الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الأهرام
اعلم أنّ الأهرام كانت بأرض مصر كثيرة جدّا، منها بناحية بوصير «1» شيء كثير، بعضها كبار، وبعضها صغار، وبعضها طين ولبن، وأكثرها حجر، وبعضها مدرج، وأكثرها مخروط أملس، وقد كان منها بالجيزة تجاه مدينة مصر، عدّة كثيرة كلها صغار هدمت في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد قراقوش، وبنى بها قلعة الجبل والسور المحيط بالقاهرة، ومصر والقناطر التي بالجيزة.
وأعظم الأهرام الثلاثة التي هي اليوم قائمة تجاه مصر، وقد اختلف الناس في وقت بنائها، واسم بانيها والسبب في بنائها، وقالوا في ذلك أقوالا متباينة، أكثرها غير صحيح، وسأقص عليك من نبأ ذلك ما يشفي، ويكفي إن شاء الله تعالى.
قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه الكاتب في أخبار مصر وعجائبها في أخبار سوريد بن سهلوق بن سرياق بن توميدون بن بدرسان بن هوصال أحد ملوك مصر قبل الطوفان الذين كانوا يسكنون في مدينة أمسوس الآتي ذكرها عند ذكر مدائن مصر من هذا الكتاب، وهو الذي بنى الهرمين العظيمين بمصر المنسوبين إلى شدّاد بن عاد، والقبط تنكر أن تكون العادية دخلت بلادهم لقوّة سحرهم.
وسبب بناء الهرمين أنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة، قد رأى سوريد في منامه، كأنّ الأرض انقلبت بأهلها، وكأنّ الناس قد هربوا على وجوههم، وكأنّ الكواكب تتساقط ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة، فغمه ذلك، ولم يذكره لأحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم، ثم رأى بعد ذلك بأيام كأنّ الكواكب الثابتة، نزلت إلى الأرض في صور طيور بيض، وكأنها تختطف الناس، وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم، وكأن الكواكب المنيرة مظلمة مكسوفة، فانتبه مرعوبا مذعورا، ودخل إلى هيكل الشمس، وتضرّع ومرّغ خدّيه على التراب وبكى، فلما أصبح، جمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا مائة وثلاثين كاهنا، فخلا بهم وحدّثهم ما رآه أوّلا وآخرا، فأوّلوه بأمر عظيم يحدث في العالم.
فقال عظيم الكهان، ويقال له: إقليمون: إنّ أحلام الملوك لا تجري على محال لعظم أقدارهم، وأنا أخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة، ولم أذكرها لأحد من الناس، رأيت كأني قاعد مع الملك على وسط المنار الذي بأمسوس، وكأنّ الفلك قد انحط من موضعه حتى قارب رؤوسنا، وكان علينا كالقبة المحيطة بنا، وكأن الملك قد رفع يديه نحو السماء، وكواكبها قد خالطتها في صور شتى مختلفة الأشكال، وكأنّ الناس قد جفلوا إلى قصر الملك، وهم يستغيثون به، وكأنّ الملك قد رفع يديه حتى بلغتا رأسه، وأمرني أن أفعل كما فعل، ونحن على وجل شديد، إذ رأينا منها موضعا قد انفتح، وخرج منه نور مضيء، وطلعت علينا منه الشمس، وكأنا استغثنا بالشمس، فخاطبتنا أن الفلك سيعود إلى موضعه، فانتبهت مرعوبا، ثم نمت فرأيت كأن مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها والأصنام تهوي على رؤوسها، وكأن أناسا نزولا من السماء بأيديهم مقام من حديد يضربون الناس بها، فقلت لهم: ولم تفعلون بالناس كذا؟ قالوا: لأنهم كفروا بإلههم! قلت: فما بقي لهم من خلاص؟
قالوا: نعم، من أراد الخلاص، فليلحق بصاحب السفينة، فانتبهت مرعوبا فقال الملك:
خذوا الارتفاع للكواكب، وانظروا هل من حادث؟ فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك، وأخبروا بأمر الطوفان، وبعده بالنار التي تخرج من برج الأسد تحرق العالم، فقال الملك:
انظروا هل تلحق هذه الآفة بلادنا؟ فقالوا: نعم، تأتي في الطوفان على أكثره ويلحقه خراب يقيم عدّة سنين. قال: فانظروا هل يعود عامرا كما كان؟ أو يبقى مغمورا بالماء دائما؛ قالوا:
بل تعود البلاد كما كانت وتعمر، قال: ثم ماذا؟ قالوا: يقصدها ملك يقتل أهلها، ويغنم مالها؛ قال: ثم ماذا؟ قالوا: يقصدها قوم مشوّهون من ناحية جبل النيل، ويملكون أكثرها؛ قال: ثم ماذا؟ قالوا: ينقطع نيلها وتخلو من أهلها؛ فأمر عند ذلك: بعمل الأهرام، وأن يعمل لها مسارب يدخل منها النيل إلى مكان بعينه، ثم يفيض إلى مواضع من أرض الغرب وأرض الصعيد، وملأها طلسمات وعجائب وأموالا وأصناما، وأجساد ملوكهم، وأمر الكهان فزبروا عليها جميع ما قالته الحكماء، وزبر فيها وفي سقوفها وحيطانها وأسطواناتها جميع العلوم الغامضة التي يدّعيها أهل مصر، وصوّر فيها صور الكواكب كلها، وزبر عليها أسماء العقاقير ومنافعها ومضارها وعلم الطلسمات وعلم الحساب والهندسة، وجميع علومهم مفسرا لمن يعرف كتابتهم ولغتهم.
ولما شرع في بنائها أمر بقطع الأسطوانات العظيمة ونشر البلاط الهائل، واستخراج الرصاص من أرض المغرب وإحضار الصخور من ناحية أسوان، فبنى بها أساس الأهرام الثلاثة، الشرقيّ والغربيّ والملوّن، وكانت لهم صحائف، وعليها كتابة، إذا قطع الحجر وتمّ إحكامه وضعوا عليه تلك الصحائف وضربوه، فيبعد بتلك الضربة قدر مائة سهم، ثم يعاودون ذلك حتى يصل الحجر إلى الأهرام، وكانوا يمدّون البلاطة، ويجعلون في ثقب بوسطها قطبا من حديد قائما، ثم يركبون عليها بلاطة أخرى مثقوبة الوسط، ويدخلون
القطب فيها، ثم يذاب الرصاص ويصب في القطب حول البلاطة بهندام وإتقان إلى أن كملت.
وجعل لها أبوابا تحت الأرض بأربعين ذراعا، فأما باب الهرم الشرقيّ، فإنه من الناحية الشرقية على مقدار مائة ذراع من وسط حائط الهرم، وأما باب الهرم الغربيّ، فإنه من الناحية الغربية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط، وأما باب الهرم الملوّن فإنه من الناحية الجنوبية على مقدار مائة ذراع من وسط الحائط، فإذا حفر بعد هذا القياس، وصل إلى باب الأزج المبنيّ، ويدخل إلى باب الهرم وجعل ارتفاع كل واحد من الأهرام في الهواء مائة ذراع، بالذراع الملكيّ، وهو بذراعهم خمسمائة ذراع بذراعنا الآن، وجعل طول كل واحد من جميع جهاته، مائة ذراع بذراعهم، ثم هندسها من كل جانب حتى تحدّدت أعاليها من آخر طولها على ثمانية أذرع بذراعنا، وكان ابتداء بنائها في طالع سعيد اجتمعوا عليه وتخيروه، فلما فرغت كساها ديباجا ملوّنا من فوقها إلى أسفلها، وعمل لها عيدا حضره أهل مملكته بأجمعهم ثم عمل في الهرم الغربيّ، ثلاثين مخزنا من حجارة صوّان ملوّن، وملئت بالأموال الجمة، والآلات والتماثيل المعمولة من الجواهر النفيسة، وآلات الحديد الفاخر من السلاح الذي لا يصدأ والزجاج الذي ينطوي، ولا ينكسر والطلسمات الغربية، وأصناف العقاقير المفردة والمؤلفة، والسموم القاتلة، وعمل في الهرم الشرقيّ أصناف القباب الفلكية والكواكب، وما عمله أجداده من التماثيل والدخن التي يتقرّب بها إلى الكواكب ومصاحفها وكوّن الكواكب الثابتة، وما يحدث في أدوارها وقتا وقتا وما عمل لها من التواريخ، والحوادث التي مضت، والأوقات التي ينتظر فيها ما يحدث، وكل من يلي مصر إلى آخر الزمان.
