الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لدليل أصيل على عظمة هذا الدين الذي يجعل أبناءه أسرة واحدة، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
السمة الرابعة عشرة
الطريق الثانية للحماية عن طريق الهجرة
فالبقاء بين براثن الشرك حتى يتمكن الشرك من إبادة المسلمين عملية خرقاء. صحيح أن الجندي يتحتم عليه أن يتحلى بالصبر، ويتقبل المصيبة بصدر رحب ويثبت على دينه، لكن مهمة القيادة الأساسية هي حماية جنودها من الخطر، غير أن هذه الحماية لا تكون على حساب العقيدة أو الشريعة، في هذا الإطار تتحرك القيادة، ومن أجل هذا نرى سيد القادة محمدا عليه الصلاة والسلام يبحث في الأرض كلها عن مكان آمن. ولا تستطيع يد الشرك أن تطاله. وكان هذا المكان هو أرض الحبشة.
فقد روى ابن هشام عن ابن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد.
وهي أرض صدق. حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتة وفرارا إلى الله بدينهم. فكانت أول هجرة كانت في الإسلام) (1).
(
…
وكان خروجهم في رجب من السنة الخامسة من المبعث. فأقاموا بالحبشة شعبان ورمضان. وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر فلم يدركوا منهم أحدا، ثم رجعوا إلى مكة في شوال لما بلغهم أن قريشا صافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفوا عنه
…
(1) تهذيب السيرة لابن هشام ص 72.
ولما استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سب آلهتهم عادوا إلى شر ما كانوا عليه، وازدادوا شدة على من أسلم. فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة وبلغهم أمرهم توقفوا عن الدخول، ثم دخل كل رجل في جوار رجل من قريش. ثم اشتد عليهم البلاء والتعذيب من قريش، وسطت عليهم عشائرهم، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية فخرجوا. فكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب، فكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا إن كان فيهم عمار بن ياسر فإنه يشك فيه، قاله ابن إسحاق. ومن النساء تسع عشرة امرأة
…
(1)).
وهكذا نجد أن الثقل الكبير للمسلمين قد انتقل إلى الحبشة فأن يغادر مكة ثلاثة وثمانون رجلا وتسع عشرة امرأة يعني هذا أن قوة ضخمة وتجمعا كبيرا قد قام في قطر آخر وبعيد عن مكة وعن متناول يدها يستطيع أن ينتشر ويتضخم ويهدد وجود مكة ذاتها.
وهذا المنطلق لم يكن ليغيب عن ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو البحث عن قاعدة صلبة ومكان آمن آخر للدعوة غير مكة. حيث لا تستطيع قريش مهما بلغ من عتوها أن تنهي الوجود الإسلامي في الأرض، وهذا ما يحسن أن تنتبه الحركة الإسلامية إليه في تخطيطها حيث لا تضع كل طاقاتها البشرية والمادية في أرض واحدة، تكون معرضة فيها للإبادة، بل تعدد أماكن تجمعها وتواجدها، بحيث تستطيع لو فقدت موقعا معينا أن تنتقل إلى موقع ثان تنطلق منه وتواجه الجاهلية من خلاله.
ولا شك أن مغادرة الشباب الإسلامي مواقعه وأماكنه إلى أرض جديدة، يعاني فيها آلام الغربة والوحشة عن الأهل والوطن، هو أمر صعب وتضحية كبيرة. لا تتحقق إلا إذا كان هذا الشباب على مستوى من الإيمان العظيم يتجاوز به هذه العقبات. وأن تكون عقيدته وحبه لها أكبر من حبه
(1) السيرة النبوية لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 82.
لوطنه، وحنينه لقومه، وارتباطه بأرضه. أن تكون رابطة العقيدة أعمق غورا في نفسه، وأشد أثرا في قلبه من أية رابطة أخرى مهما سمت وارتفعت.
وخاصة أن الهجرة لهذه الأرض النائية، والمعيشة بين قوم غير قومهم يتكلمون بلغة غير لغتهم، ولهم عادات وتقاليد ودين غير عاداتهم ودينهم وتقاليدهم هي أشق على النفس وأقسى على الروح. فما لم يكن جنود الحركة الإسلامية على المستوى المذكور من الإيمان، فلن تنجح القيادة في تنفيذ خطتها ومخططاتها.
إنه لا بد أن يتربى الشباب المسلم على أن تكون عقيدته أغلى عليه من كل شيء في حياته، وأن يكون ارتباطه بدينه أقوى من أية رابطة أخرى من أهل أو زوج أو ولد أو عشيرة أو أرض أو مال أو وطن أو مصلحة.
وهذا المستوى الإيماني العظيم هو الذي جعل هذه الأعداد الكبيرة تهاجر إلى هذه الأرض النائية البعيدة.
إننا ونحن اليوم في القرن العشرين، وفي وسائل المواصلات الضخمة التي اختصرت الأشهر بالساعات، وبالارتباط العالمي القائم في دول الأرض من حيث الاتصال، لو دعينا إلى الهجرة إلى الحبشة لأحسنا بثقل ذلك وصعوبته، ووجدنا من يتلكأ عن الإجابة. وسماعنا بالحبشة بالذات يجعل الوحشة والرهبة هي المسيطرة على كياننا لو دعينا لذلك.
فكم يا ترى هو المستوى الإيماني الرفيع لدى تلك العصمة المؤمنة في الأرض، وهم يعرفون الأحباش وينظرون إليهم من على على أنهم عرب أقحاح، وأولئك عجم سود كأن رأس كل منهم زبيبة، كانوا يترفعون عنهم
(1) سورة التوبة، الآية 24.