الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: في تسمية العذبة للاشتقاق وجهان:
أحدهما: مِنْ (عَذُبَ الماءُ): إذا طابَ وساغَ في الحلق، وكذا بهذه العَذَبَة يطيبُ سيرُ الفرسِ ويستريحُ راكبه ويَعْذُبُ له.
والثاني: أن يكون من (العَذَاب)؛ إذ به يُجلد الفَرَسُ ويُعَذَّبُ، وكذا عَذَبَةُ العمامة متعرضة للتلطُّخ والتشبث بمواضع تتمزق منها العمامة، فهي عَذَابُ اللابس.
* * *
4 - باب العلاماتِ بين يَدَي السَّاعةِ، وذِكْرُ الدَّجَّالِ
(باب العلامات التي بين يدي الساعة، وذكر الدجال)
"بينَ يَدي السَّاعة"؛ أي: قُدَّامها، فأصله: وضعتُ الشيءَ بين يدي فلان: أن يُستعمل في المكان الذي يُقابل صدره، ويكونُ بين يديه، ثم نُقِلَ إلى الزمان، فقيل: ما بين أيدينا وما خلفنا، والمراد به: الزمان الماضي والمستقبل، على اختلاف بين أرباب المعاني، وكل ما كان قبلَ قيامِ السَّاعةِ يكونُ بين يديه.
و (الدَّجَّالُ): مأخوذ من الدَّجَلِ، وهو اللَّبْسُ والتَّمويه، يقال:(دَجَلَ): إذا مَوَّهَ ولَبَّسَ، حكاه ابن الأنباري.
وقيل: سُمِّيَ دَجَّالًا؛ لأنه يضرِبُ في الأرض؛ أي: يسيرُ فيها ويقطعُ أكثرَ نواحيها، يقال:(دَجَلَ الرَّجُلُ): إذا سَاحَ في الأرض، حكاه ثعلب.
وقيل: (الدَّجَلُ): السَّحْرُ، وسمي الدَّجَّال دَجَّالًا؛ لأنه ساحر، يقال: دَجَّلَ فلانٌ الحقَّ بباطله): إذا غطَّاه، ومن ذلك أُخِذَ (الدَّجَّال)، ودَجَلَهُ: سَحَرَهُ
وكَذَّبَهُ، وكل كَذَّابٍ دُجَّال.
* * *
مِنَ الصِّحَاحِ:
4219 -
وقال: "بادِرُوا بالأَعْمالِ سِتًّا: الدُخانَ، والدَّجَّالَ، ودابَّةَ الأَرْضِ، وطُلوعَ الشَّمسِ منْ مَغرِبهَا، وأَمْرَ العامَّةِ، وخُوَيْصَّةَ أحَدِكُم".
قوله: "بادروا بالأعمال ستًا"؛ أي: ستَّ آياتٍ، فحذف المضاف إليه؛ لأنه يفسرها ما بعدها، والشيء إذا أُبهم ثم فُسَّر كان أفخَمَ عند السامع؛ أي: أسرعوا إلى الأعمال الصالحة قبل ظُهورِ الآيات الستِّ المذكورة؛ لأن ظهورَها يُوجِبُ عدمَ توبة التائبين؛ أي: عَدم قَبولها؛ لكونها ملجئةٌ إلى الإيمان، فَّلا يثاب المكلفُ عند الإلجاء على عمله، فإذا انقطع الثواب انقطع التكليف.
قوله: "وأمرَ العَامَّةِ وخُوَيصَةَ أحَدِكُمْ"، (وأمر العَامَّة): القيامة؛ لأنه يعمُّ الخلائق.
(الخُوَيصَة): تصغيرُ الخَاصَّة، وهي الموت الذي يخصُّ كلَّ واحدٍ، وإنما صغَّره تصغيرَ تحقيرٍ؛ لأن الموتَ بالإضافةِ إلى الدَّواهي الأُخر من البعثِ والحساب وغير ذلك من شدائد الآخرة العظام صغيرٌ وحقير.
* * *
4220 -
عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ أَوَّلَ الآياتِ خُرُوجًا طُلوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبها، وخُروجُ الدَّابَّةِ علَى النَّاسِ
ضُحًى، وأيتهُما ما كانتْ قبلَ صاحِبَتِها فالأُخرَى علَى أَثَرِها قَرِيبًا".
قوله: "إن أولَ الآياتِ خُروجًا طلوعُ الشمسِ من مَغرِبها"، (خروجًا): نُصب على التمييز؛ يعني: (أول الآياتِ) مبهم، وكلُّ اسم كان مبهمًا يكون مفسرُهُ منصوبًا على التمييز، إذ (أول): أفعل التفضيل، فنصب التمييز لإبهامه، فإنَّ الإبهام يستدعي تفسيرًا، أو المستدعي هو العامل عند النحويين.
* * *
4221 -
عن أبي هُريرَةَ قالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ إذا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}: طُلوعُ الشَّمْسِ من مَغرِبها، والدَّجَّالُ ودابَّةُ الأَرْضِ".
قوله: "ثلاثٌ"؛ أي: ثلاثُ آيات، فحذف المضاف إليه.
* * *
4222 -
وقال: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ منْ مغرِبها، فإذا طَلَعَتْ ورآها النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، وذلكَ حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} "، ثمّ قرأَ الآيةَ.
قوله: "إذا طلعت الشمس" من مغربها، "ورآها الناسُ آمنوا أجمعون، وذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} "، (أجمعون): تأكيدٌ للضمير في (آمنوا).
وإنما لا يُقبل الإيمانُ بعد طلوع الشمس من المغرب؛ لأنه انقضى زمنُ التكليف بالإيمان، إذ طلوع الشمس من المغرب من أحكام السَّاعة، فحينئذ كأنه ظهرت الساعة، وظهورُ السَّاعة علامةُ انقضاءِ التَّكليفِ.
* * *
4223 -
وعن أبي ذَرًّ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حِينَ غرَبَت الشَّمْسُ: "أَتَدْرِي أينَ تَذْهَبُ هذه؟ " قلتُ: الله ورسولُهُ أعلَمُ، قال:"فإنَّهَا تَذْهَبُ حتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرشِ، فتستأْذِنُ فيُؤذَنُ لها، ويُوشِكُ أنْ تَسْجُدَ فلا يُقبَلُ مِنها، وتَسْتَأْذِنَ فلا يُؤذنَ لها، ويقالُ لها: ارجِعي منْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ منْ مَغرِبها، فذلكَ قولُهُ تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}. قال: مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ".
قوله: "يقال لها: ارجعي من حيثُ جِئْتِ، فتطلُعُ من مَغرِبها، فذلك قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: مستقرُّها تحتَ العَرشِ": قال محيي السنة في "شرح السنة": قال الخطابي في قوله: {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]: إنَّ أصحابَ التفسير من أهل المعاني قالوا فيه قولين:
قال بعضهم: معناه: ثمَّ الشمسُ تجري لمستقرٍ لها؛ أي: لأَجَلٍ قُدِّرَ لها؛ أي: إلى انقطاع مدَّة بقاءِ العالَم.
وقال بعضهم: (مستقرُّها): غايةُ ما تنتهي إليه في صعودِها وارتفاعِها لأطول يوم في السنة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "مستقرُّها تحتَ العرشِ"، فلا ننكرُ أن يكونَ لها استقرارٌ تحتَ العرشِ من حيثُ لا ندرِكُهُ ولا نشاهدُهُ، وإنما أَخْبَرَ عن غيبٍ، ولا نكذِّبُ به ولا نكيفُهُ؛ لأن علمَنَا لا يحيطُ بِهِ.
ويحتمل أن يكون المعنى: إنَّ عِلْمَ ما سَأَلْتَ عنه مِنْ مُستقرَّهَا تحت العرش في كتابٍ كُتب فيه مبادئُ أمورِ العالَم ونهاياتها، والوقتُ الذي تنتهي إليه مُدَّتُها، فينقطعُ دورانُ الشمسِ ويستقرُّ عند ذلك، فيبطلُ فعلها، وهو اللوح المحفوظ.
وقال أبو سليمان: وفي هذا - يعني: وفي هذا الحديث الأول - إخبارٌ عن
سجود الشمس تحت العرش، فلا يُنكر أن يكون ذلك عند محاذَاتِها العرشَ في مَسيرِها، وليس في سجودِها تحتَ العرش ما يعوقُها عن الدَّأْبِ في مَسِيْرِها، والتصرُّف لما سُخرت له.
* * *
4224 -
وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما بينَ خَلْقِ آدَم إلى قِيامِ السَّاعةِ أمْرٌ أَكْبَرُ منَ الدَّجَّالِ".
قوله: "ما بينَ خلقِ آدمَ إلى قيامِ السَّاعةِ أمرٌ أكبرُ من الدجال"؛ أي: لعظيم فتنتِهِ، وفظيعِ بليَّتِهِ، وليسَتْ بليَّتُه وفتنته وخوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته منه مِن قِبَلِ شُبهةٍ تلحَقُ المؤمنين الموقنين العارفين بالله تعالى وصفاتِه، فإذ المؤمنين عَرفوا الله تعالى معرفةً لا تتخالجهم فيها الظنون، ولا تعترضهم الشبهة؛ لأنه تعالى لا يَشبه شيئًا، ولا يُشبه شيءٌ، وأنه ليس كمثله شيء، وإن أوصَافَ الحَدث عنه منفيةٌ سبحانه وتعالى وتنزَّه عن ذلك.
