الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأولى: إعدام خمسة ممن اتهموا بحادثة الكلية الفنية.
الثانية: إعدام مجموعة شكري مصطفى وإخوانه.
ولم يشهد عهد الحكام المتعاقبين إعداما إلا لقادة الاتجاه الإسلامي.
السمة السابعة عشرة
عبقرية التخطيط البشري في الهجرة
أ - مبيت علي رضي الله عنه في فراشه:
(.. فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فقال لعلي بن أبي طالب، نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام (1)).
فلقد كان أمر الله تعالى لرسوله أن لا ينام على فراشه، وكان تصرف النبي عليه الصلاة والسلام بنوم علي على فراشه وتسجيه ببرده جزءا من مسؤولية القائد في إنجاح خطته، وذلك بالتمويه والتعمية على عدوه. وقد نجحت هذه الجزئية في التمويه نجاحا تاما رغم الاحتمالات الكبيرة لكشفها. فلقد قال لهم الرجل الذي رأى محمدا خارجا من بيته: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا أفما ترون ما بكم؟. فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام علي رضي الله عنه عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا.
ورغم ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحماية ربه له. فهذا لم يمنعه من أن يأخذ
(1) تهذيب سيرة ابن هشام ص 112.
الاحتياط البشري الذي يملكه. وفي الوقت الذي أعمى الله تعالى عنه الأبصار أثناء خروجه، وسلط عليها النوم حتى خرج من بين أيديهم. شاءت إرادته تعالى أن يتم لقاء رسول الله مع الراكب القادم، وأن ينبه العدو إلى خروجه.
لكن الله تعالى حرس نبيه عليه الصلاة والسلام لا بمعجزة، ولكن بعالم الأسباب في تخطيط البشر.
وما أحوجنا إلى أن ندرك واجبنا في الإعداد لمواجهة العدو رغم اعتمادنا الأول والأخير على الله تعالى. لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا على القدر، ونتوجع على عدم نصر الله تعالى لنا، ونحن المسؤولون عن ذلك.
ب - الخروج في النهار:
(قالت عائشة: كان لا يخطىء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية - حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه. أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها (1)).
إذ أن هذه الساعة بالنسبة للناس ساعة القيلولة، وقلما يوجد إنسان في مكة خارج بيته، خاصة إذا عرفنا أن الخروج كان في أوائل أيلول. في آخر شهر من أشهر الصيف كما حققه العلامة المباركفوري. فهذا الخروج هو أضمن ما يكون للسرية وأضمن أن يخفى عن العيون.
ج - الخروج من الكوة:
(
…
فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته (2)
…
) .. إذ قد يكون بيت أبي بكر مراقبا، وهو احتمال كبير بعد أن فات رسول الله المشركون.
وإذا كانت المراقبة قائمة من بيت مجاور أو من مكان فيه ظل بعيد عن الأنظار فستكون المراقبة لباب البيت بالذات يرصد فيه الداخلون والخارجون. وفي
(1) السيرة النبوية لابن هشام ص 129 ج 2.
(2)
المصدر نفسه 130.
الخروج من مخرج سري بعيد عن المراقبة يعني ضرورة المحافظة الدائمة على السرية ووضع الاحتمالات الكثيرة لتخطيط العدو ومراقبته.
د - الاتجاه إلى الغار:
(
…
ثم عمدا إلى غار بثور فدخلاه
…
(1)). وإذا توقعنا تخطيط مكة للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسوف يكون طريق المدينة مرصودا من عدد غفير من الفرسان حتى يحال دون وصوله إليها. إن التفكير البشري سينصب طبيعيا على رصده لأنه هو هدف الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي القبض عليه إنهاء للمعركة كاملة معه. فاتجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار فوت على العدو مخططه وأحبطه، وفوت عليه القبض عليه.
هـ - الغار على غير طريق المدينة:
وتبدو عظمة التخطيط أكثر حين نعلم أن غار ثور في جنوب مكة وليس على طريق المدينة حيث احتمالات الرصد. وكما يقول المباركفوري: (ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمين، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور. وهذا جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)).
