الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
أن الخمائل الناقصة فى مخطوطة الاسكوريال كانت تحمل أرقام 1، 3، 8، وإن كان من غير المعروف أى منها كان يحمل واحدا من هذه الأرقام الثلاثة.
4-
أن الخمائل الثلاثة الأخيرة [من الخميلة العاشرة إلى الخميلة الثانية عشرة] قد احتفظت فى مخطوطة الاسكوريال بأرقامها الصحيحة وبترتيبها الصحيح أيضا 5- إن نقص الطبقتين الأوليين من الخميلة الرابعة يجعلها فى موضعها الصحيح بالنسبة لمخطوطة الاسكوريال ولكن ليس بالنسبة لمخطوطة سوهاج التى نصور الترتيب الصحيح الذى وضعه ابن سعيد لمؤلفه.
لهذا كله اتخذت مخطوطة سوهاج أصلا، وقابلتها بمخطوطة الاسكوريال.
4- الدراسة:
- 1- يحمل كتاب ابن سعيد من حيث شكله أو إخراجه العام سمات عقليته المنظمة، المحبة للترتيب والتبويب، القادرة عليهما بإرادة الفنان الواعى، والأديب المتمكن.
لقد ألزم نفسه فى مقدمته بنظام لم يخرج عليه فى تأليف كتابه وهو نظام يتضح فى أهم كتبه وهو كتاب «المغرب» الذى وإن لم يكن صاحبه الأول «1» .
فقد كان من أعطاه طابعه الأخير، بل إن اهتمامه بمقدمات كتبه، وتضمينها خطته فى التأليف والهدف منها، يدل دلالة واضحة على هذه العقلية المنظمة، كما يدل أيضا على تلك النفسية المطمئنة التى تنصرف بكليتها إلى العمل الذى بين يديها دون تأثر بالأحداث التى تقع خارجها. فقد كانت الأحداث المحزنة تترى على
العالم الإسلامى فى مغربه ومشرقه من سقوط لمدن الأندلس فى أيدى المسيحيين واحدة بعد الأخرى، ومن اضطرابات سياسية فى شمالى افريقيا، ومن تصارع فى الشام بين الصليبيين والمسلمين، ومن اجتياح المغول لأقصى الشرق الإسلامى حتى وصلوا بغداد عام 656 هـ ودمروا فيها كل مظاهر الحكم والحضارة، كل هذا حدث خلال حياة ابن سعيد.
وربما كان والده موسى هو الذى درّبه على هذا العمل المنظم، ولكن الذى لاشك فيه أنه لولا استعداد الابن الفطرى لهذا ما كان الوالد قد نجح فيما أراد لابنه.
كان ابن سعيد مؤرخا جوّالا، فكان يرى من الأحداث ما يقع، ويسمع من مشاهدى. عصره ما ينزل بالمسلمين من خطوب، وكان من الممكن أن يظهر تأثير كل ذلك فيما يكتب، ولكننا نلحظ عكس ذلك تماما فى مؤلفاته، إذ نراه معجبا فحسب بقصيدة قالها الشاعر المصرى ابن مطروح مثلا فى مديح الملك الأيوبى حين ينزل الهزيمة بالملك لويس الناسع وبحملته على دمياط، ولكننا لا نجده يشارك فى تصوير فرحته بهذا النصر وهو الشاعر المسلم، أو على الأقل تصوير ألمه لما يقع للمسلمين من هزائم فى كل مكان. قد يكون ديوانه المفقود فيه شىء من هذا ونحن لا نعلمه، ولكن الذى ألاحظه أن ما وصل إلينا من شعره فى بطون الكتب وهو ليس بقليل يجعلنا نحس بأن الرجل يقف موقف المتفرج أكثر منه من موقف المشارك من كل هذه الأحداث. أما شعره فهو إما حنين لوطنه الأول فى غرناطة أو تصوير لمتعته واستمتاعه بمظاهر الترف والحضارة فى مدن العالم الاسلامى التى تجول فيها، كما فعل وهو فى تونس أو فى مصر أو فى الشام «1» ، وقد تكون بعض قصائد المديح التى ينشرها فى ملوك العصر لا تخرج عن الهدف المصلحى منها وهى أن يكرمه هؤلاء الملوك وأن يجزلوا له فى العطاء.