وإنما أنذَرَ أمته أنه يكونَ خروجُهُ في شِدَّةٍ من الزمان، وعُسْرٍ من الحَال، وأن الناس يصيبُهُم شدةٌ، وأنه يستولي على أموالِهم ومواشِيهم، فيجوزُ أن يتَّبعَهُ أقوامٌ بأبدانِهِم وبألسنتِهم، وإن عَرفوا بقلوبهم كذبَهُ، وأن الله تعالى ليسَ كمثله شيء، ويكونُ تصديقُهم إيَّاه وإتباعهم تقيةً على حسبان تأويل قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
ويحسبون أن في تصديقه رُخْصَةً، كما جاز في غيره، فَمَنْ تبعَهُ، صَرَفَ الله قلبَهُ، ولم يقبَلْ منه إيمانَ قلبه بالله، ولم يعذرْهُ في نفسِهِ، فإنه لم يأتِ في شيء من الأخبار رخصةٌ في اتباعه تقية، فأنذر النبي صلى الله عليه وسلم قومَه، وخافَ عليهم فتْنَتَهُ لذلك، وقد قال الله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
وقال في قصة ثعلبة: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله: {يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77]، أخبرَ أنهم لمَّا فعلوا ما نُهوا عنه صرفَ الله قلوبهم عن الإيمان، فكذلك مَن اتَّبع الدَّجَّال؛ تقيةً رغبةً فيما عنده ورهبةً منه، صرفَ الله قلوبهم عن الإيمان به، فيكفرون.
ويجوز أن يكونَ شأنُ الدجال وأتباعه من المناهي التي شدَّد الله فيها، ولم يُجعل فيها رُخصة، وأنَّ مَنِ اتَّبعَهُ لم ينفعْهُ إيمانُهُ، كما جُعِلَ طلوعُ الشَّمسِ من مغربها فِتْنَةً لا يُقبل بعدَها إيمانُ مَنْ لم يكن آمنَ من قبل، وإن كان ذلك في القوة والصحة وإمكان الفعل.
أورد الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم الكلاباذي البخاري رحمه الله في "معاني مشكلات أخبار النبي صلى الله عليه وسلم" قوله: "إنه أعور، وإن الله ليس بأعور" ولو لَمْ يكن أعور، وكان صحيحَ العينين لم يكن يوجِبُ شبهةً، وإنما أرادَ صلى الله عليه وسلم أنه إنسانٌ وليس بحيوان ولا شيطان، وليس له فضلُ قُوَّةٍ، ولا زيادةُ حَال يُخَافُ منه أكثر مما يُخَافُ مِنْ مُتَسلِّطٍ ظالمٍ عاتٍ جبَّارٍ من الناس، وأنه إنسان شَبَّهَ بنيتَهُ ببنيَتَهُم، يؤذِيْهِ ما يُؤْذِيْهِمْ، ويَحْتَاجُ إلى ما يحتاجُ إليه الناس، وإنه مؤوفٌ بآفةِ العَور، لا يقدرُ على إزالَتِها عن نفسه، إن سلطَ الله تعالى عليه بعوضةً صرفتْهُ عن جميع ما يدَّعيه، وإن حرَّك عنه عِرقًا سَاكنًا، أو سكَّنَ منه متحرِّكًا زالَتْ عنه قوتُه، وأقلَقَهُ حَالُهُ.
فهذا من النبي صلى الله عليه وسلم تشجيعٌ لمن ابتلي بأيامه، وأدركه سلطانه؛ كي لا يكونَ خوفُهُ منه أكبرَ من خوفه من أحد من الناس عليه سلطانه، كذا قال الشيخ الكلاباذي البخاري رحمه الله في "جمعه" أيضًا.
وحاصل تفسير الكلاباذي: أن الدجالَ إنسانٌ مثلكم، بل أضعف منكم؛ لأنه أعور، والعورُ نقصانٌ وعيب، فيلزم منه أن لا يكون إلهًا لوجهين:
أحدهما: أن الإله تجبُ سلامةُ ذاته من الآفات والعيوب.
والثاني: أنه لو كان إلهًا لأزال عيبَ نفسه، ولم يرضَ بنفسه النقصانَ، ثم عورُهُ إن كان من قبل نفسه، فالإلهُ لا يُنقِصُ أوصافه، وإن كان من قبل غيره، كما هو حق، فهو المخلوقُ الناقصُ، فيلزم أن يكون كبقية المخلوقين الجائرين الظالمين.
فإن قيل: ما الحكمةُ في أنه خُلِق أعور؟
قيل: لأنه لو كان مَؤوفًا بآفة أخرى غير العور لم يظهرْ كظهور العور، أو لأنه يكون أمارةً ظاهرةً تدلُّ على كذبه وسحره.
فإن قيل: لو كان أعمى؛ لكان أظهر من العور، فلمَ لم يُخلَق أعمى؟
قيل: لأنه قدَّر الله سبحانه إضلالَ قومٍ به، ولو كان أعمى، لم يكن منه إغواءٌ وإضلال.
* * *
4226 -
وقالَ: "إنَّ الله لا يَخْفَى عَلَيكُمْ، إنَّ الله ليسَ بأَعْوَرَ، وإنَّ المَسيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ اليُمْنَى، كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طافِيةٌ".
قوله: "وإنَّ المسيحَ الدجَّالَ أعورُ عينِ اليمنى، كأنَّ عينه عنبةٌ طافية": قال الفراء: قال بعض الناس: الدجالُ مِسِّيح - بكسر الميم وتشديد السين - على وزن (فِعِّيل)؛ ليكون فرقًا بين المسيح عيسى - صلوات الله عليه - وبين الدجال.
قال في "شرح السنة": بعض الناس يقولون للدجَّال: مِسِّيح - بكسر الميم وتشديد السين - على وزن (فِعِّيل)، وليس بشيء، بل هما في اللفظ واحد.
وقيل: سمي الدجال (مَسِيحًا) بفتح الميم وتخفيف السين؛ لأنه ممسوحٌ
عن جميع الخير والبركة.
وقيل: لأنه يتردَّدُ في جميع الصحارى والبلاد إلا مكة والمدينة، فإنه يحرمُ من دخولها.
وقيل: سُمِّي بالمسيح؛ لأن إحدى عينيه ممسوحةٌ.
قال في "شرح السنة": (الطافية من العنب): الحبة الخارجة من أخواتها، ومنه: الطافي من السمك؛ لأنه يعلو ويظهر على رأس الماء، يريد: أن حدقته قائمة كذلك.
* * *
4228 -
وعن أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُحدِّثُكُم حديثًا عنِ الدَّجَّالِ ما حَدَّثَ بهِ نبيٌّ قَوْمَهُ؟ إِنَّه أَعْوَرُ، وإنَّهُ يَجيءُ مَعَهُ بمِثْلِ الجَنَّةِ والنَّارِ، فالتي يقولُ: إنَّها الجَنَّةُ هيَ النَّارُ، وإنَّي أُنذِرُكُمْ كما أَنْذَرَ بهِ نُوْحٌ قَوْمَهُ".
قوله: "فالتي يقول: إنها الجنة هي النار": وإنما قال: (هي النار)؛ لأن من اتبعه تصديقًا له يدخل في جنته، ومن دخل في جنته، استحقَّ النارَ الأبدية؛ لكفره، نعوذ بلطفه من عقابه، فلهذا سَمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم جنته نارًا؛ إطلاقًا لاسم السبب على المسبب.
* * *
4229 -
عن حُذَيْفةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وإنَّ معَهُ ماءً ونارًا، فأمَّا الذي يَراه النَّاسُ ماءً فنارٌ تُحْرِقُ، وأمَّا الذي يَراه النَّاسُ نارًا فماءٌ بارِدٌ عَذْبٌ، فمنْ أدركَ ذلكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ في الذي يراهُ نارًا، فإنَّهُ ماءٌ عَذْبٌ طَيبٌ، وإنَّ الدَّجَّالَ مَمْسوحُ العَيْنِ، عليها ظَفَرَةٌ غَليظَةٌ، مَكْتوبٌ بينَ عَيْنيهِ: كافِر، يَقْرَؤُهُ كلُّ مُؤْمِنٍ كاتِبٍ وغيرِ كاتِب".
قوله: "فأما الذي يراه الناس ماءً فنارٌ تُحرِقُ، وأما الذي يراه الناس نارًا فماءٌ باردٌ عذبٌ"؛ يعني: إذا غضب على من يكذبه ورماه في ناره، جعل الله تعالى ناره ماءً باردًا، كالنار النمرودية التي جعلها لخليله عليه الصلاة والسلام بردًا وسلامًا، وإذا رضي عمن صدقه، وأعطاه من مائه، جُعِلَ له ماؤه العذب البارد النارَ المحرقةَ المخلدة الدائمة.
واعلم أن ما يظهر من فتنته لا يكون له حقيقة، بل تخييلٌ منه وشَعْبذَةٌ، كما يفعله السحرة والمُعشبذُون.
ومعنى الشعبذة: تخيُّلُ الخيالات الباطلة، ويتوهَّمُ لأشياء حقائقَ، كما يفعل المشعبذُ بأخذِ ثوب أحد، وتمزيقه تخييلاً، ثم ينفضُهُ صحيحًا، فهو أحد الحيل.
فالحاصل: أن من ابتُلِي بزمانه ينبغي أن يكون صابرًا على بلائه، متمسكًا بدينه، مستعينًا بربه، معتقدًا بأنه لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع في العالم إلا الله سبحانه وتعالى.
قوله: "ممسوح العين"؛ أي: له عينٌ واحدة، وموضعُ عينٍ أخرى ممسوحٌ مثل جبهته، ليس له أثر العين، وعلى تلك العين ظفرة.
و"الظَّفرة": جلدةٌ تغشي العين ناتئةٌ من الجانب الذي يلي الأنف على بياض العين إلى سوادها، قاله في "منتخب الصحاح".
