الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - باب النَّفْخِ في الصُّورِ
(باب النفخ في الصور)
مِنَ الصِّحَاحِ:
4276 -
عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ما بينَ النَّفْختَيْنِ أَرْبعون"، قالوا: يا أبا هُريرةَ! أَرْبعونَ يَوْمًا؟ قال: أَبَيْتُ، قالوا: أَرْبعونَ شَهْرًا؟ قالَ: أَبَيْتُ، قالوا: أَرْبعونَ سَنَةً؟ قال: أبَيْتُ، "ثمَّ يُنزِلُ الله منَ السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما ينبُتُ البَقْلُ"
قالَ: "وليسَ مِنَ الإِنسانِ شَيْءٌ لا يَبْلَى إلا عَظْمًا واحِدًا، وهوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، ومنهُ يُركَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيامَةِ".
وفي رِوايةٍ: "كُلُّ ابن آدمَ يَأْكُلُهُ التُّرابُ إلا عَجْبَ الذَّنَبِ، منهُ خُلِقَ وفيه يُركَّبُ".
قوله: "ما بينَ النفختينِ أربعون، قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يومًا؟ قال: أبَيتُ" الحديث.
يعني: امتنعتُ عن الجواب، فإني لا أدري، فإذا قلت: أربعون يومًا أو شهرًا أو غير ذلك، فأكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وأبيتُ الكذبَ عليه.
قوله: "وليس من الإنسان شيءٌ إلا يَبلَى، إلا عظمًا واحدًا، وهو عَجْبُ الذنب"، (العجب): العظم الذي في أسفل الصُّلب، وهو العَسِيب، ذكره في "شرح السنة".
قال في "الصحاح": (العَسِيب): منبت الذنب، فالمراد: طول بقائه، لا أنه لا يبلى أصلًا، فإنه خلاف المحسوس.
وجاء في حديث آخر: "أنه أول ما يُخَلق، وآخر ما يَبلَى"، ومعنى الحديث واحد.
والحكمة فيه: أنه قاعدةُ بدنِ الإنسان وأُسُّه الذي يُبنى عليه، فبالحريِّ أن يكون أصلبَ من الجميع كقاعدة الجدار، وإذا كان أصلب كان أطول بقاء.
وأما إعرابه: فقوله: (إلا عظمًا) فهو منصوب؛ لأنه استثناء من موجب؛ لأن قوله: "ليس شيء من الإنسان لا يبلى" نفيُ النفيِ، ونفيُ النفي إثباتٌ، فيكون تقديره: كلُّ شيء منه يبلى إلا عظمًا واحدًا.
* * *
4278 -
عن عبدِ الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَطوِي الله السَّماواتِ يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ يأخُذُهُنَّ بيدِه اليُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ، أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المُتكَبرُونَ؟ ثمَّ يَطْوِي الأَرْضينَ بشِمالِه - وفي رِوايةٍ: ثُمَّ يأخُذُهُنَّ بيدِه الأُخْرىَ - ثمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ، أينَ الجَبَّارونَ؟ أينَ المُتكبرونَ؟ ".
قوله: "يطوي الله السماوات يوم القيامة يأخذهن بيده اليمنى" الحديث.
اعلم بأنَّ الله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن سِمةِ الحدوث، وصفةِ الأجسام، وكلُّ ما ورد في القرآن والأحاديث في صفاته ممَّا ينبئ عن الجهة والفوقية، والاستقرار والإتيان، والنزول، فلا نخوض في تأويله، بل نؤمن بما هو مدلولُ تلك الألفاظ على المعنى الذي أراده سبحانه مع التنزيه عما يُوهِمُ الجسمية والجهة، كما يُروى عن مالك - رحمة الله عليه - لما سُئِل عن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، وسؤالك عنه بدعة.
وهو مذهب السلف الصالح رضي الله عنهم.
أما المتكلمون من أهل السنة والمعتزلة: فقد أوَّلوا جميع الألفاظ الواردة في هذا الباب على ما يليقُ بذاته سبحانه.
وهؤلاء يقفون في قراءة قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] على قوله: {فِي الْعِلْمِ} .
والفرقة الأولى - وهم السلف الصالح رضي الله عنهم يقفون على قوله تعالى: {إِلَّا اللَّهُ} .
فإذا تقرَّر هذا؛ فالمراد من اليد واليمين والشمال: القدرة، والمراد من الطيِّ: التسخير التام والقهر الكامل، وهو كذلك الآنَ أيضًا، ولكن في القيامة أظهر؛ لأنه لا يبقى أحدٌ يدَّعي الملكَ المجازي، كما هو في الدنيا.
قوله: "ثم يطوي الأرضين بشماله": وإنما قال: بشماله، ولم يقل: بيمينه؛ بيانًا لشرف العُلويات على السُّفليات، والعادةُ جرت على أن الشريف يباشر ما فيه شرف، لا أنه ثبت له شمالٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"كلتا يديه يمين"، وإنما قال: كلتا يديه يمين؛ لأن الشمال بالإضافة إلى اليمين ناقصٌ في القوة، والنقصانُ لا يتطرَّقُ على ذاته سبحانه.