وجعل فيها المطاهر التي فيها المياه المدبرة وما أشبه ذلك، وجعل في الهرم الملوّن أجساد الكهنة في توابيت من صوّان أسود، ومع كل كاهن مصحف فيه عجائب صناعاته وأعماله وسيرته، وما عمل في وقته، وما كان، وما يكون من أوّل الزمان إلى آخره، وجعل في الحيطان من كل جانب أصناما تعمل بأيديها جميع الصنائع على مراتبها وأقدارها، وصفة كل صنعة وعلاجها وما يصلح لها، ولم يترك علما من العلوم حتى زبره ورسمه، وجعل فيها أموال الكواكب التي أهديت إلى الكواكب، وأموال الكهنة، وهو شيء عظيم لا يحصى.
وجعل لكل هرم منها خادما، فخادم الهرم الغربيّ: صنم من حجارة صوّان مجزع، وهو واقف ومعه شبه حربة وعلى رأسه حية قد تطوّق بها من قرب منه، وثبت إليه وطوّقت على عنقه وقتلته، ثم تعود إلى مكانها.
وجعل خادم الهرم الشرقيّ: صنما من جزع أسود مجزع بأسود وأبيض له عينان مفتوحتان برّاقتان، وهو جالس على كرسيّ، ومعه حربة إذا نظر أحد إليه سمع من جهته
صوتا يفزع منه، فيخرّ على وجهه، ولا يبرح حتى يموت.
وجعل خادم الهرم الملوّن: صنما من حجر البهت على قاعدة منه، من نظر إليه جذبه حتى يلتصق به، فلا يفارقه حتى يموت، فلما فرغ من ذلك، حصّن الأهرام بالأرواح الروحانية، وذبح لها الذبائح لتمنع عن أنفسها من أرادها إلا من عمل لها أعمال الوصول إليها.
وذكر القبط في كتبهم: أنّ عليها منقوشا تفسيره بالعربية: أنا سوريد الملك، بنيت هذه الأهرام في وقت كذا وكذا، وأتممت بناءها في ست سنين، فمن أتى بعدي، وزعم أنه ملك مثلي، فليهدمها في ستمائة سنة، وقد علم أن الهدم أيسر من البنيان، وإني كسوتها عند فراغها بالديباج، فليكسها بالحصر، فنظروا فوجدوا أنه لا يقوم بهدمها شيء من الأزمان الطوال.
وحكى القبط في كتبهم: أنّ روحانية الهرم الشماليّ، غلام أمرد أصفر اللون عريان في فمه أنياب كبار، وروحانية الهرم الجنوبيّ: امرأة عريانة بادية الفرج حسناء في فمها أنياب كبار تستهوي الإنسان إذا رأته، وتضحك له حتى يدنو منها، فتسلبه عقله، وروحانية الهرم الملوّن: شيخ في يده مجمرة من مجامر الكنائس يبخر بها، وقد رأى غير واحد من الناس هذه الروحانيات مرارا، وهي تطوف حول الأهرام وقت القائلة، وعند غروب الشمس.
قال: ولمّا مات سوريد، دفن في الهرم، ومعه أمواله وكنوزه. وقالت القبط: إن سوريد هو الذي بنى البرابي، وأودع فيها كنوزا وزبر عليها علوما ووكل بها روحانيات تحفظها ممن يقصدها، قال: وأما الأهرام الدهشورية، فيقال: إن شدات بن عديم هو الذي بناها من الحجارة التي كانت قد قطعت في زمن أبيه، وشدادت هذا يزعم بعض الناس أنه شدّاد بن عاد، وقال: من أنكر أن يكون العادية دخلت مصر، وإنما غلطوا باسم شدات بن عديم، فقالوا: شدّاد بن عاد، لكثرة ما يجري على ألسنتهم شدّاد بن عاد، وقلة ما يجري على ألسنتهم شدات بن عديم، وإلّا فما قدر أحد من الملوك يدخل مصر، ولا قوي على أهلها غير بخت نصر، والله أعلم.
وذكر أبو الحسن المسعودي في كتابه أخبار الزمان: ومن أباده الحدثان، أن الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد، لمّا قدم مصر وأتى على الأهرام، أحب أن يهدم أحدها ليعلم ما فيها، فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك؟ فقال: لا بدّ من فتح شيء منه، ففتحت له الثلمة المفتوحة الآن بنار توقد وخلّ يرش ومعاول وحدّادين يعملون فيها حتى أنفق عليها أموالا عظيمة، فوجدوا عرض الحائط قريبا من عشرين ذراعا، فلما انتهوا إلى آخر الحائط، وجدوا خلف الثقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب، وزن كل دينار أوقية، وكان عددها ألف دينار، فجعل المأمون يتعجب من ذلك الذهب ومن جودته، ثم أمر بجملة ما أنفق على
الثلمة فوجدوا الذهب الذي أصابوه لا يزيد على ما أنفقوه، ولا ينقص فعجب من معرفتهم بمقدار ما ينفق عليه، ومن تركهم ما يوازيه في الموضع عجبا عظيما، وقيل: إن المطهرة التي وجد فيها الذهب كانت من زبرجد، فأمر المأمون بحملها إلى خزانته، وكان آخر ما عمل من عجائب مصر.
وأقام الناس سنين يقصدونه، وينزلون فيه الزلاقة التي فيه، فمنهم من يسلم ومنهم من يهلك، فاتفق عشرون من الأحداث على دخوله، وأعدّوا لذلك ما يحتاجون من طعام وشراب، وحبال وشمع ونحوه، ونزلوا في الزلاقة، فرأوا فيها من الخفاش ما يكون كالعقبان يضرب وجوههم، ثم إنهم أدلوا أحدهم بالحبال، فانطبق عليه المكان، وحاولوا جذبه حتى أعياهم فسمعوا صوتا أربعهم فغشي عليهم، ثم قاموا وخرجوا من الهرم، فبينما هم جلوس يتعجبون مما وقع لهم، إذ أخرجت الأرض صاحبهم حيا من بين أيديهم يتكلم بكلام لم يعرفوه، ثم سقط ميتا، فحملوه ومضوا به فأخذهم الخفراء وأتوا بهم إلى الوالي فحدّثوه خبرهم، ثم سألوا عن الكلام الذي قال صاحبهم قبل موته، فقيل لهم:
معناه: هذا جزاء من طلب ما ليس له، وكان الذي فسر لهم معناه بعض أهل الصعيد.
وقال علي بن رضوان الطبيب: فكرت في بناء الأهرام، فأوجب علم الهندسة العلمية ورفع الثقيل إلى فوق أن يكون القوم هندسوا سطحا مربعا، ونحتوا الحجارة ذكرا وأنثى، ورصوها بالجبس البحريّ إلى أن ارتفع البناء مقدار ما يمكن رفع الثقيل، وكانوا كلما صعدوا ضموا البناء حتى يكون السطح الموازي للمربع الأسفل مربعا أصغر من المربع السفلانيّ، ثم عملوا في السطح المربع الفوقانيّ مربعا أصغر بمقدار ما بقي في الحاشية ما يمكن رفع الثقيل إليه، وكلما رفعوا حجرا مهندما رصوه إليه ذكرا وأنثى، إلى أن ارتفع مقدار مثل المقدار الأوّل، ولم يزالوا يفعلون ذلك إلى أن بلغوا غاية لا يمكنهم بعدها أن يفعلوا ذلك فقطعوا الارتفاع، ونحتوا الجوانب البارزة التي فرضوها لرفع الثقيل، ونزلوا في النحت من فوق إلى أسفل، وصار الجميع هرما واحدا.
