الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمة الخامسة عشرة
اختيار الأرض وسرية التجمع فيها والهجرة إليها
يقول ابن إسحاق: (فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن تبعه وآوى إليه من المسلمين، أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها. فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة)(1).
لقد قيلت مثل هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين يوم دعاهم للهجرة إلى الحبشة: إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. واليوم إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها. والفرق بين المركزين والمنطلقين واضح.
فمن حيث الموقع، نجد الحبشة بعيدة، ولا تصلح لتكون مركزا لإقامة الدولة بعيدا عن الأرض والبيئة العربية، ومهما قويت فستبقى محصورة ضمن إطار المهاجرين أنفسهم، والحركة ستكون مشلولة للمواجهة، بينما نجد المدينة وإن كانت بعيدة نوعا ما عن مكة، لكنها تحتل موقعا حساسا بالنسبة لمكة، فهي قادرة على خنق مكة اقتصاديا لأن طريق قوافل قريش عنها. والتجارة عصب الحياة لقريش. كما أن البيئة واحدة، والعرب يمكن أن تتم الدعوة في صفوفهم وأن يتقبلوها. ومن حيث البيئة، فالاعتماد في الحبشة على الحاكم العادل، الذي قد يتغير في آية لحظة، فيصبح المسلمون على خطر داهم، وقد رأينا أن ذلك قد وقع فعلا حين قامت الثورة ضد النجاشي، فهيأ للمسلمين سفينتين ليغادروا الحبشة إن تم النصر لعدوه، وهو يعلم أن المسلمين هم المستهدفون من هذه الثورة. بينما الاعتماد في المدينة على الإخوان فيها، على
(1) السيرة النبوية لابن هشام ص 111.
التجمع الإسلامي الكبير الذي طغى في يثرب على كل التجمعات، وأصبح يمثل الكثرة الكبيرة فيها.
والحركة الإسلامية اليوم وهي تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في إنشاء دولتها لا بد أن تراعي هذه المعاني وتفقه دروسها، فحين انطلقت الحركة الإسلامية الحديثة في بعض فصائلها في جهادها لإقامة الدولة، لم يكن أمامها الخيار أن تجعل مرتكز تجمعها في الدولة المجاورة للطاغوت الكافر، واختيار غير هذه الدول المجاورة للتحرك والمواجهة والتدريب هو اختيار فاشل، لأن أي مكان غير هذه الدول يشل التحرك لمواجهة النظام شللا تاما. لكن العنصر الثاني من الميزة التي كانت في المدينة، قد تهيأ في بعض هذه الدول ولم يتهيأ في غيرها، وحتى وجود الإخوة الأنصار لا يجعل لهم السلطة في هذه الدول، إنما السلطة لغيرهم. فالاعتماد إذن على طبيعة النظام الحاكم في الدول المجاورة وتغير النظام في كل لحظة يهدد الوجود الإسلامي على هذه الأرض، ومن أجل هذا لا يمكن أن تكون هذه الأرض أكثر من نقطة ارتكاز وتجمع تسند من الحكام المؤيدين لها. والمرتكز الأصلي هو مكان انطلاق الحركة نفسها حيث توجد القوى الكامنة للمواجهة والمؤهلة للمساندة. فالهجرة خارج مكان المواجهة الأصل فيها، أنها هجرة مؤقتة بينما نجد الهجرة إلى المدينة هجرة ثابتة حيث تكون المدينة نفسها موطن إقامة الدولة.
والحركة الإسلامية عموما حين تبحث عن الأرض ليست دائما تملك الحرية التي تريدها للاختيار. فقد تضطرها الظروف إلى مكان غير مناسب تماما. ولا بد لها من قبوله ريثما تجد المكان الأفضل. لقد بقيت الحبشة مأمنا للمسلمين فترة طويلة حتى بعد وجود يثرب ولكنها لم تكن مركزا لإقامة الدولة. وحين أتيحت الظروف في المدينة، كانت بتوفيق رباني أن قبل وفد الحجيج اليثربي الإسلام، فلو فشلت المفاوضات مثلا في الإسلام أو الحماية، أو نجحت محادثات شيبان أو كندة، لكان الموقع متغيرا حسب المعطيات القائمة.
وأدى هذا إلى رحيل عائلات بأكملها، فقبيلة بني غنم رحل أربعة عشر