الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقيدة الصحيحة هي التي ينبثق منها العبادة الصحيحة والسلوك الصحيح، وهي التي تضمن في الوقت نفسه الثبات على الحق، وتحمل التضحيات في سبيله عندما تطلب من المسلم أن يؤديها. وكل ما نراه من التراجع والتذبذب والنفاق والتخلي عن طريق الحق مرده ضعف هذه العقيدة، وتزعزعها وعدم تمكنها من القلب المسلم.
ولأمر ما اختار الإسلام - كلمة الإيمان - للدلالة على العقيدة. فالإيمان يباشر العقل والقلب معا ويربط الفكر بالوجدان ربطا وثيقا. فليس الأمر قضية قناعة فكرية باردة وليس الأمر قضية دفعة عاطفية خاوية من القناعة العقلية. بل هو الالتحام الكامل بين الجانبين حيث يصعب التمييز بينهما.
السمة العاشرة
الجهر بالدعوة بعد بناء النواة الصلبة
ودليل ذلك أنه لم يرتد أحد عن دينه من هؤلاء عندما وقعت المحنة وابتدأت المواجهة. بل كان هؤلاء الذين عاشوا الخطوات الأولى للدعوة هم القمة في الإسلام فيما بعد من حيث مستويات إيمانهم ومستويات سلوكهم، ومستويات جهادهم وتضحياتهم. ويكفي أن نعرف أن أعلى طبقة في الأمة المسلمة وهي طبقة العشرة المبشرين بالجنة كانت منهم باستثناء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. هذه الطبقة هي التي كونت جيل القيادة للمجتمع الراشد، وكان اصطفاء الخليفة منها، وتوفي رسول الله وهو راض عنها.
هذه النواة هي التي حملت فيما بعد عبء الدعوة للإسلام في الأرض، وحملت عبء المواجهة الكبرى مع أعداء هذا الدين.
لقد كان هؤلاء الستون مستعصين على الإبادة بعد أن انتهت هذه المرحلة وبدأت مرحلة المواجهة وكانوا مؤهلين لرضا الله عز وجل.
ويكفي أن ندلل على مدى حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ما جرى بين خالد
ابن الوليد رضي الله عنه وبين عبد الرحمن بن عوف حين اختلفا على أمر. ورفع الأمر إلى رسول الله فقال لخالد:
يا خالد، دع عنك أصحابي. فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي أو روحته (1). فبالرغم من أن خالد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من أنه من الذين أسلموا وأنفقوا قبل الفتح. بالرغم من ذلك كله، فلقد قيل له هذا القول حين شاتم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أحد أفراد النواة الصلبة الأولى التي قام البناء الإسلامي على أكتافها. ولا ننسى أبدا بين النسوة أمثال خديجة رضي الله عنها إحدى الكاملات في الدنيا، وأسماء بنت عميس، وأم الفضل بنت الحارث وغيرهن اللاتي كن النموذج الأعلى للنساء في التاريخ. ونتساءل أخيرا عن هذه المرحلة، هل يمكن أن تتكرر في تاريخ الحركة الإسلامية؟؟ فيما أتصوره أنها لا يمكن أن تتكرر. وبتعبير آخر لا يمكن أن نتصور الحركة الإسلامية في دور سرية الدعوة وسرية التنظيم.
إن الدعوة قد أعلنت، وانتشرت مبادئها في الكتاب الخالد لها؛ القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وفيما ألف عن الإسلام من كتب وأسفار ومجلدات أصبحت ملك الناس جميعا. ولهذا لا أرى مبررا كذلك للعذر في خفوت الحركة الإسلامية عن الدعوة المعلنة القول بأنها في المرحلة السرية الأولى. بل يمكن القول:
لقد انتهت مرحلة سرية الدعوة إلى الأبد، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. لأن هذا الدين قد أعلن واكتمل. وانتهى أمر إخفائه.
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (2)} .
لكننا نستدرك فنقول:
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 4 ص 74، وأخرجه الإمام مسلم حديث 254. وابن ماجه 161 كلاهما عن طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة.
(2)
سورة المائدة الآية 3.
إذا كانت الحركة الإسلامية بشكل عام قد تجاوزت هذه المرحلة. فهذا لا يعني أن بعض أفرادها تتمثل بهم هذه المرحلة، وهؤلاء الأفراد المعنيون هم الذين يقومون بدور سري في التنظيمات المعادية. فلا يظهر تنظيمهم، ولا تظهر إسلاميتهم. إنهم في الحقيقة يوجدون في جميع المراحل، لكن المواصفات التي تنطبق عليهم هي مواصفات المرحلة الأولى في الحرص على إثبات انتمائهم الكامل للمجتمع الجاهلي الذي يعيشون فيه. ونشير إلى ملاحظة هامة في هذا الموضوع فهؤلاء الأشخاص ليسوا هم الذين بحددون دورهم.