و- المخابرات في مكة:
(وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبي بكر أن يتسمع ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر .. (3)). فلا يكفي بقاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر في الغار مدة معينة، ثم ينطلقان حسب التقدير إلى المدينة، لا بد من التعرف مباشرة على كل أسرار العدو
(1) المصدر نفسه ص 130.
(2)
الرحيق المختوم ص 183.
(3)
السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 130.
ومخططاته وتوقعاته، بحيث تصل أولا بأول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون متابعة تنفيذ الخطة قائما على خبرة بالواقع لا على ظن وحدس يخطىء ويصيب.
وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدرى بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها، وما يوم حليمة بسر. وما أحداث حماة التي أدت إلى محنتها الرهيبة، إلا وكان أكبر أسبابها جهل القيادة بطبيعة مجريات الأمور هناك. وانقطاع الاتصال بين القيادة في الخارج والقيادة الميدانية في الداخل ساهم إلى حد كبير في تطور الأزمة ومضاعفاتها.
ز - تأمين الزاد:
(.. وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما .. (1)). فقد يكون المقام طويلا في الغار ولو انقطع الزاد عنهما فقد يهلكان من الجوع، وأن يحمل عبد الله بن أبي بكر مؤونة إحضار الطعام فقد يلفت ذلك الأنظار ويكشف تحركاته ويحول دون تأدية مهمته.
ومن حقنا أن نتصور كذلك أنه بإمكان أسماء أن ينقل أخوها عبد الله لها صورة الواقع، وتنقل الزاد والأخبار لرسول الله. لكن قدرة أسماء على استيعاب الخبر وأبعاده أضعف من قدرة عبد الله. فلا بد من اعتماد أوثق الطرق، كذلك في الوقت الذي كانت أسماء فيه أقدر على تأمين الزاد ولكلا الأخوين اختصاصهما ومكانهما المناسب. ولا نستطيع أن نمر بهذه الفقرة دون الإشارة إلى شخصية أسماء العجيبة وهي الأنثى الحامل في شهورها الأخيرة. وتصعد في الجبل الذي يعجز المسلم العادي صعوده.
ح - إعفاء الأثر:
(.. وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحهما عليه .. (2)). فإذا كان اقتفاء الأثر خير دليل لمعرفة وجودها في الغار، خاصة
(1) المصدر نفسه لابن هشام ج 2 ص 130.
(2)
المصدر نفسه لابن هشام ج 2 ص 130.
وأسماء وعبد الله صلى الله عليه وسلم وميا يأتيان إلى الغار، فكان غنم عامر بن فهيرة هو الذي يأتي على آثار أقدامهما فيعفي الأثر، ويزيل الاحتمال.
والشباب المجاهدون في القواعد، والمختبئون فيها لهم في هذا الدرس بكل جزئياته، ما يدفعهم إلى التعرف على كل وسائل السرية المطلوبة وفقدان عنصر واحد من هذه العناصر يجعل القاعدة معرضة للكشف من العدو.
ط - الاستمرار ثلاثة أيام:
(فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر لأن الخروج إلى أي مكان في الأيام الأولى يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو. كما أن المدة الزمنية هذه كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا في المعلومات المقدمة من عبد الله بن أبي بكر عن خفة الطلب عليهما. كما أن الاستقرار أكثر قد يلفت النظر من الآخرين حين يتكرر المرور عليهما من أسماء وعبد الله كل يوم.
ي - الإرادة الربانية تتدخل:
في رواية للإمام أحمد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: فهيأنا لهم سفرة
…
وخرجوا يطوفون في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذي هما فيه فقال أبو بكر لرجل مواجه الغار: يا رسول الله إنه ليرانا. فقال: كلا أن ملائكة تسترنا بأجنحتها). فجلس ذلك الرجل فبال مواجه الغار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان يرانا ما فعل هذا (1)).
وفي رواية البخاري: (.. فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما ..). (2) وبالرغم من كل الجهد البشري في التمويه والإخفاء والسرية فلقد وصلت قريش إلى مكان اختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر من رواية أسماء أنهم كانوا يبحثون في كل جبال مكة عنهما، ولعل ذلك من وشاية أو توقع. واحتمال وصول قريش عن طريق تتبع الأثر هو احتمال ضعيف، أو ضعف في الخطة نفسها. لكن الذي نود قوله:
(1) ذات النطاقين لمحمد حسن بريغش. ج 2 ص 35 - 36.
