الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول والثاني سواء في الأجر.
* * *
4087 -
عن شَدَّادِ بن أَوْسٍ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الكَيسُ مَنْ دانَ نفسَهُ وعَمِلَ لِما بعدَ المَوْتِ، والعاجِزُ مَنْ أتبَعَ نفسَهُ هَواها وتَمنَّى على الله تعالى".
قوله: "الكيس من دان نفسه"، (الكيس): العاقل ذو الحزم والاحتياط في الأمور. (وإن يَدين): إذا حاسب؛ يعني: الكيس مَن حاسب نفسه أنها عملت خيرًا أو شرًا، فإن عملت خيرًا يحمد الله، وإن عملت شرًا يلوم نفسه، ويتوب ويستغفر الله.
و (دان): إذا قهر؛ يعني: جعل نفسه مطيعة لأمر الله.
"والعاجز من أتبع نفسه هواها"؛ يعني بـ (العاجز): الذي غلبت عليه نفسه، وعمل ما أمرتْه به نفسه، فصار عاجزًا لنفسه، (وأتبع نفسه)؛ أي: وأعطى نفسه ما أرادت من المحرَّمات.
"وتمنى على الله"؛ أي: يذنب ويتمنى الجنة من غير توبة واستغفار.
* * *
5 - باب التَّوَكلِ والصَّبرِ
(باب التوكل والصبر)
(التوكل): سكون القلب بمضمون الرب؛ أي (1): يطمئن القلب بما وعد الله
(1) في "م": "بمعنى".
من إيصال الرزق إلى العباد، وغيره مما قدَّر الله له.
* * *
مِنَ الصِّحَاحِ:
4088 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يدخُلُ الجَنَّةَ منْ أُمَّتي سَبعُونَ ألفًا بغيرِ حِسابٍ، هُمُ الذينَ لا يَسْتَرْقونَ، ولا يتَطيَّرونَ، وعلى ربهمْ يَتوَكَّلونَ".
قوله: "لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"، (لا يستَرْقُون) أصله: لا يسترقيون، فأُسكنت الياء ونقلت ضمتها إلى القاف، وحذفت لسكونها وسكون الواو، ومعناه: لا يطلبون الرُّقية. وقد ذكر بحث التطيُّر في (باب الفأل والطيرة).
اعلم أن التوكل فرضٌ وشعبةٌ من شعب الإيمان، والتوكُّل نوعان: عام وخاص.
فالعام: ما يجب أن يكون في جميع المسلمين.
والخاص: ما يكون في الخواص من العباد.
فالعام: أن يعلم الرجل أنْ لا مؤثر إلا الله تعالى، ولا يؤثِّر شيء إلا بأمر الله، فالطعام لا يُشبع إلا بأمر الله، والماء لا يروي إلا بأمره، والأدوية لا تشفي إلا بأمره، والسم لا يقتل إلا بأمره، والنار لا تحرق إلا بأمره، وكذلك جميع الأشياء، ومن له هذا العلم والاعتقاد جاز له أن يتداوى ويسترقي، ويفر من عدو إلى قلعة، وجاز له أن يكتسب المال بالتجارة والحرف وغيرهما إذا علم أن الرازق هو الله تعالى، والكسبُ واسطةٌ كما أن التداوي واسطة للشفاء.
والتوكل الخاص: أن يترك الرجل التداويَ والاسترقاء؛ ليقينه بأنه لا يصيبه
إلا ما كتب الله له من النفع والضر، والمراد بالتوكل في هذا الحديث هو التوكل الخاص.
* * *
4089 -
عن ابن عبَّاسٍ قال: خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: "عُرِضَتْ عليَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمرُّ النبي ومَعَهُ الرَّجُلُ، والنَّبيُّ ومَعَهُ الرَّجُلانِ، والنَّبيُّ ومَعَهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ وليسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فرأَيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَرجَوْتُ أنْ يكونَ أُمَّتي، فقيلَ: هذا موسَى في قومِهِ، ثُمَّ قيلَ لي: انظُرْ هكذا، فرأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقيلَ: انظُرْ هكذا وهكذا، فرأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقيلَ: هؤلاءِ أُمَّتُكَ، ومعَ هؤلاءِ سَبْعونَ ألفًا قُدَّامَهُمْ، يَدخُلونَ الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ؛ هُمُ الذينَ لا يَتطيَّرونَ، ولا يَسْتَرْقونَ، ولا يَكْتَوُونَ، وعلَى ربهمْ يتَوكَّلونَ"، فقامَ عُكَّاشَةُ بن مِحْصَنٍ فقالَ: ادعُ الله أنْ يَجعَلَني منهُمْ، فقال:"اللهمَّ! اجْعَلْهُ منهُمْ"، ثمَّ قامَ رَجُلٌ آخرُ فقال: ادعُ الله أنْ يَجعلَني منهُمْ، قال:"سَبقَكَ بها عُكَّاشَةُ".
