الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي البحث
كتب السيرة النبوية تملأ المكتبة الإسلامية. فما معنى التكرار فيها إذا لم نأت بجديد؟ وسأدع الإجابة على هذا السؤال يستنتجها القارىء نفسه من خلال المقدمة.
عشت مع السيرة النبوية مند نعومة أظفاري، بل كنت أحرص على حفظها عن ظهر قلب، وكانت المتعة الكبرى في حياتي من خلالها، أتعمق في معانيها، وأتربي على أحداثها وتأخذ روعتها بلبي. ومن أجل ذلك، وحرصا على أن تكون جزءا من كياني ما كنت أدع كتابا في السيرة، أو مصدرا من مصادرها إلا وأسارع إلى اقتنائه وقراءته ينهم شديد. وكانت الأحلام تراودني أن أكتب في السيرة مند سن المراهقة. وتجاوز الأمر مرحلة الحلم إلى التنفيذ الواقعي، وأمضيت خمس سنوات وأنا أكتب في كل جزئية من جزئياتها. لكني مع ذلك بقيت انتظر فرصة سانحة من العمر أتفرغ فيها تماما للسيرة، وتحول الأعمال والعلاقات الاجتماعية دون ذلك.
ولا أزال انتظرا!!
أما فكرة المنهج الحركي للسيرة. فقد انبثقت في الفكر انبثاقا يختلف عن الأصل الذي كنت أفكر فيه.
لا أزال أذكر في بداية الستينات عندما طلع علينا الشهيد سيد قطب رحمه الله بكتابه - معالم في الطريق - وكان نقطة تحول حساسة في الفكر الحركي
الإسلامي. وقفت مليا أمام هذه الفقرة:
والسمة الثانية في منهج هذا الدين: هي الواقعية الحركية .. فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة .. والذين يسوقون النصوص المختلفة بكل مرحلة منها .. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا، ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادىء والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا. يمثل القواعد النهائية في هذا الدين، ويقولون - وهم مهزومون روحيا وعقليا تحث ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع أو يحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلا بتخليه عن منهجه، وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة، بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية، وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها). العالم ص 58.
وقفت أمام هذه الفترة كثيرا وأنا أقرأ الكتاب أو أشرحه. وتساءلت في نفسي عن هذه الواقعية الحركية: ما هي مراحلها؟ وما هي الوسائل المناسبة لكل مرحلة؟
وما أحوجنا إلى كتاب يوضح هذه المراحل، وهذه الوسائل. فيضع نقاطا علامة للدعاة إلى الله، يتعرفون فيها على خطوات السير، كما فعل الشهيد في معالمه.
موضوع مثير حقا، وعدم فهم هذه المراحل والتعرف عليها، وفهم الوسائل المناسبة يجعل الخلاف عميقا بين الدعاة المسلمين وأبناء الحركة الإسلامية.
وللإجابة على هذا السؤال. لم يكن عندي إلا دراسة السيرة دراسة واضحة تحدد المراحل المتتابعة فيها، وسمات كل مرحلة. لأن السيرة النبوية هي التطبيق العملي للإسلام، وهي الصورة الأنموذج لإقامة دولة الإسلام. فإذا توضحت هذه المراحل، وتبينت هذه السمات، كقينا المؤونة، وتوحد خط السير، وانتفى دور الاجتهاد الشخصي:
لكن يبرز سؤال دقيق:
ما هو مدى إلزامية هذه المراحل وهذه الوسائل، للجماعة المسلمة وهي تشق طريقها لإقامة دولة الإسلام في الأرض؟ وهل الحركة الإسلامية متعبدة بهذه المراحل ما لها من فكاك عنها. أم أن تلك المراحل قد انتهت مع النصوص النهائية للإسلام، وأصبحت منسوخة هي وأحكامها في الواقع الإسلامي.
ولا يخفى أبدا إن خلافا كبيرا بين حركتين إسلاميتين حول هذا الموضوع جعل كل واحدة منهما تسير في خط مستقل، وذلك من خلال هذين الفهمين:
الفهم الأول: يرى أن التقيد بهذه المراحل لا مناص منه حتى في الحد الزمني. وهي تقرر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش دعوة ثلاثة عشر عاما. ثم أقام دولته، فهي مقيدة بهذا العمر من الدعوة. وعليها أن تقيم دولة الإسلام بعد ثلاثة عشر عاما من عمرها. وهذا فهم خطير ولا شك، فالمدى الزمني في الأصل تقدير رباني، وليس جهدا بشريا فقط، والله تعالى قد قال لنبيه:{فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} . الزخرف 41 - 43. ومن آثار هذا الفهم كذلك موضوع النصرة، وأنه لا يجوز استعمال السلاح قبل قيام الدولة، إنما تقوم الدولة على أساس طلب النصرة من سدنة المجتمع الجاهلي. وإلى أن يفتح صدر أحد هؤلاء للدعوة أو لنصرة هذه الدعوة وهو على شركه. فالحركة الإسلامية معذورة في المواجهة المسلحة، وقد أدى حمل هذين المبدأين معا، العمر الزمني والنصرة إلى تناقض عجيب في
المواقف، وإلى تزعزع في الثقة بصحة هذه المبادىء.