ويظهر أن صديقه ابن العديم كان يعرف فيه ذلك، إذ حينما دعاه معه إلى حلب
ليقدمه إلى صاحبها الملك الناصر، وأنشد ابن سعيد الملك قصيدته التى مطلعها «1»
جد لى بما ألقى الخيال من الكرى
…
لا بد للضّيف المسلمّ من القرى
قال ابن العديم: هذا رجل عارف، ورّى بمقصوده من أول كلمة، ويؤكد المعنى الذى قصده ابن العديم عن هذه الشخصية ما جاء فى بقية الخبر حين قال الملك له مداعبا:«إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور. وقد اخترت لك لقبا يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر، فإن كنت ترضى به، وإلا لم نعلم به أحدا غيرنا، وهو البلبل. فقال [ابن سعيد] : قد رضى المملوك ياخوند، فتبسم السلطان: وقال له أيضا يداعبه! اختر واحدة من ثلاث: إما الضيافة التى ذكرتها أول شعرك، وإما جائزة القصيدة، وإما حق الإسم. فقال [إبن سعيد] ؛ ياخوند، المملوك مما لا يختنق بعشر لقم لأنه مغربى، فكيف بثلاث؟! فطرب السلطان وقال: هذا مغربى ظريف، ثم أتبعه من الدنانير والخلع الملوكية والتواقيع بالأرزاق مالا يوصف» «2» .
وإذا كان ابن سعيد قد عاش حياته بين متعته وعلمه فقد أراد ذلك أيضا حين قرر أن لا يتزوج حتى يفرغ تماما لهما. يقول «3» .
أنا شاعر أهوى التخلّى دون ما
…
زوج لكيما تخلص الأفكار
لو كنت ذا زوج لكنت منغّصا
…
فى كل حين رزقها أمتار
دعنى أرح طول التغرّب خاطرى
…
حتى أعود ويستقرّ قرار
كم قائل لى ضاع شرخ شبابه
…
ما ضيّعته بطالة وعقار
إذ لم أزل فى العلم أجهد دائما
…
حتى تأتّت هذه الأبكار
مهما أرم من دون زوج لم أكن
…
كلّا ورزقى دائما مدرار
وإذا خرجت لفرجة هنّيتها
…
لا صنعة ضاعت ولا تذكار
وهكذا تفرغ ابن سعيد لميدان بحثه بعد أن ضمن أرزاقه، واطمأن إلى كافليها.
- 2- ترجع أهمية كتاب ابن سعيد «المقتطف من أزاهر الطرف» إلى ما يأتى:
1-
ان كثيرا من مختاراته لشعراء لم تصل إلينا دواوينهم، بل إن بعضهم لا تعرف عنهم إلا أسماءهم.
2-
انه اهتم فى كتابه باختيارات لشعراء عاصروه أو سبقوه بقليل، وخاصة من شعراء مصر والشام وشمالى أفريقيا فى الفترة الواقعة من القرن الرابع حتى القرن السابع الهجرى، وهى فترة ازدحمت بالشعراء، وكثر فيها الشعر كثرة مفرطة كما شاعت فى الشعر أساليب واتجاهات فنية تختلف عما كان عليه هذا الفن قبل القرن الرابع الهجرى، فالكتاب مادة خصبة للباحثين فى أدب هذه الفترة.