قوله: "عرضت علي الأمم"؛ يعني: أراني الله الأنبياء وأممهم؛ لأرى كلَّ نبي ومَن تبعه ومن آمن به. "فجعل"؛ أي: فطفق "يمر النبي ومعه الرجل"؛ يعني: قد كان من الأنبياء من لا يؤمن به إلا واحد، ومنهم من لا يؤمن به إلا اثنان، ومنهم من لا يؤمن به أحد، ومنهم من آمن به جمعٌ.
"سدَّ الأفق"؛ أي: ستر الأفق من كثرته. "فقام رجل آخر" قيل: ذلك الرجل كان سعد بن عبادة.
قوله: "سبقك بها عكاشة"، (بها)؛ أي: بتلك المسألة، أو بتلك الدعوة، ومعنى هذا الكلام: أنه لم يؤذن لي أن أدعو بهذا الدعاء في هذا المجلس إلا لرجلٍ
واحد، فدعوت لعكاشة به، ولم يؤذن لي أن أدعو في هذا المجلس لغيره، وهذا تحريض للناس على المسارعة في الخيرات، وطلبِ الأدعية الصالحة من الصلحاء؛ لأن للتأخير موانع.
* * *
4091 -
وقال: "المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إلى الله مِنَ المُؤْمنِ الضَّعيفِ، وفي كُلٍّ خيرٌ، اِحْرِصْ على ما ينفعُكَ، واستَعِنْ بالله ولا تَعْجِزْ، وإنْ أصابَكَ شيءٌ فلا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كذا كانَ كذا وكذا، ولكنْ قُلْ: قَدَّرَ الله وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لوْ تفتحُ عَمَلَ الشَّيطانِ".
قوله: "المؤمن القوي خير وأحب"؛ يعني بـ (القوي): مَن صبر على مجالسة الناس، وتحمُّل أذيتهم، وتعليمهم الخير، وإرشادهم إلى الهدى، فهو أحب إلى الله من المؤمن الذي يفر من الناس، ولا ينفع إلا نفسَه.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4092 -
عن عمرَ بن الخَطَّاب رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لوْ أنَّكُمْ تتوكَّلونَ على الله حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كما يَرْزُقُ الطَّيرَ، تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا".
قوله: "حق توكله"؛ يعني: لو اعتمدتم بالله اعتمادًا تامًا، وعلمتم أن الله لا يُخلف وعده فيما قال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، لوصل إليكم رزقكم من غير حرفةٍ، وسعي منكم.
"كما يرزق الله الطير تغدو"؛ أي: تمشي في أول النهار "خماصًا": جمع خميص، وهو الجائع، "وتروح"؛ أي: تمشي في آخر النهار "بطانًا": جمع بطين وهو الشبع.
وهذا الحديث ليس لمنع الناس عن الاكتساب والحرف، بل لتعليم الناس وتعريفهم أن الكسب ليس رازقًا، بل الرازق هو الله تعالى.
فإن قيل: لمَ خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم الطير بقوله: (كما يرزق الطير) مع أن الطير مشترِكةٌ بسائر الحيوانات غيرِ أولي العقل في عدم الاتِّجار والحرف والاكتساب، بل كما تسعى السباع والحشرات في طلب الرزق، فكذلك تسعى الطير في طلب الرزق؟.
قلنا: (تغدو وتروح) في هذا الحديث ليس معناهما الذهاب في وقت الغداة والرواح، بل (تغدو) معناه: تصبح؛ أي: يمر عليه الصباح، و (تروح)؛ أي: تمشي؛ أي: يمر عليها المساء؛ يعني: بعض الطيور يصل إليه رزقه بلا سعي منه.
قد حكي: أن النَّعَّاب - وهو فرخ الغراب - إذا خرج من البيض يكون أبيض، فإذا نظر إليه الغراب يرى لونه مخالفًا للون نفسه؛ لأن الغراب أسود، فينكر كونَه فرخَه، فيتركه ويذهب عنه، فيبقى الفرخ ضائعًا متحيرًا لا يقدر على الطيران في طلب الرزق، وليس له من يأتي إليه برزقه، فأرسل الله إليه الذباب والنمل، فيلتقط الذباب والنمل ويأكل، فيكون سببُ رزقه أكلَ الذباب والنمل حتى يكبر ويسودَّ لونه، فترجع أمه فتراه أسود، فتضمه إلى نفسها وتتعهده، فهذا طير يصل إليه رزقه من غير سعي منه.