قال الإمام التُّورِبشتي: يحتمل أن هذا غلطٌ من الراوي، أو ظنٌّ منه على أن إحداهما سدَّ مسدَّ الأخرى، والأولى أن لا يُغلَّط الراوي، ويُجمَع بين الحديثين - يعني: بين هذا الحديث، وبين قوله:"كلتا يديه يمين" - ونقول: التوفيقُ بينهما، والعلمُ عندَ الله سبحانه: أنا إذا جعلنا اليدَ عبارةٌ عن القدرة، وهو مطابقٌ لقوله:"كلتا يديه يمين"؛ لأن هذا أيضًا إشارةٌ إلى تنزيهه عن الجوارح والأجسام، فإنه لو كان جسمانيًا؛ لاستحال أن تكون كلتاهما يمينًا، والفرقُ بين اليمين والشمال: أن الأخذ باليمين عبارة عن أنَّ التسخير الأول أتم وأكمل من التسخير الثاني المعبر عنه بالأخذ بالشمال؛ لأن السماء السابعة مثلًا أكبرُ الأجسام، فيكون تسخيره أقوى من تسخير ما تحته من السماوات.
فإذا ثبت هذا؛ فتسخيرُ السماوات أقوى من تسخير الأرض، فإنه معلومٌ أن تسخيرَ ما هو علويٌّ أقوى من تسخير ما هو سفلي، والله أعلم بالأسرار الإلهية والحكم النبوية.
* * *
4280 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنْ قولِه عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} : فأَينَ يكونُ النّاسُ يومئذٍ؟ قالَ: "علَى الصِّراطِ".
قوله: " {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} "، قال في "شرح السنة": يُقالُ: (التبديلُ): تغيير الشيء عن حاله، والإبدالُ: جعل الشيء مكان الآخر.
قال الأزهري: تبديل الأرض: تسيير جبالها، وتفجير أنهارها، وكونها مستوية لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، وتبديل السماوات بانتشارِ كواكبها، وانفطارِها، وتكويرِ شمسها، وخسوفِ قمرها.
* * *
4281 -
وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الشَّمْسُ والقَمَرُ مُكوَّرانِ يَوْمَ القِيامَةِ".
قوله: "الشمس والقمر مُكوَّران يوم القيامة"، (مكوران)؛ أي: مجموعان وملفوفان.
قال في "شرح السنة": مُكوَّران: من قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]؛ أي: جُمِعت ولُفَّت، ومنه قوله تعالى:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5]؛ أي: يدخل هذا هذا، وتكوير العمامة: لفُّها، وقيل: من (كوَّره)؛ أي: ألقاه.
قال في "الصحاح": يقال: طعنه فكوَّره؛ أي: ألقاه مجتمعًا، وأنشد
أبو عُبيدٍ:
ضَرَبناهُ أمَّ الرأسِ والنقعُ ساطعٌ
…
فخرَّ صريعًا لليدينِ مُكوَّرا
يعني: تلقى الشمس والقمر من فلكيهما.
قال الإمام التُّورِبشتي رحمة الله عليه: هذا التفسيرُ أشبهُ بنسق الحديث؛ لما في بعض طرقه: "يكوران في النار"، ويكون تكويرهما فيها؛ ليعذب بهما أهل النار، لا سيما عبَّاد الأنواء، لا ليُعذَبا في النار، فإنهما بمعزل (1) عن التكليف.
* * *
مِنَ الحِسَان:
4282 -
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كيفَ أَنْعَمُ وصاحِبُ الصُّورِ قدِ التَقَمَهُ، وأصْغَى سَمْعَهُ، وحنَى جَبْهَتَهُ متَى يُؤمَرُ بالنَّفْخِ؟ ". فقالوا: يا رسولَ الله! وما تَأْمُرُنا؟ قال: "قُولُوا: حَسْبنا الله ونِعْمَ الوَكيلُ".
قوله: "كيف أنعم"؛ أي: كيف أنتعم؟ وقيل: كيف أفرح؟ والنعمة: المسرة، قاله في "شرح السنة".
يعني: كيف يطيب عيشي، وقد قَرُب أمرُ الساعة؟ وكأنه خاف على أمته قربها، وقد علم أنها لا تكون إلا على شِرارِ الناس، أو تنبيهٌ على حثِّ أصحابه على الوصية لمن بعدهم على التهيؤ لها.
"الصور": القرن، قال الراجز:
(1) في "م": "بمعزل". مكررة.
نحن نطحناهُم (1) غداةَ الجَمْعينِ
نَطْحًا شَديدًا لا كنطحِ الصُّورينِ
ويقال: هي جمع (صُورَة)، مثل:(بُسْرَة) و (بُسْر)؛ أي: ينفخ الأرواح في صور الموتى، وقرأ الحسن:(يوم ينفخ في الصور)، ذكره في "الصحاح".
قوله: "قد التقمه": ابتلعه، يقال: التقمت اللقمة؛ أي: ابتلعتها.
"أصغَى سمعَهُ"؛ أي: أمال أذنه، يقال: أصغيت الإناء: إذا أملته.
أي: كيف يكون عيشي طيبًا وصاحب الصور قد ابتلع الصور؟ يعني: وضع الصور في فمه، وينتظر متى يؤمر بالنفخ؟
قوله: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل"؛ أي: قولوا: الله سبحانه مُحسِبنا وكافينا، من (أحسبه الشيء): إذا كفاه، والدليلُ على أن (حسبك) بمعنى: مُحسِبك: وقوعه صفة للنكرة، كأن تقول: هو رجل حسبك، فلو لم يكن اسم فاعل، وإضافته في تقدير الانفصال، لما وقع صفةً للنكرة إذا كان مضافًا إلى معرفة.
و (الوكيل): فعيل بمعنى المفعول؛ أي: نعم الموكول إليه الله تعالى.
و (الله) مبتدأ، و (حسبنا) خبر مقدم، و (نعم) فعل المدح، و (الوكيل) فاعله، والمخصوص بالمدح محذوف.
* * *
(1) في جميع النسخ: "لقد نطحناهم"، والتصويب من "الزاهر في كلام الناس" لابن الأنباري (1/ 416).