وقياس الهرم الأوّل: بالذراع التي تقاس بها اليوم الأبنية بمصر، كل حاشية منه أربعمائة ذراع، يكون بالذراع السوداء التي طول كل ذراع منها أربعة وعشرون أصبعا خمسمائة ذراع، وذلك أن قاعدته مربع متساوي الأضلاع، والزوايا ضلعان منهما، على خط نصف النهار، وضلعان على خط المشرق والمغرب، وكل ضلع بالذراع السوداء خمسمائة ذراع، والخط المنحدر على استقامة من رأس الهرم إلى نصف ضلع المربع أربعمائة وسبعون ذراعا، يكون إذا تمم أيضا، خمسمائة ذراع.
وأحيط بالهرم، أربع مثلثات ومربع، وكل مثلث منها متساوي الساقين، كل ساق منه إذا تمم خمسمائة وستون ذراعا، والمثلثات الأربعة تجتمع رؤوسها عند نقطة واحدة، وهي
رأس الهرم إذا تمم فيلزم أن يكون عموده أربعمائة وثلاثين ذراعا، وعلى هذا العمود مراكز أثقاله، ويكون تكسير كل مثلث من مثلثاته: مائة وخمسة وعشرين ألف ذراع، إذا اجتمع تكاسيرها كان مبلغ تكسير سطح هذا الهرم: خمسمائة ألف ذراع بالسوداء، وما أحسب على وجه الأرض بناء أعظم منه ولا أحسن هندسة ولا أطول، والله أعلم.
وقد فتح المأمون نقبا من هذا الهرم، فوجد فيه زلاقة تصعد إلى بيت مربع مكعب، ووجد في سطحه قبر رخام وهو باق فيه إلى اليوم، ولم يقدر أحد يحطه، وبذلك أخبر جالينوس، أنها قبور. فقال في آخر الخامسة من تدبير الصحة بهذا اللفظ، وهم يسمون، من كان في هذا السن: الهرم، وهو اسم مشتق من الأهرام التي هم إليها صائرون عن قريب.
وقال الحوقليّ في صفة مصر: وبها الهرمان اللذان ليس على وجه الأرض لهما نظير في ملك مسلم ولا كافر ولا عمل ولا يعمل لهما، وقرأ بعض بني العباس على أحدهما:
إني قد بنيتهما فمن كان يدّعي قوّة في ملكه فليهدمها، فالهدم أيسر من البنيان، فهمّ بذلك وأظنه المأمون أو المعتصم، فإذا خراج مصر لا يقوم به يومئذ، وكان خراجها على عهده بالإنصاف في الجباية وتوخي الرفق بالرعية والمعدلة إذا بلغ النيل سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع، أربعة آلاف ألف ومائتي ألف وسبعة وخمسين ألف دينار، والمقبوض على الفدّان، دينارين، فأعرض عن ذلك ولم يعد فيه شيئا.
وفي حدّ الفسطاط في غربيّ النيل أبنية عظام يكثر عددها مفترشة في سائر الصعيد تدعى: الأهرام، وليست كالهرمين اللذين تجاه الفسطاط، وعلى فرسخين منها ارتفاع كل واحد منهما: أربعمائة ذراع، وعرضه كارتفاعه، مبنيّ بحجارة الكدّان التي سمك الحجر، وطوله وعرضه من العشر أذرع إلى الثمان بحسب ما دعت الحاجة إلى وضعه في زيادته ونقصه، وأوجبته الهندسة عندهم لأنهما كلما ارتفعا في البناء ضاقا حتى يصير أعلاهما من كل واحد منهما مثل مبرك جمل، وقد ملئت حيطانهما بالكتابة اليونانية، وقد ذكر قوم أنهما قبران وليس كذلك، وإنما حمل صاحبهما على عملهما أنه قضى بالطوفان أنه يهلك جميع ما على وجه الأرض إلا ما حصن في مثلهما، فخزن ذخائره وأمواله فيهما، وأتى الطوفان، ثم نضب فصار ما كان فيهما إلى بيصر بن مصرايم بن حام بن نوح، وقد خزن فيهما بعض الملوك المتأخرين وجعلهما هراءه، والله أعلم.
وقال أبو يعقوب محمد بن إسحاق النديم «1» الوراق في كتاب الفهرست: وقد ذكر هرمس البابليّ قد اختلف في أمره فقيل: إنه كان أحد السدنة السبعة الذين رتبوا لحفظ البيوت السبعة، وإنه كان لترتيب عطارد وباسمه سمي، فإن عطارد باللغة الكلدانية: هرمس،
وقيل: إنه انتقل إلى أرض مصر بأسباب، وإنه ملكها وكان له أولاد منهم: طا، وصا، وأشمن، وأتريب، وقفط، وإنه كان حكيم زمانه، وإنه لما توفي دفن في البناء الذي يعرف بمدينة مصر: بأبي هرمس، ويعرفه العامة بالهرمين، فإن أحدهما قبره والآخر قبر زوجته، وقيل: قبر ابنه الذي خلفه بعد موته، وهذه البنية يعني الأهرام: طولها بالذراع الهاشمي، أربعمائة ذراع وثمانون ذراعا على مساحة أربعمائة وثمانين ذراعا، ثم ينخرط البناء فإذا حصل الإنسان في رأسه كان مقدار سطحه أربعين ذراعا، هذا بالهندسة وفي وسط هذا السطح، قبة لطيفة في وسطها شبيهة بالمقبرة، وعند رأس ذلك القبر صخرتان في نهاية النظافة والحسن وكثرة التلوّن، وعلى كل واحدة منهما شخصان من حجارة، صورة ذكر وأنثى، وقد تلاقيا بوجهيهما، وبيد الذكر لوح من حجارة فيه كتابة، وبيد الأنثى مرآة، والرف ذهّب نقشه نقاش، وبين الصخرتين برنية من حجارة على رأسها غطاء ذهب، فلما قلع فإذا فيها شبيه بالنار بغير رائحة قد يبس، وفيها حقة ذهب فنزع رأسها، فإذا فيها دم عبيط ساعة قرعه الهواء جمد، كما يجمد الدم وجف، وعلى القبور أغطية حجارة، فلما قلعت إذا رجل نائم على قفاه على نهاية الصحة والجفاف بين الخلقة ظاهر الشعور، وإلى جنبه امرأة على هيئته، قال: وذلك السطح منقر نحو قامة كما يدور مثل المسمار ذات آزاج من حجارة فيها صور وتماثيل مطروحة وقائمة، وغير ذلك من الآلة التي لا تعرف أشكالها.
وقال العلامة موفق الدين عبد اللطيف بن أبي العز يوسف بن أبي البركات محمد بن عليّ بن سعد البغدادي المعروف بابن المطحن في سيرته، وجاء رجل جاهل عجميّ، فخيّل إلى الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف أن الهرم الصغير تحته مطلب، فأخرج إليه الحجارين وأكثر العسكر وأخذوا في هدمه، وأقاموا على ذلك شهورا، ثم تركوه عن عجز وخسران مبين في المال والعقل، ومن يرى حجارة الهرم يقول: إنه قد استوصل الهرم، ومن يرى الهرم لا يجد به إلا تشعيثا يسيرا، وقد أشرفت على الحجارين فقلت لمقدّمهم: هل تقدرون على إعادته؟ فقال: لو بذل لنا السلطان عن كل حجر ألف دينار لم يمكنا ذلك.