(2)
السيرة النبوية ج 2 ص 130.
إنه حين ينتهي الجهد البشري المطلوب، وحين تستنفذ الطاقة البشرية فإنه تعالى أرحم بنبيه وصاحبه من أن يجعلهما ظفرا لعدوهما، ولقد قرر أنه تعالى في محكم التنزيل هذا المعنى إذا أكد حمايته لنبيه ونصره له حين تخلت عنه قوة الأرض، وحين كان المسلمون كلهم كقوة بشرية قائمة في المدينة أو مختفية في مكة - ليس معه للحماية إلا إنسان واحد:{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (1)} .
فقوة الأرض كلها بعيدة عن النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنون والكافرون. ووصل إلى قبضة الطاغوت. وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا قائلا له عن الرجل المراقب: إن الملائكة لتظللنا بأجنحتها مصداقا لقول الله عز وجل: {وأيده بجنود لم تروها} .
والتعبير القرآني العجيب أن هذا النصر في حقيقة الأمر كان بابا لأن تكون كلمة الله هي العليا، وإذلالا وإرغاما للمشركين في تحطيم كل مخططاتهم بقتل النبي عليه الصلاة والسلام. لقد كانت نجاته عليه الصلاة والسلام من قبضة عدوه نصرا مؤزرا تكون كلمة الله تعالى هي العليا فيه.
والدعاة إلى الله بحاجة دائما إلى أن يكون راسخا في أعماقهم دائما عون الله لهم حين تعجز قوتهم البشرية عن إدراك ما يخطط لهم العدو بعد استنفاد الطاقة واستفراغ الوسع، وأن تكون لديهم القناعة التامة كذلك أن النصر أولا وأخيرا بيد الله.
ك - الاستفادة من خبرة المشركين:
(.. فاستأجرا عبد الله بن أريقط - وكان مشركا - يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحليتهما - فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. وعلى شركه، فالاستفادة من خبرته قائمة طالما أنه مأمون لا ينقل الأخبار للمشركين. والاستفادة من
(1) التوبة الآية 40.
الطاقات غير الإسلامية للحركة الإسلامية تجد نفسها مضطرة للاستفادة من هذه الطاقات.
ل - متابعة التمويه:
(.. فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني به سبيل الخير (1)). وطالما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر هو الهدف لقريش. وقد أعلن عن وضع مائة ناقة لمن يعثر عليه ويحضره، ومائة ناقة ثروة ضخمة للعربي الصعلوك الذي لا يجد قوته. فسوف تتسامع العرب بخبره وتحاول الظفر به، وتقدير هذه الصورة دفع أبا بكر رضي الله عنه أن يتبع هذا السبيل. فيوحي للسائل أن أبا بكر دليله على الطريق. وبذلك ينتفي الاتهام الذي يحوم حول أحدهما أن يكون صاحب قريش. إن الدعاة إلى الله لا بد أن يكونوا على قدر من الوعي والنباهة وحضور البديهة وحدة الذاكرة ما يجعلهم قادرين على خداع عدوهم والإفلات من يديه دون أن يستعمل أسلوب الكذب الصراح إلا عند الضرورة. أما الأصل، ففي الكناية والمجاز متسع لهم لتحقيق هذه الغاية، وكما يقول عليه الصلاة والسلام وهو يخط مبدأ من مبادىء التعامل مع العدو الصديق:(إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب (2)).
م - الطريق إلى اليمن:
(.. وأول ما سلك بهما بعد الخروج من الغار أنه أمعن باتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربا نحو الساحل). ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإقامة. ثلاث ليالي في الغار بل سار بهم الدليل بعيدا عن الأنظار باتجاه اليمن، ثم انحرف إلى طريق المدينة (حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطىء البحر الأحمر. فحتى الطرق الفرعية التي يمكن أن تقود إلى طريق المدينة اختارها ابن أريقط غير مأهولة، وغير مألوفة للناس
(1) الرحيق المختوم. عن البخاري. ص 187.
(2)
رواه ابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان.