3-
إهتم ابن سعيد بذكر بعض أسماء الكتب التى أخذ منها مثل كتاب «الكمائم» للبيهقى، ومثل كتاب ابن سعيد نفسه «حلى الرسائل» مما يلقى الضوء على طبيعة هذه الكتب وما احتوت عليه من مادة أدبية.
4-
اهتم ابن سعيد اهتماما ملحوظا بالفنون الشعرية غير التقليدية، كما فعل فى الخميلة العاشرة التى اشتملت على الدوبيتيات والمربعات والمخمسات.
5-
إهتم ابن سعيد بالفنون التى اتسمت بالشعبية مثل الموشحات فى الخميلة الثانية عشرة، وبالفنون الشعبية العامية اللغة مثل فنى «المواليا» «وكان وكان» فى الخميلة الحادية عشرة، وفن الزجل فى الخميلة الثانية عشرة. وقد أورد ابن سعيد نصوصا من هذه الفنون لم ترد فى المراجع التى بين أيدينا، والمعروف عنها اهتمامها بمثل هذه النصوص، مثل كتاب «العاطل الحالى» لصفى الدين الحلى، فهى مادة جديدة إذن للباحثين فى هذا المجال.
وقد ظهرت بعض العيوب فى مؤلف ابن سعيد، منها أنه كان يحذف بعض الأبيات من المقطوعة سواء من أولها أو من وسطها أو من آخرها كى يصبح عدد أبياتها متفقا مع العنوان الذى وضعه لخميلته، كأن يكون العنوان خاصا بالأبيات المسدسة أو المسبعة أو المثمنة مثلا، مما أضرّ بالنص إضرارا فنيا. كذلك حذف بعض الجمل من الفقرات التى اختارها من الخطب والرسائل كى يتفق النص مع عدد الأسطر الذى قرره فى عنوان الخميلة مما أفقده الخاصة الأسلوبية لصاحبه، بل وأخرج النص عن صورته الحقيقية.
كذلك ظهر فى مؤلف ابن سعيد عيوب أخرى ليس له علاقة بها، إذ كان المتسبب فيها الزمن نفسه، فإن قدم مخطوطة سوهاج التى اعتمدناها أصلا قد بهتت الأحبار فى عدد ليس بالقليل من صفحاتها، كما طمست كلمات كثيرة فى بعض سطورها. وكانت الخمائل الثلاث الأخيرة الأوفى نصيبا بذلك، مما جعلنا لا نستطيع قراءة بعض الكلمات أو السطور منها «1» ، ولم تنفع مقارنة هذه الصفحات بمثيلاتها فى مخطوطة الاسكوريال، لأن ناسخ هذه المخطوطة أسقط منها من بين ما أسقط معظم نصوص «المواليا» «وكان وكان» من نسخته إما اختصارا أو عدم اهتمام منه بهذين اللونين من الفن.
كذلك لم نجد فى مقدمة ابن خلدون انه اهتم بهذين اللونين أيضا وكان اهتمامه فحسب بفنى الموشحات والأزجال، وكذلك فعل المقرى «2» .
- 3- حين يقرأ الدارس رسالتين أولاهما لأبى الوليد بن محمد الشقندى والأخرى لأبى محمد بن حزم الظاهرى فى تفضيل علم الأندلس وأدبه ورجالهما على علم المشرق وأدبه ورجالهما «3» يدرك المدى الذى وصل إليه موقف الحضارة الأندلسية
الدفاعى عن نفسها تجاه حضارة المشرق الأم، وهو موقف من يحس بفضل حضارة أخرى عليه، ولكنه يريد أن يثبت أنه وإن كان مصدر حضارته من غيره، فإنه قد تفوق فيما أخذ وتميز فيما أبدع، وأصبح بعد ذلك صاحب شخصية مستقلة يمكن أن تطاول من كان السبب فى وجودها.
