمل أن يكون (الصَمَّاء)؛ لكون أهل تلك الفتنة صُمًا؛ أي: لا يسمعون الحق والنصيحة، بل يحاربون عن الجهل والعداوة، ولصيرورة أهلها كالأَصم من كثرة أصواتهم، ووَقْعِ السلاح والضرب.
* * *
4158 -
عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قالَ: كنتُ رَديفًا خَلْفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا على حِمارٍ، فلمَّا جاوَزْنا بُيوتَ المَدينةِ قال:"كيفَ بكَ يا أبا ذَرٍّ إذا كَانَ في المدينةِ جُوْعٌ تقومُ عنْ فِراشِكَ فلا تبلُغُ مَسْجِدَكَ حتَى يُجْهِدَكَ الجُوعُ؟ " قالَ: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قالَ:"تعفَّفْ يا أبا ذرٍّ"، ثمَّ قالَ:"كيفَ بكَ يا أبا ذرٍّ إذا كانَ بالمَدينةِ مَوْتٌ يبلُغُ البَيْتُ العبدَ حتَّى أنَّه يُباعُ القَبْرُ بالعبدِ؟ " قالَ: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال:"تصَبَّرْ يا أبا ذرٍّ"، قالَ:"كيفَ بكَ يا أبا ذرٍّ إذا كانَ بالمَدينةِ قَتْلٌ تَغْمُرُ الدِّماءُ أَحْجارَ الزَّيْتِ؟ " قال: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال:"تأْتي مَنْ أنتَ منهُ" قالَ: قلتُ: وألبَسُ السِّلاحَ؟ قال: "شارَكْتَ القَوْمَ إذًا" قُلتُ: فكيفَ أَصْنَعُ يا رسولَ الله؟ قال: "إنْ خَشِيْتَ أنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فأَلْقِ ناحِيَةَ ثوبكَ عَلَى وَجْهِكَ لِيَبُوءَ بإثْمِكَ وإِثْمِهِ".
قوله: "يُجْهِدكَ الجُوعُ"، (الجَهْد): الإيذاء؛ يعني: يظهر قحطٌ، وتزول قوتُكَ، بحيث لا تقدر أن تمشيَ من البيت إلى المسجد من غاية الجوع.
"تعفَّفْ"؛ يعني: لازم العِفَّةَ، وهي الصلاح؛ يعني: اصبر على الجوع، ولا تأكل حرامًا ولا شبهة.
"يبلُغُ البيتُ العَبدَ"؛ يعني: يُباع بيتٌ بعبدٍ؛ يعني: يكونُ البيت رخيصًا من غاية قِلَّةِ الناس بالموت، ويحتمل أن يريد بالبيت هنا: القبر، فيكون ما بعده تفسيرًا له؛ يعني: لا يحفر الحفار قبرًا حتى يأخذَ عبدًا بالأجرة، أو لا يجد أحدٌ موضعَ قبرٍ إلا بعبد يعطيه في ثمن موضع قبر من كثرة الموتى.
"تَصَبَّرْ"؛ أي: اصبر؛ يعني: اصبر بالبلاء ولا تجزع، تُصِبِ الأَجْرَ.
"تَغمُرُ الدِّماء أحجارَ الزَّيتِ"، (الغَمْرُ): الستر. (أحجارَ الزَّيتِ): اسم موضع بالمدينة؛ يعني: تكثرُ دماء القتلى حتى تغمرَ الدماء أحجار الزَّيت. "تأتي مَنْ أنت منه"؛ يعني: خيرك في أن تأتي مَنْ كان على الحق.
"شاركْتَ القوم"؛ يعني: لو لبستَ السلاح، فكنت منهم في الإثم.
"إن خشيتَ أن يَبْهَرَكَ شعاعُ السَّيف"، (البهر): الغَلَبَةُ.