إنما الذي يحدد لهم هذا الدور هي القيادة، والذي دفع لهذه الملاحظة ما نراه لدى بعض الشباب، الذي يعتبر نفسه منتميا للإسلام وللحفاظ على مصالحه ودنياه وامتيازاته يمالىء السلطة الباغية، ويتبنى مواقفها. بل يدخل في التنظيم الكافر، وينشر مبادئه ويدعو إليها، ثم يدعي بعد ذلك أنه مسلم بالسر.
هذا هو النفاق في المفهوم الإسلامي، وليس هو المرحلية.
إن الذي يقرر للشاب المسلم أو المرأة المسلمة هذا الدور هو قيادة الحركة الإسلامية. وليس تقديره الشخصي. والذين كانوا يمثلون هذا الدور في المراحل اللاحقة كانوا يؤدونه بتكليف من قيادتهم الإسلامية، لا بقناعاتهم الشخصية.
هذه ملاحظة، والملاحظة الثانية إن مثل هذا الدور، بالمواصفات السابقة يمكن أن يكون بمبادرة شخصية ودون تكليف من القيادة في حالة التعرض للأذى الماحق، حيث يباح للمسلم في هذه الحالة أن يتظاهر بالكفر، ولكن ليس في حالة الخوف من الأذى، والتفريق دقيق بين هاتين النقطتين.
لأن النقطة الأولى لها سند شرعي من القرآن الكريم في قوله تعالى: {.. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .. (1)} وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه حين تعرض للتعذيب، وما تركوه حتى ذكر آلهتهم بخير، وذكر محمدا صلى الله عليه وسلم بشر. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد. أما الخوف من
(1) سورة النحل الآية 106.
الأذى الجسدي أو الأذى المعنوي أو الأذى في مصالح الدنيا. فليس مبررا كافيا لإعلان الكفر، والمسير في مخططاته والدعوة إليه.
لقد امتنع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن كلام يحيى بن معين من كبار أئمة الحديث لأنه وافق السلطة بالقول بخلق القرآن، وعندما ذكروا الإمام أحمد بحادث عمار رضي الله عنه أجابهم أن هذا فيمن أكره لا فيمن خاف من الإكراه (1).
وإن كنا سنعود لذكر هذه النماذج في المراحل اللاحقة. حسب حجمها في الحركة الإسلامية. لكنا ذكرناها هنا لإيضاح المواصفات العامة لها.
وهذا يقودنا بالتالي إلى معالجة قضية مهمة ذات مساس بمواصفات هذه المرحلة. فالشاب المسلم الذي يكلف بمهمة في صفوف العدو من قيادته المسلمة. ما هي الحدود التي يباح له فيها أن يوافق ذلك التجمع الجاهلي. حتى لا ينكشف أمره؟.
تصوري والله أعلم أن الحدود التي يباح له فيها موافقة هذا التجمع هي الوقوف عند الفرائض والمحرمات، أي لا يباح له ترك الفريضة كما لا يباح له ارتكاب الكبيرة المحرمة.
ومن الناحية العملية فالفريضة التي تواجهه هي الصلاة إذ أن بقية الفرائض ليست مستمرة بشكل دائم، وبالتالي يمكن أن يخفيها. كما أن فريضة الصيام قد تواجهه في شهر رمضان.
لقد وجدنا بعض الاتجاهات في الحركة الإسلامية تبيح لبعض هؤلاء الأفراد الجمع بين الصلاتين؛ صلاة الظهر والعصر، وصلاة المغرب والعشاء.
وإن كانت المذاهب الفقهية المعتمدة لا تجيز ذلك، بالجمع بين الصلاتين دون عذر من سفر أو خوف أو مطر. لكنها اعتمدت على الحديث الصحيح المروي في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين دون عذر.
(1) مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي ص 389.
لكني لا أدري رخصة أكبر من هذه. وما يتناقل في صفوف الشباب الإسلامي من جمع الصلوات كلها في آخر الليل. فما أعتقد له سندا صحيحا. وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمعه بين هذه الصلوات كلها يوم الخندق فلأن الحرب، استمرت من السحر إلى العشاء. فلم يتمكن المسلمون من الصلاة وهم ملتحمون في المعركة مع العدو.
ويمكن القول نفسه بالنسبة للصيام في شهر رمضان. فلا يحق للمسلم الذي يؤدي مهمته في صفوف العدوان يتخلى عن فرض الصيام.
ويمكن القول نفسه بالنسبة لاجتناب المحارم.
فالمسلم الذي يعايش العدو بمهمة جاسوسية عليه من قيادة الحركة الإسلامية، والمسلم الذي يدفعه الخوف من الطاغية الكافر إلى ممالأته. ليس له أن يشرب الخمر مثلا أو يزني بهذه الذريعة، وتكاد تكون الموافقة للكافر - والله أعلم - محصورة في الجانب اللفظي الكلامي أو في بعض اللمم الذي يستغفر الله منه لو وقع فيه. فتأدية الفرائض، واجتناب المحارم هي الحدود الفاصلة بين السرية في التنظيم والدعوة، وبين المرحلة اللاحقة.