الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مهدت في زمان خمارويه بن أحمد بن طولون، ويسير الراكب مرحلتين في محض التيه هذا، حتى يوافي ساحل بحر فاران، حيث كانت مدينة قاران، وهناك غرق فرعون، والتيه مقدار أربعين فرسخا في مثلها، وفيه تاه بنو إسرائيل أربعين سنة لم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ولا بدّلوا ثوبا، وفيه مات موسى عليه السلام.
ويقال: إنّ طول التيه نحو من ستة أيام، واتفق أنّ المماليك البحرية لما خرجوا من القاهرة هاربين في سنة اثنتين وخمسين وستمائة مرّ طائفة منهم بالتيه، فتاهوا فيه خمسة أيام، ثم تراءى لهم في اليوم السادس سواد على بعد، فقصدوه، فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلها من رخام أخضر، فدخلوا بها، وطافوا بها، فإذا هي قد غلب عليها الرمل، حتى طمّ أسواقها ودورها، ووجدوا بها أواني وملابس، وكانوا إذا تناولوا منها شيئا، تناثر من طول البلى، ووجدوا في صينية بعض البزازين، تسعة دنانير ذهبا، عليها صورة غزال، وكتابة عبرانية، وحفروا موضعا فإذا حجر على صهريج ماء، فشربوا منه ماء أبرد من الثلج، ثم خرجوا ومشوا ليلة فإذا بطائفة من العربان، فحملوهم إلى مدينة الكرك، فدفعوا الدنانير لبعض الصيارفة فإذا عليها، أنها ضربت في أيام موسى عليه السلام، ودفع لهم في كل دينار مائة درهم، وقيل لهم: إنّ هذه المدينة الخضراء من مدن بني إسرائيل، ولها طوفان رمل يزيد تارة، وينقص أخرى لا يراها إلا تائه، والله أعلم.
ذكر مدينة دمياط
إعلم أنّ دمياط: كورة من كور أرض مصر، بينها وبين تنيس اثنا عشر فرسخا، ويقال: سميت بدمياط من ولد أشمن بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام.
ويقال: إنّ إدريس عليه السلام، كان أوّل ما أنزل عليه ذو القوّة والجبروت، أنا الله مدين المدائن الفلك بأمري وصنعي أجمع بين العذب والملح والنار والثلج، وذلك بقدرتي ومكنون علمي، الدال والميم والألف والطاء، قيل هم: بالسريان، دمياط، فتكون دمياط كلمة سريانية، أصلها دمط أي: القدرة إشارة إلى مجمع العذب والملح.
وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: دمياط بلد قديم بني في زمن قليمون بن اتريب بن قبطيم بن مصرايم على اسم غلام كانت أمّه ساحرة لقليمون.
ولما قدم المسلمون إلى أرض مصر كان على دمياط رجل، من أخوال المقوقس، يقال له: الهاموك، فلما افتتح عمرو بن العاص مصر امتنع الهاموك بدمياط، واستعدّ للحرب، فأنفذ إليه عمرو بن العاص المقداد بن الأسود، في طائفة من المسلمين، فحاربهم الهاموك وقتل ابنه في الحرب، فعاد إلى دمياط، وجمع إليه أصحابه، فاستشارهم في أمره، وكان عنده حكيم قد حضر الشورى، فقال: أيها الملك إنّ جوهر العقل لا قيمة له،
وما استغنى به أحد إلّا هداه إلى سبيل الفوز والنجاة من الهلاك، وهؤلاء العرب من بدء أمرهم، لم تردّ لهم راية، وقد فتحوا البلاد، وأذلوا العباد، وما لأحد عليهم قدرة، ولسنا بأشدّ من جيوش الشام، ولا أعز ولا أمنع، وإنّ القوم قد أيدوا بالنصر والظفر والرأي، أن تعقد مع القلوم صلحا ننال به الأمن وحقن الدماء وصيانة الحرم، فما أنت بأكثر رجالا من المقوقس.
فلم يعبأ الهاموك بقوله، وغضب منه، فقتله، وكان له ابن عارف عاقل، وله دار ملاصقة للسور، فخرج إلى المسلمين في الليل، ودلهم على عورات البلد، فاستولى المسلمون عليها، وتمكنوا منها، وبرز الهاموك للحرب، فلم يشعر بالمسلمين إلا وهم يكبرون على سور البلد، وقد ملكوه، فعند ما رأى شطا بن الهاموك المسلمين فوق السور، لحق بالمسلمين، ومعه عدّة من أصحابه، ففت ذلك في عضد أبيه، واستأمن للمقداد، فتسلم المسلمون دمياط، واستخلف المقداد عليها، وسير بخبر الفتح، إلى عمرو بن العاص، وخرج شطا، وقد أسلم إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح، فحشد أهل تلك النواحي، وقدم بهم مدد للمسلمين، وعونا لهم على عدوّهم، وسار بهم مع المسلمين لفتح تنيس، فبرز لأهلها، وقاتلهم قتالا شديدا، حتى قتل رحمه الله في المعركة شهيدا بعد ما أنكى فيهم، وقتل منهم، فحمل من المعركة، ودفن في مكانه المعروف به، خارج دمياط، وكان قتله في ليلة الجمعة النصف من شعبان، فلذلك صارت هذه الليلة من كل سنة، موسما يجتمع الناس فيها من النواحي، عند شطا، ويحيونها، وهم على ذلك إلى اليوم، وما زالت دمياط بيد المسلمين إلى أن نزل عليها الروم في سنة تسعين من الهجرة، فأسروا خالد بن كيسان، وكان على البحر هناك وسيروه إلى ملك الروم، فأنفذه إلى أمير المؤمنين، الوليد بن عبد الملك من أجل الهدنة التي كانت بينه وبين الروم.
فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك، نازل الروم دمياط في ثلثمائة وستين مركبا، فقتلوا وسبوا، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة، ولما كانت الفتنة بين الأخوين: محمد الأمين، وعبد الله المأمون، وكانت الفتن بأرض مصر، طمع الروم في البلاد، ونازلوا دمياط في أعوام بضع ومائتين.
ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين، المتوكل على الله وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق «1» ، نزل الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملكوها، وما فيها وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال، وأهل الذمّة، فنفر إليهم عنبسة بن إسحاق يوم النحر في جيشه، ونفر كثير من الناس إليهم، فلم يدركوهم، ومضى
الروم إلى تنيس، فأقاموا بأشتومها، فلم يتبعهم عنبسة، فقال يحيى بن الفضيل للمتوكل:
أترضى بأن يوطأ حريمك عنوة
…
وأن يستباح المسلمون ويحربوا
حمار أتى دمياط والروم وثب
…
بتنيس رأي العين منه وأقرب
مقيمون بالأشتوم يبغون مثل ما
…
أصابوه من دمياط والحرب ترتب
فما رام من دمياط شبرا ولا درى
…
من العجز ما يأتي وما يتجنب
فلا تنسنا إنا بدار مضيعة
…
بمصر وإنّ الدين قد كاد يذهب
فأمر المتوكل ببناء حصن دمياط، فابتدىء في بنائه، يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين، وأنشأ من حينئذ الأسطول بمصر، فلما كان في سنة سبع طرق الروم دمياط في نحو مائتي مركب، فأقاموا يعبثون في السواحل شهرا، وهم يقتلون ويأسرون وكانت للمسلمين معهم معارك.
ثم لما كانت الفتن بعد موت كافور الإخشيديّ، طرق الروم دمياط لعشر خلون من رجب سنة سبع وخمسين وثلثمائة في بعض وعشرين مركبا، فقتلوا وأسروا مائة وخمسين من المسلمين.
وفي سنة ثمان وأربعمائة، ظهر بدمياط سمكة عظيمة طولها مائتان وستون ذراعا، وعرضها مائة ذراع، وكانت حمير الملح تدخل في جوفها موسوقة، فتفرّغ وتخرج، ووقف خمسة رجال في قحفها، ومعهم المجاريف يجرفون الشحم، ويناولونه الناس، وأقام أهل تلك النواحي مدّة طويلة يأكلون من لحمها.
وفي أيام الخليفة الفائز بنصر الله عيسى، والوزير حينئذ الصالح طلائع بن رزيك، نزل على دمياط نحو ستين مركبا في جمادى الآخرة سنة خمسين وخمسمائة، بعث بها لوجيز بن رجاو، صاحب صقلية، فعاثوا وقتلوا، ونزلوا تنيس ورشيد والإسكندرية، فأكثروا فيها الفساد.
ثم كانت خلافة العاضد لدين الله في وزارة شاور بن مجير السعديّ، الوزارة الثانية عند ما حضر ملك الفرنج مري إلى القاهرة، وحصرها وقرّر على أهلها المال، واحترقت مدينة الفسطاط، فنزل على تنيس وأشموم ومنية عمر، وصاحب أسطول الفرنج في عشرين شونة، فتل وأسر وسبى.