قال الأصمعي: (الظَّفرة): لحمة تنبت عند المآقي، وأنشد:
بعينِها منَ البكاءِ ظَفَرَةْ
حلَّ ابنها في السِّجنِ وَسْطَ الكَفَرَةْ
قاله في "الغريبين".
* * *
4230 -
وعن حُذَيْفة قالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الدَّجَّالُ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ، معَهُ جَنَّتُهُ ونارُهُ، فنارُهُ جنَّةٌ، وجَنَّتُهُ نارٌ".
قوله: "أعور العين اليسرى
…
" إلى آخره. قال في هذا الحديث: إنه أعور العين اليسرى، وفي الحديث المتقدم: "أعور العين اليمنى".
فإن قيل: كيف التوفيق بين الحديثين؟
قيل: اختلافُ اليسرى واليمنى في الرواية، لا تناقضٌ في قوله عليه الصلاة والسلام، بل يكون بالنسبة إلى أشخاص متفرقة، فقوم يرونه أعور اليسرى، وقوم يرونه أعور اليمنى؛ ليدل على تخييل أمره وبطلانه؛ لأنه إذا كان لا ترى خلقتُهُ كما هي دلَّ على أنه ساحرٌ كذَّابٌ.
وأيضًا يجوز أن يفعلَ ذلك بنفسه شعبذةً وإيهامًا للقدرة أو بتقديرٍ إلهي إذا أراد إضلال قوم، كما سيَّر معه جبالًا وجنانًا ونيرانًا، فجميعُ أحواله على الانقلاب، فكذا خلقته.
وقيل: كلُّ واحدة في زمان، فاختصَّ أحد الحديثين بزمان.
وقيل: يحتمل أن المراد به: نفيُ اليمنى واليسرى عنه، وإثباتُ ضدَّهما فيه.
قوله: "جُفال الشعر"، (الجفال) بالضم: كثير الشعر.
* * *
4231 -
عن النَّوَّاسِ بن سَمْعانَ قال: ذَكَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ فقال: "إنْ يَخْرُجْ وأنا فيكُم فأَنا حَجِيْجُهُ دُونَكُمْ، وإنْ يَخْرُجْ ولَسْتُ فيكُم فامرُؤٌ حَجِيْجُ نَفْسِهِ، والله خليفَتي على كُلِّ مُسْلِمٍ، إنَّهُ شابٌّ قَطَطٌ عينُهُ طافِئةٌ، كأنَّي أُشَبهُهُ بِعَبْدِ العُزَّى بن قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ منكُمْ فلْيَقْرأْ علَيهِ فواتِحَ سُورةِ الكَهْفِ".
وفي رِوايةٍ: "فلْيَقْرَأْ علَيهِ بفواتِحِ سُورَةِ الكَهْفِ فإنَّها جَوازُكم منْ فِتْنَتِهِ إنَّهُ خارِجٌ مِنْ خَلَّةٍ بينَ الشَامِ والعِراقِ، فعاثَ يَمينًا وعاثَ شِمالاً، يا عِبادَ الله فاثبُتُوا". قُلنا: يا رسولَ الله! وما لَبْثُهُ في الأَرْضِ؟ قال: "أَرْبعونَ يَوْمًا، يومٌ كسَنةٍ، ويَوْمٌ كَشَهْرٍ، ويَوْمٌ كجُمُعَةٍ، وسائِرُ أيَّامِهِ كأيَّامِكُمْ"، قُلنا: يا رسولَ الله! فذلكَ اليَوْمُ الذي كسَنةٍ أيَكفِينا فيهِ صلاةُ يومٍ؟ قال: "لا، اقْدُروا لهُ قَدرَهُ". قُلنا: يا رسولَ الله! وما إسْراعُهُ في الأَرْضِ؟ قال: "كالغَيْثِ استَدْبَرتْهُ الرَّيحُ، فيأْتي على القَوْمِ فيَدعوهُمْ فيُؤمِنونَ بهِ، فيأْمُرُ السَّماءَ فتُمطِرُ، والأَرض فتُنبتُ، فتَروحُ عليهم سارحَتُهُمْ أطولَ ما كانتْ ذُرًى، وأسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وأَمَدَّهُ خَواصِرَ، ثم يأتي القَوْمَ فيَدعوهُم فيَردُّونَ عليهِ قولَهُ، فيَنصرِفُ عنهُمْ، فيُصبحونَ مُمْحِلينَ ليسَ بأَيْديهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوالِهِمْ، ويمرُّ بالخَرِبَةِ فيقولُ لها: أَخْرِجي كُنوزَكِ فتتبَعُهُ كنوزُها كيَعاسِيبِ النَّحْلِ، ثمَّ يَدعُو رَجُلاً مُمْتلِئًا شبابًا، فيَضْرِبُهُ بالسَّيْفِ فيقطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَميَةَ الغَرَضِ، ثمَّ يَدعُوه فيُقبلُ ويَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَما هوَ كذلكَ إذْ بَعَثَ الله المَسيحَ ابن مَرْيمَ، فيَنزِلُ عِندَ المنارَةِ البَيْضاءَ شرْقِيِّ دِمَشْقَ بينَ مَهْرودَتَيْنِ واضعًا كفَّيْهِ على أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إذا طَأْطَأَ رأسَهُ قَطَرَ، وإذا رفعَهُ تَحَدَّرَ منهُ مِثْلُ جُمانٍ كاللُّؤْلؤِ، فلا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إلا ماتَ، ونَفَسُهُ يَنْتَهي حَيْثُ يَنْتَهي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حتَّى يُدرِكَهُ ببابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُه، ثمَّ يأتي عيسَى قَوْمٌ قد عَصَمَهُمُ الله مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عنْ وُجوهِهِمْ ويُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجاتِهِمْ في الجَنَّةِ، فبينَما هوَ كذلكَ إذْ أَوْحَى الله إلى عيسى: إنَّي قد أَخْرَجتُ عِبادًا لي لا يَدانِ لأَحَدٍ بقتالِهمْ فَحَرِّزْ عِبادِي إلى الطُّورِ، ويَبْعَثُ الله يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيمُرُّ أوائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرةِ طَبَرِيَّةَ، فيشرَبونَ ما فيها، ويمُرُّ آخِرُهُمْ فيقولُ: لقدْ كانَ بهذِهِ مَرَّةً ماءٌ، ثمّ يَسيرونَ حتَّى يَنتهُوا إلى جَبَلِ الخَمْرِ، وهو جَبلُ بيتِ المَقْدِسِ، فيقولونَ: لقدْ قَتَلنا مَنْ في الأرضِ، هَلُمَّ فلْنَقْتُلْ مَنْ في السَّماءِ، فيَرمُونَ بنشَّابهِمْ إلى السَّماءِ، فيرُدُّ الله عليهِمْ
نُشَّابَهُم مَخْضُوبَةً دَمًا. ويُحْصَرُ نبَيُّ الله وأَصْحابُهُ حتَّى يكونَ رأسُ الثَّوْرِ لأَحدِهِم خَيرًا مِنْ مِئَةِ دِينارٍ لأحدِكُمُ اليَوْمَ، فيَرْغَبُ نبيُّ الله عِيسَى وأَصحابُهُ إلى الله، فيُرسِلُ الله عَلَيهِمُ النَّغَفَ في رِقابهِمْ، فيُصْبحونَ فَرْسَى كمَوْتِ نَفْسٍ واحِدَةٍ، ثمّ يَهبطُ نبيُّ الله عيسَى وأصحابُهُ إلى الأَرْضِ، فلا يَجدونَ في الأَرْضِ موضعَ شِبرٍ إلَّا مَلأَهُ زهَمُهُمْ ونَتْنُهُم، فَيَرْغَبُ نبيُّ الله عيسَى وأصحابُهُ إلى الله، فيُرسِلُ الله طيرًا كأعْنَاقِ البُخْتِ فَتَحمِلُهُمْ فتطرَحُهُمْ حَيْثُ شاءَ الله - ويُروى: فتطرَحُهُم بالمَهْبلِ، ويَسْتَوقِدُ المُسْلِمونَ مِنْ قِسِيهِمْ ونُشَّابهِمْ وجِعابهِمْ سَبْعَ سِنينَ - ثمَّ يُرْسِلُ الله مَطَرًا لا يَكُنُّ منهُ بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، فيَغْسِلُ الأَرْضَ حتَّى يترُكَها كالزُّلَفَةِ، ثم يُقالُ للأَرضِ: أنْبتي ثَمَرَتَكِ ورُدِّي بَرَكَتَكِ، فيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ العِصابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ ويَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِها، ويُبارَكُ في الرِّسْلِ حتَّى أنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبلِ لَتكْفي الفِئامَ مِنَ النَّاسِ، واللِّقْحَةَ مِنَ البَقَرِ لَتكْفي القَبيلةَ مِنَ النَّاسِ، واللِّقْحَةَ مِنَ الغَنَمِ لَتكْفي الفَخِذَ منَ النَّاسِ، فَبَيْنَما هم كذلكَ إذْ بعثَ الله رِيحًا طَيبةً فتأخُذُهُمْ تحتَ آباطِهمْ، فتَقبضُ رُوْحَ كلِّ مُؤْمِنٍ وكُلِّ مُسْلِمٍ، ويبقى شِرارُ النَّاسِ يَتهارَجونَ فيها تَهارُجَ الحُمُرِ، فَعليْهِمْ تقومُ السَّاعَةُ".