وقال أبو الحسن المسعودي في مروج الذهب: وأما الأهرام فطولها عظيم وبنيانها عجيب عليها أنواع من الكتابات بأقلام الأمم السالفة، والممالك الدائرة لا يدرى ما تلك الكتابة ولا المراد بها، وقد قال من عني بتقدير ذرعها: أن مقدار ارتفاع الهرم الكبير ذهابا في الجوّ نحو أربعمائة ذراع أو أكثر، وكلما صعد دق ذلك، والعرض نحو ما وصفنا، وعليها من الرسوم علوم وخواص وسحر وأسرار الطبيعة، وإن من تلك الكتابة مكتوبا، إنا بنيناها فمن يدّعي موازاتنا في الملك، وبلوغ القدرة وانتهاء أمر السلطان فليهدمها وليزع رسمها فإن الهدم أيسر من البناء والتفريق أسهل من التأليف.
وقد ذكر أن بعض ملوك الإسلام شرع يهدم بعضها فإذا خراج مصر لا يفي بقلعها،
وهي من الحجر والرخام، وأنها قبور لملوك، وكان الملك منهم إذا مات، وضع في حوض من حجارة، ويسمى بمصر والشام: الجرون، وأطبق عليه، ثم بني من الهرم على مقدار ما يريدون من ارتفاع الأساس، ثم يحمل الحوض، ويوضع وسط الهرم، ثم يقنطر عليه البنيان، ثم يرفعون البناء على المقدار الذي يرونه، ويجعل باب الهرم تحت الهرم، ثم يحفر له طريق في الأرض، ويعقد أزج طوله تحت الأرض مائة ذراع أو أكثر، ولكل هرم من هذه الأهرام باب مدخله على ما وصفت، قال: وكان القوم يبنون الهرم من هذه الأهرام مدرجا ذا مراق كالدرج، فإذا فرغوا نحتوه من فوق إلى أسفل، فهذه كانت جبلتهم، وكانوا مع ذلك لهم قوّة وصبر وطاعة.
وقال في كتاب البنية والإشراف: والهرمان اللذان في الجانب الغربيّ من فسطاط مصر هما من عجائب بنيان العالم، كل واحد منهما أربعمائة ذراع في سمك مثل ذلك، مبنيان بالحجر العظيم على الرياح الأربع كل ركن من أركانهما يقابل ريحا منها فأعظمهما فيهما تأثيرا ريح الجنوب وهي: المريسي وأحد هذين الهرمين، قبر أعاديمون، والآخر قبر هرمس، وبينهما نحو ألف سنة وأعاديمون المتقدّم، وكان سكان مصر وهم الأقباط يعتقدون نبوّتهما قبل ظهور النصرانية فيهم على ما يوجبه رأي الصابئين في النبوّات لا على طريق الوحي، بل هم عندهم نفوس طاهرة صفت وتهذبت من أدناس هذا العالم، فاتحدت بهم موادّ علوية، فأخبروا عن الكائنات قبل كونها، وعن سرائر العالم وغير ذلك، وفي العرب:
من اليمانية من يرى أنهما قبر شدّاد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العارية من العماليق وغيرهم وهي عند من ذكرنا من الصابئين قبور أجساد طاهرة.
وذكر أبو زيد البلخيّ: أنه وجد مكتوبا على الأهرام بكتابتهم خط فعرّب، فإذا هو:
بني هذان الهرمان والنسر الوقع في السرطان، فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية، فإذا هو: ست وثلاثون ألف سنة شمسية مرتين، يكون اثنتين وسبعين ألف سنة شمسية.
وقال الهمداني في كتاب الإكليل: لم يوجد مما كان تحت الماء وقت الغرق من القرى، قرية فيها بقية، سوى نهاوند وجدت كما هي اليوم لم تتغير، وأهرام الصعيد من أرض مصر.
وذكر أبو محمد عبد الله بن عبد الرحيم القيسي في كتاب تحفة الألباب: أن الأهرام مربعة الجملة مثلثة الوجوه، وعددها ثمانية عشر هرما، في مقابلة مصر الفسطاط ثلاثة أهرام، أكبرها دورة ألفا ذراع في كل وجه خمسمائة ذراع، وعلوه خمسمائة ذراع، وكل حجر من حجارتهما ثلاثون ذراعا في غلظ عشرة أذرع قد أحكم إلصاقه ونحته.
ومنها عند مدينة فرعون يوسف، هرم أعظم، وأكبر دوره ثلاثة آلاف ذراع، وعلوه
سبعمائة من حجارة، كل حجر خمسون ذراعا، وعند مدينة فرعون موسى أهرام أكبر وأعظم، وهرم آخر يعرف بهرم، مدون كأنه جبل، وهو خمس طبقات، وفتح المأمون الهرم الكبير الذي تجاه الفسطاط، قال: وقد دخلت في داخله، فرأيت قبة مربعة الأسفل مدوّرة الأعلى كبيرة في وسطها بئر عمقها، عشرة أذرع، وهي مربعة ينزل الإنسان فيها، فيجد في كل وجه من تربيع البئر بابا يفضي إلى دار كبيرة فيها موتى من بني آدم عليهم أكفان كثيرة أكثر من مائة ثوب على كل واحد، قد بليت بطول الزمان واسودّت وأجسامهم مثلنا ليسوا طوالا، ولم يسقط من أجسامهم، ولا من شعورهم شيء، وليس فيهم شيخ، ولا من شعره أبيض، وأجسادهم قوية لا يقدر الإنسان أن يزيل عضوا من أعضائهم البتة، ولكنهم خفوا حتى صاروا كالغثا لطول الزمان، وفي تلك البئر أربعة من الدور مملوءة بأجساد الموتى، وفيها خفاش كثير، وكانوا يدفنون أيضا جميع الحيوان في الرمال، ولقد وجدت ثيابا ملفوفة كثيرا مقدار جرمها، أكثر من ذراع، وقد احترقت تلك الثياب من القدم، فأزلت الثياب إلى أن ظهرت خرق صحاح قوية بيض من كتان أمثال العصائب فيها أعلام من الحرير الأحمر، وفي داخلها هدهد ميت لم يتناثر من ريشه، ولا من جسده شيء كأنه قد مات الآن.
وفي القبة التي في الهرم، باب يفضي إلى علو الهرم، وليس فيه درج عرضه نحو خمسة أشبار، يقال: إنه صعد فيها في زمان المأمون فأفضوا إلى قبة صغيرة فيها صورة آدمي من حجر أخضر كالدهنج، فأخرجت إلى المأمون، فإذا هي مطبقة، فلما فتحت وجد فيها جسد آدميّ عليه درع من ذهب مزين بأنواع الجواهر وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له، وعند رأسه حجر ياقوت أحمر كبيضة الدجاجة يضيء كلهب النار فأخذه المأمون.
وقد رأيت الصنم الذي أخرج منه ذلك الميت ملقى عند باب دار الملك بمصر في سنة إحدى عشرة وخمسمائة.