يعني: لا تحاربهم فإن جاءك أحدٌ يحاربك فلا تحاربه، بل استسلم نفسك للقتل حتى يحصل له إثمُ قتلك، والاستسلام إنما يكون إذا لم يمكنه الفرار، وإنما نهاه عن المحاربة؛ لأن أهل تلك الحرب كلهم مسلمون.
وقيل: حارب يزيدُ بن معاوية أهل المدينة في أحجار الزيت.
* * *
4159 -
وعن عبدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كيفَ بكَ إذا بَقيتَ في حُثالَةٍ مِنَ النَّاسِ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأَماناتُهُمْ، واخْتَلَفُوا فكانُوا هكذا؟ " وشَبَّكَ بينَ أَصَابعِهِ، قال: فبمَ تأمُرُني؟ قال: "عليكَ بِما تعرِفُ، ودَعْ ما تُنكِرُ، وعَلَيكَ بخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وعَوَامَّهُمْ".
وفي روايةٍ: "اِلزَمْ بَيْتَكَ، واملِكْ عَليكَ، لسانَكَ، وخُذْ ما تَعْرِفُ، ودَعْ ما تُنكِرُ، وعليكَ بأمرِ خَاصَّةِ نفسِكَ، ودَعْ أَمْرَ العَامَّة"، صحيح.
قوله: "كيفَ بك"؛ أي: كيف يكونُ حالُك إذا أتى عليك زمان يكون أهلها بلا خير.
(الحُثَالة): الرديء من كل شيء، و (الحُفَالة) مثلها.
"مَرِجَتْ عهودُهُمْ"؛ أي: اختلطت عهودُهُمْ؛ يعني: لا يكون أمرهم مستقيمًا، بل يكون كل يوم أو كل لحظة على طبع، وعلى عهد ينقضون العهد ويعصون ربهم.
"عليك بما تعرِف"؛ أي: الزم وافعل ما تعرفُ كونه حقًا، واترك ما تنكر أنه حق.
"وعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامَّهم"؛ يعني: الزم أمر نفسك، واحفظ نفسك ودينك، واترك الناس ولا تتبعهم، وهذا منه صلى الله عليه وسلم رخصة في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا كَثُرَ الأشرار، وضعف الأخيار، ولم يقدر الأخيار على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
"املِكْ عليكَ لسانَك"، (الإملاك): الشدُّ والإحكام؛ يعني: اشدد لسانك، ولا تتكلم في أحوال الناس كي لا يؤذوك.
* * *
4160 -
عن أبي مُوسى، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّه قال: "إنَّ بينَ يَدَي السَّاعةِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظْلِمِ، يُصْبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِنًا ويُمسي كافِرًا، ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبحُ كافِرًا، القاعِدُ فيها خَيْرٌ منَ القائِمِ، والماشي خيرٌ مِنَ السَّاعي، فكسِّرُوا فيها قِسِيَّكُمْ، وقطِّعُوا فيها أوْتارَكُمْ واضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بالحِجَارَةِ، والزَمُوا فيها أَجْوافَ بُيوتِكُمْ، فإنْ دُخِلَ على أَحَدٍ منكُمْ فَلْيكُنْ كخَيْرِ ابنيْ آدمَ"، صحيح.
ويُروَى: أَنَّهم قالوا: فَما تأمُرُنا؟ قال: "كونوا أَحْلاسَ بُيُوتِكُمْ".
قوله: "كَقِطَعِ الليل المظلمِ"، (القِطَعُ): جمع قطعة، وهي طائفة من الشيء، والمراد به ها هنا: بعض من الليل؛ يعني: تكون فتنة لا يكون فيها ضياء وخلاص لأهلها، ولا يُعرف المحق من المبطل.
"فكسِّروا فيها قِسِيَّكم" يريد بهذا الكلام: النهي عن المحاربة؛ لأن أهل تلك الحرب كلهم مسلمون.
"الأوتار": جمع الوتر: القوس.