قوله: "فإن يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حجيجُهُ دونكم"، (الحجيج): فعيل من (الحجة) بمعنى فاعل، وهو من فعال المغالبة؛ يعني: أنا غالب عليه بالحجة؛ يعني: إن خرج الدجال وأنا فيكم فأكفيكم شرَّه، وأدفعه عنكم، وإلا فليدفعْ كلٌّ منكم شره عن نفسه بما عنده من الحجج القاطعة، والبراهين اللائحة، شرعتها وعقليتها، ويجوز أن يكون الفعيل بمعنى الفاعل كالوزير بمعنى المُؤازِر؛ أي: أنا حجاجه ويحاجني فلا يحتاج أحد من أمتي إلى المحاجَّةِ معه.
ويلزم منه: أن يغلبَ الملعونَ؛ لأنه هو النبي المعصوم، فمن حاجَّه من البطلة غلبه، كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم بخصمه، وكذا موسى صلوات الله عليه.
فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الدجَّال لا يخرج في زمانه، فما الحكمة في قوله:"إن يخرج وأنا فيكم"؟
قيل: يحتملُ أن يريد بقوله: "وأنا فيكم"؛ يعني: ديني قائم فيكم إلى يوم القيامة، وهو غالبٌ على دعوى كل مفترٍ ومبطلٍ وماحيها، خصوصًا على دعوى من هو أشدُّ إغواء وهو الدجال.
ويحتمل أن يريد به: تحقيق خروجه؛ يعني: لا تشكوا في خروجه، فإنه سيخرجُ لا محالةَ.
ويحتمل أن يريد به: عدم علمه بوقت خروجه، كما أنه لا يدري متى الساعةُ.
ويحتمل أن يريد به: الإخبارَ بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا يكون بعدَه نبيٌّ، فإن خروجَهُ بعد ختم النبوة.
ويحتمل أن يريد به: إعلام الناس بقرب خروجه، ومجيء الساعة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا والساعة كهاتين"، وأشار بالسبابة والوسطى.
ويحتمل أن يريد به: تنبيه أمته على ارتقابِ زمانه، والتعوُّذِ منه، وإن ظهر في أيِّ زمان ظهر، فليستعدَّ المؤمن على مصابرته، والتحمل من شدائده ومشاقه، ولا يغترَّ بزخرفته، بل يصرَّحُ بالحجة لا يبالي، وإذا عزم المؤمن على ذلك، أُثيبَ عليه.
قوله: "والله خَلِيفتي على كلِّ مسلم"؛ يعني: والله سبحانه وتعالى وليُّ كلَّ مسلم، وحافظه، فيعينكم عليه، ويدفعُ عنكم شرَّه.
هذا دليلٌ على أن المؤمن الموقن لا يزال منصورًا، وإن لم يكن معه نبي ولا إمام.
قوله: "شاب قَطَطٌ": يقال: جَعِدٌ قَطَطٌ؛ أي: شديد الجعودة؛ يعني: شعره كشعر الزنج.
قوله: "كأني أشبهه بعبد العُزَّى بن قَطَنٍ": (عبد العزَّى) - بضم العين - يهودي (1)، وتشبيهه صلى الله عليه وسلم بعبد العزى إشارةٌ إلى أنه كذَّاب؛ لأنه من اتَّسم بسمةِ الحدوث، واتصف بصفة النقائص والعيوب لا ينبغي له هذه الدعوى، وكيف حال من هو أضعفُ البشر خلقة، وأنقصهم بنية؛ لكونه مَؤوفًا بأقبحِ آفةٍ، وهو العور؟!
فالحاصل: أن في دعواه الكاذبة استحالةٌ عظيمة بحيث يستحيلُ البحث فيه ذهنًا؛ لأن العلمَ بكذبه الصراح بديهيٌّ، فإذن لا حاجةَ إلى البيان والبرهان، فسبحانه عن الشبيه والنظير.
قوله: "فمن أدركَهُ منكم فليقرأْ عليه فواتحَ سورةِ الكهف": (الفواتح): جمع فاتحة، وهي أولُ كلِّ شيء؛ يعني: من أدرك زمانه فليقرأ أوائلَ سورة الكهف، فإنه وقي وحفظ من فتنته.
ورُوِي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من داومَ على قراءةِ سورِة الكهفِ وُقِي فتنةَ الدجَّال، لو أدرك زمانه".
إن قيل: لم خُصِّصت فواتح الكهف من بين سائر القرآن؟
قيل: مثل هذا من التعبدات التي لا يُعقَل معناها، ويحتمل أن يقال: لأن فواتحها مشتملةٌ على قصة أصحاب الكهف، وعصمتهم من دقيانوس وجنده،
(1) ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح"(13/ 101): أنه وقع عند أحمد: قطن بن عبد العزى، وزاد: فقال: يا رسول الله! هل يضرني شبهه؟ قال: لا، أنت مؤمن، وهو كافر. وهذه الزيادة ضعيفة، والمحفوظ أنه عبد العزى بن قطن، وأنه هلك في الجاهلية.
فكذا كل من كان يقرأها يحفظ من شرَّ الدجال ومَكرِهِ.
وأيضًا إذا قرأ فواتح الكهف، فاطلع على فضائل أصحاب الكهف؛ لمَّا التجؤوا إلى الله تعالى، وفرُّوا بدينهم إليه من شرِّ دقيانوس، أكرمهم الله بتلك الكرامة، كذلك من ينكر المسيح الدجال يكرمه الله، ويثني عليه كما أثنى عليهم.
وفيه تنبيهٌ على أن المؤمن قد يُبتلى بالظَّلَمة، ويصبر على دينه مع ظلم الظالم، فلا يرى ابتلاءه بالمسيح الدجَّال بدعةً في نفسه دون بقية المؤمنين.
قوله: "إنه خارج من خَلَّةٍ بين الشام والعراق": (الخلة): السبيل بينهما؛ يعني: يخرج الدجال من طريق واقع بين الشام والعراق، فيفسد جانب يمينه وجانب يساره، بل جميع جوانب البلاد، إلا مكة والمدينة؛ فإنهما محفوظان من عند الله بالملائكة، والمعصومُ من عصمه الله تعالى.
لكن قوله صلى الله عليه وسلم: "فاثبتوا" تسليةٌ لقلوب من ابتلي بزمانه، وتنجيةٌ لمن امتثل بأمره، وثبت على دينه، ولو فعل به ما فعل من العقوبات الشديدة.
قوله: "وما لبثه في الأرض
…
" إلى قوله: "اقدروا له قدره"، قيل: يمكن إجراؤه على ظاهره، فإنه سبحانه على كلِّ شيء قدير، فكما نرى أن الدورة اليومية منقسمة على أربع وعشرين ساعة، ويزيد في أحدهما، وينقص من الآخر، فيمكن أن يطوَّلَ سبحانه فيزيد في يوم واحد أجزاء السنة، ويكون اليوم بقدر سنة.
وسؤال الصلوات وجوابه منه صلى الله عليه وسلم أنه ينبغي أن تُقدَّر بقدرِ أربعٍ وعشرين ساعة، فيمكن في كل مقدار من هذا خمس صلوات، والله أعلم.
وأما إذا حملناه على التأويل المعنوي، فإن استطالةَ الأيام المكروهة واستقصارَ الأيام المحبوبة مشهورٌ عند العرب في نظمهم ونثرهم.
فيكون معناه - والله أعلم -: أن فتنة الدجال وشدة بلائه على المؤمنين تكون في أول الأمر أشدُّ وأصعبُ، وكلما يمتدُّ الزمان، يضعفُ أمره، ويهونُ كيده؛ لأن الحقَّ يزيد كل وقت نورًا وعلاءً، والباطلَ يزيدُ امِّحاءً واضمحلالًا.
وأيضًا فإن الناسَ إذا اعتادوا (1) بالبلاء والمحنة، فإنه يهون عليهم إلى أن يضمحلَّ أمره وكيده بالكلية، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: يوم كسنةٍ، وشهرٍ، وجمعةٍ.
وأما سؤالهم عن صلوات تلك الأيام فمعناه - والله أعلم -: أنهم إذا وقعوا في ذلك البلاء العظيم، فيرخَّص لهم في ترك بعض الصلوات، كما يرخص المريض في ترك بعض الأركان، والمقاتل في بعضها، والمغشي عليه في ترك الجميع، ويلزمه القضاء، فهل تسقطُ عنهم في تلك الأحوال والأهوال؟
فأجاب صلى الله عليه وسلم بأنه لا يسقط عنهم التكليف؛ لبقاء العقلِ المنوطِ به.
قوله: "فيأمر السماءَ فتمطرُ، والأرضَ فتنبتُ، فتروحُ عليهم سارحتُهم أطولَ ما كانت ذُرى": (السارحة): الماشية التي تسرحُ بالغداة إلى مراعيها.
وقال شمر: (السارحة): الإبل والغنم، ذكره في "الغريبين".
(الذُّرى): جمع ذروة، وهي أعلى السنام.
و"أسبغَ": أتمَّ.
"الضُّروع": جمع الضرع، وهو الثدي.
و"أمدَّه"؛ أي: زاده (2).
"الخواصر": جمع خاصرة، وهي ما تحت الجنب.
(1) أي: تمرَّسوا.
(2)
فسَّر الشارح لفظة "أمدَّه" على أنها فعل، يقال: أمدَّ الدواة: إذا زاد في مائها. وهي في الحديث اسم تفضيل؛ أي: أكثر امتدادًا؛ لكثرة امتلائها من الشبع.
يعني: يأمر السحاب بأن تمطرَ فتمطرُ، ويأمر الأرض بأن تنبتَ فتنبتُ، فتعود إليهم ماشيتهم سِمانًا كثيرة الدَّر، أسمنَ ما كانت قبل المَحْلِ.
