الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمة الحادية والعشرون
ملاحقة العدو لتجمعات المسلمين وإحباط المسلمين لهذه الملاحقة
وظهر هذا جليا في الوفد الذي أرسلته قريش للحبشة لملاحقة المسلمين هناك، وتقص علينا أم سلمة رضي الله عنها قصة هذه الملاحقة، حيث نقتطف منها بعض الفقرات: (لما نزلت أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي. أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدو للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص
…
ثم أنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه، فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة لعمرو بن العاص من أن
يسمع كلامهم النجاشي. فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. فغضب النجاشي ثم قال: لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم. فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض؛ ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في
ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوا، وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له:
أيما الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قالت: فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟
فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته. وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم! ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة! انطلقا. فوالله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون.
قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما
أستأصل به خضراءهم! فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد! ثم غدا عليه من الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟. قالوا نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن!
فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود.
فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبرا من ذهب وإني آذيت رجلا منكم! ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها.
قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردودا عليها ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
قالت: فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط. كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، وسار إليه النجاشي وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت. وكان من أحدث
القوم سنا. فنفخوا له تربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم قالت: فدعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي!. وأهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة: وكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة) (1).
إنها وثيقة قدمتها لنا أم سلمة من أنفس الوثائق في فن مخاطبة الملوك، والحوار معهم ودحض شبه الأعداء وكشف مخططاتهم. وسنعالج من خلال هذه الوثيقة سمات عدة إضافة إلى السمة الأساسية فيها ألا وهي - ملاحقة تجمعات المسلمين من العدو، وإحباط هذه المخططات من المسلمين.
ولعل المشركين عندما ووجهوا بالنكسة الخطيرة التي حلت بهم من جراء إسلام عمر والحمزة رضي الله عنهما فكروا في ضرب هذا التجمع الإسلامي الضخم في الحبشة. وانطلاقا من معلومات السيرة النبوية يلاحظ أن التجمع الإسلامي في الحبشة عند إسلام عمر رضي الله عنه كان ضعف التجمع الإسلامي في مكة. فتذكر الروايات أن عدد المسلمين في مكة يوم أسلم عمر رضي الله عنه لم يكن يتجاوز الأربعين. بينما كان عددهم في الحبشة - كما تذكر الروايات - ثلاثة وثمانين رجلا وتسع عشرة امرأة. فمن الطبيعي إذن أن تخطط قيادة مكة للإطاحة بهذا التجمع الخطير في الحبشة، صحيح أنه بعيد عنها، ولكن نموه يشكل خطرا على مكة. في أي وقت تعود فيه هذه الجالية إلى مكة وتمارس نشاطها ودعوتها، خاصة إذا استطاعت هذه الجالية الكبيرة أن تدخل الأحباش في الإسلام، أو تقنع النجاشي بمهاجمة قريش. ولا تزال ذكرى عام الفيل وغزو الأحباش للكعبة عالقة في أذهانهم، ومن أجل هذا أحكمت الخطة من كل جانب لاسترجاع المسلمين من هناك، وكان وجود ثلاثة عناصر أساسية كافية لنجاح الخطة.
(1) تهذيب السيرة لابن هشام من 73 - 77.
الأول: هو الكميات الضخمة من الجلود التي حملها الوفد هدايا معه لكل جهاز الحكم في الحبشة.
الثاني: اختيار الوفد على أرفع المستويات في مكة من حيث الحكمة والحنكة والدهاء والذكاء.
الثالث: الصداقة الوثيقة بين عمرو بن العاص أحد أعضاء الوفد، والنجاشي ملك الحبشة.
وحين يراجع المرء الخطة التي شارك ذكاء عمرو بن العاص في وضعها لا يشك لحظة في نجاحها، ويكفي أن نعلم أن عمرو هو الذي كان داهية المسلمين فيما بعد، وهو الذي أطلق عليه الفاروق عمر رضي الله عنه أرطبون العرب - في مواجهة داهية الروم الأرطبون. وأهم عنصر في هذه الخطة هو تسليم الهدايا لجهاز الحكم الحبشي كله قبل تسليمها للنجاشي نفسه، والهدف المقصود من ذلك هو ما ذكر في النص نفسه (فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم).
إننا ونحن نتحدث عن هذه المطاردة، يمثل في ذهننا محاولات الطاغية الحاقد النصيري في سوريا في مطاردة المجاهدين المسلمين في الأردن والعراق والسعودية وغيرها، ونذكر الخطط الجهنمية الرهيبة التي تدرس على المستوى المحلي والعالمي للضغط على الحكومات المضيفة للمجاهدين المسلمين كي تسلمهم إلى الطواغيت. وكم من المرات جاءت الوفود إثر الوفود كي تستأصل الوجود الإسلامي من هذه الأقطار، وباءت بالفشل الذريع بعد ذلك ونفذت الخطة تماما كما أعدت، وقام البطارقة بدورهم على خير وجه كلفوا به من قريش وكان حديث الوفد القرشي في أعلى مستويات الذكاء. فقد جعلوا المسلمين على دين مرفوض من الفريقين، وبمعنى آخر هو خطر على الفريقين،
كما حاولوا أن يستفزوا مشاعر النجاشي في عدم دخول المسلمين في دينه، وأظهروا حرصهم الشديد على مصلحة الحبشة والنجاشي. وآخر معنى من المعاني التي ركز عليها الوفد القرشي هو أن قومهم وأشرافهم أعلم بهم،