الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعقوبة المعصية من الله تعالى لا من سلطان الدولة، وأجر الوفاء هو الجنة، وليس الإنعام المادي من السلطان الحاكم.
كانت هذه التربية ضرورية - على قصرها - بين يدي المرحلة الجديدة الحاسمة، والحركة الإسلامية اليوم مدعوة إلى هذه القدوة. فارتفاع مستوى أفرادها في التميز الفكري، وفي السلوك العملي، وفي مدى الانضباط والالتزام بأوامر القيادة وتحديد الولاء لها، واعتماد الوازع الداخلي للتطبيق دون رغبة أو رهبة من الأرض، هو الذي يجعلها مؤهلة لدور الخلافة في الأرض.
8 -
وإشارة جديدة الصبر والحديث عن قيم بيعة العقبة الأولى هي أن الزمن لا وزن له في هذا المجال، ولئن استغرقت التربية المكية ثلاثة عشر عاما.
فقد استغرقت التربية المدنية عامين - تزيد أو تنقص قليلا - ومع ذلك اعتبر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار على سوية واحدة. فالمهم هو نوع التربية وثمرتها لا الزمن الذي استغرقته. ولهذا لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرجا حين سمع تقرير مبعوثه خلال عام من وجوده في المدينة، أن يستجيب للتعبئة المسلحة في بيعة العقبة الثانية بعد التعبئة الإيمانية المطلوبة.
السمة السابعة
الإذن بالقتال
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له بالحرب، ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله، والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم، ونفوهم من بلادهم. فهم بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد فرارا منهم، منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه، فلما عتت قريش على الله عز وجل وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه صلى الله عليه وسلم، وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه، واعتصم بدينه، أذن
الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم. فكانت أول آية أنزلت في إذنه له بالحرب، وإحلاله له الدماء والقتال، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء قول الله تبارك وتعالى:{أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ألا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} . أي إني إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس وإنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين (1)).
ولا يحتاج هذا الكلام إلى شرح، فلقد كانت بيعة العقبة الثانية فيصلا بين مرحلتين: بين مرحلة المواجهة بالكلمة، ومرحلة المواجهة بالسلاح، والمقارنة بين البيعتين توضح لنا الانتقال النوعي للحركة الإسلامية. ويعني الحركة الإسلامية من هذه السمة أن تلحظ الظروف التي تم الإذن فيها بالقتال لترسم على ضوئها ومن خلال ظروفها مرحلة المواجهة المسلحة مع العدو. إن قرار بدء الحرب الذي كان في مكة بأمر رباني هو اليوم تنفيذ لهذا الأمر حين تغدو الظروف شبيهة بتلك الظروف التي أذن فيها بالقتال، ومهمة قيادة الحركة أن تحسن تقدير هذه الظروف. والملاحظة التي لا بد من إيضاحها في هذا الصدد كذلك هي أن الإذن بالقتال شيء، ومباشرة القتال وطريقته شيء آخر.
وهنا لا بد لنا من معالجة فكرة دقيقة هي مثار اختلاف في وجهات النظر. هذه الفكرة هي كيف نوفق بين فرضية الجهاد والحكم النهائي فيه بعد آيات سورة براءة، وبين موضوع الإذن في القتال اليوم؟. فإذا كانت الأحكام النهائية للقتال في الإسلام هي أنه ماض إلى يوم القيامة - وهذا حق - فهل
(1) تهذيب السيرة. ص 108 - 109.
يبقى مجال لذكر الإذن بالقتال اليوم، والإذن بالقتال حكم مرحلي انتهى في وقته - والله تعالى قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
…
(1)} أنا لا أجد حرجا في التوفيق بين الحكمين لأن مؤداهما واحد في النهاية.
فلقد ذكر الفقهاء إن الجهاد قد يكون فرض عين، ولا يأثم تاركه، وذلك حين لا يوجد الإمام الذي يباشر القتال معه. فإذن حين لا يوجد الإمام والجماعة المسلمة التي ينضوي المسلم تحت لوائها ليقاتل الكفار لا يأثم إن لم يقاتل مع أن القتال فرض عين عليه. وهذا المعنى نفسه هو الذي يقتضيه المفهوم الثاني، فإلى أن تقرم الجماعة المسلمة - والإمام المسلم الذي يقودها، وتكون قادرة على الوجود والاستعلان والمواجهة يعتبر القتال في هذه المرحلة بشكل فردي غير مأذون به ما لم يكن دفاعا عن النفس أو المال أو العرض. وإذن فالذي يحدد ابتداء القتال في الحالتين هو الجماعة المسلمة، وقيادتها التي تجد الظروف مناسبة لذلك.