وقيل: إنما يريهم ذلك سحرًا وشعبذة، ولو كان ذلك على الحقيقة لَمَا بَعُدَ ذلك؛ أن يفعلَ الله سبحانه هذه الأفاعيلَ عند حركاتٍ يتحرَّك بها الدجَّال، كما أنه خلق الخُوارَ في العجل الذي صاغه السامري ابتلاء وامتحانًا لعباده، ولله سبحانه أن يمتحنَ عبادَهُ بما شاء.
"مُمْحِلين"؛ أي: مُجدِبين، (أمحل): إذا دخل في الجدب؛ أي: القحط.
"اليعاسيب": جمع يعسوب، وهو سيد النحل.
قوله: "فيقطعه جَزْلتين"؛ أي: قطعتين.
"رميةَ الغَرَضِ"؛ أي: الهدف، يريد أن بُعدُ ما بين القطعتين رمية الغرض؛ أي: يفصلُ بينهما.
تهلَّلَ السحابُ ببرقِهِ: إذا تلألأ، و"تهلَّل وجه الرجل": إذا حَسُنَ من الفرح.
قوله: "يضحك": حال من الضمير في فيقبل؛ أي: (فيقبل) ضاحكًا بشاشًا.
قوله: "مَهْرُودَتين"؛ أي: شِقَّتين، أو حُلَّتين ملونتين؛ أي: مصبوغتين بالهُرْدِ، وهو صبغ يشبه العُروقَ، والعُروق: نباتٌ أصفر يُصبَغ به، وهو يقال بالفارسية: لا زرد.
قال في "شرح السنة": ويروى هذا الحرف: (مهروذتين) بالدال والذال جميعًا؛ أي: مُمَصَّرَتين، والمُمَصَّرةُ من النبات: ما فيها صُفرةٌ.
ويروى في وصف عيسى عليه السلام: رجل مربوع إلى البياض والحمرة، يمشي بين مُمَصَّرتين.
"طأطأ رأسه": إذا خفضه، "تحدُّر": إذا نزل، "الجُمان": جمع جمانة، وهي حبَّةٌ تعمل من الفضة كالدُّرة، ذكره في "منتخب الصحاح".
يعني: إذا خفض عيسى صلى الله عليه وسلم رأسَهُ قطرَ من شعره قطراتٌ نورانية كاللآلئ، وإذا رفع رأسه نزلت تلك القطرات.
"بباب لُد"، و (اللُّد) بالضم: موضع.
اليدان: الطاقة.
"لا يَدَانِ"؛ أي: لا طاقةَ.
"الحَدْب": ما ارتفع من الأرض، النسلُ: الإسراع؛ أي: ينزلوا من كل مكان مرتفع بسرعة.
(النُّشَّاب) بضم النون وتشديد الشين: السهام، واحده نشابة، والناشب: صاحب السهم.
قوله: "فيرغبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله"؛ أي: يدعون الله سبحانه بإهلاكهم واستئصالهم، يقال:(رغب إليه): إذا دعاه، و (رغب فيه)؛ أي: مال إليه، و (رغب عنه)؛ أي: مال عنه.
"النَّغَف": الدود يكون في أنوف الإبل والغنم، واحده: نغفة.
قوله: "فَرْسَى" بفتح الفاء والسين وسكون الراء: معناه: قتلى، واحده: فَرِيس، مثل: قتيل وقتلى، وصريع وصرعى، من (فرس الذئب الشاة فرسًا): إذا قتلها قتلًا، وأصل ذلك من دقِّ العنق، ثم استعير لكلَّ قتل، ومنه: فريسة الأسد.
"البُخت": الإبل، مُعرَّب، (البخاتي) جمعه، ذكره في "منتخب الصحاح".
"النَّهْبَل"(1): موضع.
(1) كذا في النسخ الخطية، قال في "القاموس المحيط" مادة (نهبل): وفي "الترمذي" في حديث الدجَّال: فيطرحهم بالنهبل، وهو تصحيف، والصواب بالميم؛ أي: المهبل.
"الجَعاب": جمع جعبة، وهي غلاف النشاب.
قوله: "ثم يرسل الله مطرًا لا يَكُنُّ منه بيتُ مدرٍ ولا وبرٍ": يقال: كننت الشيء وأكننته؛ أي: سترته؛ يعني: ثم يرسل الله مطرًا مِدْرارًا بحيث لا يستُر أحدًا بيتُ مدر ولا وبر من ذلك المطر، (لا يكن
…
) إلى آخره صفة لقوله: "مطرًا".
وقال أبو عمرو: "الزَّلَف": المصانع، واحدتها: زَلَفَةٌ؛ بفتح الكل، ذكره في "الغريبين"، وقيل: الإجَّانةُ الخضراء.
قوله: "يَستظلُّون بقَحْفها": أصل القحف: العظم الذي فوق الدماغ، ثم استُعيرَ في الشجر.
قوله: "يُبارَك في الرَّسلِ حتى أن اللِّقحةَ من الإبل لتكفي الفِئامَ من الناس"، (يبارك): يفاعَل - بفتح العين - من (البركة)، وهي: الكثرة والاتساع.
و (الرِّسل) بكسر الراء: اللبن، و (اللِّقحة) بكسر اللام: الناقة التي نتجت حديثًا، والجمع:(لِقَح) و (لَقَح) بكسر اللام وفتحها وفتح القاف، و (ناقة لَقوح) بفتح اللام: إذا كانت غزيرة الدر، والجمع: لُقُح؛ بضم اللام والقاف.
(الفِئام): الجماعة التي فيها كثرة وسعة من الناس، لا واحدَ له من لفظه، وهو اسم جمعٍ، لا جمع تكسير، وهو كالنسوة بالنسبة إلى المرأة، والقوم بالنسبة إلى الرجل.
يعني: تُجعَل البركةُ والخير الكثير في اللبن في ذلك الزمان حتى أن ناقة واحدة ذات لبن، يكفي لبنها لجمع كثير من الناس، وكذلك بقرة واحدة يكفي لبنها لقبيلة عظيمة من الناس، ولبن شاة واحدة أيضًا يكفي لفخذ من الناس.
و"الفخذُ في العشائر" أقل من البطن، والبطنُ أقل من القبيلة، والقبيلة: بنو أبٍ واحد.
قوله: "بينما هم كذلك": (ما) في (بينما) عوضٌ عن المضاف إليه، و (إذ) في "إذ بعث" للمفاجأة، والعامل في (بينما)(بعث).
يعني: متنعمون في طيب العيش والسعة، ويميلون إليه كلَّ الميل، ويسكنون فيه، ويتمادون في غرة وغفلة عظيمة، فأرسل الله عليهم فجأة ريحًا طيبة بين ذلك الزمانِ الخَضلِ، تجري تحت آباطهم، فيموت جميع من في ذلك الزمان من أهل الطاعة، ويبقى شِرارُ الناس ورذائلهم.
"يتهارجون"؛ أي: يختلطون، يقال: هرج القوم يهرجون هرجًا، وهرج الفرس: إذا اشتد عدوه، (يتهارجون): حال من (شرار الناس)؛ يعني: يبقى شرارُ الناس متهارجين مختلطين اختلاطَ الحُمُرِ، "فعليهم تقوم الساعة".
* * *
4232 -
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤْمنينَ، فَتَلْقاهُ المَسالِحُ، مَسالِحُ الدَّجَّالِ، فيقولونَ لهُ: أينَ تَعْمِدُ؟ فيقولُ: أَعْمِدُ إلى هذا الذي خَرَجَ، قال فيقولونَ لهُ: أَوَ ما تُؤمِنُ بِرَبنا؟ فيقولُ: ما بِرَبنا خَفاءٌ، فيقولونَ: اقتُلُوه، فيقولُ بعضُهُم لبعضٍ: أليسَ قد نَهاكُمْ ربُّكُمْ أنْ تقتُلُوا أَحَدًا دُونَهُ، فينطلِقُونَ بهِ إلى الدَّجَّالِ، فإذا رآهُ المُؤْمِنُ قال: يا أيُّها النَّاسُ هذا الدَّجَّالُ الذي ذَكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ النَّاسَ بهِ فيُشَبَّحُ، فيقولُ: خُذوهُ وشُجُّوهُ، فيُوسَعُ ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضَرْبًا، قال فيقولُ: أما تُؤمِنُ بي؟ قالَ فيقولُ: أنتَ المَسِيحُ الدَّجَّالُ الكَذَّابُ، قالَ: فيُؤْمَرُ بهِ فيُؤْشَرُ بالمِئْشارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، قال: ثمَّ يَمْشي الدَّجَّالُ بينَ القِطْعَتَيْنِ، ثمَّ يقولُ لهُ: قُمْ، فيَستوِي قائِمًا، ثُمَّ يقولُ لهُ: أتُؤْمِنُ بي؟ فيقولُ: ما ازْدَدْتُ فيكَ إلا بَصيرَةً، قالَ: ثُمَّ يقُولُ: يا أيُّها النَّاسُ إنَّهُ لا يَفْعَلُ هذا بَعْدِي بأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، قال: فيأخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ فيُجعَلُ ما بينَ
رقَبَتِهِ إلى تَرْقُوَتِهِ نُحاسًا، فلا يَسْتطيعُ إليهِ سَبيلاً، قال: فَيَأْخُذُ بيدَيْهِ ورِجلَيْهِ فيَقْذِفُ بهِ، فيَحْسِبُ النَّاسُ أنَّما قذَفَهُ إلى النَّارِ، وإنَّمَا أُلقيَ في الجنَّةِ". فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هذا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهادَةً عندَ ربِّ العالمينَ".
قوله: "فيتوجَّهُ قِبَله رجلٌ من المؤمنين"، (القِبَل) بكسر القاف وفتح الباء: النحو والجانب؛ يعني: يقبل نحو الدجال وجانبه رجلٌ من المؤمنين.
