الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو معنى هام حرصوا عليه، وذلك حتى لا يجشموا النجاشي عناء السماع لهم. لعلمهم باحتمال فشل خطتهم لو استمع إلى المسلمين.
الشيء الوحيد الذي حال دون تنفيذ الخطة وأفسدها على المشركين هو عظمة النجاشي، وأصالة عنصره، وطيب محتده يوم رفض - رغم قرار مستشاريه من البطارقة - الحكم والتسليم قبل أن يسمع من المسلمين.
ما أحوجنا ونحن نعمل في الحركة الإسلامية أن نعرف أقدار الرجال وموازينهم. إن بعض الكفار قد يقيضهم الله تعالى ليكونوا حماة للإسلام، وبعضهم قد يكونون على الحياد، وبعضهم يعملون لاستئصال شأفة الإسلام، فهل يجوز للمسلمين أن يعاملوهم جميعا على مستوى واحد؟؟
إنهم لو فعلوا ذلك لكانوا إما أغبياء جهلاء، أو غادرين لؤماء، وكلا هذين الموقفين يبرؤ منهما العنصر الإسلامي الأصيل. وهذا ما سنراه من خلال الحديث عن الجوانب الأخرى في هذه الوثيقة.
السمة الثانية والعشرون
عبقرية الوفد الإسلامي في حوار الملوك
لقد كانت هذه الجالية الإسلامية من الكفاءة والعبقرية ما جعلها تحطم كل أحابيل الأعداء، وفيهم عمرو بن العاص داهية العرب قاطبة.
لقد كان الصف الإسلامي في الحبشة يمتاز أول ما يمتاز بالحب والمودة والثقة بين أفراده وكانت الميزة الثانية فيه لجوءه إلى الشورى. (فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض
…
) فلا يقطع أحد منهم برأي ولا ينفرد فيه عن أخيه.
وكانت الميزة الثالثة فيه تقديرهم للكفاءات والطاقات، فاختاروا رجلا منهم ليكون الناطق الرسمي بهم حيث ووجه جعفر رضي الله عنه بالسؤال الأول عن هذا الدين.
لقد استطاع جعفر رضي الله عنه أن يقدم الإسلام بصورة فريدة قلما نجد لها نظيرا في التاريخ. وذلك على أربعة خطوط عامة:
الخط الأول: وقد عرض فيه كل مساوىء الجاهلية وعوراتها وقذرها بحيث أصبح هذا الدين الذي يدين به وفد قريش تتقزز منه كل نفس بشرية. وكانت هذه الجولة الأولى التي هدم بها الركن الركين الذي يفيء إليه عمرو بن العاص وصاحبه.
ثم انتقل إلى الخط الثاني فعرض فيه في كلمات جامعة مانعة قواعد الإسلام العامة وأسسه التي تستهوي كل حصيف عاقل بله ملك حكيم مجرب محنك.
لقد كانت الفرصة مواتية لجعفر كي ينقلب داعية إلى هذا الدين، بعد أن كان الهدف سياسيا بحتا هو المحافظة على الوجود الإسلامي في الحبشة.
وبذلك كسب الجولة الثانية في تقريب نفس النجاشي إلى الإسلام.
ثم انتقل إلى الخط الثالث فعرض فيه الظلم الماحق الذي نزل بالمسلمين نتيجة تمسكهم بهذا الدين وأبرز وضع المسلمين في صورة قديسين وحواريين. تنزل بهم ضربات المجرمين الوثنيين وهذه الصورة ذات أثر ساحر في نفس النصارى الذين يعيشون مفهوم التضحية والفداء. بل حرروا دينهم إلى صور من المثالية والرهبانية التي ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، ما كتبها الله عليهم، وما رعوها حق رعايتها. وبذلك، كسب الجولة الثالثة في كسب قلب النجاشي بعد أن كسب عقله.
ويكاد الذي يسمع هذا الكلام يرى أن فوجا جديدا من الحواريين قد حشر بين يدي ملك الأحباش. كما أظهر في الوقت نفسه قريشا في هيئة الطاغية المتجبرة حتى لينفر الملك في قلبه منهم بعد أن نفر منهم في عقله.
ثم انتقل إلى الخط الرابع في الئناء الحصيف المتزن على الملك، الذي لا يحمل المبالغة الكاذبة ولا التجاهل المهين، بل وضعه في صورة الأمل والملاذ لهؤلاء المستضعفين. وبذلك كسب الجولة الرابعة، وجعل آخر حديثه يدور
حول المحور النفسي وإثارة الشهامة والرجولة في نفس الملك.
كان من الطبيعي بعد هذه العبقرية في العرض، والفذاذة في الأسلوب، أن ينهزم عمرو بن العاص وصاحبه هزيمة منكرة.
إن كل النقاط التي أثيرت عن الإسلام هي نقاط التقاء بين النصرانية والإسلام، بينما أغفلت لحد ما نقاط الخلاف. والدبلوماسي والسياسي المسلم هو أحوج ما يكون ليفقه هذه الدروس في المفاوضات. وهي خطوط عامة في أي لقاء أو حوار مع أية جهة أو قيادة سياسية على مستوى القمة.
1 -
تفنيد عيوب الجاهلية التي تعادي نظام الجهة المفاوضة، أو لا تتبنى وجهة نظرها على الأقل.
2 -
عرض المبادىء، والأسس العامة للإسلام التي يقوم عليها البناء بعد هدم المفاهيم الجاهلية السابقة.
3 -
عرض جوانب الظلم والاضطهاد التي يعانيها حملة المبادىء من الطواغيت والظالمين.
4 -
عرض الأمل الكبير المنوط بالجهة المفاوضة في رفع هذا الظلم والحيف في ثناء حصيف متزن.
5 -
إغفال نقاط الخلاف والإثارة التي يمكن أن تفسد الجو بين السياسي المسلم، والجهة المفاوضة، ثم كان ختام المفاوضات في تلاوة صدر سورة مريم بطلب من النجاشي أن يستمع إلى شيء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شيء أحب على قلب النجاشي من أن يسمع صدر صورة مريم العذراء الطاهرة البتول، وأصدر حكمه النهائي بعد هذا كله:(إن هذا والذي جاء به عيسى من مشكاة واحدة).
إن وفدا يستطيع أن يبكي ملكا أو رئيسا ويبكي معه كل أعضاء وفده عن صدق وقناعة هو أعلى وفد ينجح في مهمته. بعد أن كانت البداية هي تعرضه للطرد والإبعاد من بلد هذا الملك. وكم هذا الوفد على مستوى من الكفاءة والعبقرية، أن يكسب عقائديا بعد أن كسب سياسيا، ويضم الملك إلى الإسلام؟؟؟.