الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد بقيت يثرب معرضة لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات.
وكان آخر هذا الهجوم والاجتياح في الخندق حيث قدم عشرة آلاف مقاتل لاستئصال شأفة المسلمين هناك، وبعد رد الكافرين يغيظهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم (1)).
فلقد انتهى الخطر في اجتياح المدينة بعد الخندق - كما في النص النبوي الآنف الذكر - وجاء صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ليؤكد هذا المعنى، ويؤكد الاعتراف الرسمي من قريش بدولة المدينة. وحين اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينة للمسلمين، وانتهى خطر اجتياحها من المشركين. عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة، ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية التي كان من الممكن أن يلجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سقطت يثرب في يد العدو.
إنه الفقه السياسي الأعظم، والتخطيط النبوي الأعمق من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يمضي في بناء دولة الإسلام. ويدرس كافة الاحتمالات المتوقعة، ويبحث في كل مكان عن الأرض المناسبة لقيام دولة الإسلام أو لحماية العقيدة فيها.
وفعلا وصل المهاجرون من الحبشة إلى المدينة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر فمضوا إليه هناك والتحقوا به ووصلوا بعد فتح خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أدري بأيهما أنا اسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر (2)).
السمة السادسة عشرة
الاستفادة من قوانين المجتمع المشرك - الحماية والجوار
-
لقد كان المجتمع الجاهلي يقيم وزنا كبيرا لهذا القانون، وهو حماية القوي الضعيف. فإذا دخل الضعيف في جوار القوي يتمتع بحمايته التامة،
(1) صحيح البخاري ج 2، ص 590.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام ج 4 ص 3.
ويمنع أي اعتداء يقع عليه، ويعطيه حرية التحرك والتفكير ولا يستطيع العدو أن ينال من هذا المستجير. ولو تم ذلك فإن هذا يعني أن حربا تقع بين الفريقين، ومن أجل هذا فالذي يعلن الإجارة، لا بد أن يكون عزيزا منيعا في قومه، قادرا على الحماية، ومدخلا في حسبانه كل المفاجآت الممكنة.
ولنتعرض إلى نماذج من هذه الإجارة.
لقد كانت الإجارة الأولى في المجتمع المكي هي إجارة أبي طالب لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن إسحاق: (وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراتهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه؟ فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا. وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شري الأمر بينه وبيهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله بينها. فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا ومنزلة وشرفا فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين.
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا. للذي كانوا قالوا له - فابق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله وسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عم
والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يطهره الله أو أهلك فيه ما تركته!. ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا (1)).
ونلاحظ هذه الملاحظات الثلاث على هذه الإجارة:
1 -
إن قريشا حاولت مع أبي طالب أن يدعو ابن أخيه للكف عن الدعوة لهذا الدين الجديد، وقد فشلت هذه المحاولة وهذا ما نتوقعه ونحن نستفيد من قوانين المجتمع الجاهلي، وهي محاولة استصدار قوانين جديدة تحول دون حرية الدعوة.
2 -
لجأت قريش إلى التهديد في المرة الثانية، ونجحت في التأثير على أعصاب أبي طالب، فدعا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكف عن الدعوة لهذا الدين، لعجزه عن حمايته وهو في هذه الصورة. لكن ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، مهما كانت عقباته. ثبت أبا طالب ثانية في حمايته.
ونفقه من هذا التصرف أن فشل الجاهلية في المرة الأولى - من بعض فئاتها - لضرب الدعوة لا يثنيها عن هذا الطريق، فقد تعيد الكرة ثانية وثالثة، ويقظة الحركة الإسلامية من جهة، وصلابتها من جهة ثانية هما الكفيلان بإحباط محاولات هذه الفئة المعادية، والحركة الإسلامية بحاجة لأن يستفيد من كل تناقضات المجتمع الجاهلي لتجعل بعضه ضد بعض فتستفيد هي من هذه التناقضات.
3 -
والاستفادة من العصبية الجاهلية في حماية شباب الدعوة أمر شرعي، فابن العائلة الكبيرة والقبيلة الضخمة الذي يستطيع أن يوظف زعيم هذه العائلة لحمايته لا يعني أنه قد تخلى عن دينه بذلك. واستفادة بعض الدعاة من ضابط كبير في الجيش أو المخابرات، أو وزير متنفذ في دولة،
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 284 - 285.
لا ينقص من عقيدة هذا الداعية ومن دينه شيئا. بل من حق شباب الدعوة في مرحلة الضعف البحث عن سند قوي في الجاهلية يحميهم ويحفظ عليهم حرية عقيدتهم، وحرية الدعوة إليها. ولقد كان لحماية أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجارته له ما هيأ له السبل الكافية لنشر الدعوة في قلب مكة، دون أن يتعرض لأذى ماحق يقضي عليه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما نالتا مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب (1)).