إن كل أحكام الإسلام الثابتة المستقرة النهائية، والمرتبط تنفيذها بوجود الحاكم والإمام المسلم مثل الحدود والقصاص لا يعني عدم وجودها في غياب الإمام المسلم نسخها، فهي قائمة نظريا، والمسلمون آثمون لو تركوها. لكنها من الناحية العملية مرهونة بقيام الحكم الإسلامي الذي ينبثق من جماعة مسلمة، حملت لواء الجهاد وانتصرت على أعدائها، وأقامت حكم الإسلام. فأحكام الجهاد والقصاص والحدود مرتبطة بوجود الحاكم المسلم وإمكاناته قوة وضعفا وكما تقول الآية: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر
…
(2)} فلا بد من التمكين أولا لتنفيذ فرضية الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الناس. لا التنفيذ بشكل فردي. فهذا لا عجز فيه، إنما العجز هو تطبيق هذه الأحكام فرضا وحظرا على الناس. وكلما تمكن المسلمون أكثر كلما كانوا
(1) المائدة الآية 3.
(2)
الحج 41.
قادرين على التنفيذ لأحكام الإسلام أكثر. وما أحوجنا إلى أن نفقه هذه الأمور ضمن هذه الأطر. لا أن نطلق الأحكام المبتسرة على الناس ونتهمهم في دينهم وعقيدتهم.
السمة الثامنة
التهيئة لمباحثات قيام الدولة
قال كعب بن مالك: (خرجنا في حجاج قوما من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا
…
وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا. فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبا.
فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي.
قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له. فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار: الخزرج: خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وأنه
قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده. فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت (1)).
ونلاحظ من خلال هذا العرض الملاحظات التالية:
1 -
لقد تمت التهيئة لمباحثات قيام الدولة في أعمق تخطيط سياسي شهده التاريخ حيث انبثقت دولة الإسلام، وتم تحديد معالمها وقيادتها وهي جزيرة ضعيفة وسط خضم من الشرك مثله العرب جميعا من حجاج منى أولا، ثم دولة مكة المشركة ثانيا، ثم قيادة المشركين من أهل يثرب ثالثا، ثم دولة اليهود في المدينة رابعا. ووسط هذا العدو العاتي والمحيط بالمسلمين من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، وسط هذا الخضم انبثقت دولة الإسلام الأولى في التاريخ.
2 -
لقد كان المسلمون البالغ عددهم بضعة وسبعين ضمن وفد من المشركين قوامه حوالي ثلاثمائة. وهذا يعني صعوبة الحركة والتنقل والاتصال، فما من مسلم إلا وحواليه عدد من المشركين يراقب تنقلاته وتحركاته، ومع ذلك فلقد كانت السرية المضروبة على التحركات خلال الحج من أعجب العوامل التي أدت لنجاح المخططات. تمت الاتصالات بين قيادة مكة المسلمة المتمثلة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيادة المسلمين في المدينة، وتم تحديد موعد اللقاء، وتم تحديد مكان اللقاء، وتم اللقاء نفسه دون انتباه أحد، وتم دخول بعض الأعداد الجديدة في الإسلام خلال هذه الأيام المعدودة. ولعل من أهم أحداث هذه الأيام انضمام زعيمين من أكبر زعماء المدينة للإسلام هما البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام.
وتشير بعض الروايات إلى أن رئاسة الوفد كله مسلمه ومشركه قد انتهت إلى البراء بن معرور وطالما أنه قد أسلم فهو الذي يقوم بتحديد
(1) تهذيب السيرة ص 103 و 104 و 105.
اللقاءات المقررة، واختار كعبا ليرافقه بصفته الشاعر المشهور والمعروف عند قريش.
3 -
وكانت الخطوة الثانية من التخطيط العبقري هو الخروج المنظم لموعد الاجتماع وكما يقول كعب: (حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا (1)) مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو وتم الاجتماع لهذا العدد الضخم الذي انسل من معسكرات المشركين دون أن ينتبه لهم أحد.
4 -
وكانت الخطوة الثالثة من التنظيم المحكم كما تشير بعض الروايات إلى تأمين حراسة الشعب بحيث لا يدري أحد بالأمر.
يقول المقريزي: وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس وهو على دين قومه، وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما، فأوقف العباس عليا على فم الشعب عينا له وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا له. فلم يدر حتى المهاجرون بهذا اللقاء السري إلا من كان له مهمة خاصة في الحراسة والمراقبة وهما: علي وأبو بكر رضي الله عنهما.
5 -
وكان حضور العباس وحديثه وهو على دين قومه - كما يظهر - ضرورة سياسية، فهو الذي يحمل عبء حماية النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يتوثق من مستوى هذه الحماية الجديدة ليطمئن عليها، وإلا فلن يفرط بابن أخيه، ولعل هذا يشير إلى إمكانيات اشتراك بعض الشخصيات غير الإسلامية إذا كانت مناط ثقة تامة من القيادة في عملية تغيير سياسي لصالح الإسلام أو يمكن القول: إنها في ظاهرها موالية للسلطة الحاكمة أما حقيقة ولائها فهو للقيادة المسلمة، خاصة إذا كان لها دور رئيسي في التحرك، كقيادة مجموعة سياسية في عملية تغيير سياسي، بل بإمكانها أن تشارك في وضع الخطة وتنفيذها عندما تكون ذات خبرات عريقة. فلقد
(1) القطا: طائر مشهور بخفة حركته.