وقال القاضي الجليل أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي: روي عليّ بن الحسن بن خلف بن قديد عن يحيى بن عثمان بن صالح عن محمد بن عليّ بن صخر التميميّ قال:
حدّثني رجل من عجم مصر من قرية من قراها تدعى قفط، وكان عالما بأمور مصر وأحوالها وطالبا لكتبها القديمة ومعادنها، قال: وجدنا في كتبنا القديمة، قال: وأما الأهرام فإن قوما احتفروا قبرا في دير أبي هرميس، فوجدوا فيه ميتا في أكفانه، وعلى صدره قرطاس ملفوف في خرق فاستخرجوه من الخرق، فرأوا كتابا لا يعرفونه، وكان الكتاب بالقبطية الأولى، فطلبوا من يقرأه لهم، فلم يقدروا عليه، فقيل لهم: إنّ بدير القلمون من أرض الفيوم راهبا يقرأه، فخرجوا إليه، وقد ظنوا أنه في الضيعة، فقرأه لهم، وكان فيه: كتب هذا الكتاب في أوّل سنة من ملك ديقلطيانس الملك، وإنّا استنسخناه من كتاب نسخ: في أوّل سنة من ملك فيلبش الملك، وإنّ فيلبش استنسخه من صحيفة من ذهب فرق كتابتها حرفا حرفا، وكان من
الكتاب الأوّل، ترجمه له أخوان من القبط يقال لأحدهما: ايلو، والآخر: يرثا، وإن الملك فيلبس سألهما عن سبب معرفتهما بما جهله الناس من قراءته، فذكرا أنهما من ولد رجل من أهل مصر الأوائل لم ينج من الطوفان من أهل مصر أحد غيره، وكان سبب نجاته أنه أتى نوحا عليه السلام فآمن به، ولم يأته من أهل مصر غيره، فحمله معه في السفينة، فلما نضب ماء الطوفان أتى مصر، ومعه نفر من ولد حام بن نوح، وكان بها حتى هلك، فورث ولده علم كتاب أهل مصر الأوّل، فورثناه عنه كابرا عن كابر.
وكان تاريخه الذي مضى إلى أن استنسخه فيلبش، ألفا وثلثمائة واثنتين وسبعين سنة، وإنّ الذي استنسخه في صحيفة من ذهب فرق كتابتها حرفا حرفا على ما وجده فيلبش، وإن تاريخه إلى أن استنسخه ألف وسبعمائة سنة وخمس وثمانون سنة.
وكان الكتاب المنسوخ: إنا نظرنا فيما تدل عليه النجوم، فرأينا أن آفة نازلة من السماء وخارجة من الأرض، فلما بان لنا الكون نظرنا ما هو فوجدناه ماء مفسدا للأرض وحيوانها ونباتها، فلما تمّ اليقين من ذلك عندنا قلنا لملكنا سوريد بن سهلوق: مر ببناء أفروشات وقبر لك وقبر لأهل بيتك، فبنى لهم الهرم الشرقيّ، وبنى لأخيه هو حيث الهرم الغربيّ، وبنى لابن هو حيث الهرم الملوّن، وبنيت أفروشات في أسفل مصر، وأعلاها فكتبنا في حيطانها علم غامض أمر النجوم وعللها والصنعة والهندسة والطلب، وغير ذلك مما ينفع ويضرّ ملخصا مفسرا لمن عرف كلامنا وكتابتنا، وإن هذه الآفة نازلة بأقطار العالم، وذلك عند نزول قلب الأسد في أوّل دقيقة من رأس السرطان، ويكون الكوكب عند نزوله إياها في هذه المواضع من الفلك الشمس والقمر في أوّل دقيقة من رأس الحمل، وقوريس في درجة وثمان وعشرين دقيقة من الحمل، وراويس في الحوت في تسع وعشرين درجة وثمان وعشرين دقيقة، وآويس في الحوت في تسع وعشرين درجة وثلاث دقائق، وأفرد وبطر في الحوت في ثمان وعشرين درجة ودقائق، وهرمس في الحوت في سبع وعشرين ودقائق، والجوزهر في الميزان وأوج القمر في الأسد في خمس درجات ودقائق.
ثم نظرنا هل يكون بعد هذه الآفة كون مضرّ بالعالم؟ فأصبنا الكواكب تدل على أن آفة نازلة من السماء إلى الأرض وإنها ضدّ الآفة الأولى وهي نار محرقة أقطار العالم، ثم نظرنا متى يكون هذا الكون المضر؟ فرأيناه يكون، عند حلول قلب الأسد في آخر دقيقة من الدرجة الخامسة عشر من الأسد، ويكون إبليس معه في دقيقة واحدة متصلة بقوريس من تثليث الرامي، ويكون راويس مشتري في أوّل الأسد في آخر احتراقه، ومعه آويس في دقيقة، ويكون سليس في الدلو مقابلا لإيليس الشمس، ومعه الذنب في اثنتين وعشرين، ويكون كسوف شديد له مكث يوازي القمر، ويكون هرمس عطارد في بعده الأبعد أمامها مقبلين، أما إفرد وبطن فللاستقامة، وأما هرمس فللرجعة.
قال الملك: فهل عندكم من خبر توقفونا عليه غير هاتين الآفتين؟ قالوا: إذا قطع قلب الأسد ثلثي سدس أدواره لم يبق من حيوان الأرض متحرّك إلا تلف، فإذا استتم أدواره تحللت عقد الفلك، وسقط على الأرض، قال لهم: وأيّ يوم فيه انحلال الفلك؟ قالوا:
اليوم الثاني من بدو حركة الفلك، فهذا ما كان في القرطاس.
فلما مات الملك سوريد بن سهلوق دفن في الهرم الشرقيّ، ودفن هو حيث في الهرم الغربيّ، ودفن كرورس في الهرم الذي أسفله من حجارة أسوان وأعلاه كدان.
ولهذه الأهرام أبواب في أزج تحت الأرض طول كل أزج مائة وخمسون ذراعا.
فأما باب الهرم الشرقيّ فمن الناحية البحرية، وأما باب أزج الهرم الموزر فمن الناحية القبلية.
وفي الأهرام من الذهب وحجارة الزمرد ما لا يحتمله الوصف.
وإنّ مترجم هذا الكتاب من القبطيّ إلى العربيّ أجمل التاريخين إلى أوّل يوم من توت، وهو يوم الأحد طلوع شمسه سنة خمس وعشرين ومائتين من سني العرب، فبلغت أربعة آلاف وثلثمائة وإحدى وعشرين سنة لسني الشمس، ثم نظر كم مضى للطوفان إلى يومه هذا فوجده ألفا وسبعمائة وإحدى وأربعين سنة وتسعة وخمسين يوما وثلاث عشرة ساعة وأربعة أخماس ساعة وتسعة وخمسين جزءا من أربعمائة جزء من ساعة، فألقاها من الجملة فبقي معه ثلثمائة وتسع وتسعون سنة ومائتان وخمسة أيام وعشر ساعات وأحد وعشرون جزءا من أربعمائة جزء من ساعة، فعلم أن هذا الكتاب المؤرخ كتب قبل الطوفان بهذه السنين والأيام والساعات والكسر من الساعة.
وأما الهرم الذي بدير أبي هرميس، فإنه قبر قرياس، وكان فارس أهل مصر، وكان يعدّ بألف فارس، فإذا لقيهم لم يقوموا به وانهزموا، وإنه مات فجزع الملك عليه جزعا بلغ منه، واكتأبت لموته الرعية، فدفنوه بدير هرميس وبنوا عليه الهرم مدرجا، وكان طينه الذي بني به مع الحجارة من الفيوم، وهذا معروف إذا نظر إلى طينه لم يعرف له معدن إلا بالفيوم وليس بمنف ووسيم له شبه من الطين.
وأما قبر الملك صاحب قرياس هذا، فإنه الهرم الكبير من الأهرام التي في بحري دير أبي هرميس، وعلى بابه لوح كدان مكتوب فيه باللازورد طول اللوح: ذراعان في ذراع وكله مملوء كتبا مثل كتب البرابي يصعد إلى باب الهرم بدرج بعضها صحيح لم ينخرم، وفي هذا الهرم ذخائر صاحبه من الذهب وحجارة الزمرد، وإنما سدّ بابه حجارة سقطت من أعاليه ومن وقف عليه رآه بيتا.
وقال ابن عفير عن أشياخه: أن جياد بن مياد بن شمر بن شدّاد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، ملك الإسكندرية، وكانت تسمى إرم ذات العماد، فطال ملكه، وبلغ ثلثمائة سنة.
