الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وينصرك أينما توجَّهت من الأمور، ويسهل أمورك التي تقصدها.
"رفعت الأقلام وجفت الصحف"؛ يعني: كتب في اللوح المحفوظ ما كتب من التقديرات، ولا يكتب بعد الفراغ منه شيء آخر، فما قدِّر وصولُه إليك لا يمكن أن لا يصل، وما لم يكتب وصوله إليك لا يمكن أن يصل.
* * *
4096 -
عن سَعْدٍ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ سَعادةِ ابن آدمَ رِضاهُ بما قَضَى الله لهُ، ومِنْ شَقاوَةِ ابن آدمَ تركُهُ استِخارَةَ الله، ومِنْ شَقاوَةِ ابن آدمَ سَخَطُهُ بِما قَضَى الله لهُ"، غريب.
قوله: "تَرْكُه استخارةَ الله"، (الاستخارة): طلب الخير؛ يعني: من شقاوة الرجل أن لا يطلب خير الله فيما يفعل؛ يعني: ينبغي للمؤمن أن يستعين بالله في أموره، ويتوكَّل عليه، ويطلب الخير والمعونة منه.
"سخطُه"؛ أي: غضبه؛ يعني: يغضب بما يجري عليه من الآفات والفقر والمرض وغير ذلك.
* * *
6 - باب الرِّياءِ والسُّمْعَةِ
(باب الرياء والسمعة)
مِنَ الصِّحَاحِ:
4098 -
وقال: "قالَ الله تعالَى: أنا أغنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشركَ فيهِ معي غَيْري تركتُهُ وشِرْكَهُ".
وفي رِوايةٍ: "فأنا منهُ بَريءٌ، هوَ للذي عملَهُ".
"فأنا منه بريء"؛ أي: من ذلك العمل. "هو"؛ أي: ذلك العمل "للذي عمله"؛ أي: لفاعله؛ يعني: تركت ذلك العمل وفاعله، لا أقبله ولا أجازي فاعله بذلك العمل؛ لأنه لم يعمله لي.
قد ذكر هذا الحديث في أول الكتاب في (كتاب الإيمان).
* * *
4099 -
وعن جُنْدَبٍ قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بهِ، ومَنْ يُرائِي يُرائي الله بهِ".
قوله: "من سمَّع سمع الله به"؛ يعني: من أسمعَ الناس فعله، ويقول: فعلت كذا وكذا، ليمدحه الناس على فعله، سمع الله به يوم القيامة؛ يعني: ذكره وشهَّره بين أهل العرصات، بأن يقول: إنما فعل الفعلَ الفلاني ليمدحه الناس فلم يثبه الله بفعله.
"ومن يرائي يرائي الله به"؛ يعني: من فعل فعلاً من الأفعال الصالحة ليراه الناس ويعطوه شيئًا، أو يمدحوه على فعله، جزاه الله يوم القيامة بذلك الفعل جزاءَ المرائين، بأن يقول له: اطلب جزاء فعلك ممن فعلته لأجله.
* * *
4100 -
وعن أبي ذَرٍّ قال: قِيلَ لِرَسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أرأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخيرِ ويَحْمَدُهُ النَّاسُ عليهِ؟ قال: "تلكَ عاجِلُ بُشْرَى المُؤْمنِ".
وفي رِوايةٍ: "ويُحِبُّهُ النَّاسُ عليهِ".
قوله: "أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس"؛ يعني:
أخبرنا بحال من يعمل عملًا صالحًا لله لا للناس، ويصفه الناس بالعمل ويمدحونه، هل يبطل ثوابه بما مدحه الناس أم لا؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تلك عاجل بشرى المؤمن"؛ يعني: مَن عمل عملًا صالحًا خالصًا لله، وليس في قلبه الرياء، أعطاه الله ثوابين: ثوابًا في الدنيا، وثوابًا في الآخرة، فثوابه في الدنيا: أن يوقع محبته في قلوب الناس، ويوقع على ألسنتهم ذكره بالخير، وثوابه في الآخرة: اللقاء والجنة؛ يعني: لا بأس بمدح الناس الرجلَ الصالح إذا لم يكن في قلبه رياء وسمعة.
* * *
مِنَ الحِسَانِ:
4103 -
عن أنسٍ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كانتْ نِيَّتُهُ طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ الله غِناهُ في قلبهِ، وجَمَعَ لهُ شَمْلَهُ، وأتَتْهُ الدُّنْيا وهي راغِمَةٌ، ومَنْ كانتْ نيَّتُهُ طَلَبَ الدُّنْيا جَعَلَ الله الفَقْرَ بينَ عَيْنَيْهِ، وشَتَّتَ عليهِ أَمْرَهُ، ولا يأتيهِ منها إلا ما كُتِبَ لهُ".