وهذا الموقف الدفاعى هو الذى جعل ابن دحية يؤلف كتابه «المطرب من أشعار أهل المغرب، للملك الكامل الأيوبى، ليعرف المشارقة بالشعر الأندلسى والمغربى «1» فجمع فى كتابه صورا مما «يهتز عند سماعه ويطرب، فى الغزل والنسيب، والوصف والتشبيب، إلى غير ذلك من مستطرفات التشبيهات المستعذبة ومبتكرات بدائع بدائه الخواطر المستغربة «2» ، ولمح سير ملوك المغرب وملح أخبار أدبائه، ورقيق معانى كتّابه، وجزل ألفاظ خطبائه» «3» وقد أخذ يذكر الأمثلة من الشعر التى تفوق فيها شعراء الأندلس، فيأتى مثلا بأبيات للحكم الغزالى ويقول:«هذا الشعر لوروى لعمر بن أبى ربيعة أو لبشار بن برد أو للعباس بن الأحنف ومن سلك هذا المسلك من الشعراء المحسنين لا ستغرب له، وإنما أوجب أن يكون ذكره منسيا أن كان أندلسيا، وإلا فماله أخمل، وما حق مثله أن يهمل» «4» وإذا كان ابن دحية قد أطلق لفظ «المطرب» على لون من الشعر استأثر بإعجابه، فإننا نجد ابن سعيد يتسع فى هذه المصطلحات التى تقف عند طبيعة «الصورة الفنية» ويقسمها حسب ما تثيره فى النفس من إعجاب إلى خمسة أقسام:
المرقص، ثم يليها المطرب، فالمقبول فالمسموع، وأخيرا المتروك. يقول فى كتابه
«عنوان المرقصات والمطربات» «1» : فالمرقص ما كان مخترعا أو مولدا يكاد يلحق بطبقة الاختراع مما يوجد فيه من السر الذى يمكن أزمة القلوب من يديه، ويلقى منها محبة عليه وذلك راجع إلى الذوق والحس، مغن بالإشارة عن العبارة.
والمطرب ما نقص فيه الغوص عن درجة الاختراع إلا أن فيه مسحة من الابتداع
…
والمقبول ما كان عليه طلاوة مما لا يكون فيه غوص على تشبيه وتمثيل وما أشبه ذلك
…
والمسموع ما عليه أكثر الشعراء مما به القافية والوزن دون أن يمجّه الطبع ويستثقله السمع
…
والمتروك ما كان كلا على السمع والطبع
…
«2»
وقد طبق ابن سعيد تقسيماته الخمسة على النثر أيضا، وإن لم يتخذ «الصورة الفنية» فيه أساسا لهذا التقسيم، ولكنه اتخذ الأسلوب وأنواعه فاصلا بين كل مصطلح وآخر يقول:«والنثر فى كلامهم يطلق على ما هو مقيد بالسجع وما هو غير مقيد، وجميع نثر القدماء داخل فى طبقة المقبول «3» وما تحتها
…
ولا نورد هنا إلا ما كان مقيدا بالسجع المسهل للحفظ مما هو داخل فى طبقتى المرقص والمطرب جريا على ما اعتمدنا عليه فى النظم» «4» ويظهر أن ابن سعيد لم يكتف بهذه التقسيمات إذ نراه فى كتابه «المقتطف» «5» يورد اصطلاحا آخر، وهو «الهزّاز من المرقص» وكأنه درجة أعلا من المرقص وأفضل، وكلها تقسيمات تعتمد على ذوق ابن سعيد الخاص، وعلى اهتمام شعراء عصره ونقادهم بقيمة «الغوص على التشبيه والتمثيل» وأن الأبيات التى تخلو منهما تقل قيمتها عند أدباء هذا العصر مهما كانت قيمتها عند السابقين عليهم. يقول د. إحسان عباس «وفى استعمال هذه المصطلحات الخمسة نظر
ابن سعيد إلى الشعر من ناحية «التأثير» وحسب، أى نظر إلى فعل الشعر فى نفس المتلقى وإلى رد الفعل لديه حين يتلقى الشعر
…
وذلك انحياز إلى جانب المتعة فى الشعر» «1» وقد كان هذا هو منهج ابن سعيد فى اختياراته فى كتابه «المقتطف» .