وفي وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب للعاضد، وصل الفرنج إلى دمياط في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وخمسمائة، وهم فيما يزيد على ألف ومائتي مركب، فخرجت العساكر من القاهرة، وقد بلغت النفقة عليهم زيادة على خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار، فأقامت الحرب مدّة خمسة وخمسين يوما، وكانت صعبة شديدة،
واتهم في هذه النوبة عدّة من أعيان المصريين بممالأة الفرنج ومكاتبتهم، وقبض عليهم الملك الناصر، وقتلهم.
وكان سبب هذه النوبة أنّ الغزو لما قدموا إلى مصر من الشام صحبة أسد الدين شيركوه، تحرّك الفرنج لغزو ديار مصر، خشية من تمكن الغزو بها، فاستمدّوا إخوانهم أهل صقلية، فأمدّوهم بالأموال والسلاح، وبعثوا إليهم بعدّة وافرة، فساروا بالدبابات والمجانيق، ونزلوا على دمياط في صفر، وهم في العدّة التي ذكرنا من المراكب، وأحاطوا بها بحرا وبرّا، فبعث السلطان بابن أخيه تقيّ الدين عمرو، وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحازميّ في العساكر إلى دمياط، وأمدّهما بالأموال والميرة والسلاح، واشتدّ الأمر على أهل دمياط، وهم ثابتون على محاربة الفرنج.
فسيّر صلاح الدين إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستنجده، ويعلمه بأنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفا من قيام المصريين عليه، فجهز إليه العساكر شيئا بعد شيء، وخرج نور الدين من دمشق بنفسه إلى بلاد الفرنج التي بالساحل، وأغار عليها واستباحها، فبلغ ذلك الفرنج، وهم على دمياط، فخافوا على بلادهم من نور الدين، أن يتمكن منها، فرحلوا عن دمياط في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل بعد ما غرق لهم نحو الثلاثمائة مركب، وقلّت رجالهم بفناء وقع فيهم، وأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، وكان صلاح الدين يقول: ما رأيت أكرم من العاضد! أرسل إليّ مدّة مقام الفرنج عل دمياط: ألف ألف دينار سوى ما أرسله إليّ من الثياب وغيرها.
وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة رتبت المقاتلة على البرجين، وشدّت مراكب إلى السلسلة ليقاتل عليها، ويدافع عن الدخول من بين البرجين، ورمّ شعث سور المدينة، وسدّت ثلمة، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين، فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار، واعتبر السور، فكان قياسه: أربعة آلاف وستمائة وثلاثين ذراعا.
وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة أمر السلطان، بقطع أشجار بساتين دمياط، وحفر خندقها، وعمل جسر عند سلسلة البرج.
وفي سنة خمس عشرة وستمائة، كانت واقعة دمياط العظمى، وكان سبب هذه الواقعة أنّ الفرنج في سنة أربع عشرة وستمائة، تتابعت إمدادهم من رومية الكبرى «1» : مقرّ البابا، ومن غيرها من بلاد الفرنج، وساروا إلى مدينة عكا، فاجتمع بها عدّة من ملوك الفرنج، وتعاقدوا على قصد القدس، وأخذه من أيدي المسلمين، فصاروا بعكا في جمع عظيم.
وبلغ ذلك الملك أبا بكر بن أيوب، فخرج من مصر في العساكر إلى الرملة، فبرز الفرنج من عكا في جموع عظيمة، فسار العادل إلى بيسان، فقصده الفرنج، فخافهم لكثرتهم، وقلة عسكره، فأخذ على عقبة رفيق يريد دمشق، وكان أهل بيسان وما حولها، قد اطمأنوا لنزول السلطان هناك، فأقاموا في أماكنهم، وما هو إلا أن سار السلطان، وإذا بالفرنج قد وضعوا السيف في الناس، ونهبوا البلاد، فحازوا من أموال المسلمين ما لا يحصى كثرة، وأخذوا بيسان وبانياس وسائر القرى التي هناك، وأقاموا ثلاثة أيام ثم عادوا إلى مرج عكا بالغنائم والسبي، وهلك من المسلمين خلق كثير، فاستراح الفرنج بالمرج أياما، ثم عادوا ثانيا ونهبوا صيدا والشقيف، وعادوا إلى مرج عكا، فأقاموا به، وكان ذلك كله فيما بين النصف من شهر رمضان وعيد الفطر، والملك العادل مقيم بمرج الصفر، وقد سير ابنه المعظم عيسى بعسكر إلى نابلس لمنع الفرنج من طروقها، والوصول إلى بيت المقدس، فنازل الفرنج قلعة الطور سبعة عشر يوما، ثم عادوا إلى عكا، وعزموا على قصد الديار المصرية، فركبوا بجموعهم البحر، وساروا إلى دمياط في صفر، فنزلوا عليها يوم الثلاثاء رابع ربيع الأوّل سنة خمس عشرة وستمائة الموافق لثامن حزيران، وهم نحو السبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل، فخيموا تجاه دمياط في البرّ الغربيّ، وحفروا على عسكرهم خندقا، وأقاموا عليه سورا وشرعوا في قتال برج دمياط، فإنه كان برجا منيعا فيه سلاسل من حديد غلاظ، تمدّ على النيل، لتمنع المراكب الواصلة في البحر الملح من الدخول إلى ديار مصر في النيل، وذلك أنّ النيل إذا انتهى إلى فسطاط مصر، مرّ عليه في ناحية الشمال إلى شطنوف، فإذا صار إلى شطنوف انقسم قسمين أحدهما يمرّ في الشمال إلى رشيد، فيصب في البحر الملح، والشطر الآخر يمرّ من شطنوف إلى جوجر، ثم يتفرّق من عند جوجر فرقتين، فرقة تمرّ إلى أشموم فتصب في بحيرة تنيس، وفرقة تمرّ من جوجر إلى دمياط، فتصب في البحر الملح هناك، وتصير هذه الفرقة من النيل فاصلة بين مدينة دمياط والبرّ الغربيّ، وهذا البرّ الغربيّ من دمياط يعرف بجزيرة دمياط، يحيط بها ماء النيل والبحر الملح.
وفي مدّة إقامة الفرنج بهذا البرّ الغربيّ، عملوا الآلات والمراسي، وأقاموا أبراجا يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، فإنهم إذا ملكوه تمكنوا من العبور في النيل إلى القاهرة ومصر، وكان هذا البرج مشحونا بالمقاتلة، فتحيل الفرنج عليه، وعملوا برجا من الصواري على بسطة كبيرة، وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه، وقاتلوا من به حتى أخذوه.
فبلغ نزول الفرنج على دمياط الملك الكامل، وكان يحلف أباه الملك العادل على ديار مصر، فخرج بمن معه من العساكر في ثالث يوم من وقوع الطائر، بخبر نزول الفرنج
لخمس خلون منه، وأمر والي الغربية بجمع العربان، وسار في جمع كبير، وخرج الأسطول، فأقام تحت دمياط، ونزل السلطان بمن معه من العساكر بمنزلة العادلية، قرب دمياط، وامتدّت عساكره إلى دمياط لتمنع الفرنج من السور والقتال مستمرّ والبرج ممتنع مدّة أربعة أشهر، والعادل يسير العساكر من البلاد الشامية شيئا بعد شيء حتى تكاملت عند الملك الكامل، واهتمّ الملك لنزول الفرنج على دمياط، واشتدّ خوفه، فرحل من مرج الصفر إلى عالقين فنزل به المرض، ومات في سابع جمادى الآخرة، فكتم الملك المعظم عيسى موته وحمله في محفة، وجعل عنده خادما وطبيبا راكبا إلى جانب المحفة، والشر بدار يصلح الشراب، ويحمله إلى الخادم فيشربه، ويوهم الناس، أنّ السلطان شربه، إلى أن دخلوا به إلى قلعة دمشق، وصارت إليها الخزائن والبيوتات، فأعلن بموته.