إننا إذا تركنا العمر الزمني جانبا وهو مرتبط بقدر الله أولا، وسنته في نصره عندما ينضج الدعاة ويغدون مؤهلين للخلافة في الأرض. نستطيع أن نقول إن المنهج الحركي للسيرة ملزم للدعاة في خطهم الجهادي لإقامة دولة الله في الأرض. وذلك أنا مأمورون باقتفاء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} .
والأسوة تبدو واضحة أكثر ما تبدو من خلال السيرة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام، وأي اعتساف في مراحل هذا المنهج لا يوصل إلى الغاية، والتجارب الكثيرة التي خاضتها الحركات الإسلامية على مدار التاريخ تؤكد هذا المعنى. فما من حركة إسلامية قامت، وأقامت منهج الله في الأرض إلا اعتمدت التنظيم السري في بداية الأمر، ثم انطلقت إلى إعلان فهمها الحركي للإسلام، من خلال الحكمة والموعظة الحسنة، ثم واجهت المجتمع المنحرف جاهليا كان أو فاسقا. وتسنمت سدة الحكم، واعتمدت القوة للحفاظ على المبدأ من الحرب المسلحة التي يشنها أعداؤه عليه. بينما بقيت قضية اعتماد السلاح والقوة في مرحلة الدعوة أمرا اجتهاديا. متقيدا بطبيعة الحرب مع العدو أو الخصم.
وإذا كان الأمر مجال خلاف في الاجتهاد وللمسلمين خلافتهم ودولتهم التي يفيئون إليها فليس الأمر كذلك والمسلمون نتفا مبعثرة في الأرض يحكمون بغير شريعة الله، وإذا كان تكوين الجماعة - مع قيام دولة الإسلام - محل خلاف ونظر حول الثورة على الأمير الفاسق. فليس هو محل خلاف، والأمير يحكم علنا وصراحة بغير شريعة الإسلام.
" إلا أن تروا كفرا بواحا. لكم فيه من الله تعالى برهان".
ولنتساءل أكثر وأكثر: ما فائدة دراسة المنهج الحركي للسيرة.
ولأجيب على هذا السؤال. أستأذن الأخ القارىء لأحدثه عن انطباعي
عن سور القرآن مع - ظلال القرآن - ودونه.
لقد كنت أقرأ السور الطوال في القرآن، وأخص بالذكر الزهراوين البقرة وآل عمران. فلا أكاد أجد خطا يربط بين جزئياتها، وأضيع في متاهاتها. تماما مثل رجل دخل في بلدة ولم يتعرف على مخططها. فهو يجوب فيها كلها دون أن يصل إلى بغيته. أو الدار التي يريدها. أو رأى بناء ضخما. لم ير هندسته التي قام عليها. فلا يدرك شيئا من جمال البناء وفن المعمار فيه. ولكني عندما قرأت - في ظلال القرآن - أحسست بعظمة البناء وروعته. أحسست بأن سورة البقرة التي تستغرق قرابة جزأين ونصف. كان محورها الرئيسي هو البناء الداخلي للأمة من خلال العبادات والتشريعات، وعرض عدوها الأول بني إسرائيل - لتتعرف على طبيعة هذا العدو، وعلى تجربته حين كلف بالخلافة في الأرض، وكيف انحرف عن رسالته. بهدين الخطين الرئيسيين أمكن أن نعيد كل جزئية في هذه السورة العظيمة إلى مكانها في المخطط، وفعلا قدم سيد لنا رحمه الله المنهج الحركي في القرآن - فلكل سورة هدف عام، وهدف خاص، ومحور تدور عليه أحداث هذه السورة، والذي يتعرض هذا المخطط الكلي للسورة، يستوعب بعدها كل أجزائها في مكانها المناسب لها. ويكاد يكون سيد رحمه الله قد انفرد من بين المفسرين جميعا بهذه الميزة، وخاصة في الطبعة الثانية المنقحة من الظلال. هذا المنهج الذي اكتشفه في آخر عمله في الظلال في الطبعة الأولى، كما يقول الأخ الخالدي: (وفي الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الظلال بدأ يبرز عند سيد قطب الاتجاه الحركي الذي تولد عنده نتيجة لتجربته العملية في الحركة بالإسلام، ونتيجة لنظراته المتجددة في القرآن. وكان لا بد من أن يعيد النظر في الظلال، ويعيد كتابته على أساس من اتجاهاته الحركية الجديدة، فكان أن أصدر سيد قطب الطبعة المنقحة من الظلال، وهي الطبعة الثالثة وقد أصدرتها دار إحياء الكتب العربية في القاهرة.
