الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بتوجيه القيادة حين تسكت عن عدو أو تضطر أحيانا للئناء على بعضهم، فهي أدرى بملابسات الحرب السياسية التي تخوضها، وهي أدرى بطبيعة التعامل مع العدو من تهادن ومن تحارب. وهي صاحبة الحق في هذا الأمر، وعلى القواعد الالتزام بخطها السياسي.
السمة السابعة والعشرون
التجمع القبلي لحماية القيادة (أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب)
قال ابن إسحاق: (ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب. وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله والقيام دونه. فاجتمعوا إليه وقاموا معه إلا ما كان من أبي لهب وولده فإنهم ظاهروا قريشا على قومهم.
وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: أنهم أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني عبد المطلب. فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله. فمنهم من فعل ذلك حمية، ومنهم من فعل ذلك إيمانا ويقينا (1) ..).
لم يكن وضع أفراد القبائل واحدا بالنسبة للإسلام. فالقبائل التي تحمل لواء الحرب للإسلام لم تكن تقبل لأفرادها الانتساب للإسلام. لأن هذا إنقاصا لكرامتها كما تتصور. ومن أجل هذا فقد كان أبناؤها يتعرضون لصنوف الأذى والاضطهاد وكانت أحوالهم أشق وأصعب من أحوال أبناء القبائل الضعيفة، وذلك على غير الصورة لدى بني هاشم وبني عبد المطلب
(1) نقلا عن مختصر السيرة لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
الذين كانوا يتبنون حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فالذي يسلم فيها يدخل في حماية زعمائها تبعا لأمر رسول الله. ولهذا الموفف كان لا بد من القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم لاجتثاث الفتنة من جذورها، وعلى رواية الزهري أن قريشا اتخذوا هذا الموقف علانية. مما جعل أبا طالب يرى أنه عاجز عن حماية محمد ابن أخيه.
لقد أقدم على خطوة حاسمة حيث دعا بني هاشم وبني عبد المطلب ليحملوا مسؤولياتهم كاملة في حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن موقع زعامته لبني هاشم وبني عبد المطلب. استجاب له الجميع لذلك، فحملوا سلاحهم من منطق العزة القبلية والأنفة العشائرية.
إننا أمام ظاهرة فريدة أن تقوم قيادة مشركة بقواعدها في حماية قيادة إسلامية وتتحمل مسؤولية هذه الحماية. ولو كانت قد تؤدي إلى فتح معركة وحرب مع الفريق الآخر، وما يمكن أن تقدم هذه القيادة على هذا الموقف لولا المركز الرفيع الذي يتمتع به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبيلته. ولم يقف أبو طالب عند هذا الحد. بل طمع أن ينظم كل بني عبد مناف - على شركهم - إلى حلفه، واعتبر تخلفهم عن نصرة محمد صلى الله عليه وسلم مطعنا كبيرا في نخوتهم الجاهلية، إذ يقول:
أرى أخوينا من أبينا وأمنا
…
إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا
…
هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر
هما أغمرا للقوم في أخويهما
…
فقد أصبحا منهم أكفهما صفر (1)
ونلاحظ هنا أن الحركة الإسلامية قد نالت هذه الحماية دون أن تقدم أي تنازل عن عقيدتها. بل تمت الحماية لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى الإسلام، ويسفه أحلام قريش، ويحارب عقيدتها، لقد كانت الحماية لشخصه ولحرية
(1) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 92.
دعوته حتى ولو كانت الدعوة ضد معتقدات حماته. وهذا من غرائب ما روى التاريخ. وقد تتكرر هذه الصورة في واقعنا المعاصر في حالتين:
الحالة الأولى: أن تتضارب مصالح الجاهلية، فلا يرى فريق منها مجالا لضرب مصلحة الفريق الآخر إلا بحماية الدعاة إلى الله. وهذا ما نجده أحيانا حين تلجأ أمريكا على سبيل المثال إلى إعطاء الحرية للدعاة المسلمين كي يقفوا في وجه النفوذ الشيوعي في منطقة من المناطق وهذه الحالة لا تعني أن يطمئن المسلمون إلى هذه المواقف. بل تعني أن يستفيدوا منها. لأنه ما إن يظهر خطر المد الإسلامي إلا ويتغير الموقف من هذه الدولة أو أزلامها في السلطة. ويحس هذا العدوان الخطر الأكبر هو المد الإسلامي.
الحالة الثانية: أن يسود الفكر الديمقراطي حقيقة في أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، ويتحرك المسلمون بالدعوة انطلاقا من هذه القوانين والمبادىء. واستفادة منها في حرية التبليغ. فتضيق الجاهلية ذرعا بهذه الدعوة فتحاول خنقها. فلا عجب أن يوجد فريق من هذه الجاهلية يحمي الدعوة الإسلامية ويساندها طالما أنها لا تتجاوز مجال البيان والكلام. وخاصة إذا كان هذا الفريق يمت بصلة قربى أو مصلحة للمسلمين، وسواء أكانت هذه الحالة أو تلك، فليس للحركة الإسلامية في هذا المجال أن تطمئن لهذه الحماية، بل عليها أن تتحرك في أطر ثلاثة:
الإطار الأول: أن تستفيد من هذه الحماية أقصى حدود الاستفادة في التبليغ والبيان.
الإطار الثاني: أن تكون يقظة، فلا تقدم مقابل هذه الحماية أي تنازل عن عقيدة أو تراجع عن فكرة لمجاراة هؤلاء الذين يقدمون الحماية أو مجاملتهم.
الإطار الثالث: أن تصمت عن النيل منهم وشتمهم بصفتهم كفارا، طالما أنهم يناصرون الدعوة. بل لا غرابة أن ثثني على مواقفهم وتمدح شجاعتهم دون أن يصل الئناء إلى عقيدتهم.