وتسلم ابنه الملك المعظم، جميع ما كان معه، ودفنه بالقلعة، ثم نقله إلى مدرسة العادلية بدمشق، وبلغ الملك الكامل موت أبيه، وهو بمنزلة العادلية قرب دمياط، فاستقلّ بمملكة ديار مصر، واشتدّ الفرنج، وألحوا في القتال، حتى استولوا على برج السلسلة، وقطعوا السلاسل المتصلة به لتجوز مراكبهم في بحر النيل، ويتمكنوا من البلاد فنصب الملك الكامل بدل السلاسل جسرا عظيما، لمنع الفرنج من عبور النيل، فقاتلت الفرنج عليه قتالا شديدا إلى أن قطعوه وكان قد أنفق على البرج والجسر، ما ينيف على سبعين ألف دينار، وكان الكامل يركب في كل يوم عدّة مرار من العادلية إلى دمياط لتدبير الأمور، وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج، فأمر الملك الكامل، أن يفرّق عدّة من المراكب في النيل حتى تمنع الفرنج من سلوك النيل، فعمد الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديما، فحفروه وعمقوا حفره، وأجروا فيه المال إلى البحر الملح، وأصعدوا مراكبهم فيه إلى بورة على أرض جيزة دمياط، مقابل المنزلة التي بها السلطان ليقاتلوه من هناك، فلما صاروا في بورة جاؤوه، وقاتلوه في الماء، وزحفوا إليه عدّة مرار، فلم يظفروا منه بطائل ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأنّ الميرة والإمداد متصلة إليهم، والنيل يحجز بينهم بين الفرنج، وأبواب المدينة مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر، والعربان تتخطف الفرنج في كل ليلة، بحيث امتنعوا من الرقاد خوفا من غاراتهم، فلما قوي طمع العرب في الفرنج حتى صاروا يخطفونهم نهارا، ويأخذون الخيم بمن فيها، أكمن الفرنج لهم عدّة كمناء، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأدرك الناس الشتاء، وهاج البحر على مخيم المسلمين وغرّقهم، فعظم البلاء وتزايد الغم وألح الفرنج في القتال، وكادوا أن يملكوا، فبعث الله ريحا قطعت مراسي مرمة الفرنج.
وكانت من عجائب الدنيا، فمرّت إلى برّ المسلمين فأخذوها فإذا هي مصفحة بالحديد، لا تعمل فيها النار ومساحتها خمسمائة ذراع، فكسروها، فإذا فيها مسا ميرزنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا، وبعث الكامل إلى الآفاق سبعين رسولا يستنجد أهل
الإسلام لنصرة المسلمين، ويخوّفهم من غلبة الفرنج على مصر.
فساروا في شوّال وأتته النجدات، من حماه وحلب، وبينا الناس في ذلك إذ طمع الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد الهكاريّ:
المعروف بابن المشطوب «1» في الملك الكامل عند ما بلغه موت الملك العادل، وكان له لفيف ينقادون إليه ويطيعونه، وكان أميرا كبيرا مقدّما عظيما في الأكراد الهكارية وافر الحرمة عند الملوك، معدودا بينهم، مثل واحد منهم، وكان مع ذلك عالي الهمة غزير الجود واسع الكرم شجاعا أبيّ النفس تهابه الملوك، وله الوقائع المشهورة، وهو من أمراء دولة صلاح الدين يوسف، فاتفق مع جماعة من الجند والأكراد على خلع الملك الكامل، وإقامة أخيه الملك الفائز إبراهيم ليصير له الحكم، ووافقه الأمير عز الدين الحميدي، والأمير أسد الدين الهكاريّ، والأمير مجاهد الدين، وجماعة من الأمراء، فلما بلغ ذلك الملك الكامل دخل عليهم، وهم مجتمعون والمصحف بين أيديهم ليحلفوا للفائز، فلما رأوه انفضوا، فخشي على نفسه فخرج، فاتفق وصول الصاحب، صفيّ الدين بن سكر من آمد إلى الملك الكامل، فإنه كان استدعاه بعد موت أبيه، فتلقاه وأكرمه، وذكر له ما هو فيه، فضمن له تحصيل المال، فلما كان في الليل ركب، الملك الكامل وتوجه من العادلية في جريدة إلى أشموم طناح، فنزلها وأصبح العسكر بغير سلطان، فركب كل منهم هواه، ولم يعطف الأخ على أخيه، وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم، ولحقوا بالسلطان.
فبادر الفرنج في الصباح إلى مدينة دمياط، ونزلوا البرّ الشرقيّ، يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة بغير منازع ولا مدافع، وأخذوا سائر ما كان في عسكر المسلمين، وكان شيئا لا يحيط به الوصف، وداخل السلطان وهم عظيم، وكاد أن يفارق البلاد، فإنه تخيل من جميع من معه، واشتدّ طمع الفرنج في أرض مصر كلها، وظنوا أنهم قد ملكوها إلا أنّ الله سبحانه وتعالى: أغاث المسلمين، وثبت السلطان، وواقاه أخوه الملك المعظم، بأشموم طناح، فاشتدّ به أزره، وقوي جأشه، وأطلعه على ما كان من ابن المشطوب، فوعده بإزاحة ما يكره، ثم إنّ المعظم ركب إلى خيمة ابن المشطوب، واستدعاه للركوب معه ومسايرته، فاستمهله حتى يلبس خفيه وثياب الركوب، فلم يمهله، وأعجله فركب معه وسايره حتى خرج به من العسكر الكامليّ.
ثم قال له: يا عماد الدين، هذه البلاد لك وأشتهي أن تهبها لنا، وأعطاه نفقة، وسلمه إلى جماعة من أصحابه، يثق بهم، وقال لهم: أخرجوه من الرمل، ولا تفارقوه حتى يخرج
من الشام، فلم يسع ابن المشطوب إلا امتثال ما قال المعظم لأنه معه بمفرده، ولا قدرة له على الممانعة، فساروا به إلى حماه، ثم مضى منها إلى المشرق، ولما شيّع الملك المعظم ابن المشطوب رجع إلى الملك الكامل، وأمر أخاه الفائز إبراهيم أن يسير إلى ملوك الشام في رسالة عن أخيه الملك الكامل لاستدعائهم إلى قتال الفرنج، فمضى إلى دمشق وخرج منها إلى حماه، فمات بها مسموما على ما قيل، فثبت للملك الكامل، أمر الملك وسكن روعه، هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط برّا وبحرا، وأحدقوا وضيقوا على أهلها، ومنعوا القوت من الوصول إليهم، وحفروا على عسكرهم المحيط بدمياط خندقا، وبنوا عليه سورا، وأهل دمياط يقاتلونهم أشدّ القتال، ويمانعونهم، وقد غلت عندهم الأسعار لقلّة الأقوات، ثم إنّ المعظم فارق الملك الكامل، وسار إلى بلاد الشام.
وأقام الكامل لمحاربة الفرنج، وانتدب شمائل أحد الجاندارية «1» في الركاب للدخول إلى دمياط، فكان يسبح في الماء، ويصل إلى أهل دمياط، فيعدهم بوصول النجدات، فحظي بذلك عند الكامل، وتقرّب منه، حتى عمله والي القاهرة، وإليه تنسب خزانة شمائل بالقاهرة، فلم يزل الحال على ذلك إلى أن دخلت سنة ست عشرة، فجهز الملك المنصور محمد بن عمرو بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماه ابنه المظفر تقيّ الدين محمودا إلى مصر نجدة لخاله الملك الكامل على الفرنج في جيش كثيف، فوصل إلى العسكر، وتلقاه الملك الكامل، وأنزله في ميمنة العسكر منزلة أبيه وجدّه عند السلطان صلاح الدين يوسف، فألح الفرنج في القتال، وكان بدمياط نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراض وغلت عندهم الأسعار حتى بلغت بيضة الدجاجة عندهم عدّة دنانير.
قال الحافظ عبد العظيم المنذري «2» : سمعت الشيخ أبا الحسن عليّ بن فضل يقول:
كان لبعض بني خيار، بقرة فذبحوها، وباعوها في الحصار، فجاءت ثمانمائة دينار.
وقال في المعجم المترجم: سمعت الأمير أبا بكر بن حسن بن خسويام يقول: كنت بدمياط في حصار العدوّ بها، فبيع السكز بها بمائة وأربعين دينارا الرطل، والدجاجة بثلاثين دينارا، قال: واشتريت ثلاث دجاجات بتسعين دينارا، والرواية بأربعين درهما، والقبر يحفر بأربعين مثقالا، وأخذت أختي جملا، فشقت جوفه وملأته دجاجا وفاكهة وبقلا، وغير ذلك، وخاطته ورمته في البحر، وكتبت إليّ تقول: قد فعلت كذا، فإذا رأيتم جملا ميتا، فخذوه فوقع لنا ليلا، فأخذناه وكان فيه ما يساوي جملة، ففرّقته على الناس، ثم عمل بعد
ذلك، ثلاثة جمال على هيئته، ففطن لها الفرنج، فأخذوها وامتلأت مساكنهم، وطرقات البلد من الموتى وعدمت الأقوات، وصار السكر، كعزة الياقوت، وفقدت اللحوم، فلم يقدر عليها بوجه وآلت بهم الحال، إلى أن لم يبق بها سوى قليل من القمح والشعير فقط.