"المَسالِح": جمع مَسْلَحة، وهم قوم ذوو سلاح.
"البصائر": جمع بصيرة، وهي بصر القلب، وهي في الحقيقة انشراحُ الصدور وهدايته، واستقرارُ الهدى فيه.
قال الكَلاباذي في "معاني الأخبار": هذا الحديث دليلٌ على أن الدجَّال لا يقدر على ما يريده، وإنما يفعلُ الله تعالى عند حركتِهِ في نفسه ومحل قدرتِهِ ما شاء الله أن يفعله؛ اختبارًا للخلق، وابتلاء لهم؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويَحيى من حيَّ عن بينة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، فيرى من أرادَ الله إضلالَهُ أنه أمطرت السماء وأنبتت الأرض بأمره، فيصدقه، والمؤمن الموقن الذي أراد الله تعالى هدايته، يثبته على إيمانه، فيكذبه، ويستخفُّ بفعله، ويعلم أن السماء أمطرت وأن الأرض أنبتت بإذن الله تعالى، وأن الدجال أهونُ على الله تعالى من أن يقدِرَ على ذلك، فإن سُلَّطَ عليه حتى قتله، أحياه الله تعالى، فيكذبه ويقول: ما كنت فيك أشدَّ بصيرة من اليوم، فيتشجَّعُ المؤمن، ويهلك الكافر الضال الذي أراد الله تعالى أن يضله، فيصدقه بقوله: إنه قتله وأحياه، ثم يريد أن يقتله، فلا يتسلَّطُ عليه، فإن ما كان يفعله على التخييل مثل السحر الذي قال الله تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66].
* * *
4234 -
عن أنس، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"يَتْبعُ الدَّجَّالَ منْ يَهودِ أَصْبَهانَ سَبْعونَ ألفًا عليهِمُ الطَّيَالِسَةُ".
قوله: "يتبع الدجال من اليهود أصفهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة
…
" إلى آخره.
(الطيالسة): جمع الطيلسان.
* * *
4235 -
وقالَ: "يأتي الدَّجَّالُ، وهوَ مُحَرَّمٌ عليهِ أنْ يَدخُلَ نِقابَ المَدينةِ، فينزِلُ بَعْضَ السِّباخِ التي تَلي المَدينَةَ، فيخرُجُ إليهِ رَجُلٌ، وهو خَيْرُ النَّاسِ، أو منْ خِيارِ النَّاسِ، فيقولُ: أَشْهدُ أنَّكَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَديثَهُ، فيقولُ الدَّجَّالُ: أرأَيْتُمْ إنْ قَتلتُ هذا ثمَّ أَحْيَيْتُهُ هلْ تَشُكُّونَ في الأَمْرِ؟ فيقولونَ: لا، فيقتُلُهُ ثمَّ يُحْييهِ، فيقولُ: والله ما كُنْتُ فيكَ أَشَدَّ بَصيرةً منِّي اليَوْمَ، فيُريدُ الدَّجَّالُ أنْ يقتُلَهُ فلا يُسلَّطُ عليهِ".
"النِّقاب": جمع نقب، وهو الطريق بين الجبلين، ذكره في "الغريبين".
* * *
4236 -
عن أبي هريرةَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي المَسيحُ منْ قِبَلِ المَشْرِقِ هِمَّتُهُ المَدينةُ، حتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثمَّ تَصْرِفُ الملائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وهُنالِكَ يَهلِكُ".
قوله: "حتى ينزل دبر أحد
…
" إلى آخره.
الدُّبُرُ والدُّبْرُ: الظَّهرُ، قاله في "منتخب الصحاح".
يعني: ينزل الدجالُ خلفَ جبل أحد، ثم تصرفُ الملائكةُ وجهه نحوَ الشام.
* * *
4237 -
وعن أبي بَكرَةَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لا يَدخُلُ المَدينَةَ رُعْبَ المَسيحِ الدَّجَّالِ، لها يَوْمَئِذٍ سَبعةُ أبوابٍ عَلَى كلِّ بابٍ مَلَكانِ".
قوله: "رعبَ المسيح"؛ أي: خوفه.
* * *
4238 -
عن فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ قالت: سَمِعْتُ مُنادِيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُنادِي: الصَّلاةَ جامِعَةً، فخَرَجْتُ إلى المَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ جَلَسَ عَلَى المِنبرِ وهوَ يَضْحَكُ فقال:"لِيَلزَم كلُّ إنْسانٍ مُصَلاهُ"، ثُمَّ قال:"هلْ تَدرونَ لِمَ جَمعتُكُمْ؟ " قالوا: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال: "إِنَّي والله ما جَمَعْتُكُم لرَغْبةٍ ولا لرَهْبَةٍ، ولكنْ جَمَعتُكُمْ لأَنَّ تَميمًا الدَّارِيَّ كانَ رَجُلاً نَصْرانِيًّا، فجاءَ وأَسْلَمَ، وحَدَّثَني حَديثًا وافَقَ الذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُم بهِ عنِ المَسيحِ الدَّجَّالِ، حدَّثَني أنَّهُ ركِبَ في سَفينةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثلاثينَ رَجُلًا منْ لَخْمٍ وجُذامَ، فلَعِبَ بهم المَوْجُ شَهْرًا في البَحْرِ، فَأَرْفَؤُوا إلى جَزيرةٍ حينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فجَلَسُوا في أَقْرُبِ السَّفينةِ فدخَلُوا الجزيرةَ، فلقِيَتهُمْ دابَّةٌ أَهْلَبُ كثيرُ الشَّعَرِ، لا يَدْرونَ ما قُبُلُهُ منْ دُبُرِهِ منْ كثرةِ الشَّعَرِ، قالوا: ويلَكِ ما أنتِ؟ قالت: أنا الجَسَّاسَةُ، انطلِقُوا إلى هذا الرَّجُلِ في الدَّيْرِ فإنَّهُ إلى خَبَرِكُمْ بالأشْواقِ، قال: لمَّا سَمَّتْ لنا رجلًا فَرِقْنا منها أنْ تكونَ شَيطانةً، قال: فانطلَقْنا سِراعًا حتَّى دخَلْنا الدَّيْرَ، فإذا فيهِ أَعْظَمُ إِنْسانٍ ما رأيناهُ قطُّ خَلْقًا، وأشدُّهُ وِثاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَداهُ إلى عُنُقِهِ ما بينَ رُكبَتِهِ إلى كَعْبهِ بالحَديدِ، قُلنا: وَيْلَكَ ما أنتَ؟ قال: قدْ قَدَرْتُمْ علَى خَبرِي فأخبروني ما أنتُمْ؟ قالوا: نَحْنُ أُناسٌ مِنَ العَرَبِ ركِبنا في سَفينَةٍ بَحْريَّةٍ فلَعِبَ بنا البَحرُ شَهْرًا فدَخَلْنا الجزيرةَ، فلَقِيَتْنا دابَّةٌ أهْلَبُ فقالت: أنا الجَسَّاسَةُ، اعْمِدُوا إلى هذا الرَّجلِ في الدَّيْرِ، فأقبَلْنا إليكَ سِرَاعًا، فقال: أَخْبروني عنْ نَخْلِ بَيْسانَ هلْ تُثمِرُ؟ قُلْنا: نَعَم، ثُمَّ قال: أَما إنَّها يُوشِكُ أنْ
لا تُثْمِرَ، قال: أَخْبروني عنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ هلْ فيها ماءٌ؟ قلنا: هيَ كثيرةُ الماءِ، قال: أَما إنَّ ماءَها يُوشِكُ أنْ يذهَبَ، قال: أَخْبروني عنْ عَيْنِ زُغَرَ هلْ في العينِ ماءٌ؟ وهلْ يَزْرَعُ أهلُها بماءِ العَيْنِ؟ قلنا: نعمْ، هيَ كثيرةُ الماءِ، وأهلُها يزرَعونَ مِنْ مائِها، قال: أَخْبروني عنْ نَبيَّ الأُمِّيينَ ما فعلَ؟ قالوا: قد خرجَ من مكةَ ونزلَ يثربَ، قال: أقاتَله العربُ؟ قلنا نعم، قال: كيفَ صَنَعَ بهمْ؟ فأخبرناهُ أنَّهُ قدْ ظَهَرَ علَى مَنْ يَليهِ مِنَ العَرَبِ وأطاعوهُ، قال: أَمَا إنَّ ذلكَ خَيْرٌ لهمْ أنْ يُطيعوهُ، وإنَّي مُخبرُكُم عنَّي، إنَّي أنا المَسِيحُ، وإني أُوشِكُ أنْ يُؤْذَنَ لي في الخُروجِ فأَخْرُجَ فأَسيرَ في الأَرْضِ فلا أَدَعَ قريةً إلَّا هَبَطْتُها في أربعينَ ليلةً غيرَ مكَّةَ وطَيْبَةَ، هُما مُحَرَّمَتانِ عليَّ كِلتاهُما، كُلَّما أَردْتُ أنْ أَدْخُلَ واحِدَةً مِنهُما استقبَلَني مَلَكٌ بيدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عنها، وإنَّ على كلَّ نَقْبٍ منها ملائِكَةً يَحرُسونَها"، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وطَعَنَ بمِخْصَرتِهِ في المِنْبَرِ: "هذِه طَيْبَةُ، هذِه طَيْبَةُ، هذه طيبةُ"، يَعني: المَدينَةَ، "ألا هلْ كنتُ حَدَّثْتُكُمْ؟ " فقالَ النَّاسُ: نعمْ، قال: "ألا إِنَّهُ في بَحْرِ الشَّامِ أوْ بحْرِ اليَمَنِ، لا بَلْ منْ قِبَلِ المَشرِقِ ما هُوَ"، وأَوْمَأَ بيدِه إلى المَشرِقِ.