"فليكنْ كخيرِ ابني آدمَ"؛ يعني: فليستسلم حتى يكون مقتولًا كهابيل، ولا يكن قاتلًا كقابيل.
"كونوا أحلاسَ بيوتكم"، (الأَحْلاسُ): جمع حِلْسٍ، وهو نوع من الكساء؛ يعني: الزموا أجوافَ بيوتكم، ولا تخرجوا منها؛ كي لا تقعوا في الفتنة.
* * *
4161 -
وعن أُمِّ مالكٍ البَهْزِيَّةِ قالت: ذكَرَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِتنةً فقَرَّبَها، قلتُ: مَنْ خيرُ النَّاسِ فيها؟ قال: "رَجُلٌ في ماشِيَتِهِ يُؤدِّي حَقَّها ويَعبُدُ ربَّهُ، ورَجُلٌ آخذٌ برَأْسِ فَرَسِهِ يُخِيْفُ العَدُوَّ ويُخوِّفُونَه".
قوله: "رجلٌ في ماشِيَتِهِ"؛ يعني: رجلٌ هَرَبَ من الفتنةِ ومخالطةِ الناس إلى باديةٍ بعيدة، يرعى مواشيه، ويقيم معهم؛ كي لا يقع في الفتنة.
"ورجلٌ أخذَ برأسِ فرسِهِ يُخيفُ العدوَّ ويخوِّفُونَهُ": أراد بـ (العدو) هنا: الكفار لا المسلمين؛ يعني: ورجلٌ هربَ من الفتن وقتال المسلمين، وقصدَ الكفارَ يحاربُهم ويحاربُونه.
* * *
4162 -
عن عبد الله بن عمرو قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ستكونُ فِتنةٌ تستنظِفُ العربُ قَتلاها في النَّارِ اللِّسانُ فيها أشدُّ منْ وَقْعِ السَّيفِ".
قوله: "تستنظِفُ العرب"، (الاستِنْظَاف): الاستيعاب؛ يعني: تصل تلك الفتنة إلى جميع العرب.
"قَتلاها في النار"، (القتلى): جمع قَتيل؛ بمعنى: مَقْتُول، وإنما كان قَتلى تلك الفتنة في النار؛ لأنهم كانوا مسلمين، ويحاربون للعصبية، يفرح كل أحد بقتل صاحبه، ويقصدُ قتلَه وأخذَ مالِهِ.
"اللِّسَانُ فيها أشَدُّ من وَقْعِ السَّيف" يحتمل هذا احتمالين:
أحدهما: أنَّ مَنْ ذَكَرَ أهلَ تلك الحربِ بسوءٍ يكون آثمًا كَمَنْ حَارَبَهم؛ لأنهم مسلمين، وغيبة المسلم إثم، ولعل المراد بهذه الفتنة: الحربُ التي وقعت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبين معاوية رضي الله عنهما، فلا شكَّ أن مَنْ ذكر أحدًا من هذين الصدرين وأصحابهما يكون مبتدعًا؛ لأن أصحابهما أكثرهم كانوا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة.
والاحتمال الثاني: أن المراد بهذا الكلام: أن مَنْ مَدَّ لسانَهُ فيهم بشتمٍ أو غيبةٍ، يقصدونه بالضربِ والقتل، ويفعلون به ما يفعلون بمَنْ حارَبهم.
4163 -
وعن أبي هُريرةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ستكونُ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ بَكْماءُ عَمْياءُ، مَنْ أَشْرَفَ لها استَشْرَفَتْ لهُ، وإِشْرافُ اللِّسانِ فيها كوُقُوعِ السَّيفِ".
قوله: "ستكونُ فتنةٌ صمَّاء بكماءُ عَمياءُ": ذكر شرح (الصماء والعمياء) في الحديث الرابع من الحِسَان، وأما (البَكْمَاء) فمعناها: أن أحدًا لا يقدرُ على الأمر بالمعروف فيها، والنهي عن المنكر، فمن تكلم بحقٍ يؤذيه الناس.