فتسوّر الفرنج وأخذوا منه البلد في يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان، وكانت مدّة الحصار ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما، ولما أخذوا البلد وضعوا السيف في الناس، فتجاوزوا الحدّ في القتل وأسرفوا في مقدار القتلى، وبلغ ذلك السلطان، فرحل بعد أخذ دمياط بيومين، ونزل قبالة طلخا على رأس بحر أشموم، ورأس بحر دمياط وحيز في المنزلة التي صار يقال لها المنصورة، وحصّن الفرنج أسوار دمياط، وجعلوا الجامع كنيسة وبثوا سراياهم في القرى، فقتلوا ونهبوا، وسيّر السلطان الكتب إلى الآفاق ليستحث الناس على الحضور، لدفع الفرنج عن ملك مصر، وشرع العسكر في بناء الدور والفنادق والحمامات، والأسواق بمنزلة المنصورة، وجهز الفرنج من أسروه من المسلمين في البحر إلى عكا، وخرجوا من دمياط، ونازلوا السلطان تجاه المنصورة، وصار بينهم وبينه بحر أشموم، وبحر دمياط، وكان الفرنج في مائتي ألف راجل، وعشرة آلاف فارس، فقدّم المسلمون شوانيهم أمام المنصورة، وعدّتها مائة قطعة، واجتمع الناس من القاهرة ومصر، وسائر النواحي من أسوان إلى القاهرة، ووصل الأمير حسام الدين يونس، والفقيه تقيّ الدين، أبو الطاهر محمد بن الحسن بن عبد الرحمن المحلي، فأخرجا الناس من القاهرة ومصر، ونودي بالنفير العام وخرج الأمير علاء الدين جلدك، وجمال الدين بن صيرم، لجمع الناس فيما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقيّ، فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألف فارس في آلاف من العربان ليحولوا بين الفرنج ودمياط، وسارت الشواني، ومعها حراقة كبيرة على رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرة عن الفرنج من البر والبحر.
وسارت عساكر المسلمين من الشرق والشام إلى الديار المصرية، وكان قد خرج الفرنج من داخل البحر لمدد الفرنج على دمياط، فقدم منهم أمم لا تحصى، يريدون التوغل في أرض مصر، فلما تكاملوا بدمياط، خرجوا منها في حدّهم وحديدهم، ونزلوا تجاه الملك الكامل، كما تقدّم، فقدمت النجدات يقدمها الملك الأشرف موسى بن العادل، وعلى ساقتها الملك المعظم عيسى، فتلقاهم الملك الكامل وأنزلهم عنده بالمنصورة في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة، وتتابع مجيء الملوك، حتى بلغت عدّة فرسان المسلمين نحو أربعين ألف فارس، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة وأسروا من الفرنج ألفين ومائتين، ثم ظفر المسلمون، بثلاث قطائع أخر، فتضعضع الفرنج لذلك، وضاق بهم المقام.
فبعثوا يطلبون الصلح، فقدم عند مجيء رسلهم أهل الإسكندرية في ثمانية آلاف
مقاتل، وكان الذي طلب الفرنج القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف من الساحل ليرحلوا عن ديار مصر، فبذل المسلمون لهم سائر ما ذكر من البلاد، خلا مدينة الكرك والشويك، فامتنع الفرنج من الصلح، وقالوا لا بدّ من أخذهم الكرك والشوبك، ومبلغ ثلثمائة ألف دينار، عوضا عما خرّبه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق من أسوار القدس، وكان المعظم لما مات أبوه العادل، واستولى الفرنج على دمياط، ونازلوا الملك الكامل قبالة المنصورة، خاف أن يصل منهم في البحر، من يأخذ القدس، ويتحصنوا به فأمر بتخريب أسواره، وكانت أسواره وأبراجه في غاية العظمة والمنعة، فأتى الهدم على جميعها ما خلا برج داود، وانتقل أكثر الناس من القدس، ولم يبق به إلا القليل، ونقل المعظم ما كان بالقدس من الأسلحة والآلات، فامتنع المسلمون من إجابة الفرنج إلى ذلك، وقاتلوهم وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها الفرنج، وحفروا مكانا عظيما في النيل، وكان في قوّة الزيادة، فركب الماء أكثر تلك الأرض، وصار حائلا بين الفرنج ومدينة دمياط، وانحصروا فلم يبق لهم سوى طريق ضيقة، فأمر السلطان للوقت، بنصب الجسور عند أشموم طناح، فعبرت العساكر عليها، وملكت الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إذا أرادوا الوصول إليها، فاضطربوا وضاقت عليهم الأرض.
واتفق مع ذلك وصول مرمّة عظيمة للفرنج في البحر حولها عدّة حراقات تحميها، وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة، فقاتلهم شواني المسلمين وظفرها الله بهم، فأخذها المسلمون، وعند ما علم الفرنج ذلك أيقنوا بالهلاك، وصار المسلمون يرمونهم بالنشاب، ويحملون على أطرافهم، فهدموا حينئذ خيامهم ومجانيقهم، وألقوا فيها النار، وهموا بالزحف على المسلمين ومقاتلتهم ليخلصوا إلى دمياط، فحال بينهم وبين ذلك كثرة الوحل والمياه الراكبة على الأرض، وخشوا من الإقامة لقلة أقواتهم، فذلوا وسألوا الأمان على أن يتركوا دمياط للمسلمين، فاستشار السلطان في ذلك، فاختلف الناس عليه، فمنهم من امتنع من تأمين الفرنج ورأى أن يؤخذوا عنوة، ومنهم من جنح إلى إعطائهم الأمان خوفا ممن وراءهم من الفرنج في الجزائر وغيرها، ثم اتفقوا على الأمان وأن يعطي كل من الفريقين رهائن، فتقرّر ذلك في تاسع شهر رجب سنة ثمان عشرة، وسير الفرنج عشرين ملكا رهنا عند الملك الكامل.
وبعث الملك الكامل بابنه الملك الصالح، نجم الدين أيوب، وجماعة من الأمراء إلى الفرنج، وجلس السلطان مجلسا عظيما لقدوم ملك الفرنج، وقد وقف إخوته وأهل بيته بين يديه، وصار في أبهة وناموس مهاب، وخرج قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، فسلموها للمسلمين في تاسع عشرة، وكان يوم تسليمها يوما عظيما وعند ما تسلم المسلمون دمياط، وصارت بأيديهم، قدمت نجدة في البحر للفرنج، فكان من جميل صنع الله، تأخرها حتى
ملكت دمياط بأيدي المسلمين، فإنها لو قدمت قبل ذلك لقوى بها الفرنج، فإنّ المسلمين وجدوا مدينة دمياط، قد حصنها الفرنج، وصارت بحيث لا ترام، ولما تمّ الأمر بعث الفرنج بولد السلطان، وأمرائه إليه، وسيّر إليهم السلطان من كان عنده من الملوك في الرهن، وتقرّرت الهدنة بين الفرنج والمسلمين، مدّة ثماني سنين، وكان مما وقع الصلح عليه أن كلا من المسلمين والفرنج يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته، وحلفت ملوك الفرنج، وتفرّق الناس إلى بلادهم.
ودخل الملك الكامل إلى دمياط بإخوته وعساكره، وكان يوم دخوله إليها من الأيام المذكورة ورحل الفرنج إلى بلادهم، وعاد السلطان إلى مقرّ ملكه، وأطلقت الأسرى من ديار مصر، وكان فيهم من له من أيام السلطان صلاح الدين يوسف، وسارت ملوك الشام بعساكرها إلى بلادها، وعمت بشارة أخذ المسلمين مدينة دمياط من الفرنج، سائر الآفاق، فإنّ التتر كانوا قد استولوا على ممالك المشرق، فأشرف الفرنج على أخذ ديار مصر من أيدي المسلمين، وكانت مدّة نزول الفرنج على دمياط إلى أن أقلعوا عنها سائرين إلى بلادهم، ثلاث سنين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما منها مدّة استيلائهم على مدينة دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرون يوما.
فلما كان في سنة ست وأربعين وستمائة حدث بالسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل، محمد ورم في مأبضه تكوّن منه، ناصور فتح وعسر برؤه، فمرض من ذلك، وانضاف إليه قرحة في الصدر، فلزم الفراش إلا أنّ علوّ همته اقتضى مسيره من ديار مصر إلى الشام فسار في محفة، ونزل بقلعة دمشق، فورد عليه رسول الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بجزيرة صقلية في هيئة تاجر، وأخبره سرّا بأن بواش الذي يقال له: رواد فرنس، عازم على المسير إلى أرض مصر، وأخذها فسار السلطان من دمشق، وهو مريض في محفة، ونزل بأشموم طناح في المحرّم سنة سبع وأربعين، وجمع في مدينة دمياط من الأقوات والأزواد والأسلحة وآلات القتال شيئا كثيرا خوفا أن يجري على دمياط ما جرى في أيام أبيه، فأخذت بغير ذلك.
ولما نزل السلطان، بأشموم كتب إلى الأمير حسام الدين أبي عليّ بن عليّ الهديانيّ، نائبه بديار مصر، أن يجهز الأسطول من صناعة مصر، فشرع في الاهتمام بذلك وشحن الأسطول بالرجال والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه وسيره شيئا بعد شيء، وجهز السلطان الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، ومعه الأمراء والعساكر، فنزل بحيرة دمياط من برّها الغربيّ، وصار النيل بينه وبينها، فلما كان في الساعة الثانية من نهار الجمعة لتسع بقين من صفر وردت مراكب الفرنج البحريين فيها جموعهم العظيمة وقد انضم إليهم فرنج الساحل وأرسوا بإزاء المسلمين.
وبعث ملكهم إلى السلطان كتابا نصه: أما بعد: فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمّة العيسوية، كما أنه لا يخفى عليّ أنك أمين الأمّة المحمدية، وغير خاف عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس، وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ونقتل منهم الرجال، ونرمّل النساء، ونستأسر البنات والصبيان ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الإيمان، وأدخلت عليّ الأقساء والرهبان، وحملت قدّامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلا إليك، وقاتلك في أعز البقاع إليك، فإما إن تكون البلاد لي فيا هدية حصلت في يديّ، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة عليّ، فيدك العليا ممتدّة إليّ، وقد عرّفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.
فلما قرىء الكتاب على السلطان، وقد اشتدّ به المرض بكى، واسترجع.
فكتب القاضي بهاء الدين «1» زهير بن محمد، الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإنه وصل كتابك، وأنت تهدّد فيه بكثرة جيوشك، وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا فرد إلا جدّدناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمّرناه، ولو رأت عينك أيها المغرور، حدّ سيوفنا، وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل، لكان لك أن تعض على أنا ملك بالندم، ولا بدّ أن تزل بك القدم في يوم أوّله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، فإذا قرأت كتابي هذا، فتكون فيه على أوّل سورة النحل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
[النحل/ 1] وتكون على آخر سورة ص:
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
[ص/ 88] ، ونعود إلى قول الله تعالى، وهو أصدق القائلين: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
[البقرة/ 249]، وقول الحكماء: إنّ الباغي له مصرع وبغيك يصرعك، وإلى البلاد يقلبك والسلام.
وفي يوم السبت ورد الفرنج وضربوا خيامهم في أكثر البلاد التي فيها عساكر المسلمين، وكانت خيمة الملك رواد فرنس حمراء، فناوشهم المسلمون القتال، واستشهد يومئذ الأمير نجم الدين يوسف بن شيخ الإسلام، والأمير صارم الدين أزبك الوزيريّ، فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعساكر المسلمين جبنا وصلفا، وسار بهم في برّ دمياط، وسار إلى جهة أشموم طناح، فخاف من كان في مدينة دمياط، وخرجوا منها على وجوههم في الليل لا يلتفتون إلى شيء، وتركوا المدينة خالية من الناس، ولحقوا بالعسكر في أشموم، وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد،
ومرّوا هاربين إلى القاهرة، فأخذ منهم قطاع الطريق، ما عليهم من الثياب، وتركوهم عرايا، فشنعت القالة على الأمير فخر الدين من كل أحد، وعدّ جميع ما نزل بالمسلمين من البلاء بسبب هزيمته، فإن دمياط كانت مشحونة بالمقاتلة والأزواد العظيمة والأسلحة وغيرها، خوفا أن يصيبها في هذه المدّة ما أصابها في أيام الكامل، فإنه ما أتى عليها ذاك إلا من قلّة الأقوات بها، ومع ذلك امتنعت من الفرنج أكثر من سنة، حتى فني أهلها كما تقدّم، ولكن الله يفعل ما يريد.
ولما أصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر قصدوا دمياط فإذا أبواب المدينة مفتحة، ولا أحد يدفع عنها، فظنوا أنّ ذلك مكيدة، وتمهلوا حتى ظهر لهم خلوّها فدخلوا إليها من غير مانع ولا مدافع، واستولوا على ما بها من الأسلحة العظيمة، وآلات الحرب، والأقوات الخارجة عن الحدّ في الكثرة والأموال والأمتعة صفوا بغير كلفة، فأصيب الإسلام والمسلمون ببلاء، لولا لطف الله لمحي اسم الإسلام ورسمه بالكلية، وانزعج الناس في القاهرة ومصر انزعاجا عظيما، لما نزل بالمسلمين مع شدّة مرض السلطان، وعدم حركته، وأما السلطان فإنه اشتدّ حنقه على الأمير فخر الدين، وقال: أما قدرت أنت والعساكر أن تقفوا ساعة بين يدي الفرنج؟ وأقام عليه القيامة، لكن الوقت لم يكن يسع غير الصبر والإغضاء، وغضب على الكنانيين الذين كانوا بدمياط ووبخهم، فقالوا: ما نعمل إذا كانت عساكر السلطان بأجمعهم وأمراؤه هربوا وأخربوا الزردخاناه، كيف لا نهرب نحن؟ فأمر بشنقهم لكونهم خرجوا من دمياط بغير إذن، وكانت عدّة من شنق من الأمراء الكنانية زيادة على خمسين أميرا في ساعة واحدة، ومن جملتهم أمير جسيم، له ابن جميل يسأل أن يشنق قبل ابنه، فأمر السلطان أن يشنق ابنه قبله، فشنق الابن ثم الأب، ويقال: إنّ شنق هؤلاء كان بفتوى الفقهاء، فخاف جماعة من الأمراء، وهموا بالقيام على السلطان.
فأشار عليهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بأنّ السلطان على خطة، فإن مات فقد كفيتم أمره، وإلا فهو بين أيديكم وأخذ السلطان في إصلاح سور المنصورة، وانتقل إليها لخمس بقين من صفر، وجعل الستائر على السور، وقدمت الشواني إلى تجاه المنصورة، وفيها العدد الكاملة وشرع العسكر في تجديد الأبنية هناك، وقدم من العربان، وأهل النواحي ومن المطوّعة خلق لا يحصى عددهم، وأخذوا في الإغارة على الفرنج، فملأ الفرنج أسوار مدينة دمياط بالمقاتلة والآلات، فلما كان أوّل ربيع الأوّل قدم إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العربان، ستة وثلاثون منهم: فارسان، وفي خامس ربيع الآخر، ورد منهم تسعة وثلاثون، وفي سابعه ورد اثنان وعشرون أسيرا، وفي سادس عشره ورد خمسة وأربعون أسيرا منهم: ثلاثة خيالة، وفي ثامن عشر جمادى الأولى ورد خمسون أسيرا.
هذا ومرض السلطان يتزايد، وقواه تتناقص حتى آيس الأطباء منه، وفي ثالث عشر
رجب قدم إلى القاهرة سبعة وأربعون أسيرا، وأحد عشر فارسا، وظفر المسلمون بمسطح للفرنج في البحر فيه مقاتلة من نستراوة.
فلما كانت ليلة الأحد لأربع عشرة مضت من شعبان، مات الملك الصالح بالمنصورة، فلم يظهر موته، وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة، وقام بأمر العسكر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ.
فإنّ شجرة «1» الدر زوجة السلطان، لما مات أحضرت الأمير فخر الدين، والطواشي جمال الدين محسنا، وإليه أمر المماليك البحرية والحاشية وأعلمتهما بموته، فكتما ذلك خوفا من الفرنج، لأنهم كانوا قد أشرفوا على تملك ديار مصر، فقام الأمير فخر الدين بالتدبير.
وسيروا إلى الملك المعظم توران شاه «2» ، وهو بحصن كيفا «3» ، الفارس أقطاي لإحضاره، وأخذ الأمير فخر الدين في تحليف العسكر للملك الصالح، وابنه الملك المعظم بولاية العهد من بعده، وللأمير فخر الدين بأتابكية العسكر، والقيام بأمر الملك حتى حلفهم كلهم بالمنصورة وبالقاهرة في دار الوزارة عند الأمير حسام الدين بن أبي عليّ في يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من شعبان، وكانت العلامات تخرج من الدهاليز السلطانية بالمنصورة إلى القاهرة بخط خادم يقال له: سهيل لا يشك من رآها، إنها خط السلطان، ومشى ذلك على الأمير حسام الدين بالقاهرة، ولم يتفوّه أحد بموت السلطان إلى أن كان يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان، ورد الأمر إلى القاهرة بدعاء الخطباء في الجمعة الثانية للملك المعظم بعد الدعاء للسلطان، وأن ينقش اسمه على السكة، فلما علم الفرنج بموت السلطان، خرجوا من دمياط بفارسهم وراجلهم، وشوانيهم تحاذيهم في البحر حتى نزلوا، فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان.
