الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصعبة؟ أن يجد كل ما بناه منهارا في لحظة واحدة، أو يجد الدولة التي يريدها على وشك أن تقوم. ثم يطلب منه أن يضحي بهذا كله من أجل حقيقة عقيدية واحدة. أبدا إما السياسي، وإما المسلم. فلا خيار عندها له إلا الإسلام. انتهى دور العبقرية ولم يكن من بد إلا إعلان العقيدة ولو كانت تغيظ الكثيرين أو تقضي على كل ما حققه المسلمون من مكاسب. قالوا وبلا خلاف: هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. لقد حصرهم دهاء عمرو في عبودية عيسى، فلا مناص، لهم من أن يقولوا الحقيقة. ولكن شرف الكلمة، وعظمة التمسك في المبدأ يكون لها من السحر الحلال أحيانا ما يفوق كل دهاقنة السياسة وعباقرة الدبلوماسية، وهذا الذي كان. - والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود - ولئن فشل عمرو في تغيير قلب النجاشي، فلم يفشل في تغيير قلب بطارقته. ونخروا أمام هذه التصريحات، غير أن النجاشي زاد إصرارا على موقفه. - وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم (آمنون) بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم! ما أحب أن لي دبرا (جبلا) من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. وانتهى الأمر بتوتر العلاقات بين النجاشي وصاحبه عمرو حتى ليأمر بإعادة الهدايا كلها إليهم. وأنها لتعني في مفهومنا المعاصر على أقل تقدير، قطع العلاقات
الدبلوماسية بين الدولتين مكة والحبشة، وإغلاق السفارات، والاعتراف الرسمي بالوجود الإسلامي في الحبشة.
السمة الرابعة والعشرون
إثارة الحرب في صف حلفاء المسلمين، وفشل هذه المكيدة بالحزم
والسرية
لم يغادر عمرو الحبشه - رغم هزيمته النكراء - إلا وقد وضع بذور الحرب الأهلية في صفوف الحبشة حيث انقسمت الحبشة إلى فريقين: فريق مؤيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والوجود الإسلامي وعلى رأسه النجاشي. وفريق
معارض -أو بتعبير أدق- للوجود الإسلامي في الحبشة وعلى رأسه مغامر جديد أو قائد انقلاب، ومن خلفه البطارقة الذين دفنوا غيظهم مؤقتا على المسلمين. ثم ساندوا هذا المغامر، وألبوا الجو ضد النجاشي حتى قامت الثورة عليه.
وهنا تطالعنا معان عديدة يجدر الوقوف عندها، ونحن ننهل من معين هذا المنهج تطالعنا مشاعر المسلمين كما تقول أم سلمة رضي الله عنها: - فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك. ثم كيف عاشوا على أعصابهم مراحل الحرب كاملة يرصدونها بيقظة وحذر. ويحمل الفتى الزبير - الذي لا يلفت الأنظار لصغر سنه، مسؤولية مراقبة الحرب والمعركة حيث يغامر سابحا إلى الطرف الآخر من النهر، وحين يتم النصر لا يتمالك أن يلوح بثوبه من بعيد فرحا بظفر هذا الكافر - ظاهرا على الأقل - على عدو يريد إبادتهم من الوجود.
والمعنى الثاني والثالث نطالعهما من تتمة قصة النجاشي: (وحدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا وخرجوا عليه فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم. فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم. ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصغوا له فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: وكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا خير سيرة.
قال: فما بالكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه. هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب، فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له .. (1)).
(1) تهذيب مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 87.
فلقد كان من الممكن أن يفقد المسلمون أكبر مركز استراتيجي لهم بعزل النجاشي أو قتله. وكان النجاشي يدرك هذا المعنى، فأقدم بحصافته في بداية الأمر على تهيئة السفن للمسلمين لأنهم هم المقصودون في الأصل. فلو انتصر خصومه فلن تطال يدهم المسلمون، وإن ظفر هو فالأمن والأمان للمسلمين. وكان التصرف االثاني درسا للمسلمين، فالنجاشي لم يعلن إسلامه بعد، ومن الممكن أن تبقى شخصية سريه غير معروفة بإسلامها ليؤمن الحماية للمسلمين، ونحن بحاجة إلى أن نقارن بين الموقفين، أن جعفر لم يقف هذا الموقف، ووقفه النجاشي لماذا أبيح للنجاشي ذلك، ولم يبح لجعفر، رغم أن كلا الشخصين مسلمان.
أما جعفر فهو الذي يمثل الإسلام والمسلمين، ومن خلاله يعرف الإسلام وتعرف عقائده. فلا مجال للغمغمة والتخفية، لأن هذا يعني طمس عقيدة الإسلام في نفوس الناس.
أما النجاشي فلا يعرف الإسلام بشخصه، ولا يعرف من خلاله، بل هو فرد عادي، الأصل أنه نصراني لا مسلم. فاقتضت المصلحة السياسية أن يبقى محافظا على سريته، ولجأ في اللحظة الحاسمة إلى التورية والإخفاء، وبقي في ذهن شعبه نصرانيا فأخمدت الثورة عليه. هذا الموقف هو الذي يمكن أن نسميه تغطية سياسية لأي جهاد إسلامي. فلو أن ضباطا في جيش يحملون في السر إنتماء إسلاميا لحركة مجاهدة، فليس بالضرورة أن يكشف عن هويتهم، ويعلن إسلامهم طالما أن في إخفاء شخصيتهم مصلحة للإسلام والمسلمين.
إن شخصية النجاشي، وشخصية العباس، وشخصية نعيم بن مسعود، هي نماذج إسلامية محتذاة للحركة الإسلامية ومن خلال أدوارها التي تؤديها، يمكن تحقيق حماية أو نصر أو تمكين للمسلمين في الأرض دون حرج تحمله الحركة الإسلامية أو تحمل أوزاره.