(المقتطف من أزاهر الطرف لابن سعيد الأندلسى)
بسم الله الرحمن الرحيم
، صلى الله على سيدنا محمد.
[قال على بن]«1» موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد أما بعد حمدا لله الذى [جعل أزاهر الأدب] غضّة على مر الليالى والأيام [والصلاة على] سيدنا محمد نبيّه الذى فضله على جميع [أنبيائه وأتاه] جوامع الكلام، وعلى آله وصحبه [الطيبين الطاهرين] أعلام الهدى ودعائم الاسلام، [والدعاء] لسيدنا ومولانا الخليفة الإمام المستنصر [بالله المنصور] بفضل الله أمير المؤمنين أبو عبد الله «2» [ابن الأمراء الراشدين] بعلوّ الآراء ونصر الأعلام.
[فإنى لما رحلت] من ذيل المعمور «3» حيث البحر المحيط [بالمغرب الأقصى] وإلى صدر المشرق حيث البحر الفارسى [شافهت من] أعلام الأدب، وأطلعت من كتبه [ما يثقل على] الأسماع إذ يستقصى، وصدرت من [بغداد وقد] قلبت بها ستا وثلاثين خزانة [اقتطفت منها] جميع ما أظهر خاطرى استحسانه [وعدت إلى حلب] حيث لم تزل تنفق سوق الأدب وتفيأت عودا على بدء ظلال الملك الناصر الفاضل المفضل صلاح الدين أبى المظفر يوسف بن الملك العزيز ابن الملك الظاهر بن الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب «4» وجعلت أحاضر فى مجلسه بما انتقيه مما جمعته/ من ذلك، وهو مع الساعات
يبسطنى بارتياحه، ويغبطنى باستحسانه واستملاحه. قال لى: هذا الذى جمعته بهذه الرحلة الطويلة، والاجتهاد الكلى أنت فيه كما جاء فى الأثر النبوى:
«منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا» ، أم عامل بما قيل: تجمّع الفكر على قليل المحفوظ خير من تفرقه على كثير الملحوظ فإن ذلك داع إلى أن تبقى سلاح المذاكرة مصقولة، وأيدى المحاضرة غير مغلولة. ومع هذا هل تجعل عمره مقترنا بعمرى أم تجعله مقترنا بعمر الدهر، لتذكر به إذا نسيت، وتخبر إذا مت، فعلمت ما أشار إليه من تقييد العلم بالكتاب، وقلت كان والدى «1» قد جمع كتاب المشرق فى حلى المشرق وكتاب المغرب فى حلى المغرب، وجل جهدى فى تكميل هذين الكتابين على ما رسم لى. قال: وما الذى رسمه لك؟ قلت: إنه متى ذكر بلد ابتدىء فيه بالحلى البلاديّة بما هو داخل فى علم الجغرافيا، فترسم صورته ثم تذكر من حيوانه ونباته ومعدنه، وما يتركب من ذلك إلى ما يتعلق بوصف الأنهار والمتنزهات بما تتحلى به الحاضرة، ثم يعقب ذلك بالحلى العبادية، فيذكر أول من حل بذلك البلد ويؤتى بتاريخه على النسق إلى الوقت الذى صنف فيه الكتاب، ويذكر من أرباب رياستيه السيفية والقلميّة ومن انضاف إلى ذلك من الأعلام فى فنون الجد والهزل ما يمتع الجليس بنكت النثر والنظم والحكايات، ويعمر المجلس النبيل فقال: هذا مقصد جليل، ولا يرتهن فى الوفاء به إلا من جال أقطار الغرب والشرق، وشافه أعلامهما، وطالع خزائن مصنفاتها، وأعين على ذلك مع ما ذكر بالقوة الحافظة والفكر الوضاء، ورزق من الفصاحة والبلاغة ما يلخص به المتعقد، ويختصر الطويل، ويحسن العبارة بالألفاظ الصقيلة والمعانى النبيلة، وقد أعطى والدى القوس باريها، والدار بانيها، فكيف يكون لسانك فيمن تذكره من الماضين والمعاصرين؟ فقلت: قد عهد إلى ألا انقل فيما أجد فيه ذم أحد بنثر ولا بنظم، ولا أصنع مثل ذلك لحنق على أحد أو لفضول لسان دون ترة أو غير معرفة كما صنع ان ابن حيان «2» فى
المتين، والفتح «1» فى القلائد. فقال والله إن هذا لحسن، رحم الله الموصى وأعان الموصى.