وهو الذي سار وبنى الأهرام وزبر فيها: أنا جياد بن مياد بن شمر بن شدّاد الشادّ بزراعة الواد المؤيد الأوتاد الجامع الصخر في البلاد المجند الأجناد الناصب العماد الكند الكناد تخرجه أمّة اسم نبيها حماد آية ذلك إذا غشي بلد البلاد سبعة ملوك أجناس السواد تاريخ هذا الزبر ألف سنة وأربعمائة سنة عداد.
وقال ابن عفير وابن عبد الحكم: وفي زمان شدّاد بن عاد بنيت الأهرام فيما ذكر بعض المحدّثين، ولم نجد عند أحد من أهل العلم من أهل مصر معرفة في الأهرام ولا خبر ثبت.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم: ما أحسب الأهرام بنيت إلا قبل الطوفان، لأنها لو بنيت بعده لكان علمها عند الناس.
وقال عبد الله بن شبرمة الجرهميّ: لما نزلت العماليق أرض مصر حين أخرجها جرهم من مكة بنت الأهرام واتخذت لها المصانع، وبنت فيها العجائب، ولم تزل بمصر حتى أخرجها مالك بن ذعر الخزاعي.
وقال محمد بن عبد الحكم: كان من وراء الأهرام إلى المغرب أربعمائة مدينة سوى القرى من مصر إلى المغرب في غربيّ الأهرام.
وقال ابن عفير: ولم يزل مشايخنا من أهل مصر يقولون: الأهرام بناها شدّاد بن عاد وهو الذي بنى المغار، وجنّد الأجناد، فالمغار والأجناد هي: الدفائن، وكانوا يقولون بالرجعة، وإذا مات أحدهم دفن معه ماله كائنا ما كان، وإن كان صانعا دفن معه آلة صنعته، وكانت الصابئة تحج إلى الأهرام.
وقال أبو الريحان البيروتي في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: والفرس والمجوس تنكر الطوفان، وأقرّ به بعض الفرس لكنهم قالوا: كان بالشام والمغرب منه شيء في زمان طهمورث «1» ، ولكنه لم يعمّ العمران كله، ولم يتجاوز عقبة حلوان، ولم يبل ممالك الشرق، وأن أهل المغرب لما أنذر به حكماؤهم بنوا أبنية كالهرمين بمصر ليدخلوها عند الآفة، وإن آثار دماء الطوفان وتأثيرات الأمواج كانت بينة على أنصاف الهرمين لم تتجاوزهما، انتهى.
ويقال: إن الطوفان لما نضب ماؤه لم يوجد تحت الماء قرية سوى: نهاوند، وجدت
كما هي، وأهرام مصر وبرابيها وهي التي بناها هرميس الأوّل الذي تسميه العرب: إدريس، وكان قد ألهمه الله علم النجوم، فدلته على أنه سينزل بالأرض آفة وأنه سيبقى بقية من العالم يحتاجون فيها إلى علم، فبنى هو وأهل عصره الأهرام والبرابي وكتب علمه فيها.
وقال أبو الصلت الأندلسيّ في رسالته: وقد ذكر أخلاق أهل مصر، إلا أنه يظهر من أمرهم أنه كان فيهم طائفة من ذوي المعارف والعلوم، وخصوصا علم الهندسة والنجوم، ويدل على ذلك ما خلفوه من الصنائع البديعة المعجزة كالأهرام والبرابي، فإنها من الآثار التي حيرت الأذهان الثاقبة، واستعجزت الأفكار الراجحة، وتركت لها شغلا بالتعجب منها والتفكر فيها، وفي مثلها يقول أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري من قصيدته التي يرثي بها أباه:
تضلّ العقول الهبرزيات رشدها
…
ولا يسلم الرأي القويم من الأفن
وقد كان أرباب الفصاحة كلما
…
رأوا حسنا عدّوه من صنعة الجن
وأيّ شيء أعجب، وأغرب بعد مقدورات الله عز وجل، ومصنوعاته من القدرة على بناء جسم جسيم من أعظم الحجارة مربع القاعدة مخروط الشكل، ارتفاع عموده ثلثمائة ذراع وتسعة عشر ذراعا يحيط به أربعة سطوح مثلثات متساويات الأضلاع طول كل ضلع منها: أربعمائة ذراع وستون، وهو مع العظم من أحكام الصنعة وإتقان الهندام، وحسن التقدير بحيث لم يتأثر إلى هلم جرّا بعصف الرياح وهطل السحاب، وزعزعة الزلازل وهذه صفة كل واحد من الهرمين المحاذيين للفسطاط من الجانب الغربيّ على ما شاهدناه منهما.
وقد ذكرت عجائب مصر وإن ما على وجه الأرض بنية إلا وأنا أرثي لها من الليل والنهار إلّا الهرمان فأنا أرثي لليل والنهار منهما، وهذان الهرمان لهما إشراف على أرض مصر وإطلال على بطائحها، وإصعاد في جوفها وهما اللذان أراد أبو الطيب المتنبي بقوله شعر:
أين الذي الهرمان من بنيانه
…
ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن سكانها
…
حينا ويدركها الفناء فتتبع
واتفق يوما إنا خرجنا إليهما فلما طفنا بهما واستدرنا حولهما، كثر التعجب منهما فقال بعضنا:
بعيشك هل أبصرت أعجب منظرا
…
على طول ما أبصرت من هرمي مصر
أنافا عنانا للسماء وأشرفا
…
على الجوّ إشراف السماك أو النسر
وقد وافينا نشزا من الأرض عاليا
…
كأنهما نهدان قاما على صدر
وزعم قوم: إنّ الأهرام قبور ملوك عظام آثروا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد
مماتهم كما تميزوا عنهم في حياتهم وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور.
ولما وصل الخليفة المأمون إلى مصر أمر بنقبها، فنقب أحد الهرمين المحاذيين للفسطاط بعد جهد شديد وعناء طويل، فوجدوا داخله مهاوي ومراقي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها، ووجدوا في أعلاها بيتا مكعبا طول كل ضلع من أضلاعه، نحو من ثمانية أذرع، وفي وسطه حوض رخام مطبق، فلما كشف غطاؤه لم يجدوا فيه غير رمّة بالية قد أتت عليها العصور الخالية، فعند ذلك أمر المأمون بالكف عن نقب ما سواه، ويقال: إن النفقة على نقبة كانت عظيمة والمؤونة شديدة.
ومن الناس من زعم: أنّ هرمس الأوّل المدعوّ بالمثلث، بالنبوّة والملك والحكمة، وهو الذي تسميه العبرانيون: خنوخ بن يزد بن مهلايل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وهو إدريس عليه السلام استدل من أحوال الكواكب على كون الطوفان يعمّ الأرض، فأكثر من بنيان الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم، وما يشفق عليه من الذهاب والدروس حفظا لها واحتياطا عليها.