قولها: "ينادي: الصلاة جامعة": في إعرابهما أربعُ صور: رفعهما؛ لكونهما مبتدأ وخبرًا، ونصبهما على تقدير: احضروا الصلاة في حال كونها جامعة، ورفع الأول ونصب الثاني على تقدير: هذه الصلاة في حال كونها جامعة، ونصب الأول ورفع الثاني على تقدير: احضروا الصلاة وهي جامعة، وعلى التقديرات الأربع محلُّ الجملة نصب؛ لكونها مفعول يُنادي، ومفعوله حكاية؛ لأن فيه معنى القول.
قوله: "لَخْمٍ وجُذامٍ": قبيلتان.
قال الخطابي في "معالمه": "فأرْفَؤوا إلى جزيرة" معناه: أنهم قرَّبوا السفينة إليها، يقال: أرفأت السفينة: إذا قربتها من الساحل، وهذا مرفأ السفن.
و"أَقْرُب السفينة": يريد بها القوارب، وهي سفنٌ صغارٌ تكون مع السفن البحرية، كالجنائب لها، تتخذ لحوائجهم، واحدها: قارب، فأما (الأَقْرُب)؛ فإنه جمعٌ على غير قياس.
و"الجسَّاسة": يقال: إنها تجسِّسُ الأخبارَ للدجَّال، وبه سُمِّيت جسَّاسة.
و"الأهْلَب": الكثير الهلب، والهلب: الشعر، هذا كله لفظ الخطابي.
(الأهلب): الفرسُ الكثير الشعر. ذكره في "منتخب الصحاح".
"بيسان" بالباء المنقوطة تحتها بنقطة، وبعدها ياء منقوطة تحتها بنقطتين: موضعٌ ينسب إليه الخمر.
و"الزُّغَز" بالزاي والغين المعجمة: موضعٌ قليل النبات.
وقيل: (زُغَز) لا ينصرف، فإن كان كما زعم الكلبي: أنه اسم امرأة؛ للتعريف والتأنيث، فهو كامرأة سَمَّيتها بسفر، وإن كان (زُغَر) اسمَ رجلٍ ونُقِلَ غيرَ منصرف، فوجهه أنه كـ (عمر)، أصله: زاغر، لا ينصرفُ للعلمية والعدل.
وقيل: علم للبقعة، واشتقاقه من (زغرَ الماء) بمعنى: زخر؛ إما أصلٌ، وإما بدلٌ من الخاء؛ لأن الغين والخاء من حروف الحلق، وبينهما تناسُبٌ.
قوله: "بيده السيفُ صُلتًا"، (أصلَتَ السيفَ): إذا جرَّده من غمده، (صلتًا)؛ أي: مصلتًا، وهو مسلول.
قوله: "وطعن بمِخْصَرتهِ في المنبر"، (المِخْصَرة): كالسوط، وكلُّ ما اختصر الإنسان بيده، فأمسكه من عصا ونحوها، ذكره في "منتخب الصحاح".
سُمِّيت المدينة "طيبة"؛ لأنها طاهرة من الخبث والنفاق، كما قال صلى الله عليه وسلم في المدينة:"المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها"، ذكره في "شرح السنة".
قوله: "ألا إنَّه في بحرِ الشامِ، أو بحرِ اليمنِ، لا بل مِنْ قِبَلِ المشرقِ
ما هو، وأومأ بيده إلى المشرق": يحتملُ أن يكونَ لتردده صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمان؛ لأنه ما كان نزل عليه في ذلك وحيٌ مصرِّحٌ بمحله، بل على الاحتمال كما في علم الساعة.
ويحتمل أن يكون لتنقُّلِ الدجَّال في هذه المواضع الثلاثة بمعنى: أنه لا يتجاوزُ هذه المواضع الثلاث، بل كل وقت يتنقلُ من هذه الأمكنة بعضها إلى بعض، فيكون في الأخبار نظير (أو) الإباحاة في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ أي: لا تتجاوزهما.
و (ما) في (ما هو) بمعنى الذي؛ أي: الجانب الذي هو فيه.
(أومأ)؛ أي: أشار.
* * *
4239 -
عن عبدِ الله بن عُمَرَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُني الليلَةَ عِنْدَ الكعبةِ، فرأيتُ رَجُلًا آدمَ كأَحْسَنِ ما أنتَ راءٍ منْ أُدْمِ الرِّجالِ، لهُ لِمَّةٌ كأَحْسَنِ ما أنتَ راءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قد رجَّلَها فهيَ تقطُرُ ماءً، مُتَّكِئًا على عَواتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ بالبيتِ، فسألتُ مَنْ هذا؟ فقالوا: هذا المَسيحُ ابن مريمَ"، قال: ثمَّ إذا أنا برجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أعوَرِ العَيْنِ اليُمنَى، كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طافِيةٌ، كأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بابن قَطَنٍ، واضعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ يَطوفُ بالبيتِ، فسألتُ: مَنْ هذا؟ فقالوا: هذا المَسِيحُ الدَّجَّالُ".
وفي رِوايةٍ: قالَ في الدَّجَّال: "رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسيمٌ، جَعدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَينهِ اليُمنَى، أقرَبُ النَّاسِ بهِ شَبَهًا ابن قَطَنٍ".
قوله: "رأيتني الليلة": اعلم أنه لا يجوزُ اجتماعُ ضمير الفاعل والمفعول في شخص واحد؛ يعني: لا يجوز أن تقول: ضربتُني؛ التاء التي هي الفاعل، والياء في لفظة (ني) هي للمفعول، كلاهما ضمير نفسك في اللفظ والمعنى.
أما أفعال القلوب فيجوزُ فيها اجتماعُ ضمير الفاعل والمفعول لشخص واحد، كقولك: ظننتُني منطلقًا، والتاء في لفظة (ظننت) فاعل، والتاء في لفظة (ني) مفعول في اللفظ دون المعنى؛ لأن ظنك واقعٌ على انطلاقك، لا على ذاتك؛ لأنه لا شكَّ لك في ذاتك، فإذا كان كذلك، لم يجتمعْ ضميرُ الفاعل والمفعول في الحقيقة؛ لأن المفعول الثاني هو الحقيقي، إذ هو المظنون وغيره المحقق.
وأما (رأيتني) فهو بمعنى: علمتني، والياء مفعوله الأول، و (عند الكعبة) هو الثاني، تقديره: وعلمت نفسي حاصلًا عند الكعبة.
قوله: "له لِمَّةٌ كأحسنِ ما أنت راءٍ من اللِّمَم": (اللِّمة): الشعر الذي تجاوزَ شحمةَ الأذن، (لمم): جمعها.
و"قد رجَّلها"؛ أي: قد سرَّحها وامتشطها.
"العواتق": جمع عاتق، وهو موضع الرداء من الكتف.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4240 -
عن فاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ في حديثِ تَميمٍ الدَّارِيِّ قال: فإذا أنا بامرأةٍ تجُرُّ شَعْرَها، قال: ما أَنْتِ؟ قالت: أنا الجَسَّاسَةُ، اذهَبْ إلى ذلكَ القَصْرِ، فأتيتُهُ، فإذا رَجُلٌ يجُرُّ شَعْرَهُ، مُسَلْسَلٌ في الأَغْلالِ، يَنْزُو فيما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ، فقُلت: مَنْ أنتَ؟ قال: أنا الدَّجَّالُ.
قولها في حديث تميم الداري: "فإذا أنا بامرأةٍ تجرُّ شعرَها": (إذا) للمفاجأة، وهي ظرف مكان يقع خبرًا عن الجثة، وبعده مبتدأ خبره جائزُ الحذفِ.
(أنا): مبتدأ، و (بامرأة): خبره، و (تجر شعرها): صفة للمرأة.
وقيل: (إذا) خبرُهُ يجبُ تقديمُه، ولا حاجةَ إلى إضمار خبر آخر، وجعل (إذا) متعلقًا بذلك المحذوف؛ لأن هذا الكلام مفيدٌ، فلا حاجةَ إلى الإضمار، تقول: خرجت فإذا زيد؛ أي: هناك زيد، أو بالحضرة زيد، والعامل في (إذا) استقراره؛ يعني: الفعل المقدر الذي هو متعلقه، والعامل في (بامرأة)؛ إما هو الاستقرار، أو نائبه، وهو (إذا).
يعني: قال تميم الداري: رأيتُ فجأةً في بعض أسفاري امرأة كثيرة الشعر، فقلت لها: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، ومعنى الجساسة ذُكِرَ قبيل هذا.
وفي هذا الحديث رُوِي: أن الجساسة امرأة، وفي الحديث المتقدم رُوِي: أن الجساسة دابة، ويحتمل أن الجمعَ بين الحديثين: أن للدجال جاسوسين دابة وامرأة؛ ففي الحديث المتقدم قد رُئيت الدابة، وفي هذا الحديث قد رُئيت المرأة.
ويحتمل أن كلاهما شيطان واحد، إلا أن في الحديث الأول: أنه قد رُئي على صورة دابة، وفي هذا الحديث: على صورة امرأة، والشيطانُ يتصوَّرُ على أية صورة شاء.
قوله: "فإذا رجل يجرُّ شعرَهُ مسلسلٌ في الأغلال
…
" إلى آخره.
(مُسلسل): اسم مفعول من (سلسل) مضاعف فعلل، وهو بمعنى: علق.
"يَنْزُو"؛ أي: يتحرَّك ويثب مع القيد؛ يعني: فأتيت ذلك القصر، فرأيت رجلًا كثيرَ الشعر مقيدًا بالسلاسل والأغلال معلقًا بين السماء والأرض، ومع ذلك القيدِ والغلِّ كان مضطربًا بلا قرارٍ.
