الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعوة عن أذهاننا لحظة من اللحظات. وإن يكون رضى الله تعالى هو الذي يحرك مواقفنا جميعها. فلم يشغل بال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذى الذي لحق به كما ذكره (إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري) بمقدار ما كان يشغله أن يكون هذا الأذى دليلا على غضب الله تعالى عليه: (اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي). وكل الذي كان يرجوه من ربه جل وعلا أن يرفع عنه هذا السخط إن كان قد وقع (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل علي غضبك أو يحل علي سخطك ..). وسيبقى الأفق الأعلى الذي تحاول البشرية أن ترقى إليه، وخاصة الدعاة إلى الله، أن لا ينسوا هدفهم أبدا. ويذكروا دائما أن الهدف الأول عندهم هو نصر دعوتهم لا نصر أشخاصهم، وأن لا يكون الثأر والانتقام هو الذي يحركهم. ولو وقف الدعاة اليوم مليا أمام هذه الصورة، وطلب منهم أن يقبلوا إسلام أعدائهم الذين يحاربونهم في سورية اليوم لما كان بإمكانهم أن يتصوروا هذا الواقع بله أن يقبلوه. إذ أن الشيء الذي يحركهم الآن أو يمكنهم أن يقبلوه فقط هو الثأر والانتفام من أعداء الله، فليراجعوا قلوبهم وليصححوا مواقع نفوسهم، بحيث لا يكون حظهم من الدنيا إلا حظ عقيدتهم. وليكن لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة الذي يرتفع فوق عواطفه، ويرتفع فوق أحقاده وثاراته. ولا يكون له هدف إلا انتصار الدعوة وبلوغها الآفاق حتى تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله.
السمة الثانية
طلب الإجارة من العدو في مكة
(ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يدخل مكة بعد رجوعه من الطائف أرسل إلى الأخنس بن شريق: أدخل في جوارك؟ فقال: إني حليف، والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه على ذلك).
(وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة أياما، فقال له زيد بن حارثة، كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ - يعني قريشا -. فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر دينه. ثم انتهى إلى مكة، فأرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي: أدخل في جوارك؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه فقالوا ألبسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدا فلا يهيجه منكم أحد. فانتهى رسول الله إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرفت وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته (1).
لئن كانت رحلة الطائف ذات هدفين هما الدعوة والنصرة فلا شك أن الموضوع محصور الآن في طلب الإجارة والحماية من زعماء مكة. ونلاحظ في هذه الرواية إشارة إلى أن أهل مكة أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول زيد رضي الله عنه: (كيف ندخل عليهم وقد أخرجوك؟). وكانت ثقته صلى الله عليه وسلم بربه أن فرج الله تعالى قريب وخاصة عندما تشتد المحنة ويعظم البلاء.
والأخنس بن شريق من بني زهرة، وبنو زهرة حلفاء بني هاشم وبني تيم في حلف الفضول، فتنصل الأخنس من الإجارة بقوله: إني حليف والحليف لا يجير. ولعل الأصل في قانون الإجارة أن تكون من قبيلة لقبيلة ثانية، أما الحماية، فهي التي تتم من القبيلة لأبنائها، كما كانت حماية أبي طالب. ثم بعث إلى سهيل بن عمرو فتنصل من الإجارة بقوله: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فسهيل بن عمرو يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث النسب في لؤي وفي لؤي يفترق بنو كعب بن لؤي عن بني عامر بن لؤي. ولا ندري كذلك حدود هذه الأعراف الجاهلية، ولم لا تجير بنو عامر على بي كعب لكنها كانت محددة واضحة، أو أنه تعلل للهروب من هذه الإجارة.
(1) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 125.
ثم طلب الإجارة من المطعم بن عدي زعيم بن نوفل بن عبد مناف، وهم الفرع الثالث من بني عبد مناف، إذ الفروع الأربعة هي بنو هاشم وبنو عبد شمس وبنو المطلب وبنو نوفل. ويعلم المطعم بن عدي خطورة الإقدام على هذه المغامرة. فقد يعادي قريشا كلها من أجل هذه الإجارة، إذ أي اعتداء يقع على محمد صلى الله عليه وسلم لا بد أن يرد هذا الاعتداء، ولو أدى الأمر إلى حرب بينه وبينهم.
ونعلم كذلك حرص المطعم بن عدي على ألفة قومه، حين لام أبا طالب لعدم قبوله تبادل محمد وعمارة بن الوليد، إذ قال له: والله صلى الله عليه وسلم -اأبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل شيئا، فأجابه أبو طالب: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك.
والمطعم أمام هذا الموقف العصيب، وأمام معاداة قومه بالاستجابة لطلب محمد بن عبد الله أو التنصل من الإجارة كما تنصل غيره. فوقف موقفا مشرفا، حفظه له التاريخ حيث سلح بنيه جميعا وحضر بهم إلى الكعبة بالسلاح معلنا إجارة محمد بن عبد الله، حيث دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة فطافا بالكعبة بحماية السلاح. ومضى إلى بيته صلى الله عليه وسلم بحمايتهم كذلك، وكان هذا صفعة كبيرة لقريش، وتحديا لمشاعرها، لكنها لم تشا أن تخسر بني نوفل إلى الأبد إلى صف محمد كما خسرت بني المطلب وبني هاشم، فسكتت على مضض.
وحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع للمطعم بن عدي. فقال في بدر وقد أسر من قريش سبعين من صناديدهم: لو كان المطعم بن عدي حيا لوهبت له هؤلاء النتنى. وكم نحن بحاجة إلى أن نفقه هذا المعنى في حركتنا الإسلامية المعاصرة.
إن المطعم بن عدي كافر لا يختلف في عقيدته أبدا عن بقية قريش.
وإن أبا جهل وأبا لهب كافران كذلك مثل المطعم بن عدي. لكن الفرق بين