قوله: "جعل الله غناه في قلبه"؛ أي: جعل الله قلبه غنيًا بأن جعله قانعًا بالكفاف، ولا يتعب نفسه في طلب الزيادة، فهذا هو الغِنَى الحقيقي.
"وجمع له شمله"، (الشمل): ضد التفرق؛ يعني: جعله الله مجموع الخاطر، وهيأ أسبابه من حيث لا يدري.
"وأتته الدنيا وهي راغمة" الواو في (وهي) للحال، (راغمة)؛ أي: ذليلة؛ يعني: تقصده الدنيا طوعًا وكرهًا؛ يعني: حصل له من الدنيا ما يحتاج إليه.
"شتَّت"؛ أي: فرَّق.
* * *
4104 -
عن أبي هُريرةَ قال: قلتُ يا رسولَ الله! بَيْنا أنا في بيتي في مُصَلَاّيَ، إذ دَخَلَ عليَّ رَجُلٌ، فأَعْجَبني الحالُ التي رآني عليها، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"رَحِمَكَ الله يا أبا هُريرةَ! لكَ أجرانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وأَجْرُ العلانِيَةِ"، غريب.
قوله: "أعجبتني"؛ أي: حسنت عندي.
"لك أجران" وإنما قال صلى الله عليه وسلم له: (لك أجران)؛ لأن نيته الإخلاص في الصلاة، فحصل له الأجر بإخلاصه، وأحب أن يراه الناس مصليًا ليقتدوا به؛ يعني: ليعملوا مثل عمله، فحصل له الأجر بنيته تعليمَ الناس الخيرَ.
وكذلك جميع الناس ممن عمل عملًا صالحًا لله، وهو يحب أن يعمل الناس مثل عمله، فله أجران: أجرُ العمل، وأجر تعليم الناس الخير.
* * *
4105 -
عن أبي هُريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَخرُجُ في آخرِ الزَّمانِ رِجالٌ يَختِلونَ الدُّنْيا بالدِّينِ، يَلْبَسونَ للنَّاسِ جُلودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلسِنَتُهُم أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وقُلوبُهُمْ قُلوبُ الذِّئابِ، يقولُ الله تعالى: أَبي يَغترُّونَ؟ أمْ عليَّ يَجْترِئُونَ؟ فبي حَلَفْتُ، لأَبْعَثَنَّ على أُولئِكَ منهُمْ فِتنةً تَدَع الحَليمَ فيهِمْ حَيْرانَ".
قوله: "يختلون الدنيا بالدين"، و (الختل): الخداع، وهو أن يعمل الرجل عملاً وفي نيته غيرُ عمله؛ ليغرِّر أحدًا، وتقدير هذا الكلام: يختلون أهل الدنيا بعمل الدين؛ يعني: يعملون الأعمال الصالحة ليعتقد الناس فيهم الخير والصلاح ويظنونهم الصلحاء؛ ليدفعوا إليهم الأموال، وليخدموهم، وليس في نيتهم إخلاص، بل جذب المال والجاه.
"يلبسون للناس جلود الضأن"؛ يعني: يلبسون اللباس من الصوف؛
ليظنهم الناس زهَّادًا عبَّادًا تاركين الدنيا، لبس الصوف إن كان بهذه النية فهو مذموم، وإن كان من الفقراء أو لكسر النفس وغير ذلك فهو جائز.
"من اللين، ألسنتهم أحلى من السكَّر" أراد بـ (اللين): التملُّق والتواضع في وجوه الناس؛ ليصير الناس لهم مريدين، "وقلوبهم قلوب الذئاب"؛ يعني: قلوبهم شديدة مسودةٌ من غاية حبِ الدنيا وحب الجاه، وكثرةِ العداوة والبغض والصفات المذمومة الثابتة في قلوبهم.
"أبي يغترون أم عليَّ يجترئون" الهمزة في (أبي) للاستفهام، (الاغترار): الانقياد، مِن غرَّك؛ يعني: يمكر بك مكرًا وأنت لا تعلم، وتظنه صديقًا نصوحًا، والمراد بـ (الاغترار) هنا: عدم الخوف من الله، وترك التوبة من فعلهم القبيح، و (الاجتراء): الانبساط والتشجُّع؛ يعني: الذين يختلون الدنيا بالدين (1)، لا يخافونني، ويجترئون عليَّ بمكرهم الناس في إظهار الأعمال الصالحة.
"فبي حلفتُ" الباء للقسم؛ يعني: يقول: الله تعالى: حلفتُ بعظمتي وكبريائي لأبعثن عذابًا على هؤلاء، "تدع"؛ أي: تترك "الحليم": العاقل "حيران"؛ يعني: لا يقدر العاقل وذو تجربة وجلادة على دفع ذلك العذاب.