كتب سيد قطب الأجزاء العشرة الأولى من الطبعة الثالثة المنقحة بتركيز شديد، وكان يقف عند الآيات طويلا، ويسجل حولها كل خواطره،
ويتعرض للحديث عما تشير إليه من أمور في العقيدة أو الفقه أو التشريع أو المعاملات السياسية أو الاقتصاد أو التاريخ أو الفلسفة أو التربية أو الاجتماع أو غير ذلك، ويقف طويلا على إيحاءات الحركية، ويسجل للعاملين للإسلام موحياتها ويرسم لهم على ضوئها معالم الطريق
…
وقد كان سيد قطب يتمنى أن يعيد كتابة باقي الأجزاء من الثالث عشر إلى السابع والعشرين على هذا المنهج الجديد، ويترك الأجزاء الثلاثة الأخيرة لأنها كتبت على ضوء هذا المنهج. ولكن الطغاة عجلوا بالقضاء عليه قبل أن يحقق هذه الأمنية ..) الشهيد الحي سيد قطب 242 - 243.
إذن هناك شيء اسمه المنهج الحركي للقرآن. كتب سيد ظلاله على ضوئه. وأنا أحاول في هذه الصفحات - على قلة بضاعتي - أن أتناول - المنهج الحركي للسيرة - الذي يحدد معالم الطريق وسماته. بحيث تأخذ الجزئيات في السيرة مكانها الطبيعي من خلال المرحلة. ولا تضيع معالم المرحلة في متاهة الجزئيات المبعثرة. كالذي يضيع في المدينة الضخمة دون أن يطلع على مخططها.
وما أحوجنا إلى الحديث عن المناهج، نحدد بها معالم السير. وما أفقر مكتبتنا الإسلامية إليها على كثرة ووفرة الكتب الإسلامية اليوم التي تغزو المكتبات كل يوم.
لدينا تلك المحاضرة لسيد رحمه الله: في التاريخ فكرة ومنهاج و - معالم في الطريق - ولدينا لأخي الشهيد، لمحمد قطب، المفكر الإسلامي العظيم: منهج التربية الإسلامية، ومنهج الفن الإسلامي. وكتابه المخطوط - الذي نرجو الله تعالى أن يرى النور - منهج للتاريخ الإسلامي. وكتب أخرى يصعب عرضها في هذه العجالة. لكنها بالتأكيد لا تتجاوز أصابع اليدين. هي كل ما نملكه في هذه المجالات. التي تنطلق كلها من النظرة الكلية الشاملة.
لتعيد بعد ذلك كل الأجزاء إلى مكانها الطبيعي في تخطيط هندسي بديع. وأخيرا ما أحوجنا إلى - المنهج الحركي للسنة النبوية.
هذا النتاج الضخم من الحديث الذي يمثل أعظم ما قاله البشر في
هذا الوجود، لا يزال مثناثرا تناثر النجوم في السماء تبلغ أعداد أحاديثه عشرات الألوف. وفي بعض مجموعاته خمسين ألف حديث. ولكنه، غير مترابط البناء، غير محكم البنيان. وأن يأتي العالم الإسلامي والمفكر الإسلامي، الذي ينظر إلى بناء هذا التجمع بناء مرتبطا بمراحل الدعوة، ومراحل الدولة، ويحدد معالمه وخطوطه، هو أمل، وما ذلك على المؤمنين - إن شاء الله - ببعيد.
وفي ختام هذا الحديث أود أن أعتذر سلفا إلى الأخ القارىء، عن أي فهم خاطىء قد فهمته في السيرة. وخاصة في المقارنات بين حركتنا الإسلامية اليوم ومسيرتنا الإسلامية، وبين مراحل السيرة من قبل ومنهجها الحركي، فهذه فهوم ونظرات، يختلف فيها الحكم، لكن أود أن يشاركني الأخ القارىء في أنه لا بد لنا من المنهج الحركي للسيرة النبوية، نسير على هداه، ولعل أخا بأتي من بعدي، يعمق هذه الخطوط، ويحدد هذه المراحل تحديدا أدق وأعمق ويكون الاتجاه كله لإيضاح معالم البناء الجديد. فالسيرة النبوية نبع ثر، ومعمل ضخم لا بد أن يحسن الاستفادة منه بتحديد مجاريه، وتوزيع نتاجه. ويبقى أكير المعالم للطريق الطويل.
والله نسأل أن يجنبنا عثرات الفكر، وزلات القلم، وأن يهدينا ويهدي بنا سواء السبيل، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، وفي صحيفة حسناتنا يوم القيامة إنه سميع مجيب. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالين.