الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شارك العباس رضي الله عنه في تنفيذ هذا اللقاء كما تشير الرواية، وهو الذي أمر أبا بكر وعليا بوقوفهما على الطرق المؤدية للشعب.
إن من حق القيادة بل من واجبها أن تستفيد من الخبرات والطاقات الإسلامية وغير الإسلامية عندما تدين لها بالولاء والطاعة، بل تشركها بالتخطيط والتنفيذ عندما تجد ضرورة لذلك.
السمة التاسعة
البيان السياسي (البيعة)
روى الإمام أحمد عن جابر مفصلا .. :
(قال جابر: قلنا يا رسول الله على م نبايعك؟ قال:
1 -
على السمع والطاعة في النشاط والكسل.
2 -
وعلى النفقة في العسر واليسر.
3 -
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 -
وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لئم.
5 -
وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة (1)).
وفي رواية كعب -التي رواها ابن إسحاق- البند الأخير فقط من هذه البنود ففيه: (قال كعب: فقلنا له (أي للعباس): قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (نساءنا) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول
(1) الرحيق المختوم للمباركفوري ص 166.
والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم (1)).
1 -
كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيث لا تقبل التمييع والتراخي فالبيعة على الإسلام شيء، والبيعة على إقامة دولة الإسلام شيء آخر، وإن الرجال الذين يعدون ليكونوا أفرادا مغمورين في عداد المسلمين شيء، والذين يعدون لتقوم دولة الإسلام بسواعدهم وأرواحهم وأموالهم ودمائهم شيء آخر، ويكفي أنها مضت في التاريخ أن البيعة الخالية من الحرب والجهاد ومنها بيعة العقبة الأولى كانت تسمى بيعة النساء، أما هذه البيعة فبيعة الحرب.
ومع ذلك فليست حرب الإبادة، وليست حرب الإفناء بل الحرب المخططة المحكمة، المحددة الأهداف، التي ترتبط بالنصرة بعد وصول القيادة النبوية للمدينة. إن كل قطرة دم يجب أن تراق ضمن هدف، لا أن تراق لانفعال عاطفي، أو غضبة جارفة وإذا جد الجد فالإسلام عديل الروح بل هو أغلى منها لأنه يضحى بالروح والدم والمال من أجله وتحمى القيادة الإسلامية كما يحمي المرء زوجه وولده ونفسه.
2 -
وسرعان ما استجاب قائد الأنصار - دون تردد - البراء بن المعرور قائلا: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ونساءنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثاناها كابرا عن كابر.
والبراء هو المفوض الرسمي، وهو رئيس الوفد المفاوض، وهو الذي أسلم بنشاط الدعاة على الطريق، وها هو يعرض إمكانيات قومه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قومه أبناء الحروب والسلاح. إن هذا يعني بالنسبة للحركة الإسلامية أن نعرف أولا الطاقات القتالية عندها من جهة، وأن
(1) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 85.
تعرف من جهة ثانية كيف نوجه هذه الطاقات في أحسن سبيل فيكون صاحب الكفاءة مكانه، وأخو الحرب في مجاله، بل عليها أن تستدعي الطاقات الإسلامية والنصيرة من كل صقع لتؤدي الدور المطلوب. وكلما كان أصحاب هذه الطاقات قد خاضوا تجارب عملية، وحروبا فعلية، كلما كانت قدرتهم على التخطيط العسكري والمواجهة الحربية أكثر.
3 -
والأوامر شيء والمفاوضات شيء آخر، فلقد اعترض أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وهو المسلم العظيم على أمر مهم قبل البيعة، وكان لا بد من طرحه بصراحة ووضوح: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. ويا لها من مفاوضات نادرة في التاريخ بين جندي وقائد بل بين مسلم ورسول. إن طبيعة المعركة تقتضي أوضاعا جدبدة، وإن حمل السلاح يعني الحرب الضروس التي تأكل كل شيء.
فالحركة الإسلامية اليوم على سبيل المثال - قبل أن تتبنى الجهاد، وقبل أن تحمل السلاح كانت آمنة، وكان شبابها في وظائف الدولة يملؤون فجاجها، بل مرت مرحلة وصل بعض شبابها إلى مجلس الشعب - كما يسمونه - ولكن في خدمة النظام الجاهلي الكافر. كما أنه لم يكن أحد يعلن أنه جزء من الحركة الإسلامية والذي يؤخذ من السلطة على أنه منها إنما يؤخذ على سبيل الحدس والظن.
كان هذا الواقع قبل البيعة على الجهاد، أما بعدها فانقلبت الصورة كاملة، لقد أصبح مجرد الظنة باشتراك فرد في عملية، أو شروعه وتفكيره بالانضمام إلى التنظيم المسلح يعني الحكم بإعدامه وإبادته، بل أكثر من ذلك الحكم بإبادة أقاربه وعائلته. وانطلاقا من هذا الواقع، فليس من حق القيادة أن تتخلى عن هذا الطريق، وتترك جنودها يبادون وحدهم في العراء، أن تصالح لنفسها، أو تأخذ أمانا لنفسها وتترك الفاجعة تأكل شبابها وشيبها.
هذا هو مفهوم اعتراض أبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه. لأن قطع العهود مع اليهود تعني الحرب عليهم، فإذا تخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ومضى إلى مكة فهذا يعني ترك المسلمين تحت رحمة اليهود يفعلون بهم الأفاعيل، ويستأصلون أخضرهم ويابسهم. فإذا كان من حق أبي الهيثم رضي الله عنه أن يناقش رسول رب العالمين بهذا الأمر، فأي قيادة في الدنيا مهما ارتفعت تكون فوق النقاش؟ وأي قائد في هذا الوجود هو أكبر من المحاسبة؟!
وليعلم كل جندي في الحركة الإسلامية أن من حقه أن يعترض مثل هذا الاعتراض على قيادته أن انسحبت من المعركة، وتركته يتلوى وحده في النار. إن كل قطرة دم تراق بأمر القيادة هي في عنقها ستسأل عنها يوم الدين فيم أراقتها؟ ولم لم تحافظ عليها من الضياع؟
وماذا كان جواب سيد الخلق لجندبة ابن التيهان؟
قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم. ويا له من نداء خالد تردده أصداء الوجود.
القيادة جزء من القاعدة، والقاعدة جزء من القيادة، شركاء متلاحمون منصهرون في المغرم والمغنم، دمهم واحد، ومصيرهم واحد، ونكبتهم واحدة، وحملهم واحد. لقد أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم استعداده وهو الطرف القائد المفاوض أن يشن الحرب على من حارب جنده، ويسالم من سالمهم، جعلهم الأصل في الحرب والسلم.
4 -
وملاحظة أخيرة للجنود في الدعوة نفقهها من هذه النصوص هي: إن الأنصار رضي الله عنهم اكتفوا بملاحظة أبي الهيثم واعتراضه، وكان معبرا عن رأيهم جميعا، وكان الرد عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ممثلا لهم جميعا.
لقد كان الاعتراض منهجيا شرعيا لا غوغائيا فوضويا وهذا يعني الحركة المنظمة كثيرا بأن تكون طريقة النقد والاعتراض والمحاسبة ضمن المعابر الشرعية والتنظيمية، لا من خلال الفوضوية والفردية بحيث يتكلم