الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمة التاسعة والعشرون
التفجرات الجاهلية تحطم الحصار والمقاطعة
(ثم بعد ذلك تألف قوم من قريش على نقض تلك الصحيفة، كان أحسنهم غناء فيها هشام بن عمرو بن الحارث - فإنه لقي زهير بن أمية بن المغيرة فعيره بإسلام أخواله (أي تركهم مقاطعين). وكانت أمة عاتكة بنت عبد المطلب، فأجابه زهير إلى نقض الصحيفة، ثم مشى هشام إلى المطعم بن عدي فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف فأجابه إلى ذلك، ثم مشى إلى البختري بن هشام فقال له مثل ما قال للمطعم بن عدي، ثم مشى إلى زمعة بن الأسود فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم فقال: وهل معي على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم ثم سمى له القوم، واتعدو حطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة. وقال زهير، أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا على أنديتهم وكذا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال:
يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم. والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد - كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة لا نرض ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتم وكذب من قال غير ذلك. نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد. فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها.
فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم وما كان فيها من اسم الله فلا تأكله (1).
لقد كان للصمود الإسلامى ثم الصمود القبلي أثر على معسكر الجاهلية والشرك يفوق أثر معركة حامية الوطيس يخوضها المسلمون فينتصرون بها على أعدائهم. وكان هذا الصمود كافيا لتفجير الموقف في مكة. فقد حرك هذا الصمود كل مشاعر الخير الكامنة في صفوف أهلها. لقد تحركت مشاعر القرابة واستنفدت كلها من قبل أصدقاء وأقرباء بني هاشم وبني المطلب. ولم يكتف هؤلاء عند المواقف السلبية، ولم يكتف هؤلاء عند المشاركة الشعورية بل استعد هؤلاء ليقوموا بتحرك إيجابي يعرض حياتهم للخطر، وأن يجابهوا الرأي العام كله بكل ما تحمل هذه المواجهة من مخاطر ومحاذير. واستطاعت هذه العصابة بوحدة كلمتها واستعدادها للفداء أن تغير موقف مكة كلها وتكسر طوق الحصار الاقتصادي وتحطم القيود الاجتماعية، وتعيد الحقوق المغتصبة إلى أصحابها، وتلغي الظلم القائم على المسلمين.
والحركة الإسلامية تحتاج في مسارها الطويل إلى فن التعامل مع الجاهلية، بحيث تنتزع منها كل من يمكن أن يساندها وتستفيد من كل من يدعمها ويحفظ لها حريتها، وتستغل كل عناصر الخلاف في صفوف هذه الجاهلية، ولا يتعارض هذا أبدا مع تميزها ومع المفاصلة بينها وبين الحكم الكافر. بل نجد هنا أن المصلحة للحركة الإسلامية هو تحطيم هذه المفاصلة. فليس التفاصل إذن دائما لمصلحة الدعوة والحركة. بل وجدنا الحالة في هذه المرحلة هي القضاء على المفاصلة الاجتماعية. وما فرح المسلمون شيئا فرحهم بالقضاء على هذا الحلف الباغي الظالم. فلقد كان رئيس بني هاشم في مكة يناقشهم في الصحيفة مما يدل على وعيهم لتطورات الموقف. ونرى يقظة هذا المعسكر في الرواية التي روتها السيرة عن الزهري رحمه الله لدى موسى بن عقبة: (إن الله أطلع رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك لعمه فقال: لا والثواقب ما كذبتني فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب حتى
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 16.
أتى المسجد وهو حافل من قريش. فلما رأوهم رأوا أنهم قد خرجوا من شدة الجوع وأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكلم أبو طالب فقال: إنه حدث أمر لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحا، فأتوا صحيفتكم، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها، فأتوا معجبين لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم، قالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد قد جعلتموه خطرا لهلكة قومهم. فقال أبو طالب: لأعطينكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل اسم له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم. فإن كان ما قال حقا فوالله لا نسلمه لكم حتى نموث عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد رضينا. ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر. فقالوا: هذا سحر من صاحبكم. فارتكسوا وعادوا لشر مما كانوا عليه. فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا ومزقت الصحيفة (1)).
فمع أن أبا طالب غير مسلم. لكن ثقته بصدق ابن أخيه لا حد لها بل استعد لتسليم محمد ليقتل إن لم يصدقه. ومضى يراهن قريشا على ذلك. فهو يبحث عن أية وسيلة لفك هذا الحصار ومع ذلك أصرت قريش على موقفها واعتبرت الأمر من سحر محمد عليه الصلاة والسلام. ولا شك أن هذا الأمر الذي فضح قريشا ببغيها وظلمها، جعل لدى هؤلاء النفر أرضية مناسبة للتحرك ضد الصحيفة. فقدرة الدعاة إلى الله على إيضاح الظلم الواقع عليهم له أثر كبير في كسب قلوب بعض الأعداء وانتصارهم لهم.
فإذا أردنا للحركة الإسلامية أن تخترق مصاعب المحنة، فلا بد لها من إعلام مناسب ينفد إلى قلوب أعدائها، ليضطرها إلى الموقف المناسب. ولا بد لها من اليقظة الدائمة لتصل إلى الثغرة الضعيفة في صف خصومها فتنفذ منها، ولقد مثل أبو طالب صورة الحليف الشريف الذي ربط حياته
(1) مختصر السيرة لابن محمد بن عبد الوهاب ص 96.