* * *
4241 -
عن عُبادَة بن الصَّامِت، عن رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنِّي حَدَّثتُكُمْ عنِ الدَّجَّالِ حتَّى خَشِيْتُ أنْ لا تَعْقِلوا، إنَّ المَسيحَ الدَّجَّالَ رَجُلٌ قَصيرٌ، أَفْحَجُ، جَعْدٌ، أعوَرُ، مَطْموسُ العينِ، ليستْ بناتِئَةٍ ولا حَجْراءَ، فإنْ أُلْبسَ عليكُمْ فاعلَمُوا أنَّ ربَّكُمْ ليسَ بأَعوَرَ".
قوله: "حتى خشيتُ أن لا تعقِلوا"؛ يعني: خشيت أن لا تفهموا ما حدثتكم في شأن الدجال، أو تنسوه من كثرة ما قلتُ من وصفه:"إن المسيحَ الدجال" مكسور الهمز؛ لأنه مفتتح الكلام.
"الفَحَج": تباعدُ ما بين الساقين في الإنسان والدابة.
"مطموسُ العين"؛ أي: ذاهب أثرها من غير محق، من (طمس): إذا ذهب أثرُ الشيء وانمحى.
قوله: "ولا حَجْراء"؛ أي: عينه ليست بمنخفضة ولا مرتفعة.
و (الجَحْراء) بتقديم الجيم: العين التي قد انخسفت، فبقي مكانها غائرًا كالجحر.
قوله: "فإن أُلبسَ عليكم فاعلموا أنَّ ربَّكم ليس بأعورَ"، (الإلباس): الخلط والاشتباه؛ أي: إن اشتبهَ عليكم دعواه الكاذبة في الهيئة، فاعلموا أن هذا ليس بإله لنقصانه، وهو العور، وربكم ليس بأعور؛ يعني: فاعلموا أنه تعالى منَّزهٌ عن سمة الحدوث، فضلًا عن النقائص والعيوب، وفيه دليلٌ على جواز إثبات ذاته تعالى وصفاته القديمة بالمعقول؛ إذ كلُّ ما في الوجود من الحوادث لا بدَّ لها من أن تنتهي إلى شيء يقوم بنفسه، ولا يحتاج إلى مُوجِد، وذلك المُنتهى إليه الدالُّ عليه البرهانُ العقلي هو واجبٌ بنفسه، مُستغنٍ عن غيره، وهو المعبودُ الحقُّ الذي يُسمَّى إلهًا.
والوهمُ لكثرة ما يُشاهِدَ القائم بغيره يُشكك، ويقول: كيف يقوم شيء
بنفسه؟ فيغفل عن الدلالة العقلية، إذ لو لم ينتهِ إلى واجب الوجود بذاته؛ لزم منه الدور أو التسلسل، وكلاهما محالٌ، فجاء البرهان العقلي، فقطع الوهم عن أصله، وأثبت واجبَ الوجود بنفسه.
* * *
4242 -
عن أبي عُبَيْدةَ بن الجَرَّاحِ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّهُ لمْ يكُنْ نبيٌّ بعدَ نُوحٍ إلَّا قدْ أنذَرَ الدَّجَّالَ قومَهُ، وإنِّي أُنْذِرُكُموهُ"، فَوَصَفَهُ لنا فقالَ:"لعلَّهُ سيُدْرِكُهُ بعضُ مَنْ رآني أو سمِعَ كلامي"، قالوا: يا رسولَ الله! فكيفَ قُلوبنا يَوْمَئِذٍ؟ قال: "مِثْلُها - يعني: اليومَ - أو خَيْرٌ".
قوله: "بعضُ من رآني أو سمع كلامي": والمراد بمن سمع كلامَهُ: مَن وصل إليه الأحاديث، وإن كان بعدَ طول زمان.
* * *
4244 -
عن عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمِعَ بالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عنهُ، فوالله إنَّ الرَّجُلَ لَيأْتِيهِ وهو يَحسِبُ أنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بهِ مِنَ الشُّبُهاتِ".
قوله: "من سمع بالدجَّال فلينْأَ منه"؛ أي: من سمعَ بخروج الدجَّال، فليبعدْ منه.
قوله: "فوالله إن الرجلَ ليأتيه وهو يحسبُ أنه مؤمنٌ، فيَّتبعُهُ مما يُبعَثُ به من الشُّبهات"؛ يعني: أن الرجل الذي يحسب أنه مؤمنٌ يأتي الدجالَ، فيتبعه من أجل ما يبعث به - أي: يثيره - من الشبهات؛ يعني: السحر، أو إحياء الأموات، وغير ذلك.
فإذا أكَّد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إتباعَ بعض أمته الدجَّالَ باليمين بالله سبحانه، فينبغي لمن سمع خروجه أن لا يأمنَ من فتنته، ويبعدَ منه بُعدَ المشرقين، حتى لا يقعَ في تلك الفتنة، فإنها عظيمة، بل أعظمُ الفتن، وتُهلِك مَنْ تهلك، والمعصومُ من عصمه الله سبحانه وتعالى.
* * *
4245 -
عن أسماءَ بنتِ يَزيدَ قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَمْكُثُ الدَّجَّالُ في الأَرْضِ أَرْبعينَ سَنَةً، السَّنَةُ كالشَّهْرِ، والشَّهْرُ كالجُمُعةِ، والجُمُعةُ كاليَوْمِ، واليَوْمُ كاضْطِرامِ السَّعَفَةِ في النَّارِ".
قوله: "كاضطرام السَّعَفَةِ في النار"، (الاضطرام): افتعال من (الضرام)، وهو اشتعال النار، وأصله: اضترام، قُلبت التاء طاء؛ لتجانس الطاء والضاد؛ لأنهما من حروف الإطباق.
(السَّعَفة) بفتح العين: واحدة السَّعف، وهو غصن النخيل، قاله في "الصحاح".
يعني: كسرعة التهاب النار بورق النخل.
* * *
4246 -
عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ منْ أُمَّتي سَبعونَ ألفًا عليهِمُ السِّيجانُ".
"السِّيجان": جمع الساج، وهو الطيلسان الأخضر.
* * *
4247 -
عن أَسْماءَ بنتِ يَزيدَ قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بَيتي، فذكرَ
الدَّجَّالَ فقال: "إنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ثلاثَ سِنينَ: سنةٌ تُمْسِكُ السَّماءُ فيها ثُلُثَ قَطْرِها والأَرْضُ ثُلُثَ نبَاتِها، والثَّانِيةُ تُمْسِكُ السَّماءُ ثلُثَيْ قَطْرِها والأَرْضُ ثلُثَيْ نبَاتِها، والثَّالِثَةُ تُمْسِكُ السَّماءُ قَطْرَها كُلَّهُ والأَرْضُ نبَاتَها كُلَّهُ، فلا يبقَى ذاتُ ظِلْفٍ ولا ذَاتُ ضرْسٍ مِنَ البَهائِمِ إلَّا هلكَ، وإنَّ أَشَدَّ فِتنَتِهِ أنَّهُ يأتي الأَعْرابيَّ فيقولُ: أرأَيْتَ إنْ أحيَيْتُ لكَ إبلَكَ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أنِّي رَبُّكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيُمثَّلُ لهُ نحوَ إبلِهِ كأَحْسَنِ ما يكونُ ضُرُوعًا وأَعْظَمِهِ أَسْنِمَةً" قال: "ويأتي الرَّجُلَ قدْ ماتَ أَخُوهُ، وماتَ أبوهُ، فيقولُ: أرأيتَ إنْ أَحْيَيْتُ لكَ أباكَ وأخاكَ ألسْتَ تَعْلَمُ أنِّي ربُّكَ؟ فيقولُ: بَلَى، فيُمَثَّلَ لهُ الشَّياطِينُ نحوَ أبيهِ ونَحْوَ أخيهِ"، قالت: ثُمَّ خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وسلم لحاجَتِهِ، ثمَّ رَجَعَ والقَومُ في اهتِمامٍ وغَمٍّ ممَّا حدَّثهُمْ، قالت: فأخذَ بِلُجْمتَي البابِ فقالَ: "مَهْيَمْ أسماءُ؟ " قلتُ: يا رسولَ الله! لقدْ خَلَعْتَ أفئِدَتَنَا بذِكرِ الدَّجَّالِ، قال:"إنْ يَخْرُجْ وأنا حَيٌّ فأنا حَجِيجُهُ، وإلَّا فإنَّ ربي خَليفَتي على كُلِّ مُؤمنٍ"، فقُلتُ: يا رسولَ الله! والله إنَّا لَنَعْجنُ عَجينَنا، فما نَخْبزُهُ حتَّى نَجُوعَ، فكيفَ بالمُؤْمنينَ يَوْمَئِذٍ؟ قال:"يَجْزِيهِمْ ما يُجْزِي أهلَ السَّماءِ مِنَ التَّسبيح والتَّقْديسِ".
قوله: "فلا يبقى ذات ظِلْفٍ، ولا ذات ضرسٍ من البهائم"، (ذات الظلف): عبارة عن البقر والشاء والظبي، و (ذات الضرس): عبارة عن السباع.
قوله: "أرأيت إن أحييت"، (أرأيت)؛ أي: أخبرني.
(أرأيت) معناه: أعلمت، أو شاهدت؟ فإذا كان كذلك فمعناه: أخبرني عما شاهدت، فلما كان الرؤية والعلم سببين لحصول العلم، جاز أن يطلبَ منه أن يخبره بذلك.
قوله: "بلُحْمَتَي البابِ"؛ أي: بعضادتيه وعضديه.