الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلامية، وكراهة الملوك لهذه الدعوة التي تدعو لإخراج الناس من عبادة العباد لعبادة الله من جهة ثالثة عنصر غير مشجع لوجود هذه الحركة بحيث تمس مصالحها وتوقع الاحتكاك بينها وبين الحركة الإسلامية، ويكفي أن نذكر نقطتين اثنتين توضحان عمق النظرة السياسية النبوية في هذا المجال:
أولاهما: إن الفرس كانوا في أوج انتصاراتهم بعد أن هزموا امبراطورية الروم وأخذوا الصليب الأكبر منهم.
ثانيتهما: إن كسرى عندما وصله خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قيام دولة الإسلام بست سنوات مزق الخطاب النبوي، وبعث من يحضر له محمدا حيا أو ميتا، علما بأنه قد ذاق مرارة الهزيمة القاتلة من الروم قبل أربع سنوات.
فما أحوجنا ونحن نود للحركة الإسلامية تحركا سياسيا هائلا لأن نحكم الهدف أولا، ونحكم الخطة ثانيا، ونكون أدرى ما نكون بالعدو ثالثا، وندفع بالعبقري السياسي للحركة رابعا، ونطلب النصر من الله سبحانه وتعالى بعد بذل هذه الإمكانات.
السمة الخامسة
توجيه الأنظار لمركز الانطلاق
قال ابن إسحاق: (فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.
لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهودا كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض تعلموا والله أنه للنبي الذي تعدكم يهود، فلا يسبقنكم إليه! فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا وهم فيما ذكر لي ستة من الخزرج.
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المحادثات تفشل مع بني شيبان، فيهيء الله تعالى لرسوله هؤلاء النفر من الخزرج من سكان يثرب ولقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجربة سابقة مع الخزرج، فلقد جاء وفد كبير لقريش قبل عام ليقيم تحالفا مع قريش ضد الأوس، ولم يستجب لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فتى يافع رزموه وانتهروه قائلين له: لقد جئنا لغير هذا. وحيث لم تنجح محاولات الخزرج في التحالف، وقعت حرب بعاث بعد ذلك (1).
والواضح أن اللقاء كان عابرا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء النفر بدليل دعوتهم إلى الجلوس كي يكلمهم، وهذا قدر الله الذي ساقه لدعوته هبة منه سبحانه. وتأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هويتهم بأنهم من موالي يهود. وهذا يعني أن لا غرابة على أذهانهم الحديث عن الله تعالى وكتبه ورسله فيما يسمعونه
(1) السيرة النبوية لابن هشام ص 75 و 73.
دائما من اليهود، وهو لا يطرق مسامعهم لأول مرة. فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وقد كان الخزرج مهيئين نفسيا تهيئة تامة لسماع حديث الإسلام، فقد كانوا يحسون دائما بالحسرة أمام اليهود. فهم أميون ليس عندهم رصيد يواجهون به اليهود ويقفون أمامهم مبهوتين لا يدرون ما يقولونه.
ومن جهة ثانية، فالحديث عن النبي المرسل كان يملأ جو يثرب، بل يهددهم اليهود به فما إن تناهى إلى سمعهم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام حتى قالوا:(والله إنه للنبي الذي توعدكم يهود فلا يسبقنكم إليه) فالداعية إذن لا بد له من أن يستفيد من المناخ النفسي الملائم حين يدعو، ويستفيد من الأرضية الثقافية لمن يدعوهم إلى الله.
ولأول مرة تسلم مجموعة كاملة، ومن بلد ناء تصلح أن تكون أساسا ومنطلقا للدعوة، خاصة وقد أبدت هذه المجموعة استعدادها لذلك قائلة: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن تجمعهم عليك فلا رجل أعز منك.
لقد وضعت بذرة أمل جديدة مع هؤلاء النفر الستة، أن يمهد الجو لرسول الله كون في المدينة، وتذلل الخلافات، ويقوم هؤلاء الستة بالدعوة إلى الله هناك، فقد آمنوا وصدقوا.
ونلاحظ هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرض عليهم طلب حمايته ونصرته حين دلخوا في دين الله عز وجل، بل توجه اهتمامه عليه الصلاة والسلام إلى انطلاق جديد لدين الله صلى الله عليه وسلم -حسن أن يكون مركزا ممتازا يغير مواقع الدعوة كاملة.
وقام النفر الستة بأعظم دور في الدعوة لدين الله عز وجل في صفوف
الأوس والخزرج حتى فشا الإسلام في المدينة، فلم تبق دار من دور الأنصار اإلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لعل هذه السنة التي مرت على الدعوة العام الحادي عشر للبعثة كانت أكثر بركة من الأعوام العشرة السابقة، ولعل انتشار الإسلام في هذه الأرض كان أكثر من انتشاره في مكة خلال الأعوام العشرة السابقة.
منعطف جديد في الدعوة بعد جهاد مضن "وصبر طويل" تحقق على يد هؤلاء النفر الستة حين وجد المناخ المناسب والجو الملائم للدعوة الجديدة.
ولم نسمع عن نشاط جديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خلال العام في مقابلات مع القبائل الأخرى. بل تصمث أخبار السيرة خلال هذا العام إلى موسم العام القادم. ونفقه من هذا الانعطاف أن الأحوط والأقوى للدعوة هو الالتزام بمبادئها، بينما تبقى الحماية التي لا ترتبط بالمبادىء لا تحقق الهدف البعيد للتمكين في الأرض.
إن الخط الذي يفرق بين الطريقين خط ضئيل، قد لا يدركه الناظر العجول. فالمرحلة المكية عندما تملك الدعوة الحرية الكاملة فيها في ظل المبادىء الجاهلية، لا تصل إلى مرحلة الحكم بما أنزل الله، ومرحلة تطبيق المبادىء. أما إذا كانت الحيماية من أبناء الدعوة نفسها، فالطريق مهيئة لتنفيذ شرع الله عز وجل، والتمكين في الأرض. ونصل من هذه الملاحظة إلى أن الهدف البعيد وهو إقامة حكم الله في الأرض لن يتحقق في ظل حكم جاهلي، وفي ظل حماية جاهلية. كما تتصور بعض الحركات الإسلامية، إنما يتحقق ذلك من خلال جنود الدعوة.
ونقول أخيرا لا بد من أن نحدد المدى الذي نصل إليه من خلال التعامل مع العدو أو من خلال الالتزام والجندية لمبادىء الدعوة، وأن نعرف كيف نفرق بين الهدفين فلا نبني نتائج هدف على هدف آخر.