إمعانا في السرية والبعد عن الأنظار. والطريق الذي اختاره للمدينة بعد ذلك هو غير الطريق العادي الذي يمضي به الناس إليها (وسلك طريقا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرا) وكما يحدثنا أبو بكر رضي الله عنه عن هذا الطريق بقوله: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانا بيدي ينام عليه وبسطت عليه فروة. وقلت نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك. فنام، وخرجت أنفض ما حوله).
فالطريق خالية والناس قلما يمرون فيها. فكم كان هذا الدليل ماهرا خريتا وهو يسير بهم في كل صوب حتى يقودهم إلى المدينة؟ إن الجهد البشري في عالم الأسباب إذا كان من غير رجال الدعوة أصلا، فلا يجوز أن يسبق رجال الدعوة فيه بحجة الاعتماد على الله والتوكل عليه، وإذا كان سيد الخلق قد فعل ذلك وهو المصنوع على عناية الله وفي رعايته، فلا شك أننا نحن أولى بذلك.
ن - سراقة والتعامل معه:
ومن الجهد البشري في الاحتياط كذلك ما كان يفعله أبو بكر رضي الله عنه (فجعل أبو بكر يسير أمامه، فإذا خشي أن يؤتى من خلفه سار خلفه. فلم يزل كذلك مسيره) ومع هذا الاحتياط فقد لحق سراقة بن مالك برسول الله صلى الله عليه وسلم طمعا في الجائزة وكما يروي: (.. فدنوت منهما حتى إني لأسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركضت الفرس فوقعت بمنخريها، فأخرجت قداحي من كنانتي فضربت بها: أضره أم لا أضره؟ فخرج: لا تضره، فأبت نفسي حتى أتبعه، فأتيت ذلك الموضع فوقعت الفرس. فاستخرجت يديه مرة أخرى، فضربت بالقداح أضره أم لا، فخرج لا تضره فأبت نفسي حتى إذا كنت منه بمثل ذلك الموضع خشية أن يصيبني ما أصابني بأذيته، فقلت: إني أرى سيكون لك شأن فقف أكلمك). فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يكتب له أمانا فكتب له أمانا). وفي رواية البخاري (1) فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي
(1) من رواية الإمام أحمد وأورده البخاري في صحيحه ج 5/ 77.
حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم). (ورجع سراقة فجد في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ها هنا وكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما (1)). والحرص على تعدد الروايات هو لاستكمال الصورة. فما لقيه سراقة من انسياخ قدمي فرسه ومن تعثرها وانكبابها على منخريها - كما ثبت في الروايات الصحيحة - جعله يغير خطته. ومن أجل ذلك فلم يقاتل ولم يقتل، بل تم الاطمئنان إليه. بأن أتم بقية الخطة في التعمية، وصرف الناس عن متابعة الطلب في هذا الطريق. والملاحظ أن سراقة لم يسلم وبقي على شركه. وكل ما وقع عنده هو قناعته بأن الرجل ممنوع وأن النصر حليفه لا محالة، ورضي أن يذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر اليوم ويبعد الناس عن ملاحقته في هذا الطريق.
والدرس المهم لنا من هذه الحادثة، ونحن في الحركة الإسلامية نعمل لإعادة الحياة الإسلامية إلى الأرض. هو أن نملك القدرة على تحديد الصديق من العدو وذلك في صفوف الكفار أنفسهم وبإمكان الحركة الإسلامية أن تأخذ من قلب أعدائها من تصبح القناعة عنده بانتصارها ليتعامل معها ويناصرها، ويبقى تقدير الأمر لقيادة الجماعة من خلال تعاملها مع هذا الخصم. إن المنطق الظاهري يقتضي قتل سراقة بن مالك لأنه قد يدل عليهما. وهو لم يسلم بعد، لكن تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم لشخصه أنه صادق الولاء لهما، وأنه تخلى عن عدائه لهذه الحركة أمام هذه المعجزات.
والنقطة الثانية التي تستفيدها الحركة كذلك هو أن لا يكون الحكم على الرجل أو الفئة من خلال الماضي القريب أو البعيد في عدائهم للإسلام. فمناط الأمر هو الثقة بتغير هذه الفئة أو هذا الرجل مهما كان ماضيه في
(1) زاد المعاد ج 2/ 53 ط دار الفكر.