"من أَشرَفَ لها"؛ أي: مَن اطَّلَعَ عليها وقَرُبَ منها.
"استشرفَتْ"؛ أي: اطَّلعت تلك الفتنةُ عليه، وجَرَّتْهُ إلى نفسها، و (إشرافُ اللِّسَانِ)؛ أي: إطالة اللسان، معنى هذا مثلُ معنى قوله:"اللسانُ فيها أشدُّ مِنْ وَقْعِ السيف".
* * *
4164 -
عن عبدِ الله بن عُمَرَ قال: كُنَّا قُعُودًا عندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الفِتَنَ، فأَكْثَرَ حتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الأَحْلاسِ، فقالَ قائِلٌ: وما فِتْنَةُ الأَحْلاسِ؟ قال: "هيَ هَرَبٌ وحَرْبٌ، ثمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ دَخَنُها منْ تحتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بيتي، يَزْعُمُ
أنَّهُ منِّي وليسَ منِّي، إنَّما أَوْليائي المُتَّقُونَ، ثمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ على رَجُلٍ كوَرِكٍ على ضلَعٍ، ثمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْماءِ لا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هذهِ الأُمَّةِ إلا لطَمَتْهُ لَطْمةً، فإذا قيلَ: انقضَتْ تمادَتْ، يُصْبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِنًا ويُمْسِي كافِرًا، حتَّى يَصيرَ النَّاسُ إلى فُسْطاطَيْنِ: فُسطاطِ إِيْمانٍ لا نِفاقَ فيهِ، وفُسْطاطِ نِفاقٍ لا إِيْمانَ فيهِ، فإذا كانَ ذلكُمْ فانتظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أوْ مِنْ غَدِه".
قوله: "كُنَّا قُعودًا"؛ أي: كنا قاعدين.
"ذَكَرَ فِتنَةَ الأَحْلاس": قال الخطابي: إنما أضيفت الفتنة إلى الأحلاس لدوامِها وطول لبثها، يقال للرجل إذا لزم بيته ولا يبرح منه:(هو حِلْسُ بيتِهِ)، ولأن الحِلْسَ مفترش، فيبقى على المكان ما دام لا يرفع، وقد يحتمل أن تكون هذه الفتنة إنما شُبهَتْ بالأحلاس؛ لسوادِ لونها وظلمتها.
"هي هرَبٌ"؛ أي: فِرَارٌ، يفرُّ بعض الناس من بعض؛ لما بينهم من المحاربة، (الحرَب) بفتح الراء: أخذ المال.
و"فتنة السَّرَّاء"، (السَّرَّاء) بفتح السين: داءٌ يأخذ الناقة في سُرَّتها، يقال:(ناقة سَرَّاء)؛ أي: بها داء السَّرَر، فعلى هذا، معنى هذا الكلام: فتنةٌ الواقعةُ في الناس التي تُوجِعُ صدورَ الناس من الحزنِ ولحوق الضرر بهم.
"دَخَنها"؛ أي: دُخانُهَا؛ يعني: تظهر تلك الفتن بواسطة.
"رجلٌ من أهل بيتي، وليس من أهلي": لأنه لو كان من أهلي لم يهيج الفتنة؛ يعني: هو في النسب من أهل بيتي، ولكنه في الفعل ليس مني.
"ثم يصطلح الناس على رجل كَوَرِكٍ على ضلَعٍ"، قال الخطابي: هذا مثلٌ، ومعناه: الأمر الذي لا يثبتُ ولا يستقيمُ، وذلك أن الضلَع لا يقومُ بالوَرِكِ، ولا يحمله، وإنما يقال في باب الملازمة والموافقة إذا وصفوا: هو ككفٍ على ساعد، وكساعد في ذراع، ونحو ذلك.