وهذا لا يعني أن الجاهلية قد وفت بعهذها وذمتها وحفظت جوار أبي طالب خلال هذه السنوات العشر، ولكن من المؤكد أنها أخفقت في محاولاتها خرق هذا العهد، وكان لحماية أبي طالب أثر فعال حال دون وصول الأذى الكبير لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
ولننتقل إلى صورة ثانية من الحماية. هي صورة إجارة ابن الدغنة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه (ففي الصحيح عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر يوم إلا يأتتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية. فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي.
فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار. ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع أبو بكر، وارتحل معه ابن الدغنة.
فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: فأمر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر. فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 58.
داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فتتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه ويتظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، وقد جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقرآن فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا، فانهه. فإن أحب على أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفر ذمتك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله (1)).
1 -
فأبو بكر رضي الله عنه يخرج بوضوح طالبا الأمان في عبادة ربه: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي.
ويلقاه ابن الدغنة. وهو سيد القارة (2)، سيد قبيلة غير قبيلة قريش.
فوجد عارا عليه أن يخرج من مكة مثل أبي بكر، الذي تناهت شهرته خارج حدود مكة أنه يكسب المعدوم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق. وهي نفس الصفات التي عرفت بها خديجة رضي الله عنها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولم يكتف ابن الدغنة بالمشاركة الوجدانية.
بل أعاد أبا بكر ودخل به مكة، وأعلن حمايته على الملأ. إنها حماية غريبة أن يحمي سيد قبيلة ابنا لقبيلة أخرى وفي بيوت القبيلة نفسها ومع ذلك لم تجد قريش فكاكا من ذلك، وأذعنت لجوار ابن الدغنة لأبي بكر، وكانت الحماية على حرية العبادة.
(1) مختصر السيرة لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 87 - 88.
(2)
القارة هي القبيلة التي نقض بعض أفرادها العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أحد وغدروا بسرية الرجيع.
2 -
غير أن الأمر تطور تطورا آخر، من حرية العبادة إلى حرية الدعوة، وهنا ثارت ثائرة قريش وأرسلت وراء ابن الدغنة تستجير به وتعلن استعدادها لخرق الحماية أما الحدث الجديد الذي فوجئت به، ان يصلي أبو بكر في فناء بيته، فتتقصف عليه النساء ويجتمعن عليه، ويفتن به - وكذلك الولدان - وعجز ابن الدغنة، عن إجراء إجارته على حرية الدعوة، وعندما خير أبو بكر رضي الله عنه، بين حجز حريته عن الدعوة إلى الله، وأن يعيش في ظل ابن الدغنة آمنا قرير العين، وبين أن يدعو ويحمل مسؤولية دعوته، آثر البلاء والدعوة في سبيل الله على الأمان وحرية العبادة، لقد كانت هذه الإجارة أدنى من إجارة أبي طالب، فهناك إذن الإجارة على حرية الدعوة كما كانت إجارة أبي طالب، اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت. وبين إجارة ابن الدغنة على حرية العبادة ارجع واعبد ربك ببلدك.
ولقد وجد هذان النموذجان في مكة. من تحميه قوة لإجارة في حرية العبادة وهو الأكثر، ومن تحميه قوة الإجارة في حرية الدعوة وهو نادر، بل نكاد نقول أنه خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما رأينا محاولات قريش في ضرب هذه الإجارة وفشلها في ذلك. ونخلص من هذا إلى أن الاستفادة من قوانين الجاهلية أمر مشروع إن كان فيه مصلحة للدعوة. وليس هذا طعنا في الدين، وليس هذا احتكار لغير شريعة الله. كما يدور بخلد بعض المتحمسين.
ومما يذكر في تاريخ الدعوة المعاصر أن الحكومة المصرية عندما اعتقلت الداعية الإسلامي الكبير محمد قطب عام 66، أقام الإمام الشهيد سيد قطب دعوة على الحكومة المصرية التي خرقت القانون في اعتقاله. ولم يعرف تاريخ الدعوة الحديثة مثل سيد في تحرره من فكرة الحاكمية لغير الله. وهو الذي حمل لواءها في كتبه وفكره وحياته حتى توفاه الله. إن الفقه العظيم لسيد حين يفرق بين القناعة بنظام حكم كافر يسعى إليه، وبين الاستفادة من نظام حكم كافر لحماية الدعوة وشيابها ورجالها.
ومن هذا المنطلق نقول وننتبه كذلك إلى: إن الديمقراطية - وهي نظام