وسنة الله تعالى في إرسال العذاب أن يعم المذنب والبريء، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]؛ أي: تعم المذنبَ والبريء.
وطريق البريء: أن ينهى المذنب عن الذنب، فإن لم ينته فليترك مجالسته، وليبعد عن تلك القرية أو البلدة.
* * *
(1) في "ق": "والذين".
4106 -
عن ابن عُمَرَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله تبارك وتعالى قال: لقدْ خَلقْتُ خَلْقًا ألسِنتُهُمْ أحلَى مِنَ السُّكَّرِ، وقُلوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، فبي حَلَفْتُ لأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَليمَ فيهِمْ حَيْرانَ، فبي يغترُّونَ؟ أمْ عليَّ يَجْتَرِئُونَ؟ "، غريب.
قوله: "لأُتِيحَنَّهُمْ"؛ أي: لأقدِّرن، أتاح: إذا قدَّر وقضى.
* * *
4107 -
عن أبي هُريرةَ قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لكُلِّ شَيءٍ شِرَّةً، ولِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فإنْ كانَ صاحبُها سَدَّدَ وقارَبَ فارْجُوهُ، وإنْ أُشِيرَ إليهِ بالأَصابعِ فلا تعُدُّوهُ".
قوله: "إن لكل شيء شِرَّةٌ"، (الشِّرَّة): الحِدَّة، والمراد بالشِّرَّة في هذا الحديث: أن العابد يغلو ويبالغ في العبادة في أول أمرِه، وكل مبالغٍ يغتر وتسكن حِدَّته ومبالغته في أمره بعد حين.
"فإنْ صاحبُها سدَّد وقارب فأرجُوه"، (التسديد): إعطاءُ الله العبدَ التوفيقَ والتقويم والتسوية، تقدير هذا الكلام: فإن سدَّد وقارب صاحبها؛ أي: صاحب الشرة؛ يعني: فإن كان العابد مستقيمًا متوسطًا في العمل من غير غلوٍّ ولا تقصير، و (سدد)؛ أي: جعل عمله متوسطًا، و (قارب)؛ أي: دنا من الاستواء والاستقامة.
(فارجوه)؛ أي: فكونوا على رجاء الخير منه، فإن مَنْ سلكَ الطريق المستقيم يقدر على الدوام عليه، وأفضل الأعمال عند الله أدومها وإنْ قَلَّتْ، وإن [مَن] بالغ في العمل وأتعب نفسه لا يقدر على الدوام عليه، بل يضعف وينقطع عن سلوك الطريق.
ولما رآه الناس مبالغًا في العمل تعجبوا منه، وأجمعوا عليه، وأدنوا منه الجاه والمال، وقَبَّلوا يديه ورجليه، وربما يصير ذلك العابد أحمق مغرورًا بعمله متكبرًا، ويعتقد أنه خير من غيره، ولا شك أن هذا الاعتقاد مذموم عند الشرع، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث:"وإن أشير [إليه] بالأصابع فلا تَعُدُّوه"؛ يعني: وإن صار معروفًا مشارًا إليه بالعبادة، فلا تَعُدُّوه شيئًا؛ أي: فلا تعتقدوه صالحًا.
فإن قيل: قد نُقل عن جماعة من المشايخ أنهم قد اجتهدوا في العبادة، وأتعبوا أنفسهم إتعابًا شديدًا، فبدليل هذا الحديث ينبغي أن نقول: هم مسيئون في اجتهادهم في العبادة؟
قلنا: هذا الحديث عام، والمراد به الخاص يعني: قد يكون بعض الناس يبالغ في العبادة ليشتهرَ بين الناس، فمن كانت نيتُهُ الاشتهار فهو، الذي يُرَاد في هذا الحديث، ومن كان نيته الإخلاص في العبادة لا الاشتهار بين الناس لم يكن عليه بأس باجتهاده في العبادة.
والمشايخ الذين اجتهدوا في العبادة كانوا قد فَرُّوا من الناس، وسكنوا البوادي والجبال، والمواضع الخالية؛ حذرًا من الرياء واجتماع الناس عليهم، فلما كملوا في الطريقة دخلوا البلاد، وسكنوا بين الناس لتربيتهم ودعوتهم إلى الله تعالى، فلما بلغوا هذا الحدَّ قللوا العبادة والرياضات، وكَثَّروا مجالسةَ الناس ومواعظتهم وتربيتهم، ولم يضرهم قَبول الناس؛ لأن قلوبَهم مطمئنةٌ بالحق مزينةٌ بنور التَّجلي، فصارَتْ قلوبُهُم كالبحر، فكما أن القذرات لا تكدِّر البحر، فكذلك اجتماع المال وتوجه الجاه والقبول إليهم لا يكدِّر صفاء خواطرهم (1).
* * *
(1) في "ش" و"ق": "قلوبهم".