يريد: أن هذا الرجل غيرٌ جديرٍ للملك، ولا مستقل به.
"ثم فتنة الدهيماء لا تدعُ أحدًا من هذه الأمة إلا لطَمْتُه"، (الدهمياء): تصغير الدَّهْمَاءِ، وهي الداهية، وسميت بذلك؛ لإطلاقها، (اللَّطْمُ): الضربُ على الوجه ببطْنِ الكَفِّ؛ يعني بهذا الكلام: أن أثرَ تلكَ الفتنة يصل إلى كل واحد ممنْ حضرَ تلك الفتنة.
"حتى يصير الناسُ إلى فُسْطَاطين"، (الفُسْطَاط): الخيمة؛ يعني: يصير أهل ذلك الزمان فرقتين: مسلمٌ خالصٌ، وكافرٌ صِرْفٌ.
* * *
4165 -
عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "وَيْلٌ للعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قدِ اقترَبَ، أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يدَهُ".
قوله: "ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقتربَ" لعله يريد بهذا الشر: الاختلاف الذي ظهر بين المسلمين في عهد أمير المؤمنين علي، ومعاوية رضي الله عنهما، وبين الحسين رضي الله عنه، وبين يزيد.
"أفلحَ مَنْ كَفَّ"؛ يعني: أفلحَ مَنْ حفظ يدَه عن القتال؛ لأن قتالَ المسلمين غير جائز.
* * *
4166 -
عن المِقْدادِ بن الأَسْوَدِ: أنَّه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، ولَمَنْ ابتُلِيَ فَصَبَرَ فَواهًا".
قوله: "ولمن ابتُليَ فصَبَر فَواهًا"؛ يعني: مَنْ وقع في الفتنة فصبر على
ظلم الناس إياه، وتحمَّل أذاهم ولم يحاربهم.
(فواهًا)؛ أي: فَوَاهًا له؛ أي: فطوبى له.
* * *
4168 -
عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"تدورُ رَحَى الإِسلامِ لخَمْسٍ وثلاثينَ، أو سِتٍّ وثلاثينَ، أو سَبْعٍ وثلاثينَ، فإنْ يَهْلِكُوا فَسَبيلُ مَنْ هَلَكَ، وإنْ يَقُمْ لهمْ دينُهُمْ يقُمْ لهمْ سبعينَ عامًا". قلتُ: أَمِمَّا بقيَ أوْ مِمَّا مَضَى؟ قال: "مِمَّا مَضى"، صحيح.
قوله: "تدورُ رَحَا الإسلام
…
" إلى آخره.
قال الخطابي: (دَوَران الرَّحا): كناية عن الحرب والقتال، شبهها بالرحا الدوَّارة التي تطحنُ الحَبَّ؛ لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس، ويشبه أن يكون هذا ملك بني أمية وانتقاله إلى بني العباس، وكان ما بين استقرار ملك بني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان، وضعف أمر بني أمية، ودخل الوَهْنِ فيه نحوًا من سبعين سنة.
"لخمس وثلاثين، أو لست وثلاثين، أو لسبع وثلاثين" كلُّ ذلك شكٌ من الراوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لخمس وثلاثين، أو قال: لست وثلاثين، أو قال: لسبع وثلاثين، واللام هنا بمعنى (في)؛ يعني: يحارب المسلمون المسلمين بعضهم بعضًا هذا القدر، وأولها أول محاربة علي ومعاوية رضي الله عنهما.
يعني: فإن هلك المسلمون في المحاربة في هذا القدر من الزمان، فقد هلكوا كما هلك كثير من الناس من الأمم الماضية، وإن لم يهلكوا في هذا القدر، بل بقوا وبقي دينهم بقي دينهم سبعين سنة.
يعني: بقيت خلافةُ من استقرت خلافته في هذا القتال إلى سبعين سنة،