فورد في يوم الجمعة من الغد كتاب إلى القاهرة من العسكر، أوّله: انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، وفيه مواعظ بليغة بالحث على الجهاد، فقرىء على منبر جامع القاهرة، وقد جمع الناس
لسماعه، فارتجت القاهرة ومصر، وظواهرهما بالبكاء والعويل، وأيقن الناس باستيلاء الفرنج على البلاد لخلوّ الوقت من ملك يقوم بالأمر لكنهم لم يهنوا، وخرجوا من القاهرة ومصر، وسائر الأعمال، فاجتمع عالم عظيم.
فلما كان يوم الثلاثاء أوّل شهر رمضان، اقتتل المسلمون والفرنج، فاستشهد العلائيّ أمير مجلس وجماعة، ونزل الفرنج، شارمساح «1» ، وفي يوم الاثنين سابعه نزلوا البرمون، فاضطرب الناس وزلزلوا زلزالا شديدا لقربهم من العسكر، وفي يوم الأحد ثالث عشره، وصلوا تجاه المنصور، وصار بينهم وبين المسلمين، بحر أشموم، وخندقوا عليهم وأداروا على خندقهم سورا ستروه بكثير من الستائر، ونصبوا المجانيق، ليرموا بها على المسلمين، وصارت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل، وشواني المسلمين بإزاء المنصورة، والتحم القتال برّا وبحرا.
وفي سادس عشره نفر إلى المسلمين، ستة خيالة، أخبروا بمضايقة الفرنج، وفي يوم عيد الفطر، أسروا من الفرنج، كند من أقارب الملك، وأبلى عوامّ المسلمين في قتال الفرنج بلاء كبيرا، وأنكوهم نكاية عظيمة، وصاروا يقتلون منهم في كل وقت، ويأسرون ويلقون أنفسهم في الماء، ويمرّون فيه إلى الجانب الذي فيه الفرنج، ويتحيلون في اختطاف الفرنج بكل حيلة، ولا يهابون الموت، حتى إن إنسانا قوّر بطيخة، وحملها على رأسه، وغطس في الماء حتى حاذى الفرنج، فظنه بعضهم بطيخة، ونزل حتى يأخذها، فخطفه وأتى به إلى المسلمين، وفي يوم الأربعاء سابع شوّال، أخذ المسلمون شونة للفرنج فيها: كندا، ومائتا رجل، وفي يوم الخميس النصف منه ركب الفرنج إلى برّ المسلمين واقتتلوا فقتل منهم أربعون فارسا، وسير في عدّة إلى القاهرة بسبعة وستين أسيرا منهم: ثلاثة من أكابر الدوادارية، وفي يوم الخميس، ثاني عشرية أحرقت للفرنج مرمّة عظيمة في البحر، واستظهر المسلمون عليهم، وكان بحر أشموم فيه مخايض، فدل بعض من لا دين له ممن يظهر الإسلام الفرنج عليها، فركبوا سحر يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة أو رابعه، ولم يشعر المسلمون بهم إلا وقد هجموا على العسكر، وكان الأمير فخر الدين قد عبر إلى الحمام، فأتاه الصريخ بأنّ الفرنج قد هجموا على العسكر، فركب دهشا غير معتدّ، ولا متحفظ وساق ليأمر الأمراء والأجناد بالركوب في طائفة من مماليكه، فلقيه عدّة من الفرنج الدوادارية «2» ، وحملوا عليه ففرّ أصحابه، وأتته طعنة في جنبه، وأخذته السيوف من كل جانب حتى لحق بالله عز وجل، وفي الحال غدت مماليكه في طائفة إلى داره، وكسروا صناديقه وخزائنه،
ونهبوا أمواله وخيوله، وساق الفرنج عند مقتل الأمير فخر الدين إلى المنصورة، ففرّ المسلمون خوفا منهم، وتفرّقوا يمنة ويسرة، وكادت الكسرة أن تكون، وتمحوا الفرنج كلمة الإسلام من أرض مصر، ووصل الملك، رواد فرنس إلى باب قصر السلطان، ولم يبق إلا أن يملكه فأذن الله تعالى أنّ طائفة المماليك من البحرية والجمدارية «1» ، الذين استجدّهم الملك الصالح، ومن جملتهم: بيبرس البندقداري حملوا على الفرنج حملة صدقوا فيها اللقاء، حتى أزاحوهم عن مواقفهم، وأبلوا في مكافحتهم بالسيوف والدبابيس، فانهزموا وبلغت عدّة من قتل من فرسان الفرنج الخيالة في هذه النوبة، ألفا وخمسمائة فارس، وأما الرجالة فإنها كانت وصلت إلى الجسر لتعدّي، فلو تراخى الأمر حتى صاروا مع المسلمين لأعضل الداء، على أن هذه الواقعة كانت بين الأزقة والدروب، ولولا ضيق المجال، لما أفلت من الفرنج أحد فنجا من بقي منهم، وضربوا عليهم سورا وحفروا خندقا، وصارت طائفة منهم في البرّ الشرقيّ، ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط، وكانت البطاقة عند الكبسة سرّحت على جناح الطائر إلى القاهرة، فانزعج الناس انزعاجا عظيما، ووردت السوقة وبعض العسكر، ولم تغلق أبواب القاهرة ليلة الأربعاء، وفي يوم الأربعاء: سقط الطائر بالبشارة بهزيمة الفرنج، وعدّة من قتل منهم، فزينت القاهرة وضربت البشائر بقلعة الجبل.
وسار المعظم، توران شاه إلى دمشق، فدخلها يوم السبت آخر شهر رمضان، واستولى على من بها، ولأربع مضين من شوّال، سقط الطائر بوصوله إلى دمشق، فضربت البشائر في العسكر بالمنصورة، وفي قلعة الجبل، وسار من دمشق لثلاث بقين منه، فتواترت الأخبار بقدومه، وخرج الأمير حسام الدين بن أبي عليّ إلى لقائه، فوافاه بالصالحية لأربع عشرة بقيت من ذي القعدة، ومن يومئذ أعلن بموت الملك الصالح، بعد ما كان قبل ذلك لا ينطق أحد بموته البتة، بل الأمور على حالها، والدهليز السلطانيّ بحاله والسماط على العادة، وشجرة الدر، أم خليل زوجة السلطان تدبر الأمور، وتقول: السلطان مريض ما إليه وصول، ثم سار من الصالحية، فتلقاه الأمراء والمماليك، واستقرّ بقصر السلطنة من المنصورة يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي القعدة، وفي أثناء هذه المدّة، عمل المسلمون مراكب وحملوها على الجمال إلى بحلة المحلة، وألقوها فيه وشحنوها بالمقاتلة، فعند ما حاذت مراكب الفرنج بحر المحلة، وتلك المراكب فيه مكمنة، خرجت عليهم ووقع الحرب بينهما، وقدم الأسطول الإسلاميّ من جهة المنصورة، وأحاط بالفرنج، فظفر باثنين وخمسين مركبا للفرنج، وقتل وأسر منهم نحو ألف رجل، فانقطعت الميرة عن الفرنج، واشتدّ عندهم الغلاء، وصاروا محصورين.
فلما كان أوّل يوم من ذي الحجة، أخذ الفرنج من المراكب في بحر المحلة سبع حراريق، وفرّ من كان فيها من المسلمين، وفي يوم عرفة برزت الشواني الإسلامية إلى مراكب قدمت للفرنج فيها ميرة، فأخذت منها اثنين وثلاثين مركبا منها تسع شواني، فوهنت قوّة الفرنج، وتزايد الغلاء عندهم، وشرعوا في طلب الهدنة من المسلمين، على أن يسلموا دمياط، ويأخذوا بدلا منها القدس، وبعض بلاد الساحل، فلم يجابوا إلى ذلك، فلما كان اليوم السابع والعشرون من ذي الحجة، أحرق الفرنج أخشابهم كلها، وأتلفوا مراكبهم، يريدون التحصن بدمياط، ورحلوا في ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرّم سنة ثمان وأربعين وستمائة إلى دمياط، وأخذت مراكبهم في الانحدار قبالتهم، فركب المسلمون أقفيتهم بعدما عدّوا إلى برّهم وطلع الفجر من يوم الأربعاء، وقد أحاط المسلمون بالفرنج، وقتلوا وأسروا منهم كثيرا، حتى قيل: إن عدد من قتل من الفرسان على فارسكور «1» ، يزيد على عشرة آلاف، وأسر من الخيالة والرجال والصناع والسوقة، ما يناهز مائة ألف، ونهب من المال والذخائر والخيول والبغال، ما لا يحصى، وانحاز الملك رواد فرنس، وأكابر الفرنج إلى تلّ، ووقفوا مستسلمين، وسألوا الأمان، فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحيّ، ونزلوا على أمانة.
وأحيط بهم وسيقوا إلى المنصورة، فقيد رواد فرنس، واعتقل في الدار التي كان ينزل فيها القاضي، فخر الدين إبراهيم بن لقمان، كاتب الإنشاء، ووكل به الطواشي صبيح المعظميّ، واعتقل معه أخوه ورتب له راتب يحمل إليه في كل يوم، ورسم الملك المعظم لسيف الدين يوسف بن الطوري أحد من وصل صحبته من الشرق أن يتولى قتل الأسرى، فكان يخرج منهم كل ليلة، ثلثمائة رجل ويقتلهم، ويلقيهم في البحر حتى فنوا. ولما قبض على الملك رواد فرنس، رحل الملك المعظم من المنصورة، ونزل بالدهليز السلطانيّ على فارسكور وعمل له برجا من خشب وتراخى في قصد دمياط، وكتب بخطه إلى الأمير جمال الدين بن يغمور، نائبه بدمشق وولده توران شاه.
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وما النصر إلا من عند الله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وأما بنعمة ربك فحدّث، وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، نبشر المجلس السامي الجماليّ، بل نبشر المسلمين كافة بما منّ الله به على المسلمين، من الظفر بعدوّ الدين فإنه كان قد استكمل أمره، واستحكم شرّه، ويئس العباد من البلاد، والأهل والأولاد فنودوا ألا تيأسوا من روح الله.
ولما كان يوم الاثنين مستهلّ السنة المباركة، وهي سنة ثمان وأربعين وستمائة، تمم
الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال، وفرّقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطوّعة، وخلقا لا يعلمهم إلا الله جاءوا من كل فج عميق، ومكان سحيق، فلما رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع الاتفاق بينهم، وبين الملك الكامل فأبينا، ولما كانت ليلة الأربعاء تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين، فسرنا في آثارهم طالبين، وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامّة الليل، وقد حلّ بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا يوم الأربعاء، قتلنا منهم ثلاثين ألفا غير من ألقى نفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدّث عن الحر، ولا حرج، والتجأ الفرنسيس إلى المينة، وطلب الأمان، فأمّناه، وأخذناه وأكرمناه، وسلمناه دمياط بعون الله تعالى، وقوّته وجلاله وعظمته، وبعث مع الكتاب غفارة الملك فرنسيس، فلبسها الأمير جمال الدين بن يغمور، وهي: اشكر لاطا أحمر بفرو سنجاب، فقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل:
إنّ غفارة الفرنسيس جاءت
…
فهي حقا لسيد الأمراء
كبياض القرطاس لونا ولكن
…
صبغتها سيوفنا بالدماء
وقال آخر:
أسيّد أملاك الزمان بأسرهم
…
تنجزت من نصر الإله وعوده
فلا زال مولانا يبيح حمى العدى
…
ويلبس أثواب الملوك عبيده
وأخذ الملك المعظم، يهدّد زوجة أبيه، شجرة الدر، ويطالبها بمال أبيه، فخافته وكاتبت مماليك الملك الصالح، تحرّضهم عليه، وكان المعظم لما وصل إليه الفارس، أقطاي إلى حصن كيفا، وعده أن يعطيه إمرة، فلم يف له بها، وأعرض مع ذلك عن مماليك أبيه، واطّرح أمراءه، وصرف الأمير حسام الدين بن أبي عليّ، عن نيابة السلطنة، وأحضره إلى العسكر، ولم يعبأ به وأبعد غلمان أبيه، واختص بمن وصل معه من المشرق، وجعلهم في الوظائف السلطانية، فجعل الطواشي مسرورا خادمه إستادارا، وعمل صبيحا، وكان عبدا حبشيا فحلا خازنداره، وأمر أن تكون له عصا من ذهب، وأعطاه مالا جزيلا، وإقطاعات جليلة، وكان إذا سكر جمع الشمع، وضرب رؤوسها بالسيف، حتى تنقطع، ويقول هكذا أفعل بالبحرية، فإنه كان فيه هرج وخفة، واحتجب على العكوف بملاذه، فنفرت منه النفوس، وبقي كذلك إلى يوم الاثنين، تاسع عشري المحرّم، وقد جلس على السماط، فتقدّم إليه أحد المماليك البحرية، وضربه بسيف قطع أصابع يديه، ففرّ إلى البرج، فاقتحموا عليه، وسيوفهم مصلتة، فصعد أعلى البرج الخشب، فرموه بالنشاب، وأطلقوا الناس في البرج، فألقى نفسه ومرّ إلى البحر، وهو يقول: ما أريد ملككهم دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين؟ ما فيكم من يصطنعني ويجيرني؟ وسائر العساكر بالسيوف واقفة، فلم يجبه أحد والنشاب يأخذه من كل ناحية، وأدركوه، فقطع بالسيوف ومات حريقا غريقا قتيلا
في يوم الاثنين المذكور، وترك على الشط ثلاثة أيام، ثم دفن.
ولما قتل الملك المعظم، اتفق أهل الدولة، على إقامة شجرة الدر، والدة خليل في مملكة مصر، وأن يكون مقدّم العسكر الأمير عز الدين «1» أيبك التركمانيّ الصالحيّ، وحلف الكل على ذلك، وسيروا إليها عز الدين الروميّ، فقدم عليها في قلعة الجبل، وأعلمها بما اتفق فرضيت به، وكتبت على التواقيع علامتها، وهي والدة خليل، وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة، وجرى الحديث مع الملك روادفرنس في تسليم دمياط، وتولى مفاوضته في ذلك الأمير حسام الدين بن أبي عليّ الهديانيّ، فأجاب إلى تسليمها، وأن يخلى عنه بعد محاورات، وسير إلى الفرنج بدمياط يأمرهم بتسليمها إلى المسلمين، فسلموها بعد جهد جهيد من كثرة المراجعات في يوم الجمعة ثالث صفر، ورفع العلم السلطانيّ على سورها، وأعلن فيها بكلمة الإسلام، وشهادة الحق بعد ما أقامت بيد الفرنج، أحد عشر شهرا وسبعة أيام، وأفرج عن الملك روادفرنس، وعن أخيه، وزوجته، ومن بقي من أصحابه إلى البرّ الغربيّ، وركبوا البحر من الغد، وهو يوم السبت رابع صفر، وأقلعوا إلى عكا. وفي هذه النوبة يقول الوزير جمال الدين يحيى بن مطروح:
قل للفرنسيس إذا جئته
…
مقال نصح عن قؤول نصيح
آجرك الله على ما جرى
…
من قبل عباد يسوع المسيح
أتيت مصر تبتغي ملكها
…
تحسب أنّ الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم
…
ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم
…
بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفا لا يرى منهم
…
إلا قتيل أو أسير جريح
وفقك الله لأمثالها
…
لعلّ عيسى منكم يستريح
إن كان بابا كم بذار راضيا
…
فرب غشّ قد أتى من نصيح
قل لهم أن أضمروا عودة
…
لأخذ ثأر أو لنقد صحيح
دار ابن لقمان على حالها
…
والقيد باق والطواشي صبيح
وقدّر الله أن الفرنسيس هذا بعد خلاصه من هذه الوقعة جمع عدّة جموع، وقصد يونس، فقال شاب من أهلها يقال له أحمد بن إسماعيل الزيات:
يا فرنسيس هذه أخت مصر
…
فتأهب لما إليه تصير
لك فيها دار ابن لقمان قبر
…
وطواشيك منكر ونكير
فكان هذا فألا حسنا، فإنه مات وهو على محاصرة تونس، ولما تسلم الأمراء دمياط وردت البشرى إلى القاهرة، فضربت البشائر، وزينت القاهرة ومصر، فقدمت العساكر من دمياط يوم الخميس تاسع صفر، فلما كان في سلطنة الأشرف موسى بن الملك المسعود، أقسيس بن الملك الكامل، والملك المعزّ عز الدين التركمانيّ، وكثر الاختلاف بمصر، واستولى الملك الناصر يوسف بن العزيز على دمشق، اتفق أرباب الدولة بمصر، وهم المماليك البحرية على تخريب مدينة دمياط خوفا من مسير الفرنج إليها مرّة أخرى، فسيروا إليها الحجارين والفعلة، فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين الثامن عشر من شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة، حتى خربت كلها، ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع، وصار في قبليها أخصاص على النيل سكنها الناس الضعفاء، وسمّوها المنشية، وهذا السور هو الذي بناه أمير المؤمنين المتوكل على الله، كما تقدّم ذكره.
فلما استبدّ الملك الظاهر بيبرس البندقداري: الصالحيّ بمملكة مصر بعد قتل الملك المظفر «1» ، قطز أخرج من مصر عدّة من الحجارين في سنة تسع وخمسين وستمائة، لردم فم بحر دمياط، فمضوا وقطعوا كثيرا من القرابيص، وألقوها في بحر النيل الذي ينصب من شمال دمياط في البحر الملح، حتى ضاق، وتعذر دخول المراكب منه إلى دمياط، وهو إلى اليوم على ذلك لا تقدر مراكب البحر الكبار أن تدخل منه، وإنما ينقل ما فيها من البضائع في مراكب نيلية تعرف عند أهل دمياط، بالجروم واحدها: جرم، وتصير مراكب البحر، جبل في فم البحر، أو رمل يتربى هناك، وهذا قول باطل، حملهم عليه ما يجدونه من تلاف المراكب إذا هجمت على هذا المكان، وجهلهم بأحوال الوجود، وما مرّ من الوقائع، وإلى يومنا هذا يخاف على المراكب عند ورودها فم البحر، وكثيرا ما تتلف فيه.
وقد سرت إليه حتى شاهدته، ورأيته من أعجب ما يراه الإنسان.
وأما دمياط الآن فإنها حدثت بعد تخريب مدينة دمياط، وعمل هناك أخصاص، وما برحت تزداد إلى أن صارت بلدة كبيرة ذات أسواق وحمامات وجوامع ومدارس ومساجد، ودورها تشرف على النيل الأعظم، ومن ورائها البساتين، وهي أحسن بلاد الله منظرا.
وقد أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار يلبغا السالميّ رحمه الله أنه لم ير في البلاد التي سلكها من سمرقند إلى مصر أحسن من دمياط هذه، فظننت أنه يغلو في مدحها إلى أن شاهدتها، فإذا هي أحسن بلد وأنزهه، وفيها أقول:
سقى عهد دمياط وحياه من عهد
…
فقد زادني ذكراه وجدا على وجد
ولا زالت الأنواء تسقي سحابها
…
ديارا حكت من حسنها جنة الخلد
فيا حسن هاتيك الديار وطيبها
…
فكم قد حوت حسنا يجلّ عن العدّ
فلله أنهار تحف بروضها
…
لكالمرهف المصقول أو صفحة الخد
وبشنينها الريان يحكي متيما
…
تبدّل من وصل الأحبة بالصدّ
فقام على رجليه في الدمع غارقا
…
يراعي نجوم الليل من وحشة الفقد
وظلّ على الأقدام تحسب أنه
…
لطول انتظار من حبيب على وعد
ولا سيما تلك النواعير إنها
…
تجدّد حزن الواله المدنف الفرد
أطارحها شجوي وصارت كأنما
…
تطارح شكواها بمثل الذي أبدي
فقد خلتها الأفلاك فيها نجومها
…
تدور بمحض النفع منها وبالسعد
وفي البرك الغرّاء يا حسن نوفر
…
حلا وغدا بالزهو يسطو على الورد
سماء من البلور فيها كواكب
…
عجيبة صبغ اللون محكمة النضد
وفي شاطىء النيل المقدّس نزهة
…
تعيد شباب الشيب في عيشه الرغد
وتنشي رياحا تطرد الهمّ والأسى
…
وتنشي ليالي الوصل من طيبها عندي
وفي مرج البحرين جمّ عجائب
…
تلوح وتبدو من قريب ومن بعد
كأنّ التقاء النيل بالبحر إذ غدا
…
مليكان سارا في الجحافل من جند
وقد نزلا للحرب واحتدم اللقا
…
ولا طعن إلا بالمثقفة الملد
فظلا كما باتا وما برحا كما
…
هما من جليل الخطب في أعظم الجهد
فكم قد مضى لي من أفانين لذة
…
بشاطئها العذب الشهيّ لذي الورد
وكم قد نعمنا في البساتين برهة
…
بعيش هنيء في أمان وفي سعد
وفي البرزخ المأنوس كم لي خلوة
…
وعند شطا عن أيمن العلم الفرد
هناك ترى عين البصيرة ما ترى
…
من الفضل والأفضال والخير والمجد
فيا رب هيئ لي بفضلك عودة
…
ومنّ بها في غير بلوى ولا جهد
وبدمياط حيث كانت المدينة التي هدمت جامع من أجلّ مساجد المسلمين تسمية العامّة، مسجد فتح، وهو المسجد الذي أسسه المسلمون عند فتح دمياط.
أوّل ما فتح الله أرض مصر على يد عمرو بن العاص، وعلى بابه مكتوب بالقلم الكوفيّ، أنه عمر بعد سنة خمسمائة من الهجرة، وفيه عدّة من عمد الرخام منها، ما يعز وجود مثله، وإنما عرف بجامع فتح لنزول شخص يقال له: فاتح به، فقالت العامّة: جامع فتح.
وإنما هو: فاتح بن عثمان الأسمر التكروريّ، قدم من مراكش إلى دمياط على قدم
التجريد، وسقى بها الماء في الأسواق احتسابا من غير أن يتناول من أحد شيئا، ونزل في ظاهر الثغر ولزم الصلاة مع الجماعة، وترك الناس جميعا، ثم أقام بناحية تونة من بحيرة تنيس، وهي خراب نحو سبع سنين، ورمّ مسجدها، ثم انتقل من تونة إلى جامع دمياط، وأقام في وكر بأسفل المنارة من غير أن يخالط أحدا إلا إذا أقيمت الصلاة، خرج وصلى فإذا سلّم الإمام، عاد إلى وكره، فإن عارضه أحد بحديث كلّمه، وهو قائم بعد انصرافه من الصلاة، وكانت حاله أبدا اتصالا في انفصال، وقربا في ابتعاد، وأنسا في نفار، وحج فكان يفارق أصحابه عند الرحيل، فلا يرونه إلا وقت النزول، ويكون سيره منفردا عنهم لا يكلم أحدا إلى أن عاد إلى دمياط، فأخذ في ترميم الجامع، وتنظيفه بنفسه، حتى نقي ما كان فيه من الوطواط بسقوفه، وساق الماء إلى صهاريجه، وبلط صحنه وسبك سطحه بالجبس، وأقام فيه.
وكان قبل ذلك من حين خربت دمياط، لا يفتح إلا في يوم الجمعة فقط، فرتب فيه إماما راتبا يصلي الخمس، وسكن في بيت الخطابة، وواظب على إقامة الأوراد به، وجعل فيه قرّاء يتلون القرآن بكرة وأصيلا وقرّر فيه رجلا يقرأ ميعادا يذكر الناس ويعلمهم، وكان يقول: لو علمت بدمياط مكانا أفضل من الجامع لأقمت به، ولو علمت في الأرض بلدا يكون فيه الفقير، أخمل من دمياط لرحلت إليه، وأقمت به، وكان إذا ورد عليه أحد من الفقراء، ولا يجد ما يطعمه باع، من لباسه ما يضيفه به، وكان يبيت ويصبح، وليس له معلوم، ولا ما يقع عليه العين، أو تسمعه الأذن، وكان يؤثر في السرّ الفقراء والأرامل، ولا يسأل أحدا شيئا، ولا يقبل غالبا، وإذا قبل ما يفتح الله عليه آثر به، وكان يبذل جهده في كتم حاله، والله تعالى يظهر خيره وبركته من غير قصد منه لذلك، وعرفت له عدّة كرامات، وكان سلوكه على طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة والنفور عن الفتنة، وترك الدعاوي واطراحها وستر حاله والتحفظ في أقواله، وأفعاله، وكان لا يرافق أحدا في الليل، ولا يعلم أحد يوم صومه من يوم فطره، ويجعل دائما قول إن شاء الله تعالى، مكان قول غيره، والله.
ثم إنّ الشيخ عبد العزيز الدميريّ، أشار عليه بالنكاح وقال له: النكاح من السنة، فتزوّج في آخر عمره بامرأتين ولم يدخل على واحدة منهما نهارا البتة، ولا أكل عندهما، ولا شرب قط، وكان ليله ظرفا للعبادة، لكنه يأتي إليهما أحيانا، وينقطع أحيانا لاستغراق زمنه كله في القيام بوظائف العبادات وإيثار الخلوة، وكان خواص خدمه لا يعلمون بصومه من فطره، وإنما يحمل إليه ما يأكل، ويوضع عنه بالخلوة، فلا يرى قط آكلا، وكان يحب الفقر، ويؤثر حال المسكنة، ويتطارح على الخمول والجفا ويتواضع مع الفقراء، ويتعاظم على العظماء والأغنياء، وكان يقرأ في المصحف، ويطالع الكتب، ولم يره أحد يخط بيده شيئا، وكانت تلاوته للقرآن بخشوع وتدبر، ولم يعمل له سجادة قط، ولا أخذ على أحد عهدا، ولا لبس طاقية، ولا قال أنا شيخ، ولا أنا فقير، ومتى قال في كلامه: إنا تفطّن لما