هذا هو المراد في الحديث.
* * *
4093 -
عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أيُّها النَّاسُ! ليسَ مِنْ شيءٍ يُقرِّبُكُمْ إلى الجَنَّةِ ويُباعِدُكُمْ مِنَ النارِ إلَاّ قدْ أَمَرْتُكُمْ بهِ، وليسَ شيءٌ يُقرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ ويُباعِدُكُم مِنَ الجنَّةِ إلَاّ قدْ نَهيتُكُمْ عنهُ، وإنَّ الرُّوحَ الأَمينَ - ويُروى: وإنَّ رُوحَ القُدُسِ - نَفَثَ في رُوْعِي: أنَّ نَفْسًا لنْ تموتَ حتَّى تَستكمِلَ رِزْقَها، ألا فاتَّقُوا الله وأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّكُمُ استِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطلُبوهُ بمَعاصِي الله، فإنَّهُ لا يُدرَكُ ما عِندَ الله إلَاّ بطاعتِهِ".
قوله: "نفث في رُوعي"؛ أي: نفخ في قلبي؛ أي: أوقع في قلبي
"وأَجْمِلوا في الطلب"؛ أي: أحسنوا في طلب الرزق؛ أي: اطلبوه من الحلال.
"ولا يحملنكم استبطاء الرزق"، (الاستبطاء): المكث والتأخير؛ يعني: لا تطلبوا الرزق من الحرام بأن يتأخَّر ويمكث إتيانُ رزقكم إليكم من الحلال، كما هو عادة جماعة من الناس، فإنهم يبيعون الخمر وآلات الملاهي، ويتعلمون اللعب والضرب بالملاهي، بسبب قلة ربحهم في الاكتساب من الحلال.
"ما عند الله"؛ أي: الجنة.
* * *
4094 -
عن أبي ذَرٍّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الزَّهادَةُ في الدُّنْيا ليستْ بتَحْريمِ الحَلالِ، ولا إِضَاعَةِ المالِ، ولكنِ الزَّهادَةُ في الدُّنْيا أنْ لا تكونَ بما في يَديْكَ أوْثَقَ مِمَّا في يَدَي الله، وأنْ تكونَ في ثَوابِ المُصيبَةِ إذا أَنْتَ أُصِبْتَ بها أرْغَبَ فيها لوْ أنَّها أُبقِيَتْ لكَ"، غريب.
قوله: "الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال"، (الزهادة في الدنيا)؛ يعني: عدم الرغبة في الدنيا ليس بأن تحرِّم حلالاً على نفسك، مثل أن لا تأكل اللحم، ولا تلبس ثوبًا جديدًا، بل هذا ليس بزهد، فإن الله تعالى قال:
{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172].
"ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يدي الله"؛ يعني: ليكن اعتمادك بوعد الله من إيصال الرزق إليك أقوى وأشد مما في يديك من المال؛ فإن ما في يدك من المال يمكن تَلَفُه، وما وعد الله به لا يمكن خُلْفُه، بل يصل إليك البتة.
"لو أنها أُبقيت لك"؛ أي: لو أن تلك المصيبة منعت وأخرت عنك، هذا الكلام يحتمل شيئين:
أحدهما: أن يكون معناه: ينبغي أن تكون في وصول المصيبة أرغب من عدم وصولها إليك، ومن عدم تقدير وصول تلك المصيبة؛ لتجد ثواب المصيبة.
والثاني: أن يكون معناه: ينبغي أن تكون في وصول تعجيل مصيبةٍ مقدَّرة أرغبَ من تأخيرها مع أنها مقدَّرة أن تصل إليك في وقت آخر؛ لأن الزاهد في تعجيل نيل الثواب أرغب من تأخيره.
* * *
4095 -
عن ابن عبَّاسٍ قال: "كُنْتُ خَلْفَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فقال: يا غلامُ! احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تُجاهَكَ، إذا سَأَلْتَ فاسأَلِ الله، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ بالله، واعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتَمَعَتْ على أنْ يَنفَعُوكَ بشيءٍ لمْ يَنفعوكَ إلا بشَيْءٍ قدْ كتبَهُ الله لك، ولو اجتمَعُوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ لمْ يَضرُّوكَ إلا بشَيْءٍ قدْ كتبَهُ الله عليكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ، وجَفَّتْ الصُّحُفُ".
قوله: "تجده تجاهك"؛ أي: تلقاءَك؛ يعني: فإذا حفظت الله يحفظْكَ