الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السمة السادسة
البيعة الأولى وقيمها الجديدة
قال ابن إسحاق: (حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار أثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب، منهم أسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت، وأبو الهيثم بن التيهان. عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب، وإن شاء غفر.
قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرىء بالمدينة. كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض (1)).
عام جديد يمر بعد اللقاء الأول، ويحضر لمكة في الموسم الجديد نفر من اثنى عشر رجلا والجديد في هذا الوفد هو أنه يمثل التجمعين الكبيرين الأوس والخزرج. فلن يكون إذن معارك قبلية يمثل الخزرج في طرفها الإسلامي، ويكون الأوس طرفها الجاهلي، بل استطاعت هذه المجموعة النواة أن تتجاوز الدماء والثارات التي لم يمر عليها بضعة أشهر، وتلتحم في جماعة واحدة.
والذي يعنينا من هذه البيعة النقاط التالية:
1 -
اتجه الخط السياسي الإسلامي كله للبناء الداخلي، وكان التركيز على
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 72 - 73.
يثرب بالذات وقد كان لهؤلاء النفر الإثنى عشر دور كبير في بث الدعرة إلى الإسلام خلال هذا العام كما يقول ابن إسحاق: (فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام، فلم نبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم). فلقد توجه رسول الله إلى البناء الداخلي في المدينة، وإلى بث الفكرة في صفوفها.
2 -
سميت البيعة بيعة النساء لأنها لم تشتمل على فكرة الحرب، والحرب لا تكون إلا بعد البناء الفكري والعقيدي للإنسان. وبعد أن يصاغ على ضوء الإسلام وقيمه يمكن أن يدعى المسلم إلى الجهاد. وإنها لثغرة كبيرة أن يندفع المرء إلى الجهاد ولما تتم صياغته الإسلامية. إن المفاهيم ستختلط في ذهنه بين اندفاعه للجهاد في سبيل الله وبين الحماس لنفسه أو لأهله أو لأرضه، ومن أجل هذا كانت الببعة الأولى خالية من الحديث عن الحرب. وكانت تجربة حية للدعوة قبل المعركة.
3 -
أما القيم التي تمت عليها البيعة كما ذكرها لنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه (
…
على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني) ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف (1)
…
).
4 -
حضر بيعة العقبة الأولى اثنان من الأوس، وهذا تطور خطير جدا لصالح الإسلام هناك، فبعد الحرب العنيفة في بعاث استطاع النفر الستة من الخزرج أن يتجاوزوا قصة الصراعات الدموية الداخلية، ويحضروا معهم سبعة جددا فيهم اثنان من الأوس، وهذا يعنى أنهم وفوا بالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في محاولة رأب الصدع، وتوجيه التيار في يثرب أوسها وخزرجها للدخول في الإسلام، وتجاوز الصراعات القبلية القائمة.
5 -
وكان التطور الجديد الذي أثمرته بيعة العقبة هو بعث الممثل الشخصي
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 75.
لرسول الله صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير رضي الله عنه ليشرف بنفسه على تطور الموقف ويقوم بتففيه المسلمين هناك بهذا الدين الجديد.
6 -
واستطاع الدبلوماسي الإسلامي الأول في المدينة بحكمته وحصافته وذكائه السياسي بعد توفيق الله له أن يجر أكبر قيادات الأوس إلى الإسلام، أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وذلك خلال العام الجديد. ولم يبق في بني عبد الأشهل - رؤساء الأوس - رجل ولا امرأة ولا طفل إلا ودخل في الإسلام. لقد أصبح التيار عارما، والاتجاه معبأ لقيام الثورة الإسلامية في المدينة - إذا صح التعبير - وأصبحت مهمة القيادة تنظيم هذه الطاقات كلها لصالح المعركة.
7 -
ومع أن نصوص البيعة لا تحمل في ثناياها حربا أو معركة بل هي كما أطلق عليها المسلمون - بيعة النساء - لكنها تعني تربية معينة، وأرضية تقوم عليها المعركة. إن الالتزام الخلقي والسلوكي بالمبدأ، وضبط الشهوات، بأمر رباني، يعني أكثر من أمر:
فالأمر الأول: هو المفاصلة العقيدية، والتميز الفكري - لا نشرك بالله شيئا، وهذا يعني عمليا إعلان الحرب من جانب واحد على هذا المجتمع، وذلك بالثورة على دينه وعقيدته.
والأمر الثاني: هو المفاصلة السلوكية فلا سرقة ولا زنا، ولا وأد لولد أو بنث ولا افتراء ببهتان. والذي يستطيع أن يطبق هذه المفاصلة السلوكية في المجتمع الذي يعج بالزنا ويعج بالبهتان المفترى، هو مؤهل للجندية الحقيقية وقادر على تنفيد الأوامر الصادرة له فيما بعد.
والأمر الثالث: هو تغير الولاء. فلقد انتهت الطاعة للقبيلة أو قيادة المدينة. لقد أصبحت الطاعة لله وللرسول، والمخالف لهذه الأوامر عاص يحاسب على تقصيره. لقد غدا ميزان الطاعة والمعصية ليس بالخروج على أوامر رئيس القبيلة، أو أعراف القبيلة، بل صار بالخروج على الأوامر الصادرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة.
والأمر الرابع: هو اعتماد الوازع الداخلي بالتطبيق لا السلطان الآمر.