ويقال: إن الذي بناها ملك اسمه: سوريد «1» بن سهلوق بن سرياق، وقال آخرون: إن الذي بنى الهرمين المحاذيين للفسطاط شدّاد بن عاد، لرؤيا رآها، والقبط تنكر دخول العمالقة بلد مصر، وتحقق أن بانيها سوريد لرؤيا رآها، وهي أن آفة تنزل من السماء وهي الطوفان، وقالوا: إنه بناهما في مدّة ستة أشهر، وغشاهما بالديباج الملوّن، وكتب عليهما:
قد بنيناهما في ستة أشهر قل لمن يأتي من بعدنا يهدمهما في ستمائة سنة، فالهدم أيسر من البنيان، وكسوناهما الديباج الملوّن، فليكسهما حصرا، فالحصر أهون من الديباج، ورأينا سطوح كل واحد من هذين الهرمين، مخطوطة من أعلاها إلى أسفلها بسطور متضايقة متوازية من كتابة بانيها، لا تعرف اليوم أحرفها ولا تفهم معانيها، وبالجملة الأمر فيها عجيب، حتى أن غاية الوصف لها والإغراق في العبارة عنها، وعن حقيقة الموصوف منها بخلاف ما قاله عليّ بن العباس الروميّ، وإن تباعد الموصوفان وتباين المقصودان إذ يقول:
إذا ما وصفت امرأ لامرىء
…
فلا تغل في وصفه واقصد
فإنّك إن تغل تبد الظنو
…
ن فيه إلى الغرض الأبعد
فيصغر من حيث عظمته
…
لفضل المغيب على المشهد
ويقال: إنّ المأمون أمر من صعد الهرم الكبير أن يدلي حبلا فكان طوله ألف ذراع بالذراع الملكيّ، وهو ذراع وخمسان، وتربيعه أربعمائة ذراع في مثلها، وكان صعوده في
ثلاث ساعات من النهار، وأنه وجد مقدار رأس الهرم قدر مبرك ثمانية جمال.
ويقال: إنه وجد على المقبور في الهرم حلّة قد بليت، ولم يبق منها سوى سلوكها من الذهب، وأنّ ثخانة الطلاء الذي عليه قدر شبر من مرّ وصبر.
ويقال: إنه وجد في موضع من هذا الهرم إيوان في صدره ثلاثة أبواب على ثلاثة بيوت طول، كل باب منها عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع من رخام منحوت محكم الهندام وعلى صفحاته خط أزرق لم يحسنوا قراءته، وأنهم أقاموا ثلاثة أيام يعملون الحيلة في فتح هذه الأبواب إلى أن رأوا أمامها على عشرة أذرع منها ثلاثة أعمدة من مرمر، وفي كل عمود خرق في طوله وفي وسط الخرق صورة طائر، ففي الأوّل من هذه العمد صورة حمام من حجر أخضر، وفي الأوسط صورة بازي من حجر أصفر، وفي العمود الثالث صورة ديك من حجر أحمر، فحرّكوا البازي، فتحرّك الباب الأوّل الذي في مقابلته، فرفعوا البازي قليلا فارتفع الباب، وكان بحيث لا يرفعه مائة رجل من عظمه، فرفعوا التمثالين الآخرين، فارتفع البابان الآخران، فدخلوا إلى البيت الأوسط فوجدوا فيه ثلاثة سرر من حجارة شفافة مضيئة، وعليها ثلاثة من الأموات على كل ميت ثلاث حلل، وعند رأسه مصحف بخط مجهول، ووجدوا في البيت الآخر عدّة رفوف من حجارة عليها أسفاط من حجارة، فيها أوان من الذهب عجيبة الصنعة مرصعة بأنواع الجواهر، ووجدوا في البيت الثالث عدّة رفوف من حجارة عليها أسفاط من حجارة فيها آلات الحرب، وعدد السلاح، فقيس منها سيف فكان طوله سبعة أشبار، وكل ذرع من تلك الدروع اثنا عشر شبرا، فأمر المأمون بحمل ما وجد في البيوت، وأمر فحطت العمد فانطبقت الأبواب كما كانت.
ويقال: كانت عدّة الأهرام ثمانية عشر هرما منها تجاه مدينة الفسطاط ثلاثة: أكبرها دوره ألفا ذراع وهو مربع في كل وجه من وجوهه الأربعة خمسمائة ذراع، ويقال: إن المأمون لما فتحه وجد فيه حوضا من حجر مغطى بلوح من رخام، وهو مملوء بالذهب وعلى اللوح مكتوب بقلم عرّب فكان: إنّا عمرنا هذا الهرم في ألف يوم وأبحنا لمن يهدمه في ألف سنة، والهدم أسهل من العمارة، وكسونا جميعه بالديباج وأبحنا لمن يكسوه الحصر، والحصر أيسر من الديباج، وجعلنا في كل جهة من جهاته ما لا يقدر ما يصرف على الوصول إليه، فأمر المأمون أن يحسب ما صرف على النقب، فبلغ قدر ما وجد في الحوض من غير زيادة ولا نقص.
ويقال: إنه وجد فيه صورة آدميّ من حجر أخضر كالدهنج فيها طبق كالدواة ففتح فإذا فيه جسد آدميّ عليه درع من ذهب مزين بأنواع الجواهر، وعلى صدره نصل سيف لا قيمة له، وعند رأسه حجر من ياقوت أحمر في قدر بيضة الدجاجة، فأخذه المأمون وقال: هذا خير من خراج الذهب.
وذكر بعض مؤرخي مصر: أنّ هذا الصنم الأخضر الذي وجدت الرمّة فيه لم يزل معلقا عند دار الملك بمدينة مصر إلى سنة إحدى عشرة وستمائة من سني الهجرة.
وكان عند مدينة فرعون، هرمان، وعند ميدوم، هرم، وهذا آخرها.
وفي سنة تسع وسبعين وخمسمائة من سني الهجرة ظهر بتربة بوصير من ناحية الجيزة بيت هرميس، ففتحه القاضي ابن الشهرزوري وأخذ منه أشياء من جملتها كباش، وقرود وضفادع من حجر بازهر، وقوارير من دهنج، وأصنام من نحاس.
وقال ابن خرداذبه: من عجيب البنيان أن الهرمين بمصر، سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع، وكلما ارتفع دق، وهما من رخام ومرمر، والطول أربعمائة ذراع في عرض أربعمائة ذراع مكتوب عليهما: باليد كل سحر وكل عجيب من الطب، ومكتوب عليهما:
إني بنيتهما فمن يدّعي قوّة في ملكه فليهدمهما فإنّ الهدم أيسر من البناء فاعتبر ذلك، فإذا خراج الدنيا لا يفي بهدمهما.
وقال في كتاب عجائب البنيان عن الأهرام: قد انفردت مصر بهذه الأشكال، فليس لها بغيرها تمثال يظنهما الناظر للديار المصرية نهدين، ويحسبهما القابل أن مكارم أهلها قد أعدّتهما للتكرّم ابلوجين تراهما العين على بعد المسافة، وإذا حدثت عن عجائبهما يظنّ أنه حديث خرافة، وقد أكثر الناس في ذكر الأهرام، ووصفها ومساحتها وهي كثيرة العدد جدّا، وكلّها ببرّ الجيزة على سمت مصر القديمة تمتدّ نحوا من مسافة ثلاثة أيام، وفي بوصير منها شيء كثير، وبعضها كبار، وبعضها صغار، وبعضها طين، وبعضها لبن، وأكثرها حجر، وبعضها مدرج وأكثرها مخروط أملس.
وقد كان منها بالجيزة: عدد كثير كلها صغار هدمت في زمن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على يد الطواشي: بهاء الدين قراقوش، أخذ حجارتها وبنى بها القناطر في الجيزة، وقد بقي من هذه الأهرام المهدومة تلّها.
وأمّا الأهرام المتحدّث عنها فهي: ثلاثة أهرام موضوعة على خط مستقيم بالجيزة قبالة الفسطاط، وبينها مسافات كثيرة وزوايا متقابلة نحو الشرق، واثنان عظيمان جدّا في قدر واحد، وهما متقاربان ومبنيان بالحجارة البيض، وأما الثالث: فصغير عنهما نحو الربع لكنه مبنيّ بحجارة الصوّان الأحمر المنقط الشديد القوّة والصلابة، ولا يكاد يؤثر فيه الحديد إلا في الزمان الطويل، وتجده صغيرا بالقياس إلى ذينك فإذا أتيت إليه وأفردته بالنظر هالك مرآه وحيّر النظر في تأمله!.