وقد ترك والدك فى هذه الوصية عنوانا على حسبه وكرم أدبه، وإنما افكر فى الحديث الصحيح الذى أخرجه البخارى وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ، والحديث الذى أخرجه أيضا وهو قوله صلى الله عليه وسلم «إن من شرار الناس الذين يكرمون/ إتقاء ألسنتهم» .
وقد جاء فى صحيح الترمذى: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت» وجاء فى كتب المسيحيين أن المسيح عليه السلام مرّ مع أصحابه على جيفة خنزير، فقال أحدهم: ما أنتن ريحه، وقال الآخر: ما أقبح صورته، فقال المسيح: ما أحسن بياض أسنانه. فقال له شمعون الصفا يا نبى الله، وصفوا قبائحه ووصفت محاسنه، فقال: كل امرىء ينفق مما عنده، وإن لسانا عوّد الخير لا ينطق إلا بخير، فقلت يا مولانا، وحق نعمتك لا صنفت من هذه الفنون التى اجتمعت لى مصنفا إلا طرزت خطبته بهذه المراسم الجليلة السلطانية.
فقال: ايه وما الذى تعتمد عليه فيما تصنفه؟ هل تكون فيه كما قال المتنبى «2»
يشمّر للّج عن ساقه
…
ويغرقه الموج فى الساحل
أو كما قال غيره
ولك أبدأ الأمر الذى أنا موقن
…
بأنّى منه لست أمضى لآخر
فقلت يا خوند «3» ، هكذا يجرى لى دائما كلما شرعت فى مصنف لم تسمح نفسى بأن أجعله صغيرا، وآخذ فى استيفاء ما اجتمع من مواده، وأبخل ان أسقط منها إلى أن أضجر وتقع السآمة فى بعض مسافاته. قال: ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» وقال عليه السلام/ «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق» . فقلت: وفى بعض
الأحيان يخطر بفكرتى قول القائل: من ألّف فقد استهدف، فيحملنى على ألا أضيف شيئا. فقال: يا سبحان الله: لم تقتض ذلك الحكمة التى ظهرت فى بناء الماضى للآتى، وتصنيف السالف للخالف، وإنما ذلك قول عاجز أراد أن يعجز المصنفين، كما أن البخيل أراد أن يبخل الناس، فقال! إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع.
وانت إذا استفزك ذلك المعجز بتلك اللفظة، وثناك عن قصدك، كنت قد ضيعت مقدار نفسك فى هذه الصناعة، وكتمت من علمها ما أمرت بإظهاره.
وقد جاء فى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينبغى لمن عنده شىء من العلم أن يضيع نفسه» . ثم قال: وبعد هذا كله فكم تقدر من سفر فى الكتابين اللذين أوصاك والدك بتكميلهما؟ قلت: مع الاختصار يكونان من عشرة أسفار. قال: هذا مصنف ملوكى لا ينسخه إلا ملك أو من له همة ملوكية وقليل ما هم، ولكن إن أردت أن تكمل مصنفاتك فى عمرك، وتجول فى الأقطار فى حياتك وتذكر بها بعد وفاتك، فاعتمد على قول ابن عباس رضى الله عنه: العلم أكثر من أن يؤتى على آخره، فخذوا من كل شىء أحسنه.