الحرب ضد الإسلام، والقيادة من خلال تعاملها مع هؤلاء الناس لها الاجتهاد الأوفى بهذا الأمر.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الموحى إليه فيطلق في أحكامه من الوحي فلا يخطىء، ولا ينطق عن الهوى. فليس أمام قيادة الحركة الإسلامية إلا الاجتهاد في هذا الأمر الذي قد يخطىء وقد يصيب، ولو قدرنا مثلا أنها أخطأت التقدير فلا غضاضة في ذلك، ولا داعي لأن تقيم القاعدة الدنيا عليها لهذا الخطأ.
إن الحركة الإسلامية في مسيرها لإقامة دولة الإسلام، قد تتحالف مع عدو قريب وتتعاون معه بل تطلب منه جزءا من المناصرة جليلا أو يسيرا إذا اطمأنت إليه. وميزان الاطمئنان هو مدى ثقة هذا العدو بقوة الحركة الإسلامية. وتستطيع أن تبذل الجهد في التأكد من هذه الثقة، ولا شيء عليها بعد ذلك أصابت التقدير أم أخطائه.
والنقطة الثالثة التي نفقهها من هذه الحادثة هي فكرة الأمان لهذا العدو الذي غير موقفه وأعلن مناصرته وولاءه. فكل ما طلبه سراقة هو الأمان، وطالب به يوم حنين، وإن كنا لا ندري متى أسلم سراقة رضي الله عنه، وأغلب الظن أن إسلامه كان بعد فتح مكة (1). لكنه أظهر الأمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأقره عليه.
إن سلوك الكافرين ومواقفهم من الحركة الإسلامية يجعل لدى الحركة حرية التعامل معهم من خلال هذه المواقف بحيث يكون الأمر في النهاية لصالح الإسلام ودولته. وتستطيع أن تهادن وتؤمن وتستعين بمن تشاء بعد تقديرها لموقف هؤلاء الناس دون قيد. وكم نتمنى للقاعدة الإسلامية الصلبة أن تكون عونا لقيادتها على هذا التحرك، لا أن توجه لها سهام النقد والتجريح
(1) في رواية ابن إسحاق أنه أسلم بعد عرض الأمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر عودته من حنين (خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعران فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك ماذا تريد؟ فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته
…
فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لي. أنا سراقة بن مالك فقال: يوم وفاء وبر أدنه فدنوت منه فأسلمت). تهذيب السيرة ص 117.
والاتهام في وعيها على أقل الأحوال، ليصل الاتهام إلى دينها في أغلب الأحوال.
س - قصة أم معبد:
والذي يعنينا من قصة أم معبد بعد المعجزة الربانية الباهرة أنها كانت على بعض الروايات سببا في ملاحقة النبي صلى الله عليه وسلم والركب منه. وعلى الأقل كانت هذه الضيافة بشكل عام قد حددت مكان السير. إذ تذكر الرواية عن أسماء رضي الله عنها: (حين أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب وإن الناس يتبعونه يسمعون صوته ما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه
…
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
ما نزلا بالبر ثم تروحا
…
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
ومع ذلك فلم يكن لهذا الأمر ما يثير الغبار حول كشف المخطط أو مكان السير وطريقه. وقصدنا من هذه الملاحظة التأكيد على أن ما يتم فوق الطاقة البشربة من كشف لجانب من جوانب الخطة. كما جرى حين وصل الركب إلى الغار، وكما جرى حين وصل سراقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما جرى مع هاتف الجن، هذه أمور ربانية يهيئها الله تعالى لدعوته. قد تكون قوة لهؤلاء الدعاة، وقد تكون كشفا لهم وامتحانا عسيرا لتمحيص صفهم. ففي أحد أعلمنا الله تعالى حكمه وحكمته بقوله جل وعلا:{إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (1)} .
فبالرغم من أن السرية التامة كانت على الجميع حتى من العصبة المسلمة ما عدا من اشترك فيها (عائشة وأسماء وأبو بكر وابن أريقط فهيرة
(1) سورة آل عمران الآية 140 - 141.