وقد سلك في بناء الأهرام، طريق عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صبرت على ممرّ الأيام لا بل على ممرّها صبر الزمان، فإنك إذا تأملتها وجدت الأذهان الشريفة قد
استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثالا في غاية إمكانها، حتى أنها تكاد تحدث عن قوّة قومها، وتخبر عن سيرتهم، وتنطق عن علومهم، وأذهانهم وتترجم عن سيرهم، وأخبارهم، وذلك أن وضعها على شكل مخروط ويبتدئ من قاعدة مربعة، وينتهي إلى نقطة. ومن خواص الشكل المخروط: أن مركز ثقله في وسطه يتساند على نفسه، ويتواقع على ذاته ويتحامل بعضه على بعض، وليس له جهة أخرى يتساقط عليها.
ومن عجيب وضعه، أنه شكل مربع قد قوبل بزوايا مهاب الرياح الأربع، فإن الريح تنكسر سورتها عند مسامتتها الزاوية، وليست كذلك عندما تلقي السطح.
وذكر المساح: أنّ قاعدة كل من الهرمين العظيمين أربعمائة ذراع بالذراع السوداء، وينقطع المخروط في أعلاه عند سطح مساحته عشرة أذرع في مثلها، وذكر أن بعض الرماة رمى سهما في قطر أحدهما، وفي سمكة فسقط السهم دون نصف المسافة، وذكر أنّ ذرع سطحها أحد عشر ذراعا بذراع اليد، وفي أحد هذين الهرمين، مدخل يلجه الناس يفضي بهم إلى مسالك ضيقة وأسراب متنافذة وآبار ومهالك، وغير ذلك على ما يحكيه من يلجه، وإنّ أناسا كثيرين لهم غرام به وتحيّل فيه فيتوغلون في أعماقه، ولا بدّ أن ينتهوا إلى ما يعجزون عن سلوكه.
وأما المسلوك المطروق كثيرا، فزلاقة تفضي إلى أعلاه، فيوجد فيه بيت مربع فيه ناوس من حجر، وهذا المدخل ليس هو الباب في أصل البناء، وإنما هو منقوب نقبا صادف اتفاقا، وذكر أنّ المأمون فتحه.
وحكى من دخله وصعد إلى البيت الذي في أعلاه فلما نزلوا حدّثوا بعظيم ما شاهدوه، وإنه مملوء بالخفافيش وأبوالها وتعظم فيه حتى تكون قدر الحمام، وفيه طاقات وروازن نحو أعلاه كأنها عملت مسالك للريح ومنافذ للضوء بحجارة جافية طول الحجر منها: من عشرة أذرع إلى عشرين ذراعا، وسمكه من ذراعين إلى ثلاثة أذرع، وعرضه نحو ذلك.
والعجب كل العجب من وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا نجد بينهما مدخل إبرة ولا خلل شعرة، وبينهما طين لونه الزرقة لا يدرى ما هو؟
ولا صفته؟ وعلى تلك الحجارة كتابات بالقلم القديم المجهول الذي لم يوجد بديار مصر من يزعم أنه سمع من يعرفه، وهذه الكتابات كثيرة جدّا حتى لو نقل ما عليها إلى صحف لكانت قدر عشرة آلاف صحيفة، وقرأت في بعض كتب الصابئة القديمة: أنّ أحد هذين الهرمين، قبر أعاديمون، والآخر قبر هرمس، ويزعمون أنهما بيتان عظيمان، وأنّ أعاديمون أقدم وأعظم وإنّه كان يحجج إليهما ويهدى إليهما من أقطار البلاد.
وكان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما استقل بالملك بعد أبيه، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر، فأخرج إليه النقابين والحجارين وجماعة من أمراء دولته وعظماء مملكته وأمرهم بهدمه، فخيموا عنده وحشروا الرجال والصناع، ووفروا عليهم النفقات وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد الجهد، واستفراغ بذل الوسع الحجر والحجرين فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوس «1» والأشطان «2» ، فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة حتى ترجف الجبال، وتزلزل الأرض ويغوص في الرمل فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجوه، ويضربون فيه بالأسافين بعد ما ينقبون لها موضعا، ويثبتونها فيه فيتقطع قطعا وتسحب كل قطعة على العجل حتى يلقي في ذيل الجبل، وهي مسافة قريبة، فلما طال ثواءهم، ونفدت نفقاتهم، وتضاعف نصبهم، ووهت عزائمهم كفوا محسورين لم ينالوا بغية بل شوّهوا الهرم، وأبانوا عن عجز وفشل، وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، ومع ذلك فإنّ الرائي لحجارة الهرم يظنّ أنه قد استؤصل فإذا عاين الهرم ظنّ أنه لم يهدم منه شيء وإنما سقط بعض جانب منه، وحين ما شوهدت المشقة التي يجدونها في هدم كل حجر، سئل مقدّم الحجارين فقيل له: لو بذل لكم السلطان ألف دينار على أن تردّوا حجرا واحدا إلى مكانه وهندامه هل كان يمكنكم؟ فأقسم بالله إنهم ليعجزون عنه ولو بذل لهم أضعاف ذلك.
وبإزاء الأهرام مغاير كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار لعلّ الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يوما أجمع ولا ينهيها لكبرها وسعتها وبعدها ويظهر من حالها أنها مقاطع حجارة الأهرام.
وأما مقاطع حجارة الهرم الأحمر فيقال: إنها بالقلزم وبأسوان، وعند هذه الأهرام آثار أبنية جبابرة ومغاير كثيرة منقبة، وقلما ترى من ذلك شيئا إلّا وترى عليه كتابات بهذا القلم المجهول، ولله در الفقيه عمارة اليمنيّ حيث يقول:
خليليّ ما تحت السماء بنية
…
تماثل في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه وكلّ ما
…
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها
…
ولم يتنزه في المراد بها فكري
أخذ هذا من قول بعض الحكماء، كل شيء يخشى عليه من الدهر إلا الأهرام فإنه يخشى على الدهر منها، وقال عبد الوهاب بن حسن بن جعفر بن الحاجب، ومات في سنة
سبع وثمانين وثلثمائة:
انظر إلى الهرمين إذ برزا
…
للعين في علو وفي صعد
وكأنما الأرض العريضة قد
…
ظمئت لطول حرارة الكبد
حسرت عن الثديين بارزة
…
تدعو الإله لفرقة الولد
فأجابها بالنيل يشبعها
…
ريا وينقذها من الكمد
لكرامة المولى المقيم بها
…
خير الأنام مقوّم الأود
وقال سيف «1» الدين بن جبارة:
لله أيّ عجيبة وغريبة
…
في صنعة الأهرام للألباب
أخفت عن الأسماع قصة أهلها
…
ونضت عن الأبداع كل نقاب
فكأنما هي كالخيام مقامة
…
من غير ما عمد ولا أطناب
وقال آخر:
انظر إلى الهرمين واسمع منهما
…
ما يرويان عن الزمان الغابر
وانظر إلى سرّ الليالي فيهما
…
نظرا بعين القلب لا بالناظر
لو ينطقان لخبرانا بالذي
…
فعل الزمان بأوّل وبآخر
وإذا هما بديا لعيني ناظر
…
وصفا له أذني جواد عائر
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي:
ألست ترى الأهرام دام بناؤها
…
ويفني لدينا العالم الإنس والجنّ
كأن رحى الأفلاك أكوارها على
…
قواعدها الأهرام والعالم الطحن
وقال:
قد كان للماضين من
…
سكان مصرهم
فالفضل عنهم فضلة
…
والعلم فيهم علم
ثم انقضت أعلامهم
…
وعلمهم واحتطموا
وانظر تراها ظاهرا
…
باد عليها الهرم
وقال:
خليليّ لا باق على الحدثان
…
من الأوّل الباقي فيحدث ثاني
إلى هرمي مصر تناهت قوى الورى
…
وقد هرمت في دهرها الهرمان
فلا تعجبا أن قد هرمت فإنما
…
رماني بفقدان الشباب زماني