وقد قال يحيى بن خالد «1» : الناس يكتبون أحسن ما يسمعون/ ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويحدثون بأحسن ما يحفظون، فاعزم على ان تثبت فى طيارات مصنفاتك أحسن ما تحفظ، إن الشىء عندك كثير، فإن استوفى أمد حياتك تصنيف ما رسم لك من هذا، وكانت فيه فضله لما بقى، استدركت بالغربلة الثانية أو الثالثة ما تريده على حسب انفساح العمر، ونوع أجناسه، لينفرد كل مصنف بفن يستوفى ملح أغراضه. فقد قال عتبة بن أبى سفيان لمعلم ولده «2» : ولا تخرجهم من علم إلى علم فإن ازدحام العلوم فى السمع مضلة
للفهم، فقلت: قد حصل لى بهذا المجلس المبارك ما رفع عنى حجاب الحيرة، فكم خبطت عشواء لا اهتدى إلى صباح، فالحمد لله الذى أنعم علىّ بكم من كل جهة.
فقال: وبقيت فائدة بها تمام الغرض عملا بقول الصديق رضى الله عنه: إكثار الكلام ينسى بعضه بعضا، وذلك أن تحذو على ما رسمته لأدباء الخزانة فيما يعتمدون عليه متى أمرتهم بتصنيف فيما يتحرك له خاطرى وهو أن يكون المصنف فى سفر واحد، والكراريس التى يحتوى علهما اثنتى عشرة على عدد شهور العام، ويكون خطها مما يعمل فيه حساب طول العمر وتغير حاسة البصر، وتكون أسطار كل صفحة منها ثلاثة عشر. هذا انتهاء حجمه إذا كان/ كبيرا، فإن كان متوسطا كان انتهاؤه إلى ثمانى كراريس، فإن كان صغيرا كان انتهاؤه إلى أربع.
وهذا الرسم يسهل جمعه على مؤلفه ويقرب حفظه ولحظه على من صنف له.
فقبلت الأرض وانصرفت بهذه الفوائد، وشرعت فى ضم ما تشرد عندى من الشذور والوسائط والفرائد، وجعلت ألخص وأختصر كل مجموع لم يكمل تصنيفه وقد كملت عندى مواده، فقرب المرام بذلك الرسم الناصرى، وظهر النجاح على طريقة متبعة، وكان من تلك المصنفات
كتاب بواسم الخمائل ونواسم الأصائل
كنت قد جمعت فى مواده كل ما اقتطفته من زهرة، ووقعت عليه من لطيفة، وجعلته منوعا من نكت النثر والنظم والحكايات والأوزان المولدة المعربة والعامية المستعملة بالمشرق، والمستعملة بالمغرب، وقدرت أن يكون فى عشرين سفرا من الأسفار الناصرية، فعدت بتلك الوصية إلى مواده وغربلتها إلى أن حصل لى فى الخلاصة الأولى منها سفر من الرسم الناصرى، واعتمدت فى ترتيبه وتبويبه على أن يكون فى أربعة فصول، عدد فصول العام، لكل فصل منها ثلاث خمائل، عدد
شهور كل فصل، تحويها ثلاث كراريس، لكل خميلة كراسة، وكل خميلة مشتملة على أربع طبقات إلا الخمائل الأخيرة التى تشتمل عليها الفصل الرابع، فالخميلة الأولى فى الكلام القصير، وحدّه من سطر إلى أربعة، والخميلة الثانية فى الكلام المتوسط، وحدّه من خمسة أسطار إلى ثمانية، والخميلة الثالثة فى الكلام الممتع، وحده من تسعة أسطار إلى اثنى عشر. وتتميز الطبقات بحسب السطور، فالطبقة الأولى من الكلام القصير ماله سطر والثانية ماله سطران، والثالثة ماله ثلاثة، والرابعة ماله أربعة. والطبقة الأولى من الكلام المتوسط ماله خمسة أسطار والثانية ماله ستة والثالثة ماله سبعة، والرابعة ماله ثمانية. والطبقة الأولى من الكلام الممتع ماله تسعة أسطار والثانية ماله عشرة والثالثة ماله أحد عشر والرابعة ماله اثنا عشر. فالفصل الأول فى أزاهر النثر التى تكون من الكلام بمنزلة الملوك من الأنام، والأعياد من الأيام، والصنائف من الأعلام وهو مشتمل على ثلاث خمائل، كأنما أقتطعت من أرض بابل. فالخميلة الأولى فى الكلمات القصيرة التى هى كالدرر النثيرة وهى بعد هذا على أربع طبقات على ما رسم. والخميلة الثانية فى الكلمات المتوسطة التى هى بالأسماع مرتبطة، وهى أيضا على أربع طبقات كما رسم. والخميلة الثالثة فى/ الكلمات الممتعة التى ليست عن المحاضرة ممتنعة وهى أيضا أربع طبقات. والفصل الثانى فى أزاهر النظم التى تكون من نوادر الشعر بمنزلة الوسائط من العقود، والخيلان من الخدود، والأعلام من البرود، ونشوات الراح من العنقود، وهو يشتمل على ثلاث خمائل كأنما اختلست من وشى الخمائل. فالخميلة الأولى فى الأبيات المفردة والمزدوجة والمثلثة والمربعة. والخميلة الثانية فى الأبيات المخمسة والمسدسة والمسبعة والمثمنة.
والخميلة الثالثة فى الأبيات المتسعة والمعشرة والإحدى عشرية والإثنى عشرية.
والفصل الثالث فى أزاهر الحكايات التى تكون بمنزلة قصب السبق من الغايات، وهو مشتمل على ثلاث خمائل كأنما خلع عليها حلل البكر والأصائل.
فالخميلة الأولى فى الحكايات المختصرة التى هى بمنزلة الورد من أزاهر الروضة
النضرة وهى أيضا على أربع طبقات كما رسم. والخميلة الثانية المتنفسة التى هى على التوسط مؤسسة وهى أيضا على أربع طبقات. والخميلة الثالثة فى الحكايات الممتعة التى تكون قوة الحفظ فيها متسعة، وهى أيضا على أربع طبقات. والفصل الرابع فى أزاهر الأوزان المولدة التى تحكى رونق الخدود الموردة، وهو مشتمل على ثلاث خمائل أبهج من جلوة العرائس فى مذهبات الغلائل. فالخميلة الأولى فى الدوبيتيّات والمربعات والمخمسات.
والخميلة الثانية فى كان وكان ومواليا، والخميلة الثالثة فى الموشحات والأزجال.
واقتضى اختصار هذا الكتاب وترتيبه ألا يذكر عند كل زهرة من أين اقتطفت لأن ذلك يطول، وعن الغرض يحول، وله مكان مخصوص به من كتاب «العنوان» فى تسمية من لقيته من الأعلام، وطالعته من الكتاب، وما دخلته من البلدان إلا فى النادر. كما أنّى حذفت ما يقع على الأشعار المرقصة والمطربة والمقبولة من الكلام، إذ لذلك كتاب مفرد سميته «كتاب الماشطة» التى تجلى بها عرائس الأشعار فى منصة المفاخر، وتحلى بتزيينها فى الأسماع والخواطر.
ولما كمل هذا المجموع كمال البدر فى إشراقه، واهتز اهتزاز الغصن فى أوراقه، وكان اخراجه للوجود سميته «المقتطف من أزاهر الطرف» وبالله الإعانة والتوفيق والهداية إلى سواء الطريق.